مليون طلقة وطلقة


كاظم فنجان الحمامي

في بلاد ألف ليلة وليلة تتفجر الليالي بالمفارقات, وتتناقض الأيام بالمواقف العجيبة, هنا تنقل لنا الفضائيات صورة حية للمباريات النهائية, التي يخوضها منتخبنا الوطني لكرة القدم, نحن الآن في الدقائق الحاسمة من الشوط الثاني. هوار ملا محمد يسدد ضربة حرة غير مباشرة إلى مرمى الخصم من خارج منطقة الجزاء, تصطدم بالقائم, فيضج الشعب العراقي بصوت واحد من القائم إلى جسر المقام: لا. . . حرامات.
تتجدد الهجمات, وتُحلق الكرة مرة أخرى فوق المرمى, فيسددها يونس محمود برأسه ليحرز الفوز بكأس آسيا, فتنطلق البنادق المنفعلة بمليون طلقة وطلقة في الثانية الواحدة, يخرج العراقيون إلى الشوارع بالآلاف بمسدساتهم ورشاشاتهم. ينقطع السير في خضم الفوضى العارمة. تلتهب السماء بوهج العيارات الحية. يسقط مئات الجرحى بإصابات عشوائية في الرأس. تنطلق صفارات الإنذار, لكن سيارات الإسعاف الفوري تتوقف قبل وصولها إلى ردهات الطوارئ بسبب الجموع الغفيرة المحتشدة في الساحات والأرصفة تضامناً مع أسود الرافدين.
في ليلة أخرى من ليالي ألف ليلة وليلة, تنقل لنا الفضائيات مشهد آخر من المشاهد المصيرية لبرنامج (ستار أكاديمي). الشعب يبتهل بصوت واحد من أجل فوز الفنانة الواعدة (شذى حسون). يا رب إن شاء الله تفوز. تمر اللحظات الثقيلة ببطء, ثم يرفع المذيع عقيرته بالصياح: مبروك لشذى حسون بالفوز. تسقط شذى من هول الصدمة. يغمى عليها فوق خشبة المسرح, في الوقت الذي تتفجر فيه البنادق المليونية بمليون طلقة وطلقة في الثانية الواحدة. يخرج الناس إلى الشوارع بالآلاف بمسدساتهم ورشاشاتهم. ينقطع السير في خضم الفوضى العارمة, تلتهب السماء بوهج العيارات الحية, يسقط مئات الجرحى بإصابات عشوائية في الرأس. تنطلق صفارات الإنذار, لكن سيارات الإسعاف الفوري تتوقف قبل وصولها إلى ردهات الطوارئ بسبب الجموع الغفيرة المحتشدة في الساحات والأرصفة تضامناً مع شذى حسون.
نحن ننفعل دائما ونتفاعل مع مثل هذه المواقف السطحية العابرة, فنثور وتتوتر أعصابنا ونطلق في الهواء مليون طلقة وطلقة, لكننا لا نتأثر ولا ننفعل ولا تتوتر أعصابنا عندما نسمع بتجفيف منابع روافدنا الإروائية المتدفقة من إيران نحو حقولنا ومزارعنا في ديالى والكوت والعمارة, ولا ننفعل ولا تتوتر أعصابنا عندما نسمع بتشييد (22) سداً عملاقاً فوق منابع دجلة والفرات في هضبة الأناضول التركية, ولا تتوتر أعصابنا عندما يُطمس اسم شط العرب, ولا تتوتر أعصابنا عندما تنكمش سواحلنا ونتراجع إلى الداخل, أو عندما تتقلص مسطحاتنا البحرية, ولا ننفعل عندما نسمع بتجاوزات دول الجوار على حقولنا النفطية, ولا ننفعل عندما تتغلغل قوات دول الجوار بدباباتها وطائراتها وزوارقها, فتقتحم جبالنا وتنتهك سهولنا وروابينا, وتصول وتجول في مياهنا الإقليمية, ثم تعود أدراجها سالمة غانمة من دون أن نُطلِق عليها رصاصة بندقية, ونحن انتهكت حدودنا ملايين المرات, وفقدنا سيادتنا ألف مرة ومرة, وتسلل الإرهابيون لفراش ليلى العامرية, حتى كلاب الحي لم تنبح, ولم تُطلِق على الزاني رصاصة بندقية.