العقل ومكانته في الشريعة الاسلامية

المقدمة

ان مِنْ أفضل نِعَم الله على عباده، نعْمةَ العقل، فلولا العقل لما عرَف الإنسان دينَ الإسلام والنبوة، والخيرَ والشر، والحقَّ والباطل، والمعروفَ والمنكر، قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )( الإسراء: 70) ، فالله تعالى فضَّل بني آدم على غيرِهم منَ الجمادات، والحيوانات، والنباتات بهذا العقْل . قال سبحانه مادحًا عبادَه أصحاب العقول السليمة: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ )( آل عمران: 190) . قال ابن كثير(1) : أي العقول التامة الزكية، التي تُدرك الأشياء بحقائقِها على جلياتها، وليسوا كالصمِّ البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )( يوسف: 105- 106)(2). وقد ذمَّ الله تعالى أصحابَ العقول الغافلة عن دينها ، فقال: ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ )(الأنفال: 22). وقال سبحانه: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )(الأعراف: 179) .

فإذا فَقَدَ الإنسان العقلَ السليم الذي يقوده إلى الخير، ويُبعده عن الشر، فقد أصبح كالبهيمة التي تأكل وتشرب ولا تعقل شيئًا، بل إنها خيْرٌ منه، كما في الآية الكريمة السابقة. روى الحاكم في (المستدرك)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافَها" (3) أي: دنيئها وخسيسها. قال ابن حبان: وإنَّ محبة المرء المكارم منَ الأخلاق وكراهته سفسافها، هو نفس العقل، فالعقل به يكون الحظ، ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة، ولا مال أفضل منه، ولا يتمُّ دين أحد حتى يتم عقلُه، وهو من أفضل مواهب الله لعباده، وهو دواء القلوب، وزاد المجتهدين، وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمنين في الدنيا، وعُدَّتهم في وقوع النوائب، ومن عَدَم العقل لم يزدْه السلطان عزًّا، ولا المال يرفعه قدرًا، ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذَّة دُنياه(4) .


حول مفهوم العقل

العقل من الناحية اللغوية هو مصدر عقَل ، ويعقل وأصل مادته الحبس والمنع وسمي عقل الإنسان عقلا لأنه يعقله ، أي يحجره عن الوقوع في التهلكة ويحول بينه وبين ارتكاب الخطأ ، وسمي كذلك : نهية، لأنه ينهى صاحبه عن فعل ما لا يحمد. وقال بعضهم : أنه مشتق من المعقل، وهو الملجأ، فكأن الإنسان يلجأ إليه في أحواله. ويطلق العقل في الاصطلاح على معان منها (5) :
1. الغريزة المدركة التي ميز الله بها الإنسان عن سائر الحيوانات، وهذه التي يسقط بفقدها التكليف الشرعي.
2. المعارف الفطرية، والعلوم الضرورية التي يشترك فيها جميع العقلاء، كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء، وأن الحادث لا بد له من محدث ونحو ذلك من العلوم الأولية الضرورية.
3. ويطلق كذلك على : إدراك المعارف النظرية، وما يستفاد من التجارب الحسية، ومنه جرى إطلاق العلم على العقل، ويسمى فاقد هذا جاهلاً وأحمقاً وهو يختلف عن المعنى الأول من جهة أنه لا يسقط التكليف.
4. ويطلق أيضاً على العمل بمقتضى العلم، ويدل عليه نفي الكفار للعقل عن دخولهم نار الجحيم كما قال سبحانه : (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)( الملك:10) .
ويسمى العقل بهذا الإطلاق : معرفة وبصيرة. قال ابن القيم : العقل عقلان : عقل غريزي طبعي، هو أبو العلم ومربيه ومثمره وعقل كسبي مستفاد، وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته، فإذا اجتمعا في العبد استقام أمره، واقبلت عليه جيوش السعادة من كل جانب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإذا فقدهما، فالحيوان البهيم أحسن حالاً منه، وإذا فقد أحدهما أو انتقص، انتقص صاحبه بقدر ذلك مفتاح دار السعادة (6) . والعقل هو ما يملكه الإنسان من قدرة على التمييز بين الأفعال والأقوال من حيث صلاحها وفسادها ونفعها وضرها ، ولكن فلسفات كثيرة ظهرت منذ آلاف السنين زاخرة بالجدل والبحث عن ماهية العقل وظل الجدل قائما ، ولكننا لسنا بصدد مناقشة هذا الموضوع في مقالتنا هذه . ولو تناولنا الإنسان المسلم في العالم الإسلامي، لوجدناه يرزح تحت مؤثرات جسدية تحدثها الحاجات الغريزية كحيوان ، وتأثيرات عقلية مفكرة تحدثها المبادئ التي آمن بها واعتقدها في حياته كإنسان ، ممثلة بالحاجات الدنيوية والحاجات الدينية . فالإنسان المسلم يعيش منذ لحظة الوعي في الحياة حتى الموت ، وهو رهين المؤثرين الرئيسيين في وجوده : الدنيا والدين . حاجة الجسد وحاجة الروح ـ عندما يكون العقل مظهرا من مظاهر الروح (7) ، وبهذه المعاني فان العقل هو الغريزة المدركة التي ميز الله بها الإنسان عن سائر المخلوقات فضلا عن انه يساعد في إدراك المعارف النظرية والعملية ، ومن هنا جرى إطلاق العلم على العقل .

منزلة العقل

العقل شرط في معرفة العلوم، وفي الأعمال وصلاحها، وبه يكمل الدين والعمل، ولكنه لا يمكن أن يستقل بذلك، حيث أنه غريزة في النفس وقوة فيها مثل قوة البصر، وحين يتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين حين يلاقي ضوء الشمس، فإن انفرد لم يستطع إدراك ما يعجز عنه لوحده ، ووجود العقل يشكل الأساس في معرفة العلوم وفي الأعمال وصلاحها ، وبه يكمل الدين والعمل ، فيرسخ في النفس المؤمنة ويكون بالنسبة لها كقوة البصر وحين يتصل به الإيمان كان كنور العين ، ولذا اعتبر الإسلام العقل مناط التكليف (8). فإن كنا نتحدث عن العقل من جانب الروح : فهو القلب كما ذكر في القرآن ، وإن كنا نتحدث عن العقل من جانب النفس فهو مخ أو دماغ الإنسان . وهو ينقسم إلى العقل الواعي والعقل اللاواعي أو الباطن أو اللا شعور.ومسألة أخرى مهمة علينا معرفتها وهي كيف نعرف عقلنا وكيف نسيطر عليه ؟ فمتى ما عرفنا عقلنا سيطرنا على حياتنا وعلى خياراتنا وتمكنا من معرفة ما يحيط بنا معرفة إدراكية حقة يبنى عليها سلوكنا وتصرفنا . فالجميع يتفق أن كل شخص منا لديه عقل ، وكل منا يعمل عقله بطريقة تختلف عن الأخرى ، وقد قلنا أن العقل الصادر عن النفس يصدر عن الدماغ ، فإن كان الدماغ فيه شيء من النقص فإن العقل غير مكتمل وغير واعٍ ، أو أنه يتسبب في بعض المشاكل لمن يملكه ، أما الجانب الذي لا نعرفه ولا يعرف احد إلا الله سبحانه وتعالى فهو ماهية العقل والمواد المتكون منها ، وكيف هو ؟ فالعقل هكذا منذ أن بدأ الله الخلق والحياة ، ومنذ أن وضع الله عز وجل الروح في جسد الإنسان . تماماً العقل كالروح . فالروح لا نعرف ماهيتها . إنما نلمس آثارها على الإنسان ، ونعرف إذا ما الإنسان قد خرجت منه الروح أو أنها ما زالت في داخله من خلال دراسة قلبه وجسده . كذا العقل ، فإننا لا نعرف ماهيته ، لكن عن طريق دراسة الدماغ يمكن تحليل ومعرفة عمل العقل وآثاره . فالعقل يصدر عنه الكثير من التصرفات والأفعال مثل الذكاء ، الحفظ ، حل المسائل المعقدة ، طريقة عمل الإنسان وكل شيء (9) . وقد سعى العلماء في دراساتهم لمعرفة كيفية عمل عقل الإنسان ، لكنهم لم يستطيعوا دراسة العقل مباشرة ، فتوجهوا للدماغ فهو وسيلتهم الوحيدة لمعرفة عمل العقل . الذي يهمنا هنا أن العقل الذي جعله الله نورا روحانيا أودعه الله عَزَّ وجَلَّ في الإنسان ، والذي هو آلة التفكير والقوةٌ المدركةٌ والمُميِّزة التي أنعم الله بها على الإنسان ، يصبح قادرا على تمييز الأشياء المحيطة به ، ومؤهلا لتحليله لها بعد أن يكون قد أدركها ووعاها جيدا، ليبدأ بطرح خياراته واختياراته لسلوك الجانب المضيء منها ونبذ الجانب المظلم ، وبهذا المعنى تتبلور بداية طريقة عمل العقل وأسلوب تفكير الإنسان وتتحدد أساليب مناقشته وحواره ، المبنية على أسس منطقية وبيانية ، وقد يتم هذا بمرحلة أو أكثر أو بخطوة أو أكثر وصولا للقناعة والإيمان بما يَطرح أو يُطرح والعقل .

هذا المكون المعجزة في خلق الله سبحانه وتعالى ، هو زينة الإنسان المتصف بها منذ الأزل ، وما يراد عن العقل عامة أن من بين مهامه أن يقيد الإنسان حال انطلاقه وراء غرائزه المدمرة ، وأن يقيــد النفس عن التفكير فيما لا يحــل ولا يطــال إلا بوسائل غير شرعية ، فأهمية العقل تكمن في إدراك الشيء على ما هو عليه من حقيقة في تكوينه وغاية خلقه ووجوده ، وهذا المعنى يشترك فيه الجنس البشري كله . أما مقياس العقل فحده : إدراك الحكمــة التي من أجلها خُلق الكون والعقل نفســه ، وإدراك هذه الغاية هو الذي يُعطي الإنسان صفة العقل الشرعي ، فمن أدرك هذه الغايـة فهو عاقل ومن لم يُدركها فهو غير عاقل حيث يُعبِّر الكفـار يـوم القيامة عن هذه الحقيقة بوضوح كما جاء في القرآن العظيم:( وقالوا لو كنا نسمعُ أو نعقلُ ما كنا في أصحابِ السعير) (المُلك : 10) ، فالآية لا تنفي وجود القوة العقلية عنـدهم وإلا لسقط التكليف ، بل تنفي إدراك الحقيقة التي لأجلها خُلق الإنسان ، وهي حقيقة واضحة فاستحق أولئك أن يوصفـوا بـأنهم أقـل مرتبـة مـن الحـيوان قال تعالى :( أم تحسبُ أنَّ أكثرَهُم يسمَعُونَ أو يعقلُون إن هـم إلا كالأنعامِ بل هم أضلُ سبيلاً)(الفرقان : 44) فهم كانوا يسمعون ويبصرون ويدركون ولكنــهم لم يُدركوا الحقيـقة الشرعية والكونـية. قال تعالى :( وتصريفِ الرياحِ والسحابِ المسخرِّ بين السماءِ والأرضِ لآيات لقومٍ يعقلون)( البقرة : 164 )،أي لقوم يُدركون الحكمةَ مـن هـذه الآيـات ، وعدم إدراك الحقيقة الكونية هو ما يسميه القرآن بعمى الأبصار . أما الذين يُدركونها فهم المُبصـرون والعـاقلون وهـم أولـى الألبـاب . والعقل هو صاحب القرار الأكثر صدقا وصوابا من القلب ، فنراه يرجّح الحكمة الناتجة عن تحليل التجارب والمعطيات ،أما إذا ترك لتغليب ضغط المشاعر الانفعالية الآنيّة المسيطرة ، عندها يسمى القلب أو يصبح كالقلب(10) .

هكذا تتضح منزلة العقل وتأثيره في الحياة ، وهناك ايات كثيرة تتحدث عن هذا المعنى الذي يبين عِظَمَ منزلة العقل عند الله تعالى، وحَفْزَه على التأمل والتفكر الموصلَينِ له إلى معرفة الحق والباطل، وإن أي إنسان عاقل يستغل طاقته العقلية في تأمل بعض تلك الآيات، لا بد أن يوقن بأن ما جاءت به رسل الله ونزلت به كتبه حق، ولنذكر بعضا من تلك الآيات بدون تعليق، ليتأملها طالب الحق، ثم يسأل عقله بعد ذلك: هل تبين له أن الله تعالى حق وأن عبادته حق، وأن الكون كله دال على ذلك، وأن الله تعالى قد أنزل عقله منزلة عظيمة يجب عليه أن يشكرها ويصون ذلك العقل من عبث المتلاعبين به أو لا (11) ؟
من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفلك الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ لأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَلأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164) . وقوله تعالى : وقوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ( الحج : 46) . وبهذا يعلم إجرام قادة الباطل وجنايتهم على أنفسهم وعلى غيرهم، وتمسكهم بتقليد الآباء والمتبوعين الذين عطلوا نعمة الله عليهم بتلك العقول، ليميزوا بها الحق ويتبعوه، ويعرفوا بها الباطل ويجتنبوه، فحرموا أنفسهم وأتباعهم من هدى الله الذي لا يُحْرمه إلا من لا عقل له، بل عطلوا بذلك كل المنافذ المحسوسة، كالسمع والبصر التي تعرض على عقولهم ما تسمع وما تبصر من آيات الله في أنفسهم وفي الكون الكبير، وأنزلوا أنفسهم منزلة أحط من منزلة الحيوان! قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ )(البقرة: 170) ، وقال تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) البقرة:171) ، وقال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)( الانفال : 22) (12) .

ولما كانت العقول والفطر السليمة، ترفض الباطل لفساده ومجافاته للحجج والبراهين التي تسند الحق وتظاهره، لجأ أهل الباطل إلى إسناده وتأييده بالقوة والإكراه والتضليل والاستخفاف.
وقد دلت على ذلك أدلة كثيرة، لا تخفى على من تأملها في جميع حقب التاريخ الممتدة منذ أوجد الله الخليقة إلى يومنا هذا، وستبقى كذلك إلى قيام الساعة. كما دلت على ذلك سير قادة الباطل وأساليبهم، منذ أن خلق الله آدم السلام وابتلاه بقائد قادة الباطل: إبليس لعنه الله. وبهذا يظهر السبب الذي جعل أهل الحق وأهل الباطل يتسابقون إلى العقول: أهل الحق بحقهم، وأهل الباطل بباطلهم، لأن من سبق إلى العقول بما عنده ملك زمام أصحابها، وقادهم إلى غايته بوسائله المتاحة واستثمرها وحظي بنتائجها، ومن كان أكثر سبقا إلى العقول كان-في الغالب-أكثر أنصارا وأعوانا، فإن كثر أهل الحق وقويت شوكتهم، أقاموا الحق في الأرض ونشروه وحموه من اعتداء أهل الباطل عليه، وإن كثر أهل الباطل وقويت شوكتهم، أقاموا الباطل في الأرض ونشروه وحموه وحاربوا به وبأعوانه الحق، وأحاطوا باطلهم بِجُدُرٍ من الحواجز الحسية والمعنوية ضد هجمات الحق عليه ودحضه وكشف عواره للناس(13) .

تكريم الاسلام لعقل الانسان

فمنذ بدء الرسالة المحمدية الشريفة وجدنا أن الإسلام يمجد العقل لا باعتباره أداةً لاستيعاب المعلومات وخزنها ثم استرجاعها وتحليلها فحسب، بل يعتبره أهم أداة لمعرفة الخالق عز وجل، ولولاه لأصبح الإنسان حيواناً بهيمياً آخر لا يعي من واقعه الاجتماعي شيئاً ولا يهتم بأمر مثل اهتمامه بغرائزه الحيوانية . ولما كان العقل هو البنية التحتية للتفكير الإنساني، أصبح العلم البناء الفوقي الذي يساهم بشكل فعال في تقوية سلطات العقل وقوته المنطقية والتحليلية. فالحقيقة العلمية اليقينية، يعتبرها الفقهاء شيئاً قطعياً، والتنكر لها تنكر للعقل نفسه. وأعظم دليل على ذلك أن أكثر الناس خشية لله سبحانه العلماء العارفون بأسرار الكون والحياة والخلق، لأن الجاهل بأسرار الكون والخلق جاهل بعظمة الخالق. والسر في ذلك أن العلم بطبيعة المخلوقات يستوجب علماً بطبيعة الخالق، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)(فاطر :28) (14) . فالشرع هو الدين جعل العقل مناط التكليف، أي جوهر إنسانية الإنسان، والقرآن وهو المعجز لم يأت ليدهش العقل، فيشله عن التفكير كحال المعجزات المادية وإنما جاء القرآن معجزة عقلية، تحتكم إلى العقل في فهمه وتدبره أو استنباط الأحكام من نصوصه، والتمييز بين المحكم والمتشابه في آياته، بل لقد جعل القرآن من البراهين العقلية السبيل للبرهنة على وجود الخالق، وعلى الخلق في هذا الوجود(15) . والعقل إذا استخدمه الإنسان بدون قيود من بشر (مثل ميراث الآباء العقدي الضال) سيصل حتماً إلى طريق الله الحق لان الله لا يظلم عبادة فقد أعطاهم الدليل والقدرة على الوصول إلى الحقيقة ليكون حجه عليهم يوم القيامة. فليس في الإسلام إذاً ما عرف في بعض الأديان الأخرى من اعتبار الإيمان شيئًا خارج منطقة العقل ودائرة التفكير، وإنما يؤخذ بالتسليم المطلق، وإن لم يرتضه العقل، أو يسانده البرهان، فالإيمان بالله فطرة طبيعيه في البشر ويتمشى مع طبيعة الإنسان السوي ويصل إليه العقل البشرى السليم الذي لا تؤثر عليه الأهواء والمصالح والناتج عن القلب السليم (16) .

ان تكريم الإسلام لعقل الإنسان ليس مدار شك عند من يحترم آدميته ، ولا عبرة بقول السفهاء الذين يزعمون أن الإسلام بنصوصه المقدسة يلغي عقل الإنسان وقدرته على التفكير ، فإن من تأمل النصوص الشرعية لوجد احترام العقل في الشريعة الإسلامية غير مسبوق على الإطلاق ، ونستطيع أن نلمح ذلك في الكثير من النصوص والمواقف ومنها(17) :
1. في ضوء الشريعة الإسلامية فإن العقل هو مناط التكليف ، ويسقط التكليف عن الإنسان إذا غاب عقله لسبب خارج عن إرادته كالمرض وما شابه ، وهذا إجماع فقهاء الأمة ، وفي الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق أو يعقل ، وعن الصبي حتى يحتلم " رواه أحمد وأبو داود عن عائشة ، أما إذا كان ذهاب العقل لسبب يرجع إلى الإنسان فإنه يتحمل مسئولية التصرفات التي تصدر عنه كطلاق السكران .
2. تلفت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية إلى دور العقل في الاكتشافات التي يناط بها تيسير حياة الإنسان على وجه الأرض ، وغني عن الذكر أن التفكر في مخلوقات الله وفي بديع صنع الله يزيد في الإيمان ويساهم في تقوية صلة الإنسان بربه. قال تعالى : (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ )(يونس:101)
3. الإصـرار على تغييب العقل أو تجاوز دوره يؤدي بالإنسان إلى عواقب وخيمة ، قال تعالى حكاية عن الكافـرين يؤنبون أنفسهم يوم القيامة : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179) . ذلك حال أقوام عطلوا ملكات الإدراك لديهم فكان عاقبة أمرهم خسراً .
4. يعول الإسلام على العقل في هداية أقوام اتصفوا به ابتداءً ، وكدليل على هذه القاعدة ، فقد قال النبي صلي الله عليه وسلم لخالد عقب إسلامه : " قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير " أخرجه الواقدي في مغازيه (2/749)، ومن طريقه غير واحد ، ويشترط لكي يقوم العقل بدوره الطبيعي في اختيار الصواب والالتزام به أن يتخلص الإنسان من كل المعوقات التي تحول بينه وبين التفكير الحر ، والتي تمنعه من الاستجابة لنداء العقل كمثل ما إذا كان الإنسان من قوم يغلب عليه صبغة معينة .

مقصد حفظ العقل في الشريعة الاسامية

بداية نوضح مفهوم مقاصد الشريعة ، فهي تعني الأهداف التي يرمي إليها الشارع الحكيم، أو هي المقصود بالتكاليف الشرعية. فالله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الكون عبثا ولم يتركه سدى، بل خلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له ، وسخر هذا الكون لأداء وتسهيل هذه المهمة العظيمة ، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات: 56) وقال سبحانه : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)( الجاثية: 13) . وهذا من مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان، كما قال تعالى:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا )( الإسراء: 70) . وشرع له الشرائع التي تهدف إلى مصلحته الدنيوية والأخروية وتسهل عليه القيام بأداء المهمة التي من أجلها خلق. يقول الامام أبو حامد الغزالي: ( ان مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم..فكل من يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة.. وكل مايفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.. وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليها ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها اصلاح الخلق ) (18) . فنرى أن الغرض من تشريع الأحكام هو الحفاظ على الضروريات الخمس. والضروريات هي التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث اذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وآل مصير الانسان في الآخرة الى الخسران المبين..وسميت كليات لأن جميع الأحكام الشرعية تؤول اليها وتسعى للحفاظ عليها. على هذا تكون الضروريات أو الكليات الخمس التي يسعى الشارع الى الحفاظ عليها بحسب ترتيبها هي: (الدين-النفس-العقل النسل-المال) . وقد جاءت شريعة الإسلام بأحكام وافية لحفظ هذه الضروريات الخمس سواء من حيث الوجود إذ شرعت لها ما يحقق وجودها في المجتمع، أو من حيث البقاء والاستمرار بإنمائها وحمايتها من أسباب الفساد و الزوال(19) .

ويقصد بحفظ العقل ، حفظ عقول الناس من أن يدخل عليه خللٌ ، لأن دخول الخلل على العقل مؤد إلى فساد عظيم من عدم انضباط التصرف، ويكتسب مقصد حفظ العقل أهميته، وهو أعظم منحة من رب العالمين للإنسان، ليرشدهُ إلى الخير، ويبعده عن الشرور والفساد، ويكون معه مُرشدًا ومُعينًا كما تقدم (20) . هكذا تتضح اهمية العقل في الاسلام لانه مناط المسؤولية والتكليف ، وبه كرم الإنسان وفضل على سائر المخلوقات ، وتهيأ للقيام بالخلافة في الأرض وحمل الأمانة من عند الله ، قال تعالى : ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ )( الاحزاب :72) ، ولهذه الأهمية الخاصة حافظ الإسلام على العقل وسن من التشريعات ما يضمن سلامته وحيويته ومن ذلك (21) :
1. تحريم كل ما يؤدي إلى الإضرار به أو تعطيله كالمسكرات والمخدرات، حيث جاء تحريم المسكرات باعتبار أنها أكبر الوسائل لامتهان العقل وتعطيله، قال تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )( المائدة :90- 91) ، وروى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ" رواه مسلم. وعنه أيضا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ" رواه البخاري .
2. تحفيز العقل وتنشيطه بتكثير النصوص الشرعية التي تحث على التفكر والتدبر والتعقل والتذكر في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وفي الكون والأمم السابقة واللاحقة، وكذلك في الأحكام الشرعية المبنية على التيسير ورفع الحرج مع تزكية النفس وتطهير القلب واستخلاص حكم التشريع واسراره . قال تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )( النساء:82) وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)(الحج :46).وقال سبحانه :(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(العنكبوت:43) ، وقال جلا وعلا :( لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(الأنبياء:10) وقال سبحانه :(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)(المؤمنون:68) ،وقال أيضا :(هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)(إبراهيم:52).
3. أنه ربى العقل على روح الاستقلال في الفهم والنظر واتباع البرهان ونبذ التقليد غير القائم على الحجة كما في قوله تعالى : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ )( الانبياء:24) وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ )( المؤمنون:117) وقوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )( البقرة:111) .
4. كما دعا إلى تنمية العقل ماديا ومعنويا : ماديا بالغذاء الجيد الذي يقوي الجسم وينشط الذهن ، ومن هنا كره للقاضي أن يقضي وهو جائع ، وفضل تقديم الطعام على الصلاة إذا حضرا معا . أما معنويا فبالتأكيد على طلب العلم واعتباره أساس الإيمان ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر:28) ، وقال جلا وعلا : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا )(طه:114) ، كما أتاح فرصة التعليم للجميع وجعله حقا مشاعا بين أفراد المجتمع ، بل جعل حدا أدنى منه واجبا على كل مسلم ومسلمة .
5. رفع مكانة العقل وتكريم أولي العقول ، قال الله تعالى :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ )( الزمر:9) . وقال تعالى : ( فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ )(الزمر:17-18)
6. تحرير العقل من سلطان الخرافة وإطلاقه من إسار الأوهام ، ومن هنا حرم الإسلام السحر والكهانة والشعوذة وغيرها من أساليب الدجل والخرافة . وكذلك تخليص الناس من عقدة الخوف من مفارقة الموروثات التي بان للناس مخالفتها للعقل الصحيح. قال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) (البقرة:170). كما أنه منع على العقل الخوض في الغيبيات من غير سلطان أو علم يأتيه من الوحي المنزل على الأنبياء ، واعتبر ذلك مسببا في هدر طاقته من غير طائل قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )(غافر:56) .

كانت هذه بعض الأساليب العامة التي استخدمها الإسلام لتحرير العقل من القيود التي وضعته فيها الملل والأديان والمذاهب المنحرفة الأخرى، وقد أدى ذلك إلى تفعيل دور العقل في الرسالة التي لم تعتمد فقط على الشحنات الروحية المبنية على العاطفة، حتى ضمت إليها قوة الحجة ووضوح البرهان وقوة الدليل وظهور الدلالة، فأقام التوحيد والإيمان مع العقل علاقة غاية في الترابط والقرب يصورها بعض أهل العلم بان الوحي مع العقل كنور الشمس أو الضوء مع العين فإذا حجب الوحي عن العقل لم ينتفع الإنسان بعقله ، كما أن المبصر لا ينتفع بعينيه إذا عاش في ظلمة فإذا أشرقت الشمس وانتشر ضياؤها انتفع بناظريه وكذلك أصحاب العقول إذا أشرق الوحي على عقولهم وقلوبهم أبصرت واهتدت ، قال تعالى :( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج :46 ). وكان من الممكن أن يكون خطاب الله المنزل في كتابه والوارد على ألسنة رسله أوامر ملزمة، لا تلجأ مطلقا إلى التكييف والتحفيز العقلي، لكن الأدلة الشرعية والمناظرات الرسالية، كانت تسلك مسلكا آخر اختلطت فيه المخاطبة بمسلمات العقل، مع المخاطبة بأوامر الشرع عبر خطاب يمس القلب وتطمئن له النفس، ولا يغيب فيه الشعور بالرحمة والشفقة واللطف فيه.

الخاتمة

خلق الله الإنسان وفضّله على سائر المخلوقات وجعله مكرّما منذ الأزل إذ نفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة وجعله خليفة في الأرض وسيّدا عليها وسخّر له هذا الكون لخدمته، وزاده تشريفا وتكريما بالعقل . قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا )(الاسراء:70) . فالعقل أداة فهم سرّ الوجود والخلق ، وهو ما يملكه الإنسان من قدرة على التمييز بين الأفعال والأقوال من حيث صلاحها وفسادها ونفعها وضرها ، وعرفه بعض العلماء بانه : ( نور في الصّدر به يبصر القلب عند النّظر في الحجج) (22) ، وبهذه المعاني فان العقل هو الغريزة المدركة التي ميز الله بها الإنسان عن سائر المخلوقات فضلا عن انه يساعد في إدراك المعارف النظرية والعملية ، ومن هنا جرى إطلاق العلم على العقل ، وهنا تكمن أهميته في الإسلام فهو ( جهاز ) للتدبّر والتفكّر في النّفس والكون وهو طريق الإيمان بالله، فكثرة التدبّر والنّظر تورث العلم والعلم يورث الإيمان، فالعلم أساس الإيمان والعبادة فلا يعبد الله بالجهل، وللعقل دور في إدراك واستخراج الأحكام الشرعية. قال تعالى: ( وفي الأرض آيات للموقنين أفلا تبصرون (الذاريات :20-21) . كما أنّه أساس التكليف وبه يتميّز الإنسان عن الحيوان فلا تكليف على مجنون أو فاقد عقل، وهو وسيلة الاجتهاد في أمور الدّين وغيرها من أمور الدّنيا. لذلك أولاه الإسلام عناية بالغة لما له من شأن عظيم، فالمتدبّر للقرآن الكريم يلاحظ كثرة الآيات الّتي تدعوا إلى التدبّر والنّظر: (أفلا يتدبّرون...)، (أفلا تعقلون...)، (لقوم يعقلون...)، (أفلا ينظرون...)، وقد تكرّر ذلك بأسلوب يلفت الانتباه في العديد من الآيات الّتي تثيره وتحرّكه للوصول إلى حقيقة وجود خالق مدبّر حكيم لهذا الكون. من هنا نستخلص أنّ العقل وسيلة لتثبيت العقيدة الإسلامية واستقامة الفكر على الدّين الحق. ونظرا لأهميته فقد أوجب الإسلام المحافظة عليه ومنع تعطيله فلهذا جعل التفكير والنظر والتدبّر عبادة كما حرّم الإسلام كل ما من شأنه أن يعطّل العقل كشرب الخمر بل وجعل له حدّا زاجرا.


هوامش

(1) تفسير ابن كثير (3/295).
(2) د.أمين بن عبدالله الشقاوي ، نعمة العقل ، الالوكة : المواقع الشخصية ، موقع الدكتور أمين بن عبدالله الشقاوي .
(3) (1/64)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (1/384)، برقم 1889.
(4) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء"، ص 16 - 19، باختصار.
(5) اسلام التونسي ، العقل جوهر مضيء خلقه الله في الدماغ وجعل نوره في القلب ، موقع اجابات كوكل . (6) رعد الدخيلي ، تفعيل العقل المسلم ، صحيفة اخبار جهينة .
(7) رعد الدخيلي ، المصدر السابق .
(8) العقل ، ويكيبيديا : الموسوعة الحرة .
(9) هل العقل في القلب ام في الدماغ ؟ ، مركز الفتوى / اسلام ويب .
(10) احمد عبدالرحيم السايح : من علماء الازهر ، لماذا كرّم الله الانسان بالعقل ، نقله عبدالله عبدالله ، منتديات اعزام .
(11) د. عبدالله قادري الاهدل ، منزلة العقل عند الله واثره في الحياة ، موقع صيد الفوائد .
(12) د.عبدالله قادري الاهدل ، المصدر السابق .
(13) المصدر السابق .
(14) دور العقل في عملية التحصيل ، موقع اقرأ .
(15) د. محمد عمارة ، العقل في الاسلام ، موقع إسلام اون لاين.الموسوعة الإسلامية الشاملة. نقلته الدكتورة شيرين الألفي .
(16) د. شيرين الألفي ، العقل في الاسلام ، موقع مآساتنا و الحل عودة و دعوة .
(17) الدكتور مرسي بسيوني مرسي ، العقل ودوره في ضوء النصوص الشرعية ، الموقع الرسمي للدكتور مرسي بسيوني مرسي .
(18) فخر الدين المناظر ، بيان مقاصد الشريعة الاسلامية (الكليات الخمس) ، منتدى التوحيد .
(19) الكليات الخمس ، موقع الاسلام اليوم .
(20) يونس عبدلي موسى يحيى ، قراءة تلخيصية لرسالة مقاصد الشريعة الاسلامية واثرها في رعاية حقوق الانسان ، حفظ العقل واثره في في حقوق الانسان ، موقع شبكة الشاهد .
(21) مهاب عسقلاني ، مقصد حفظ العقل يا اهل العقول ، منتديات صوت القران الكريم .
(22) ماريا نور ، اهمية العقل في الاسلام ، منتديات انشادكم ، القسم العام : رواد الحياة .


تنويه هذه الدراسة جزء من كتاب ( في الدين والحياة ) للباحث عبدالوهاب محمد الجبوري وهو قيد الانجاز باذن الله