((المعرفيون والأحزاب الشمولية))
*ريبر هبون

إن المعرفيين يرون في الأخلاق المبدأ الأقصى في فهم المعرفة التي هي تمجيد للمحبة الناتجة عن الحب كرب كل قيمة أخلاقية، وهم يرون في الأخلاق التي تنتهجها الأحزاب الشمولية قوانين وثنية غايتها تفريغ محتوى الفرد العضو وجعله انساناً مجرداً من كل إرادة معرفية أخلاقية ، ليكون كائناً طيعاً وديعاً يقبل على مبادئ الحزب بآلية وخضوع دون أن يسمح لنفسه بالشك من أي مبدأ يعتبره مثالاً خالداً متطوراً دوماً، لذا تعمل الأحزاب الشمولية على تفريغ محتوى أفرادها وأتباعها من الإرادة المعرفية والحب الطبيعي وجعْلهم يؤمنون أن لا أخلاق فوق أخلاق حزبهم وأن لا حرية خارج الحزب ، وبذلك عملت الأحزاب على طعن الأخلاق العليا والإرادة المعرفية وعملت على سحقها رويداً رويداً عبر طرح أنموذجات خاوية مثل: الانسان الحزبي المستقيم، الحزبي القومي، الحزبي الثوري، الحزبي الاشتراكي ، الحزبي الليبرالي، الديني ، الأممي، وغيرها من قوالب شمولية جامدة غير قابلة للحركة ،لذا نتأمل الهيكلية الشمولية فنجدها الأنموذج الأكثر انغلاقاً ومركزية عبر التاريخ، حيث أن الفرد الحزبي الشمولي فرد طيِّع وخاضع ومنظر، والمرأة في الحزب حين تتخلى عن قيمها الشخصية شكلاً لأجل الحزب امرأة بمنتهى الالتزام والطهارة بذريعة أن حرية الفرد تنتهي بحرية المجتمع فهي تصل لدرجة أن تهب كل شيء لتبلغ دور المومس والجاسوس الخاضع، هكذا تنهج الأحزاب الشمولية بتسويق الانسان وتعليبه ليصبح آلة ، كون الشرف الروحي والمادي وفق منظور الأتباع يكمن في الحزب لا في الأفراد وما لهم من حقوق وخصائص وما عليهم من واجبات معرفية حتى حين قام زوج ابنة كارل ماركس بالانتحار قال لينين أحد زعماء الاشتراكية المشيدة مستنكراً انتحاره معبِّراًً:
(الاشتراكي ملكٌ لحزبه فلا يحقُّ له الانتحار)
فالعقلية الشمولية مستترة وراء غايات ومصالح معينة لا يستفيد منها سوى الفئة العليا المديرة لهذه المنظومة الازدواجية ممن يتزعمون المسؤولية ، تغطي أفعالهم السرية المتقنة ،فالفئة العاملة في الحزب تعمل في الغالب بلا مقابل والفئة المديرة فئة انتهازية تعتاش على الابتزاز وعمل الفئة العاملة وإن المصلحة والايديولوجيا تعملان على افقار ذهنية العضو الحزبي وجعله بلا إرادة خدمة للأخلاق الوضعية النسبية التي يعتبرونها قيماً تأليهية غير قابلة للنقاش والنقض، لأن ذلك يؤدي إلى الخروج والانحراف بمجرد الجدل والاختلاف في الايديولوجيا، فإرادة الفرد تتلخص في حماية المصالح الحزبية ليس إلا، وتقويض للانتماء الانساني، لذا كانت معظم الفئات المتحزبة تدافع عن عمى وتمجيد حماية للجهالة والتخلف مستغنية عن العقل الناقد والحوار البناء والجدل الذي يجعل العقل خلية ناشطة تقدم الجديد في مختلف الميادين والمستويات
إن المعرفيين يرون الأخلاق في صلب المعرفة، ويرون في الحقوق والواجبات الاجتماعية للإنسان أسساً رفيعة لأي بناء معرفي يؤدي لتحقيق أقصى درجات السعادة والخير للإنسانية في ظل وجود يزدهر ويتألق ، وجود يقدسه المعرفيون ، يرونه الحياة الضامنة لرفاهية الانسان وتحرره من أدوات صناعة الموت والتلوث والعنف الدموي..
لقد ظهرت مفاهيم الدعوة للاستقلال والتحرر وبناء الدول والأقاليم في مرحلة ما بعد المشاعية الطبيعية وبدأ استعباد الانسان من خلال استغلال طاقته الجسدية وحرم من حقوقه التي ضمنتها لها المشاعية من توزيع عام لوسائل الانتاج ، مما ظهرت الملكية الخاصة وساء توظيفها لتصبح حكراً على فئات معينة على حساب بؤس وتعاسة الفئات المنكوبة المهددة بقوتها، فتمادي الانسان بالملكية أدي إلى استفحال أوبئة الأنانية التي نجمت عنها حالات الجهل والأمية والجوع بأشكاله وأبعاده الاغترابية ، ورسخت المركزية الشمولية من حينها،مما جسد في نفسية الفئات المنكوبة مشاعر الاضطهاد والاغتراب المزمن والبدء بمحاولات قيام انتفاضات معرفية لاسترداد ما أمكن من حقوق مشروعة طبيعية مهضومة،فيما بعد وجدت هذه الفئات المنكوبة من مفهوم القوم ، والانتماء للأرض وسيلةمضادة للتهديد بالعبودية فأخذ مفهوم القومية يتبلور لصالح الجماعة المهددة بانتزاع مواردها،فيعتبر المفهوم القومي أعظم ثورة معرفية منذ التاريخ الأزل، والدين هي الفلسفة الجامعة المحافظة على أمن الوجود من عدم استقرار الطبيعة الكونية العالمية، تحث هذه الفلسفة الجمعية على تقوية الانسان واستمرار ارتباطه بوجود عدالة إلهية تقلص من الشعور برهبة الموت
وتحث على تقوية النفوس لأجل خوض معارك الحق والكرامة فمع الحق والكرامة تنتج الخيرات وتعم الرفاهية ليصبح الانسان المعرفي أقرب إلى الجمال والسعادة بشعورالتماسك في ظل الجماعة
فالمعرفة الطبيعية اشباع تام في ظل التنوع الذي تفرزه الجماعات المختلفة التي تدين بالحقوق وتقر بالواجبات التي تقتضيها الطبيعة الفطرية المتآلفة في ظل الوجود..
المعرفيون يجدون في قيمة الحق باباً مفصلياً لفهم مفهوم الانتفاضة المعرفية لاسترداد الحق في التمتع بالوجود والتحرر من سيطرة الجهلاء،ودعت الحاجة للمعرفة لأجل تحقيق هدف الحب وهو سبر المعرفة لأجل حماية الانسان من ما يستدعي القهر الذي تسببه انانية الأفراد ، فالانانية وباءٌ يستفحل بالانسان في تسري الضعف فيه وضرب من ضروب الجهالة والعمى وتشويه لجمال الوجود وقدسيته ونكرانٌ للحب الذي ينير للانسان سبل ومدارك التمتع بالسعادة في تحقيق رسالة المعرفة
إن عبء المعرفي ثقيل لأن تكامل الحب والعلم رسالة أولى ملقاة على عاتق المدرك والمتأمل فهو وحده يستشف الجمال وقيمة الخير والحق ويعمل على حماية الوجود والحب من خلال بحث الذات عن ما يجعلها تسمو أمام الوجود المتقن،وصراع الانسان مع الجهل طويل مرير وبتكاتف المعرفيين وتوحدهم تكمن القوة القادرة على خلق الابداع بتواصل وخرق الوثن القائم في تركيبة الحزب الشمولي ومقاومة منظومة الجهالة المتفشية فيه،والاحساس العال بجمال الوجود من خلال الوطن وضمان تمتع مكوناته بأقصى حقوقها فالوطن وجود والوجود الشامل هو وطن المعرفيين الكبير..
وإزالة الحاجة والعوز عن المنكوبين والعناية بهم واجب معرفي انساني محض، كي يعش أبناء الوجود دون جوع ، والمعرفيين لا يعنون بمفاهيم توزيع الثروة أو الاشتراكية فهي ليست سوى مفاهيم طوباوية حالمة ، لكنهم يؤمنون بانتفاء الجوع والتشرد كشبح يخيم على ضحايا العنف والكوارث البيئية..