الحتمية وميكانيكا الكم

كتبها : شمس الدين المعتزلي

إنّ ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة؛ هو توضيح الصورة الحقيقية لواقع الأحداث التي تسارعت في آخر مائتين سنة لظهور التفسيرات الفيزيائية الحديثة بنزوعها الفلسفي المعاصر,والذي يشير إليه حتى الكثير من الأكاديميين المتخصصين باحتفاء وتقديم احتفالي, ولكن للأسف بعرض سطحي لا يوضح ما هنالك , يشبهون في سلوكهم الأطفال الفرحين بألعابهم الجديدة.

تُعزى الصياغة الأشهر لوجهة النظر الحتمية إلى لابلاس Laplace : " ينبغي أن نعتبر الحالة الحاضرة للعالم كمعلول لحالته السابقة, وكعلة لحالته الآتية. إذا افترضنا ذهنيا إمكانية معرفة جميع القوى التي تُسيِّر الطبيعة, وحالة جميع الأشياء المكوِّنة لها في لحظة معينة, فبالنسبة لهذا الذهن لن يكون هناك أي شيء غير معلوم علم اليقين, وسيكون المستقبل, كالماضي, حاضرا أمام عينيه". بهذه الصياغة تُظهِر حتمية لابلاس أن كل الأحداث بوضعها التي هي فيه ( موضوعيا ) حتمية, وأنّه لا وجود موضوعيا في ذاته لحدث غير محتوم أو شبيه بالمصادفة, فالحتمية لا تسمع بأي استثناء, فالمصادفة غير موجودة, وما يمكن أن نطلق عليه "صدفة" إنما يرجع إلى نقص معرفتنا نحن أي أن معرفتنا ناقصة نقصا ذاتيا يرجع إلى ذواتنا الباحثة, ولا يرجع أو يُرَدُّ إلى طبيعة الحدث ذاته, وإنّ أية أحداث تشابه المصادفة ذاتيا ( نابعة من طبيعة نفس الحدث) أي بالمصادفة موضوعيا هي مساوية للاحتمية.

وكما يتبين من وجهة نظر حتمية أن رياضيات الاحتمالات ( وهي الرياضيات التي تدرس الأحداث الاحتمالية والعلاقات الاحتمالية ) أنها تمّت صياغتها لتملأ الفراغ في الحالات التي نواجه فيها نقصا في المعطيات المعرفية وهذا النقص والقصور يرجع إلينا كذوات عالمة باحثة.

مثال : إن وجود زيد في بيته من عدم وجوده في بيته, يشكل حدثا احتماليا, فقد يكون موجودا في بيته بنسبة 50% , وقد يكون غير موجود في بيته بنسبة 50% أيضا. ولكن هذا الاحتمال ناشئ عن قصور في المعطيات المعرفية, ولو كانت معطياتك المعرفية الخاصة بك ذاتيا كاملة عن زيد في هذه الحال, فتستطيع أن تجزم بوجوده من عدم وجوده بشكل يقيني.

مثال آخر: خمس أوراق لعب تحمل الترقيم من 1 إلى 5, حيث يقوم موزّع الأوراق بخلطها خلطا غير مدروس ( عشوائي ) ثم يعرض الأوراق أمامك, فإن احتمال أن تسحب ورقة تحمل أي رقم من الأرقام الخمسة هي خُمس 1\5 أي 20% , ولكن إن كانت لدينا معطيات عن المواقع الأولية التي بدأ منها الخلط , وعن المسارات الدقيقية لحركة الخلط, فإنه سوف يكون لدينا علم واضح وأكيد بمكان كل ورقة من الأوراق الخمسة .

وبهذين المثالين يتضح لدينا ما معنى أن الاحتمال يرجع إلى نقص وقصور في معرفتنا نحن قصورا ذاتيا لا إلى الحدث نفسه موضوعيا, فالحدث في ذاته موضوعيا غير احتمالي ويمكن معرفته على وجه اليقين وإنما يرجع النقص إلى نقص معرفتنا نحن نقصا ذاتيا بنا.

ولذلك عندما عرض هايزنبرغ مبدأ اللاتحديد عن طبيعة سلوك الالكترونات , قام أينشتاين ( وهو نصير للحتمية) بمعارضته بشدة قائلا إنّ الربّ لا يلعب النرد في الكون !.

ومن المثير للدهشة معرفة أن فيزياء الكم هي فيزياء الاحتمالات. حيث أن النظرية الذرية الجديدة ( ميكانيكا الكوانتم ) قد تخلت عن الحتمية الصارمة وأدخلت إلى علم الفيزياء " عبارات الاحتمال الموضوعي" إلى نظرية الجسيمات الأولية والعالم دون الذري, وأتاحت مكانا للتفسيرات الاحتمالية.

ومن المضحك بالنسبة لي على الأٌقل, أن يعتبر العالم " ماكس بلانك " عالم الفيزياء الكبير ونصير الحتمية هو مؤسس ميكانيكا الكم, كيف لا ؟ وهايزنبرغ أيضا يميل إليها , وحتى ماكس بورن مؤسس التفسير الإحصائي للميكانيكا الموجية كان يبدو أحيانا كثيرة أنه يأخذ بها.

ومن العجيب أن بعض الملاحدة المتحمسين يعتبرون مبدأ اللاتحديد ناقضا للمنطق وبالتالي لفكرة الله. ولكن بأي منطق يا أعزاء توصلتم إلى هذا الاستنتاج ؟!. ولا أنسى أن الإله الذي يدعم فكرة الإرادة الحرة, هو نفسه يشجع على سلوك غير حتمي. فيظهر أن أعزائنا الملاحدة من نصيري الحتمية الجبرية . ولا أنسى أيضا أن أذكرهم أنّ البنية والعلاقات في رياضيات الاحتمالات هي أنساق منطقية ولا يعني احتمالية النتيجة أن ظرفية أي اختيار في كل مرة ظرفية ليس لها سياق منطقي.