المفاوضات الحالية.. وعقدة الإستيطان مثالا
د. لطفي زغلول
www.lutfi-zaghlul.com
إن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي تجري هذه الأيام برعاية الولايات المتحدة الأميركية، تحمل في اعتقادنا عوامل فشل أكثر مما تحمل في طياتها عوامل نجاح. هناك أهم عامل وأخطره وهو يكمن في هذا الإستيطان المتسرطن في جسد الأرض الفلسطينية، وهو استيطان تهويدي جغرافيا وديموغرافيا، قال عنه وزير خارجية الولايات المتحدة "إنه غير شرعي" لكن يجب ألا يعيق المفاوضات. إنه كلام غريب عجيب، لكنه في النهاية يمثل رأي الولايات المتحدة الأميركية المنحاز إلى إسرائيل.
ثمة عوامل أخرى لا تقل أهمية عن عامل الإستيطان تكمن تباعا في عدم اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بأن هناك احتلالا إسرائيليا يجثم على صدور الفلسطينيين، يكتم أنفاس حريتهم وتحررهم، وثمة عامل آخر يكمن في عدم جدية الإسرائيليين في إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين القابعين خلف قضبان المعتقلات الإسرائيلية. وأخيرا وليس آخرا عدم اعتراف الإسرائيليين بحق العودة، إضافة إلى عدم تبلور مفهوم أية دولة فلسطينية يمكن أن تسفر عنها هذه المفاوضات إذا ما كتب لها أن تنجح.
نعود إلى العامل الرئيس الذي استهللنا به حديثنا متمثلا بالإستيطان الجغرافي الديموغرافي ذي الصبغة التهويدية. فيما يخص هذا التوجه الإسرائيلي فهو يضعنا أمام المحاور الرئيسة والمعهودة للسياسة الإسرائيلية، أولها أن أية عملية سلمية من منظور إسرائيلي تقوم أساسا على مرتكزات حددتها هذه السياسة ولا تنوي التنازل عنها، والإستيطان بكل أشكاله واحد رئيس منها.
ثاني هذه المحاور أن السياسة الإسرائيلية حتى تظهر للعيان إقليميا ودوليا أن لديها أفقا سياسيا، فهي لذلك دأبت على إعلان أن هناك استيطانا غير قانوني ستعمل على تفكيكه. وما دام هناك استيطان غير قانوني، ففي المقابل هناك"استيطان قانوني" خارج نطاق أية تسوية سلمية، وهذا الإستيطان يضم الكتل الإستيطانية جميعها في الضفة الفلسطينية والقدس.
المحور الثالث، إن الحكومة الإسرائيلية في هذا الصدد تستند إلى أنها تفرض منظورها فيما يخص الإستيطان مستندة إلى عدة عوامل تعمل جميعا لصالحها. وانطلاقا فهي تعتمد على قوتها العسكرية بصفتها محتلة للأراضي الفلسطينية بقوة السلاح. ثم إنها تمارس سياسة فرض الأمر الواقع، كذلك فهي تستند إلى ظروف إقليمية وعربية ودولية مواتية. لعل أفضل هذه الظروف هو التأييد الأميركي المنقطع النظير لها.
إذا كان هناك قانون استند إليه الإستيطان الإسرائيلي، فهو قانون القوة التي أباحت إسرائيل لنفسها من خلاله أن تحلل كل المحظورات والمحرمات. إن محاولة إضفاء الصبغة القانونية الشرعية على الإستيطان مجهضة في مهدها، ذلك أنه لا يوجد إستيطان قانوني وآخر غير قانوني. إن كل أشكال الإستيطان غير شرعية وغير قانونية ويرفضها الشعب الفلسطيني رفضا باتا، كونها أقيمت على أراضيه المغتصبة.
إن الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان وليد القضية الفلسطينية والتي هي بدورها من منظور إنساني "النكبة الفلسطينية" والتي حدد مفهومها بأنها اقتلاع الشعب الفلسطيني وتهجيره من بلداته وقراه ودياره وبيوته وحقوله وبياراته ومشاغله التي امتلكها شرعا أو ورثها عن آبائه وأجداده عبر مساحات سحيقة من الزمان.
إن الشعب الفلسطيني بطبيعة الحال لم يكن قائما على الهواء، وإنما على الأرض المسماة تاريخيا فلسطين التي منحت أصحابها الشرعيين العرب الذين أقاموا عليها عصورا مسمى الفلسطينيين أو بمصطلح سياسي الشعب الفلسطيني. إن أساس المشكلة هو الأرض التي منحت بريطانيا نفسها الحق" وعد بلفور" أن تعد بها شعبا آخر لم يكن يقيم عليها، وكان ذلك على حساب من أقاموا عليها فعلا عبر عصور سحيقة من الزمان.
إن حمى المشروعات الإستيطانية أيا كان الهدف منها، سواء تلك الجديدة، أم تلك التي يدعى أنها تأتي في نطاق ما يسمى النمو الطبيعي للمستوطنات، تؤكد جميعها على عدة حقائق. أولاها أن حكومات إسرائيل لم تتخل ولن تتخلى تحت أية ظروف عن مشروعات الإستيطان. وثانيتها أن رؤية إسرائيل لأي حل نهائي تلتف على هذا الكم الهائل من المستوطنات التي تريد أن تجعل منها أمرا واقعا من خلال تغيير معالم خارطة الأراضي الفلسطينية المغتصبة جغرافيا وديموغرافيا .
ثالثة هذه الحقائق أن إسرائيل في إصرارها على مشروعاتها الإستيطانية، إنما تنطلق من منظورها العقائدي السياسي المتمثل في أن فلسطين من النهر إلى البحر هي أرض إسرائيل الكبرى. وهو منظور دأبت سياساتها على توظيفه على أرض الواقع منذ اليوم الأول لاستكمال احتلال بقية الأراضي الفلسطينية في العام 1967. ومن خلال هذا المنظور تتوهم إسرائيل أن الشعب الفلسطيني ما هو إلا مقيم على هذه الأرض وتابع، لا يستحق أن تكون له دولة مستقلة خاصة به.
رابعة هذه الحقائق أن اسرائيل – وفي هذه الأوقات بالذات، وهي بالنسبة لها عصر انطلاق وتحرك ذهبي – تستمد قسطا وافرا لطاقة هذا الإنطلاق والتحرك من ظروف دولية وإقليمية مواتية لها جدا. فعلى الصعيد الدولي وتحديدا الولايات المتحدة الأميركية التي تطالبها بتجميد بناء المستوطنات الجديدة، وليس تفكيك المستوطنات القائمة. وجدير بالذكر أن الإدارة الأميركية الجمهورية في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش الإبن، كانت قد وعدت إسرائيل بالحفاظ على الكتل الإستيطانية تحت سيادتها.
ثمة عامل آخر وهو يخص العالم العربي الذي يمر في حالة انعدام الوزن السياسي فيما يخص القضية الفلسطينية، بمعنى أن ليس هناك أوراق ضغط في أيدي الأنظمة العربية المعنية كي تلقي بها على مائدة التفاوض مع الإسرائيليين – هذا إذا حصل هذا التفاوض، الأمر الذي جعل إسرائيل تصول وتجول وتقرر وحدها بروح أميركية ما تشاء وتريد.
إن الإنحياز الأميركي المطلق للسياسة الإسرائيلية والذي قام بتتويجه الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الإبن بوعده إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتأييده عدم الرجوع إلى ما وراء حدود العام 1967، وحق الإسرائيليين في استبقاء المستوطنات الكبرى تحت ظلال إدارتهم وسيادتهم.
وها هي إدارة الرئيس الحالي باراك أوباما تسير على نفس خطى من سبقه من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية الذين غضوا أنظارهم عما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيدوا بكل ما لديهم من قوة ونفوذ كل التوجهات الإسرائيلية السياسية، وأولاها عدم اعترافهم بأن هناك احتلالا إسرائيليا للأراضي الفلسطينية، وغض أنظارهم عن كل المشروعات الإستيطانية.
كلمة أخيرة. إن الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المغتصبة من أصحابها الشرعيين، إضافة إلى كونه غزوا جغرافيا منظما، ومخططا له، هو في الحقيقة غزو ديموغرافي، يهدف إلى إفراغ الأرض الفلسطينية من أصحابها الشرعيين، وإلى استعمارها. إن هذا الإستيطان بكل أشكاله لا يؤسس لأية عملية سلمية لا في المستقبل المنظور، ولا البعيد. وهو يتناقض مع أية مفاوضات تجري الآن أو لاحقا.
إن الإستيطان من منظور فلسطيني يعني شرعنة استلاب الأرض الفلسطينية التي هي مادة الوجود الفلسطيني الرئيسة. إن الفلسطينيين لا يتصورون سلاما دائما مع استلاب هذه الأراضي وهي ليست أية أراض وإنما هي منتقاة ومختارة بعناية تؤدي وظائف تخدم أهدافا احتلالية إستراتيجية بعيدة المدى.
للتذكير فأن الأراضي التي يقوم عليها الإستيطان الإسرائيلي هي قمم الجبال والمرتفعات الفلسطينية التي تشكل مواقع أمنية وإستراتيجية للتحكم بكل التجمعات الفلسطينية والإشراف على طرق مواصلاتها. إنها خيرة الأراضي الخصبة التي يعتاش على غلالها الفلسطينيون وهي الأراضي التي تشكل مخزونا إسراتيجيا ديموغرافيا لاستيعاب الزيادات الناجمة عن النمو السكاني الطبيعي. وهي أخيرا لا آخرا أراضي آبائهم وأجدادهم منذ مئات السنين.
إن الفلسطينيين من الذكاء بحيث لا تنطلي عليهم ألاعيب السياسة الأميركية، وهذه المفاوضات واحدة منها، والمقصود بها المماطلة وإضاعة الوقت والتحريك العبثي للقضية. وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية جادة، فما عليها إلا أن تباشر في إنهاء الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، والإعتراف بحق العودة، وبادىء ذي بدء تبييض معتقلاتها وتحرير الأسرى القابعين خلف قضبانها.