تمخضـت الصدفه فولدت قصـيدة

أتأليف
الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر

استاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس/ سابقا


المقدمة :
عشت مرحلة الدراسة الأبتدائية, او قل, ايام الصبا في بيئة شبه قروية, حيث يلتحق معظم الطلبة من ابناء القبائل المحيطة بالمدينة للدراسه في مدرستنا لعدم وجود المدارس في قراهم. كما ان منطقة الجنوب في العراق, بشكل عام ومدينتنا بشكل خاص, تعتبر موطن معظم المطربين والشعراء الشعبيين في العراق,...مثل حضيري أبو

ا
عزيز وداخل حسن,.. ولذا اتقنت ترديد الأغاني مع طلاب المدرسة


في الحفلات والرحلات المدرسية , كما برعت بألقاء القصائد عند
تحية العلم صباح كل يوم خميس, كما شاركت مع طلبة المدرسه في تمثيل بعض الروايات الشهيرة مثل, ماجدولين وقيس وليلى!
انتقلت الى بغداد, لأكمال دراستي الثانوية, لعدم وجود ثانوية في مدينتي, ودخلت ثانوية الكرخ التي كانت تعتبر مركز المعارض للنظام الملكي الحاكم آنذاك.
لا اريد ان اغوص في سرد الأحداث التاريخية لتلك الفترة, وانما اذكر فقط الجو المفعم بالأناشيد الحماسية, والأهازيج الشعبية, التي عمت شوارع بغداد بعد التصدي لمعاهدة (بورت سموث), وما صاحبها منهيجان كان وقوده الشعر والغناء(البستات), التي وصفت نوري السعيد وصالح جبر بأوصاف غير لائقة استهجنها البعض وطرب لها البعض الآخر , وهذا شأن الثورات في كل مكان وزمان



وعلى اية حال كانت ولدَت تلك الأجواء ارضيه خصبة, ادت الى صياغة قصائد,
كنت ادونها خلسـة, ولا اجرؤعن اعلانها امام رفاقي, خوفاً من نقدهم اللاذع, ولذا نسبت ما كنت اكتبه الى شعراء آخرين !
كانت الدراسات العلمية في ذلك العهد قد سادت على الأدبية, في
كافة ثانويات العراق, فقد تجد خمسة شعب في الفرع العلمي وشعبة في الأدبي, وان العوائل بصورة عامة لا ينظرون الى رغبة اولادهم, بقدررغبتهم في حصولهم على الأجازة في الطب او الهندسة او الصيدلة, وهكذا سرت مع الركب, ودخلت دار المعلمين العالية, قسم الكيمياء ,..لعدة اسباب,كان اهمها وجود معظم زملائي من ابناء بلدتي في تلك الدار, والتي كانت تعتبر ثالث كلية من حيث مستوى القبول فيها وفق المعدل العام للدراسه الثانوية .
********************************************
الغرض مما سردته أعلاه, هو بيان استمرار الرغبة للااطلاع على مناهل الادب والفنون الأخرى كالرسم والعزف على العود والناي, والتصويرالفوتغرافي, وقراءة كتب الشعروالقصص.
ظلت تلك الهوايات متغلغة في كياني, ولم اتخلى عنها حتى في فترة دراستي العليا, الا في الأوقات الحرجة, ايام الأمتحان, اوالبحث وكتابة النتائج العلمية لعرضها امام استاذي المشرف لمناقشتها شهرياً امام اللجان المتخصصة في نفس موضوعي.
تجمعت لدي العديد من الخواطر, اسميتها,( قصصاً شعرية),.. نقحها لي بعض الزملاء الأدباء من الأخطا ء النحوية, بعد عشرات السنين, اذكر منهم العلامة الدكتور محمد الحريري , والدكتورعدنان الجنديل, الدكتور فريد حسون والدكتورالقريشي, وما أن توفرالوقت
الملائم , بدأت بنشر بعضها خوفاً من أن يطمرها النسيان, وتندثر, فعسى ان تروق الآن للقراء الكرام,..ولأحفادي بعد زمان.
***************************************



في منتصف الستينات, عينت في كلية العلوم/ جامعة بغداد, ثم اعيرت خدماتي الى الجامعة الليبية, وبعد سنوات عدت الى أرض الوطن, وزاولت العمل بنفس كُليَتي السابقة, في نوفبر (تشرين ثاني) وفق قانون الكفاءات, .. ولأمور معروفة للجميع في تلك الحقبة من الزمن, نـُسبتُ بموجبها لكلية الزراعة الواقعة في أبي غريب, لتدريس الكيمياء العامة للطلبه غير المختصين بعلم الكيمياء, بالرغم من حاجة كلية العلوم لأختصاصي في الكيمياء التناسـقية لتدريس المركبات المعقدة التي تدرس لطلبة السنة الرابعة, والماجستير!
بعد ايام تأقلمت على الجوالأخوي في شعبة الكيمياء, بكلية الزراعة وكونت علاقات حميمة مع معظم الكادرالعلمي بشعبة العلوم , وفي كثيرمن الأحيان كنت اتفسح مع زميل مُنسب مثلي من كلية العلوم!,
وكنت واياه بنفس العمر,وقد لمست الفة معه عند التطرق للعديد من المواضيع, وخاصة حول ذكرياتنا عندما كنا طلبة, ..فتحسرنا على عهد ولى وتلاشى!,حيث بدأ بصره يضعف, وحرم من رؤية الوجوه المليحة,..الا انه يمتلك (حاسة حدس) من على بُعد كالرادار,..فما ان يواجهنا جمع من الطالبة, يركز سمعه ونظره صوب الفتيات, ويسمع تغريدهن ويبدي اعجابه بصوت العذارى , ويمتدح جمال المرأة !,.. بالرغم من ضعف بصره وعدم قدرته على التمييزبين حانه ومانه !
وفي احد الأيام , كنت واياه في فسحة بحدائق الكلية,... واجهتنا موظفة شابةأنيقة , وعلى جيدها سلسلة ذهبية تتدلى منها " دلَه" قهوة صغيرة,.. وكأنها طائرة ( فانتوم), حطت على صـدرها !
ولما اقتربت منا ركز الزميل نظرة على صدرها, وشعرت الشابة "بأشعة ليزر", تخترق صدرها, فالتفتت نحونا, وبكل أدب بادرتنا التحيه, واستمرت بطريقها.
وفي الحال بادر الزميل بسؤالي : هل هذه الشابة مسيحية !؟
فقلت له : لا, انها مأمورة مخزن الكيمياء , وهي مسلمة, ولكن لماذا تسأل مثل هذا السؤال ؟!
فقال على الفور: كيف؟!,..انها تضع الصليب على صدرها !
استوقفته قليلاً, وقلت له: صدق لو قالوا :(العتب على النظر!),
ثم قلت له ان ما شاهدته " دَلَه ", وليس صليب, حيث صارت الدَله "مودة", تُزين صدورالعذارى المتأججة,.. او قل الثائرة !


وبعد ايام سـطرت الأبيات الآتية:
و َدلة َقَهوة تَغلي بلمـسـَة من يديك!
دعيني ارشف القهوة منها واناجيك
عن اي شيئ !؟
عن العلم ؟ .. كلا والف كلا
بل عما يسليك
عن الذي ارضى نساءً قبلك
وسيرضيك
عن الذي حمل الَدلَة والفنجان
ليــسقيك
فلا تتركي القهوة بالَدلَة تغلي
فنار صدرك احرقتها وعينيك
وهل للقهوة مذاقاً ان لم تكن عراقية
ومن صنع يديكٍ

أنا كـهل !

بعد تخرجي من دار المعلمين العالية (كلية التربية حالياً), سـنة 1956, عينت مدرسـاً في ناحية (.......), التابعة ادارياً الى لواء الناصـريه سابقا (محافظة ذي قار), وقد كنت في حينها في الرابعة والعشـرين من عمـري,او قل في بداية عهـد الشـباب, وعلى ما اظن كانت شـياكتي آنذاك ملفتة لنظراحدى المعلمات الغريبة عن أهل المدينة في المدرسة الأبتدائية للبنات, وتم بيننا أول اتصال غير مباشرعن طريق رسالة حملها فراش المدرسة, تبين فيها حاجتها لمادة كيمياوية من مختبر الثانوية الذي كان بعهدتي, حيث لم تسـمح الظروف الأجتماعية بأي لقاء مباشـَر بين الجنسين البته!


صورة رمزية لمعلمة الأبتدائية
استمر الحال على ذلك الى ان نقلت كمدير لثانوية الزراعة, في مدينة ( ......), ومن ثم غادرت العراق لأكمال دراستي العليا في الفاتح من نوفمبر (تشرين ثان) 1960 وبعد مرور السـنين, عدتُ الى الوطن, وتم تعييني استاذاً بنفس الكلية التي تخرجت منها !
طارت الأناقة التي كانت سـمة لي , وطغى عليها التقشف, وسقط الشعرالكثيف, وبانت صلعة الكهل العائد من البلاد المتقدمة حضارياً, بعد غياب دام اكثر من ستة سنوات!,..وهكذا, أختلف مظهري كثيراَ عما كان عليه في عهد الشباب, وهذه هي سـنة الحياة !
وفي احد الأيام كنت منهمكاً في تصفح احد المصادر العلمية داخل مكتبة الكلية في القسم المخصص لهيئة التدريس, وقع نظري على استاذة انيقة, فعرفتها!,..ولم اتمالك عواطفي,.. وسرحت لأيام سلام العيون في ناحية (......) مع معلمة المدرسة الأبتدائية, وفوراً اختلقت مبرراً, وسألتها عن طريقة استعارة الكتاب هنا !
استغربت من سؤالي,.. ثم قالت: هل سيادتكم من خارج الهيئة التدريسية؟!
ابتسمت وحمدت الله بقرارة نفسي من عدم معرفتها لي,..واجبت على الفور:
انني مدرس بقسم الكيمياء, ولم يمضي على تعييني سوى اشهراً معدودة, وامطرتها بعد ذلك بأسئلة عديدة , اتضح من جوابها كل ما كنت ارغب في معرفته عن حياتها منذ ان كانت معلمة في ناحية (.......), ولحين حصولها على البكالوريوس من قسم علوم الحياة, ثم تعيينها معيدة بالقسم , وهي الآن طالبة ماجستير بنفس القسم !
تكرر اللقاء وشعرت بعودة الروح لعواطفي نحوها, ولم افصح لها عن شخصيتي, بالرغم من تركيزها المستمر في ملامح وجهي, الا ان النظارة الطبية والشارب الكثيف,(الأسـتاليني),..طرد الشك, اضافة الى اسئلتي المتنوعة ,.. قطعت عنها اي تكهن بمعرفتي !
وبعد ان ايقنت من" دخولها الشبكة", تكرر اللقاء, وفي يوم ما, نوهت لها عن رغبتي بالزواج من احدى المعيدات, ولكن ما العمل فقد فاتني القطار !؟,وفي الحال دخلت ( هي ) في غيبوبة للحظات, ثم فاقت ,.. وراحت تستفسرعن حياتي, ولم اصرح لها بالحقيقة,.. ولاحظت جُلَ اسئلتها مـُركزة على عمري , اوالعمر المناسب للزواج,.. واثر فارق السـن على الحياة الزوجية,..وفي اليوم التالي تفجرت القريحة وكتبت الأبيات الشعريه التالية :
لم تسأليني كم اعد من السـنين ؟!
انا كهل, نصف عمرينا اربعين
عواطفي جياشة, مفعمة بالحنين
شفتي عطشى, منذ موت الياسمين
عرفتك معلمة, لرؤيتي ترقصين
ولن ادعك الآن بأحساسي تعبثين
فأفيقي واخلعي الثوب الحزين
واتركي الأفواه تدوي كالرنين
واقطفي الشوق من الكهل الأمين
ولنداري حبنا الراقد منذ سنين!
**************************