متى تعود إلينا مؤسساتنا البحرية ؟


كاظم فنجان الحمامي

ماانفكت مؤسساتنا البحرية المولودة في البصرة, والعاملة فيها, والناشطة في البحر تُدار بالرموتكونترول من بغداد, في ظاهرة غريبة عجيبة تدعى: ظاهرة (التبغدد البحري), أو (البغددة البحرية)
حالة غير مسبوقة في السياقات الرسمية, ولا في التطبيقات الإدارية البحرية العربية, ولا في الممارسات العالمية المقبولة, لكن حكوماتنا المتعاقبة في العراق أصرت إصرارا عجيباً على اجتثاث تلك المؤسسات من جذورها الطبيعية المغروسة على ضفاف شط العرب, فسعت نحو غرسها في مشاتل هجينة على ضفاف دجلة, وعلى وجه التحديد في بغداد, ثم أهملت هذا الكم الهائل من الخبراء والعاملين في البحر, من ربابنة ومرشدين ومهندسين ومن رجال القانون البحري, ووقع اختيارها على الموارد البشرية القريبة من صناعة القرار في بغداد, على الرغم من فارق الخبرة, وفارق العمر الوظيفي, وفارق المهارات والكفاءات.
من فيكم سمع أن المؤسسات البحرية المصرية العاملة في موانئ الإسماعيلية أو الإسكندرية انتقلت في يوم من الأيام إلى العاصمة القاهرة ؟. وهل انتقلت المؤسسات البحرية السودانية من بور سودان إلى العاصمة الخرطوم ؟, وهل قفزت المؤسسات البحرية في السعودية من جدة والدمام وجيزان لتجتمع في العاصمة الرياض ؟, وهل فعلتها قبلنا الأقطار الأوربية ؟, أو الآسيوية ؟, أو الأمريكية ؟, أو الاسترالية أو الأفريقية ؟.
لقد بذلنا نحن في البصرة جهوداً استثنائية من أجل إعادة مقرات تلك المؤسسات إلى مواقعها في البصرة, وقطعنا شوطاً كبيراً في هذا الاتجاه, فنجحنا في تثبيتها مؤقتاً, لكنها كانت تنزلق من هنا فتتدحرج نحو بغداد بقرارات فوقية مستبدة, لا تقبل الاعتراض ولا المناقشة, من دون أن نعرف حتى الآن طبيعة الدواعي الحقيقية لظاهرة التبغدد البحري, التي شملت ثلاث مؤسسات بحرية, لا نريد الإشارة إليها هنا بالاسم, تاركين أمرها على طاولة نواب البصرة, وطاولة مجلس المحافظة.
وربما سيأتي اليوم الذي تنتقل فيه مقرات آمرية خفر السواحل من رأس البيشة إلى الزعفرانية, وقد تنتقل معها مقرات الموانئ العراقية, ثم تزحف خلفها الموانئ النفطية نحو بغداد لتجاور وزارة النفط فتكون قريبة منها, ويكون مقر ميناء خور العمية في الكرادة, ومقر ميناء الفاو النفطي في الكاظمية, وتنتقل مقرات موانئ (أبو الفلوس), و(خور الزبير), و(أم قصر) لتستقر في الأعظمية.
من المفارقات العجيبة إنّ المطالبة بعودة مقرات الشركات البحرية المجتثة من البصرة صارت من الرغبات المحظورة, وصارت من الخطوط الحمر التي لا ينبغي تجاوزها, أو حتى الاقتراب منها, أو التحاور فيها.
أما اغرب الغرائب وأعجب العجائب فأن لجان التقييس والسيطرة النوعية العاملة في بغداد, هي التي أنيطت بها مسؤولية فحص البضائع والسلع والحمولات, التي تحملها السفن الأجنبية الراسية على أرصفة موانئنا العراقية, فتتقافز النماذج المرشحة للفحص في رحلات مكوكية مرهقة, ذهاباً وإياباً بين بغداد والبصرة من أجل احتكار الفحوصات المختبرية, ومن دون أن تتدخل وزارة التخطيط لرصد هذه الحالة الشاذة, ومن دون أن تحاول المؤسسات البحرية في البصرة التحرر من قيودها المتناقضة مع المنطق الإداري والمنطق البحري, ومن دون أن تفكر برصد الأوقات المهدورة, والأزمنة الضائعة, وما يترتب عليها من اضطرار السفن للتوقف بانتظار عودة نتائج الفحص من بغداد.
وكان الله في عون التاجر والمستورد الذي لم يسعفه اتحاد رجال الأعمال في البصرة, ولم تنقذه غرفة تجارتها, ولم تحتضنه مؤسساتها الأمنية والرقابية, بينما انشغلت دوائر المفتش العام, ولجان النزاهة بالقشور الطافية على السطح, تاركة الحبل على الغارب للجان الفحص النوعي, فتعطلت إجراءات التفريغ والشحن, وتعطلت مناولة البضائع, وتضررت السفن المتوقفة في منطقة الانتظار, وربما يصل الأمر إلى الابتزاز في بعض المحاور المعقدة في هذا النظام العجيب الذي انفرد به العراق وحده من دون أقطار السماوات والأرض.
يقول الراضخون والقانعون والمتبغددون: أن الحكومة حكيمة, لذا يتعين علينا المطالبة بنقل مقر مركز علوم البحار من جامعة البصرة إلى جامعة بغداد حتى تكتمل الصورة, ويتعين علينا المطالبة بنقل مراكز مكافحة التلوث البحري للعمل في بغداد, ونقل إدارات المؤسسات البحرية كلها إلى العاصمة لتكون في عصمتها وتحت رعايتها وبإشرافها.
ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين