الإسلاميون وتجربة الديمقراطية

الدكتور ماهر الجعبري

يتزامن نشر هذا المقال مع انعقاد مؤتمر الدوحة: "الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي"، ولكن عنوان المقال هنا يركّز على "التجربة السياسية" لحركات "الإسلاميين" الذين قبلوا خوض لعبة الديمقراطية، وتحديدا في الحالات البارزة التي بدأت في الجزائر عند خوض الانتخابات، ثم في الأردن عند قبول المشاركة في الحكم، ثم في تركيا عند تسلم الحكم، ثم في غزة عند دخول السلطة الفلسطينية، ثم في أنظمة ما بعد الثورات في كل من مصر وتونس والمغرب.

وهذه الوقفة السياسية تتناول الشقين من عنوان المقال: الإسلاميين من جهة وتجربة الديمقراطية من جهة أخرى، مع تعريج على مفهوم الديمقراطية وعلاقته بالإسلام.



1) الإسلاميون

لا يمكن أن يجد الباحث كلمة "إسلامي" متصلة بإنسان مهما قرأ في كتب السلف، لأن اللغة تفرض أن الإنسان العاقل إما مسلم وإما كافر. وفي المقابل فإن العقائد والأنظمة والبلاد وغيرها يمكن أن توصف بالإسلامية، لغويا وشرعيا.

وقد ارتبط رواج مصطلح "الإسلاميين" بترويج الديمقراطية في العالم الإسلامي، وذلك عندما فرضت الديمقراطية الغربية على المسلمين تقبّل العلمانية كدعوة فكرية بين المسلمين دون أن تثير عندهم نوازع الرفض المبدئي والتصدي السياسي. ولزم ذلك إعادة تصنيف الناس –ومن ضمنهم المسلمين- باطلا إلى "إسلاميين" وغير إسلاميين، مع أن الإسلامي هي صفة للشيء لا للشخص.

ولذلك ساهم ظهور هذا المصطلح في إزالة الحواجز النفسية والفواصل المبدئية بين العلمانية وبين الشريعة، ومهّد للتقبل الفكري والسياسي بأن يكون المسلم غير إسلامي، في تناقض عجيب غريب لا يمكن أن يستقيم في العقول السليمة. وهو بالتالي جعل الدعوة لتحكيم الإسلام في الدولة دعوة خاصة بالإسلاميين لا عامة للمسلمين. ومن هنا تمكنت القوى الغربية من تأهيل كوادر من المسلمين لحمل ثقافة الغرب العلمانية وترويجها في الأمة من باب أنهم مسلمون غير إسلاميين، وكذلك مهدت لوجود أطياف من الإسلاميين يختلفون في مستوى الشعار والعمل.

ونجحت تلك القوى –التي أدركت مستوى التحدي الإسلامي لحضارتها وتصدت له- في تصنيف الإسلاميين إلى معتدلين ومتطرفين، وكان الفصل في ذلك هو تقبل الديمقراطية وبناتها الفكرية من التعددية والمواطنة والتداول على السلطة مع شرط التخلي عن الشريعة كنظام متكامل يوحد الأمة. ورغم ما يظهر أحيانا بأن معيار التصنيف هو الأعمال العسكرية، إلا أن الواقع يشهد أن الغرب لا يحصر تصنيفه بذلك فقط، إذ يصنف من يحمل فكرة الخلافة –كنقيض للديمقراطية- على أنه متطرف ولو لم يحمل السلاح، ومثال ذلك الواضح تصنيف حزب التحرير كمتطرف رغم ما تسطره أدبياته وما تشهد به ممارساته من أنه حزب سياسي لا يتلبس بالعمل العسكري إطلاقا.



2) الديمقراطية



لا يمكن لعاقل منصف عندما يرجع إلى مفهوم الديمقراطية الحالي والتاريخي إلا أن يراها من منظورها الصحيح على أنها نقيض الشريعة التي تُتلقى من الوحي. فالديمقراطية نظام سياسي يألّه الشعب إذ يجعله مصدر السلطات في الدولة، ومن ضمنها السلطة التشريعية التي تسنّ الدساتير والقوانين، أما الإسلام فيُعبّد الشعب للرب، ولذلك جعل السلطة التشريعية للوحي تستمد الدساتير والقوانين حصريا من نصوصه –فقط- عبر فهم شرعي يقوم به المجتهدون (الشرعيون) لا المشرعون (الوضعيون)، ولذلك حدد الإسلام السيادة في الشرع، وحصرها فيه بينما منعها عن الشعب، في تناقض صارخ مع الديمقراطية، بحيث لا يكون السياسي ديمقراطيا إلا إذا "تنكر للإسلام"، وتمرد على نصوص الوحي.

وليس ثمة شك عند الجميع، أن الديمقراطية هي إبداع إغريقي، ولا شك أن المسلمين قد اطلعوا على نظامها وعرفوه، وهم الذين ترجموا كثيرا من كتب اليونان، وعرفوا كتاب السياسة لأرسطو، ومن هنا يبرز السؤال الطبيعي: هل يمكن أن يجد الباحث في كتب الأحكام السلطانية أو كتب تاريخ تداول الدول أي إشارة إلى تقارب بين نهج الديمقراطية الإغريقية ونهج الإسلام في الحكم؟!

إن الديمقراطية –كنظام حكم- لا تنفصم عن العلمانية كفلسفة الحياة، وممارستها اليوم لا تنفصل عن الرأسمالية كطريق للاستعمار ونهب خيرات الشعوب، مهما نظم المضبوعون بها من قصائد غزل سياسية، ومها أصدر الخادعون والمخدوعون بها من فتاوى سياسية، تظل نكهتها غربية وعجينتها وضعية.

وإن محاولة مزج الديمقراطية بالإسلام عبر التشارك في آلية الانتخابات هي محاولة سطحية، كمحاولة مزج الربا بالبيع للتشابه في التقابض المالي والربح، ثم إن محاولة اعتبار الشورى كأنها النظير للديمقراطية هي أيضا قفزة خاطئة فوق ذلك المفهوم الإسلامي، ومدّه خارج حدوده المحصورة في بيان رأي للخليفة حول مسألة عملية لا حول قضية تشريعية، ومن زاوية أخرى هي حصر خاطئ للديمقراطية في مجرد التعبير عن الرأي وتناسي مفهومها الأساس بأنه "حكم الشعب للشعب" عبر من يمثل الشعب.

إذن فكل محاولات "الإسلاميين المعتدلين" للتجمل بالديمقراطية أثناء حالة المغازلة مع الغرب، أو التطبّع بها عند الشعور بالغلبة أمامه، خاضعين لعقدة "تقليد المغلوب للغالب"، هي تجاوز فكري وسياسي، وقفز على معطيات العقل والشريعة –معا- في فهم الإسلام وفي الحكم على طبيعة الديمقراطية.



3) التجربة السياسية



إن الحقيقة المشاهدة أن من يصنفهم الغرب –وأبواقه الإعلامية العربية- على أنهم إسلاميون متطرفون، ليس لهم تجربة في اتخاذ الديمقراطية كطريق للحكم، فلا هم دخلوا مضمارها، ولا هم آمنوا بها كنظام، بل مجملهم يضعها في سياقها، السياق العلماني الكفري المرفوض.



من هنا، فإن الحديث عن تجربة الإسلاميين في طريق الديمقراطية محصور فيمن انخدع من المسلمين بزيف الديمقراطية ومن ضلل (بفتح الضاد وضمها) باعتبار الديمقراطية لا تناقض الإسلام، وهم الذين يصنفهم الغرب بالإسلاميين المعتدلين، ويحبون أن يصنّفوا أنسفهم كذلك، ويعتبرون أنهم يحملون "الإسلام المعتدل"، وهو في الحقيقة "الإسلام الديمقراطي"، الذي يأله الشعب في السياسة بينما يألّه الخالق في العبادات والعقائد، مما هو ممارسة مخففة للعلمانية المبطنة.

وقد كان خوضهم لتلك التجربة نتيجة حملة ترويض طويلة، تمكنت من تحويل أدبياتهم عن مفاهيم سيد قطب –رحمه الله- عن المفاصلة بين الجاهلية والإسلام إلى المهادنة والتساكن مع العلمانية والديمقراطية، ثم إلى تسكين حركة المطالبة بالشريعة مع الجري خلف الديمقراطية، حتى قال أحد منظريهم: "الحرية مقدمة على الشريعة"، ومن ثم أعلنوا الجهاد من أجل الديمقراطية.

وعندما تخلّى أولئك الإسلاميّون عن أنظمة الإسلام السياسية والاقتصادية وكثير من نظامه الاجتماعي وما يترافق مع ذلك من قوانين ومفاهيم، كان رفعهم للإسلام شعارا دون المضمون، فوصلوا للحكم ولم يصل معهم الإسلام بالطبع، فكانت تجارب فشل ذريعة، لأنها –في حقيقتها- إعادة استنساخ الأنظمة الغربية العلمانية بعباءة إسلامية، فصار الفشل ينسب للإسلام بدل أن ينسب على حقيقته لمحاولة أسلمة العلمانية، أو دمقرطة الإسلام.



ورغم بطلان تلك المحاولات في "العدول" عن الإسلام نحو الديمقراطية تحت عنوان خاطئ من "الاعتدال"، ظل اسم الإسلام وشعاره مرعبا للقوى العلمانية ومن خلفها من القوى الغربية، وظل العلمانيون ممن ينافسون "الإسلاميين" على كعكة السلطة وممن يزاحمونهم على استرضاء الغرب يخوفون الغرب بالقول أن الإسلاميين يريدون الديمقراطية لمرة واحدة فقط (كما صرح أكثر من مرة رئيس السلطة الفلسطينية عباس).

ويمكن أن يحسب الغرب حسابا لوصول الإسلام عبر التسلل الديمقراطي وعلى حين غفلة من قوى العمالة التي تحرس مصالحه، لأن الإسلام ذا طاقة كامنة وقابلة للانفجار السياسي وإحداث البركان الحضاري. ولأن المسلمين يظلون أصحاب عقيدة دافعة، يمكن أن تعيد صوغ أفكار حاملها على النهج الصحيح إن فتح عقله وقلبه، وبالتالي يمكن أن يقلب للغرب ظهر المجن إن وصل للسلطة وتحركت فيه عقيدته، أو تحرك أتباعه حسب مفاهيم الأعماق لديهم.

ومن هنا ظل الغرب متوجسا من فتح المجال للإيصال الفعلي وتمكين أولئك الإسلاميين من مفاصل الحكم، حتى مع تواتر التوصيات الإستراتيجية –في حاضنات الأفكار لديه- "بفتح الطريق" أمام الإسلاميين المعتدلين من أجل "قطع الطريق" على وصول الإسلام الصافي للحكم بتطبيق الخلافة.

وعند المحك، يظل لسان حال الغرب معبر عنه بما نطقه الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، عندما قال مطلع التسعينات: إذا فاز الإسلاميون في الانتخابات في الجزائر سأتدخل عسكرياً كما تدخل بوش في بنما" (توثيق المصدر "الجزائر.. بلد يحكمه سفاحون"، ولذلك تحولت "التجربة الديمقراطية" في الجزائر إلى حالة دموية مشهودة.

وكذلك الحالة في غزة عندما تورط "الإسلاميون" في سلطة كانوا يكفرون بمشروعيتها، سالت الدماء على مذبحها لدى التخاصم على مكتسباتها لا على مشروع الحكم الإسلامي (الذي لا واقع له تحت الاحتلال)، ولا زالت شاهدة على حالة مريرة من تطويع الإسلام السياسي للدخول في أنفاق سلطة خدماتية ما قامت إلا عبر اتفاقيات أمنية تحفظ أمن الاحتلال اليهودي لفلسطين.

أما الحالة الأردنية، فقد كانت هزيلة لحد إدخال الوزراء الإسلاميين في عباءة الملك، وجعلتهم شهود زور لحكومة ملكية ودستور جعل الملك فوق الشعب وفوق الشريعة على السواء. وهي حالة تستنسخ من جديد في المغرب.

أما التجربة المصرية فهي شاهدة على الانقلاب البشع على الثورة، وعلى دخول مصر في الأقبية الأمنية، وهي تجربة تجسد حالة من القمع لم يسبق أن تجرأ على مثلها ومستواها نظام ما قبل الثورة. وكذا الحال في التجربة التونسية المفتوحة الآن على مسار التجربة المصرية، وهي تظل حبلى مع غليان شعبي، مؤهل لأن يكشف عن عوار التجربة في أي لحظة.

أما التجربة التركية، فهي في الحقيقة لا تمت للإسلام بصلة، إلا في أزياء زوجات الرؤساء والوزراء، وفي تنظيف حمامات المساجد الأثرية، بينما ظهر أصحابها يحتسون الكؤوس مع قادة اليهود، ويشاركون في الحرب التي يخوضها حلف النيتو ضد المسلمين، ثم يتمجّد عراب تلك التجربة لدى زيارته لمصر قبل أشهر بأن العلمانية لا تعارض الإسلام، بما يتجاوز حدود التضليل بالديمقراطية إلى حد الإضلال بالعلمانية، التي لا يكون "الإسلامي" إسلاميا إلا إذا كفر بها.



إذن أمام كشف الحساب المختصر هذا، ولدى استحضار تلك التجارب الديمقراطية الفاشلة (والباطلة) أليس حقيق على أصحابها الصدع بالحقيقة الصارخة أن الإسلام إنما هو نظام بديل عن كل الأنظمة الوضعية كنظام وحي رباني وأن ذلك هو سرّ تميزه، وما حاولوا القفز على تلك الحقيقة إلا وقعوا في حفرة الفشل أو وحل الدماء.

ومن هنا آن الأوان لحوار صريح معمق ومواجهة مصارحة، تقوم على فهم نصوص الوحي كما تفيد لا على ليّ أعناقها كما نريد، وبالطبع لا يمكن لمنصة الدوحة -التي يناقض كرسيّ أميرها الديمقراطية والإسلام معا- أن تحتضن ذلك الحوار وأن تتكشف على تلك المصارحة.

ومن هنا توجب على "الإسلاميين" وهم يستحضرون هذه التجربة أن يسألوا من جديد:

هل يمكن أن تختلط الديمقراطية الوضعية بالإسلام الرباني ثم يبقى الإسلام ربانيا وتبقى الديمقراطية وضعية؟ وهل يمكن أن تسمح الديمقراطية بأن يصل الإسلاميون عبر سلمها ثم يلقون به بعيدا؟