عبادانُ والفيضانُ والمطرُ


كاظم فنجان الحمامي

هذه عبادان, وهذه شوارعها. لا تختلف كثيرا عن أي مدينة عراقية تتمدد معها بموازاة خطوط الطول المحاذية لدجلة والفرات وشط العرب, ولا اختلاف بينها وبين مدننا العراقية من حيث الواقع الجغرافي, فالمناخ نفسه, ودرجات الحرارة نفسها, ويمر بها المنخفض الجوي نفسه, ولا اختلاف في طقسها وحالتها الجوية عن أحوالنا الجوية المتقلبة.
هطلت عليها الأمطار الثقيلة مثلما هطلت على ذي قار والبصرة وميسان وواسط والمثنى والسماوة وبغداد, وواجهت المصير نفسه, بل ربما تكاثفت فوقها السحب المشحونة برطوبة البحر لقربها من حوض الخليج العربي, فتعرضت إلى ضعف ما تعرضت له المدن العراقية, ثم أن المسافة التي تبعدها عن شط العرب تتساوى مع المسافة التي تبعد البصرة عن النهر نفسه, وتتساوى مع المسافة التي تبعد بغداد عن دجلة, وفيها أكبر مجمعات المصافي النفطية وأكبر المعامل البتروكيماوية, ولا يختلف تعداد نفوسها عن تعداد مدننا المماثلة لها بالحجم, لكنها لم تغرق, ولم تطفح مجاريها, ولم يكتسحها الطوفان, ولم تتعطل منظومات تصريف المياه فيها, ولم تستنفر طاقاتها كلها لمواجهة سيول الأمطار الغزيرة, ولم تلجأ إلى تشكيل خلية طارئة لإدارة الأزمة, ولم تتوقف مؤسساتها, ولم تتعطل مدارسها.
ومما يزيد الوضع غرابة أن مجاريها بنيت آخر مرة بعد انتهاء الحرب عام 1988, وصُممت في ضوء الرؤى المستقبلية المبنية على القراءات الصحيحة للواقع المناخي والسكاني.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
اقتربتُ منها أثناء قيامي بإرشاد سفينة الحاويات (MAG PEARL) في الوقت الذي كانت فيه الأمطار على أشدها, فلم أر فيها بركة واحدة, ولم أر فيها أي تكدس للمياه, كانت السفينة تسير بأقل السرعات المنخفضة لقربها من أرصفة ميناء عبادان, ما أتاح لي فرصة النظر إلى المدينة عن كثب, حيث كنت أقف في مكان مرتفع على الجناح الأيمن لبرج قيادة السفينة, فشاهدت بأم عيني كيف خرج الناس للاستمتاع بمنظر الأمطار المنهمرة على مدينتهم, وكيف غسلت الأمطار شوارعهم وأرصفتهم, وكيف سقت حدائقهم وبساتينهم.
كانت مجاري عبادان تشفط كل قطرة تقع فوق إسفلت شوارعها النظيفة, وكان شط العرب هو المستودع الأخير للسيول العنيفة, وتصب فيه المياه المتدفقة نحو الفوهات الواسعة المفتوحة على ضفاف الشط بين (بواردة), و(البريم).
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
واصلت السفينة سيرها بتأن حتى وصلت بعد (90) دقيقة إلى مدينة المحمرة في طريقها نحو البصرة, فشاهدت المدينة الجميلة وأحيائها السكنية بأبهى صورها المبللة بحبات المطر, لم تكن عندهم أي مشكلة مع وابل الأمطار, فالمجاري مبنية على وفق الأسس الهندسية الصحيحة, ومصانة دورياً وأصولياً.
ليس عيباً أن نقارن أوضاعنا المناخية مع أوضاع جيراننا, خصوصاً عندما يكون الهدف من المقارنة الاستفادة من تجارب الغير, وتصحيح المسارات العمرانية الخاطئة, التي أغرقتنا بالضربة القاضية في الجولة الشتوية الأولى, فما بالك بما سنواجهه من ضربات مطرية في الجولات اللاحقة, التي لا نستطيع التكهن بخطورتها وشدتها.
لقد شيد العبادانيون شبكاتهم التصريفية قبل أكثر من ربع قرن, لكنهم لم يهملوا صيانتها, ولم يتخلفوا عن إدامتها, ولم يغفلوا عن مراقبتها, ولم يتأخروا في ترميمها, ولم يتهاونوا عن تجديدها وتأثيثها بالمعدات الحديثة.
هل في كلامنا هذا أي تطاول على مقامات السادة المسؤولين حفظهم الله ورعاهم ؟. وهل فيه ما يسيء إلى جهة بعينها ؟. ثم متى نتصرف مثل الأوربيين ؟, أو على أقل تقدير: متى نبني مجاري مدننا مثل جيراننا في عبادان وذلك أضعف الإيمان. .
ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين