عندما نتحدث عن الترجمة فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا نقل النص من لغة معينة إلى لغة أخرى، ونستحضر في عقولنا مصطلحي لغة المصدر source language "SL" ولغة الهدف target language "TL" إشارة إلى لغة النص الأصلي، ولغة النص المترجم، لذا فإن الحديث عن الترجمة داخل اللغة الواحدة قد يدفعنا إلى التعجب!!
إن جملة النظريات التي طرحت حول الترجمة حتى بدايات القرن العشرين كانت تدور في ذات الدائرة الجدلية المفرغة، والتي تطرح التساؤل حول ما إذا كان من الواجب أن تكون الترجمة حرفية (كلمة بكلمة Word for Word) أي تقوم على الاستبدال اللفظي، أم أن تكون حرة ( معنى مقابل معنى Sense for Sense) ويكون الاهتمام هنا بمضمون الكلام لا بألفاظه، وغالبية هذه النظريات نبعت من الاهتمام بترجمة النصوص المقدسة خاصة ترجمة الإنجيل، فالتنظير للترجمة ليس وليد العصر الحديث، وفي منتصف القرن العشرين ظهرت نظريات تتناول الترجمة من منظور علوم اللسانيات، وكان أشهرها ما تتناول المعنى و التكافؤ Meaning & Equivalence متبوعة بنظريات التكافؤ الشكلي والتكافؤ الديناميكي، ثم ظهرت النظريات اللغوية التي طرحت مفهوم التغير shifts بين الأزواج اللغوية من خلال تطبيق مفاهيم اللغويات المقارنة Contrastive Linguistics، وبعدها ظهرت نظريات تناولت الدور الوظيفي للترجمة، وعلى أثر هذه النظريات – الأخيرة- تحولت النظرة القديمة والتي ظلت سائدة حتى الثمانينيات من القرن العشرين والتي تعاملت مع الترجمة بوصفها ظاهرة لغوية جامدة غير متطورة، فحولت نظريات الدور الوظيفي للترجمة هذه المفاهيم إلى اعتبار الترجمة أحد أنشطة التواصل البنيوي الاجتماعي الثقافي، وتطور الأمر بظهور نظرية الهدف Skopos theory التي ركزت على وظيفة النص الهدف في الثقافة الهدف، وتم اعتبارها جزءاً من نموذج الفعل الترجمي translational action، وهذا النموذج ينظر للترجمة على أنها مثل عملية إبرام الصفقة التجارية، حيث يتواصل فيها المنتج، مع المسوق، مع المشتري، مع المستخدم، ولم يعد تقييم الترجمة يتم طبقاً لمطابقة النص المترجم للنص الأصلي، بل باتت الترجمة الجيدة –وفق هذا النموذج- هي التي تعمل على توصيل هدف معين للفئة المستهدفة، ثم أتبع ذلك نظريات تحليل الخطاب، والتنوع اعتماداً على مفاهيم اللسانيات الوظيفية النظمية Systemic functional linguistics، ونظريات النظم المختلطة أو المتعددة، ثم النظريات التي رأت أن الترجمة تمثل نموذجاً للتحول الثقافي وأنها إعادة تأليف أو صياغة، وكذلك نظريات ترجمة ما بعد الاستعمار Post-colonialism وصولاً إلى نظريات الترجمة الفلسفية، ومن بعد ذلك أطل جدل قد يبدو في ظاهره حديثاً إلا أنه قديم جداً، ومرجع هذا الجدل يعود إلى النظرية التي طرحها رومان أوسيبوفيتش ياكبسون Roman Osipovich Jakobson مقسما الترجمة إلى ثلاثة أنواع رئيسية هي:
1) الترجمة داخل اللغة الواحدة Intralingual Translation.
2) الترجمة بين لغتين Interlingual Translation.
3) الترجمة بين نظامين مختلفين للإشارة Intersemiotic Translation.
يرى ياكبسون أن الترجمة داخل اللغة الواحدة تقوم على استخدام المرادفات لتوصيل الرسالة التي يتضمنها النص الأصلي، موضحاً أنه لا يوجد ما يمكن وصفه بالتطابق التام، ووفقاً لنظريته فإن الرسالة التي يتضمنها النص تكون على مستويين متكافئين يمكن التعبير عنهما برموز لغوية متكافئة، وفي بعض الأحيان قد تقف عملية الترجمة مغلولة اليد حين يصعب إيجاد المكافئ اللفظي، وهذا ما يقودنا إلى استخدام طريقة الاقتراض اللفظي، وقد أدت تلك النظرية إلى ظهور مصطلح آخر يصف عملية الترجمة داخل اللغة بوصفها "شبه ترجمة Pseudotranslation" أو " quasi metatext "، وهذا المصطلح من المصطلحات التي عرفها عالم الأدب حديثاً، ولا يزيد عمره عن بضع عقود، ووفقاً لمفهوم شبه الترجمة، فإنه لا يوجد نص أصلي تمت الترجمة عنه، بل هي عملية تخيلية يدعيها المؤلف، فحينما ينشر عمله بوصفه ترجمة فهو لم يتعامل مع نص قد تم تأليفه مسبقاً، وقام هو بترجمته، بل يرى أنه قد قام بترجمة أفكاره الذهنية إلى كلمات وتعبيرات لغوية وقد يبدو هذا الأمر معقداً بعض الشيء..
وبنوع من التبسيط فيمكن القول أن الترجمة داخل اللغة الواحدة تعد ضرباً من ضروب الترجمة التفسيرية، التي تقوم على إعادة الصياغة، فعلى سبيل المثال: فحين نعرض إلى ترجمة أبيات مثل هذه الأبيات، وهي أبيات لأبي ربيعة الأفوه .. أقدم شعراء العرب..
إن تَــــرى رَأسِــــيَ فــيــهِ قَـــــزَعٌ *******وَشَـــواتـــي خَـــلَّـــةً فــيــهــا دُوارُ
أَصبَـحَـت مِــن بَـعــدِ لَـــونٍ واحـــدٍ *******وَهــيَ لَـونـانِ وَفـــي ذاكَ اِعـتِـبـارُ
فَـصُــروفُ الـدَهــرِ فـــي أَطـبـاقِــهِ *******خِـلـعَـةٌ فـيـهـا اِرتِـفــاعٌ وَاِنــحِــدارُ
بَيـنَـمـا الــنــاسُ عــلــى عَلـيـائِـهـا *******إِذ هَـوَوا فـي هُــوَّةٍ مِنـهـا فَـغـاروا
إِنَّـــمـــا نِــعــمَــةُ قَــــــومٍ مُــتــعَــةٌ *******وَحَـيــاةُ الـمَــرءِ ثَـــوبٌ مُـسـتَـعـارُ
نجد أنه لابد للمترجم أن يفسرها بالعربية بينه وبين ذاته قبل أن يترجمها إلى لغة غير عربية، وتكون عملية التفسير هذه بمثابة ترجمة من العربية إلى العربية، ومثال آخر بيت الشعر هذا:
فما يسمى كفنا خسر مسم... ولا يكنى كفنا خسر كاني !
وهو أعقد بيت شعر قالته العرب ينسب إلى المتنبي وقد قاله في مدح ملك فارس (فنا خسرو)، فحينما نعمد إلى شرح أو تفسير هذا البيت باللغة العربية، والأمر لا يقتصر على الشعر وحده بل هناك نصوصاً نثرية، فهذا جزء من خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي يقول فيه:
"وأطيعوا، وشايعوا وبايعوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار والإبذار والأهذار، ولا مع ذلك النفار والفرار، إنما هو انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد في الشتاء والصيف، حتى يذل الله لأمير المؤمنين صعبكم، ويقيم له أودكم، وصغركم، ثم إني وجدت الصدق من البر، ووجدت البر في الجنة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور في النار، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وإشخاصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين، وقد أمرت لكم بذلك، وأجلتكم ثلاثة أيام، وأعطيت الله عهداً يؤاخذني به، ويستوفيه مني، لئن تخلف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربن عنقه. ولينهبن ماله."
المفضلات