دراسة في مجموعة (تخاريف العم لطوف)
للقاص محمود الوهب
*ريبر هبون

تجربة الكاتب محمود الوهب تتمخض عن ألم واقعي معاش وغزارة التجسيد لديه في البناء القصصي تعتمد على الإدراك العام لكل ما هو مخترق ومنتهك في عالم القيم لدى البشر ، نراه في أحايين كثيرة ينغمس في سياق البعد النفسي للشخصية المتحدث عنها مسهباً في البحث عن جوهر الإنسان في زمن أصبحت فيه المنفعة أساساً ، ورؤية الكاتب للمواقف تتجلى في سعيه إلى البحث عن الممكن والمتيسر تحقيقه على صعيد الأشياء ، يقدم في أدبه العام صورة عن الإنسان المناضل ، الأخلاقي ، القائم بذاته ، الراكن للجمال ، المشغول بالمحتوى الإنساني والمحتج على الرذيلة بوصفها وباء يحيط البشرية عامة ، فالحديث عن القصة هو بمثابة الخوض في متاهة لا قرار لها أو دهليز لا نهاية لعمقه وسرداب لا منفذ له، والنقد الأدبي برمته ليس باباً يتسع للحديث من خلاله عن كل شيء، إنما نحاول أن نلمس مفصلاً حساساً أكثر إثارة من بين العديد من النقاط وإشارات الاستفهام ، وهذا ما يعد ممكناً في سياق الحديث عن تجربة الكاتب محمود الوهب القصصية واستخدامه السرد المكثف المنمق بالعديد من الرموز اللاذعة التي تنقل لنا الاحتجاج على غياب الفضيلة والعدالة والحق في مجتمع استهلاكي مادي أصبحت فيه القيم النبيلة موضع استهداف ولجم ، والكاتب ناقل لاحتجاجات الموجوعين من خلال رصده لحقيقة النضال سعياً إلى العيش الكريم المتواضع
(العم لطوف) كأحد الشخصيات التي تغزو فضول الساعي لمعرفة ما قد تخبئه الحياة إلى جانب العديد من الأزمات التي تتشبث بالطبيعة البشرية لتكون بداية للدخول في شتى المفاهيم الموغلة في العمق الإنساني على مسرح التناقض ، يود الكاتب القول أن ثمة من يحتج بماهية وجوده وإحساسه العميق بمرارة الوجع في الحياة والاحتجاج يمثل عنصر الحركة التي لا تكترث للجمود ومثال عظمة الفرد من قوة الجماعة ، المثال الفردي هنا في شخصية العم لطوف هو إبراز لقوة الجماعة وما تفرزه من إسقاطات ونتائج ، المجتمع الذي يحتوي العم لطوف ويحتويه العم لطوف بفلسفته العفوية و أفكاره الرائدة وطرافة حسه ولذاعة تساؤلاته وغرابة أجواءه التي توقن مصائر البشر وغرابتهم سلوكاً وخلقاً ، الغرابة ميزة المبدع وميزة الذين يسيرون في المسار الممكن الذي لا يتعارض مع الواجب والقيمة التي تنتج عنها ومعيار الشخصية في أدب الكاتب محمود الوهب بارزة من قدرة الشخصية على التأثير والتوغل إلى عوالم كثيرة وبالتالي قدرتها الفائقة على نقل حصيلة تجارب المجموعات البشرية على اختلاف هيئاتها, فلسفة السعي إلى الحياة دون التأثر بأوبئتها جلية في تجربة الكاتب في مجموعته (تخاريف العم لطوف) ويليه العنصر المقابل للغرابة وهو الذهول ، إشارة إلى جودة القص الذي يبث الغرابة والذهول معاً ، ومن خلال هاتين الثيمتين تظهر الاثارة والتشويق إلى جانبها المتعة والفائدة كي تتفق كل هذه العناصر في خلق الجمال كنتيجة خالصة ، حيث أن أهم ما يميز الكاتب هنا هو احتوائه للثنائية المتناقضة ، الفقر-الغنى ، التخلف-التقدم ،الحركة- الجمود ،المحافظة- التغيير ،الجهل- العلم ، ففي خضم تجربة الكتابة تتآلف القيم والمعايير في نسبيتها والحقائق يجوهرها لتشكل الإيقاع الذي ينشد للفن وجوهر الحياة والفن هو جودة اللعب على حد تعبير (كروتشه)
الاغتراب الفردي ظاهر في شخصية العم لطوف الذي ينادي إلى العدالة في ظل غيابها وإلى الفضيلة في ظل زوالها وإلى الوفاء للأماكن بالرغم من خرابها وبالعودة إلى صفاء الماضي بالرغم من أفوله وهذا دعوة للمجتمع الطبيعي الذي تتحقق المساواة من خلاله بين كافة الطبقات ففي قصة (الساعة العجيبة) تتمثل لنا الجوانب المبهمة في ذات العم لطوف العامل الكادح الذي يكدح لأجل أن يعيش ويغادر شوقاً لأهله وحين يثقل بالديون يعود لعمله لبيروت متذكراً ساعته العجيبة حيث يروي قصته على رفاقه ليتمثل المشهد الأكثر إثارة وحزناً هنا: ((ص28هم الحاج ابراهيم يريد التعليق بعبارته المعتادة- يخرب بيتك يالطوف ، ما أكذبك ...!- إلا أنه توقف متردداً مشدوهاً ,للدمعتين الفريدتين اللتين تحدرتا من محجري العم لطوف الغائرين لتنحدرا ببطء على جدران خديه الجافين))
عظمة المأساة في عيون العم لطوف كانت تحتل رصيد الأسئلة المعلنة في الفضاء الاجتماعي والإنساني عموماً ،حيث أن التناقضات المفعمة بالدهشة أطلقت سيول الصور الحزينة المنبعثة في داخل هذا الإنسان الذي يمثل لسان حال الطبقات المسحوقة التي تعيش من أجل أن تقتات وتنعم بالكرامة التي هي أساس كل المواقف الانسانية على صعيد الحياة والزمن ،الكاتب ينقل لنا الحدث من منحى تصويري هادئ يعكس كل الحوار الهادئ المستفيض بالعديد من الإسقاطات على عموم التجارب الإنسانية في ظل حالات الصراع التي لا تنتهي بل تشتعل وتتصاعد وتيرتها وفقاً للزمن ولزيادة الإحتياجات وتراكم الاحتجاجات في ظل غياب العدالة الإجتماعية ،ينقل الكاتب فلسفته في تحليل الشخصية الفردية التي تعكس الواقع البائس بأوجهه المختلفة ضمن مناخ واحد يجمعها وهو البساطة الفنية المعمقة بالعديد من الأفكار النقية التي لا تتباعد بل تنسجم وفقاً لمسار قائم واحد باتجاه التوغل في المواقف وحقيقة الحياة المتشعبة ففي قصة (البطيخة العملاقة) يكشف الكاتب على ضوء شخصية العم لطوف مناخاً قائماً على كشف إشكالية جديدة تخدم قضية الإنسان القائم روحاً ووجداناً ومعنى كبديل عن ذلك المتقوقع في دائرة فارغة المضمون ،يثير أسئلة من نوع خاص ، يقيم سجالاً إنسانياً في المواقف الملتبسة ،يتحدث عن علاقة المستغِّل بالمستغل، وعلاقة الضد بالضد ، ويقيم عدة هواجس وأسئلة على أعتاب تفجر فتيل الأزمة الخانقة في ظل غياب الحقيقة وانزياح الستار عنها في مشهدية تميل إلى الغرابة ابتكرها الكاتب بلغة من يتقصى الجودة مخترقاً كل الحواجز ومعبراًَ بالوقت ذاته عن أنين يسكن مشروعية الحق الغائب وبذلك فهو يدعو إلى إستخلاص العبر الجديدة من خلال الكشف عن مصائر المتعبين الذين يسيرون على مسار التعايش مع الأشياء على حقيقتها قصة (البطيخة العملاقة) تعكس فنية المسار الواقعي وغرائبية الأسلوب وأيضاً مباشرة في طرحها لأسئلة تخص قضية الإنسان مع الإنسان
إن تجربة الكاتب محمود الوهب تعتمد الرؤية الثورية الواقعية في تجسيدها للمعاناة إزاء عجز الإنسان عن مواجهة المعوقات التي أنجبت عدة أشياء جعلت عالم الإنسان أشبه بالدوران في سلسلة مغلقة حيث الذات المبدعة التي توقر من قدْر القيم والذات المقابلة التي تبالغ في سطوتها على الشخصية المبتكرة التي أقرت الحياة وفقاً للنضال الصلب والكفاح المتزامن مع القيم النبيلة وشخصية العم لطوف هنا مثار أسئلة وتساؤلات رأى الكاتب من خلالها الخلاص البشري عموماً فهو إنسان مبتكر عامل ومناضل ضد الزيف ورؤيته طبيعية قائمة على بث السحر والقناعة المثالية على عوالم البشرية ومتناقضاتها ،في قصة (البطيخة العملاقة) يتبادر في ذهننا سعي العم لطوف إلى أن يسهِّل من حياة العائلة وأسرتها حين يعرض البطيخة للبيع ليكتشف إثرها النتيجة ، نلاحظ: ص41
((وما إن وقعت عيناه عليَّ حتى عبس وقطب..!وتساءل:
_نعم..!
_قلت:أنا صاحب البطيخة..!
قال:أية بطيخة..!؟
قلت:البطيخة التي..!
فقاطعني وكأنه يتذكر ..نعم..نعم.. تعال ,وقادني إلى داخل الخان ، مشيراً إلى كومة كبيرة من قشور البطيخ ..!وقال: تلك هي بطيختك يالطوف هيا احملها ..كاد السوق يغلق بسبب فساد لبها وروائحه النتنة..!
حين نتعرف من خلال هذا الحوار الثنائية المتناقضة التي تمثل إحدى فصول الاستغلال الذي يبديه التاجر مع العم لطوف ، ليثير الاحتجاج على القيم الاستهلاكية القائمة على الإجحاف بالحق وتشويه القيم الخالصة التي تستثير سلباً دعامة الإنسان الطامح إلى البناء السلمي القائم على التوازن الطبقي لبث الخلاص الانساني ،يجسد الكاتب هذه العوائق ليستخلص ماهية الإنسان وما يجدر أن يعيشه من منحى الأخلاق القائمة على دحض الكراهية والخبث البشري في التعامل مع الحياة كقيمة نفعية خالية من الضمير والمبدأ العادل
كشف الآثار المرضية في الطبيعة البشرية هو جل ما يشتغل عليه الكاتب في بيانه الإنسان وتعامله مع المادة لا كوسيلة تعايش سلمي إنما كغاية تمحو قيم الإنسان المتعلقة بالفضيلة التي هي مبدأ أولي طبيعي في تغيير الحركة التاريخية التي تتجه باتجاه وضع حلول للإنسان
رؤية الكاتب على ضوء تجربة العم لطوف واقعية قائمة على بناء الإنسان من الداخل ووضع الحلول الكاملة لا أنصاف الحلول في بث القيم البشرية العادلة من جديد بين المجتمعات البشرية على اختلاف طبقاتها ، العم لطوف يمثل الإنسان المحتج على تبدل الروح الطامحة للإرتقاء على مستوى المظاهر البراقة ويميل إلى القول بأن الإبداع يتولد برفض الزيف المتبع بحق الأشياء الجميلة لذلك استمد الكاتب من هذه الشخصية معيار استكشاف الحياة ورصد السلبيات والحد منها
والكشف عن تحليل نفوس المجموع ومعرفة ماهية من يفتقرون إلى الممارسة الأخلاقية وفي عناوين العم لطوف الرغبة في رؤية العالم معافى من المرضية والاحتقان والقلق من منحى اغترابي عميق نلاحظ هنا: ص45
((- يقولون ،بأنهم في القهوة قد أحضروا تلفزيون
وقعت الكلمة في أذني العم لطوف وقعاً باهتاً ، خالياً من أي معنى ،كأنما هي مجرد صوت تردد صداه في حدود الأذنين وما تعداهما ..! مما دفعه للأستفسار ثانية ،لكن بحذرٍ وحيطة وبنوع من الاعتذار ..! خوفاً من أي تعليق عابث ،يأتيه من صديقه الحاج ابراهيم ..!))
ينقل لنا الكاتب فوضى المجتمع بحركات منتظمة تشغل الحيز الحكائي بصورة عفوية تمتاز بالغرابة والتعقد لتأخذ ماهية العم لطوف من منحى درامي يبعث على السخرية لما قد يراه في مشهدية هذا الحدث فالعم لطوف يدرك أهمية الجديد من صياغة الحكاية التي يرويها فهو يراها غاية في الانسجام والتناغم لا سيما أنها وعاء لاحتجاجاته المترافقة مع صيحات المشردين والخائفين لما قد يحمله المجهول لهم ،إنه يؤمن بالفرد الهادئ القادر على احتواء الآخرين رغم سوء الحالة ،إبراز عنصر الوصف في العمل القصصي هو ممهد للدخول إلى أجواء من السرد المفصل للأحداث وهي تجري ، الأسلوب الذي يعتمده القاص في الغالب يركز على العنصر الفردي وقدرته على ضخ شحنات الإحتجاج الذي يعانيه باقي الأفراد في المجتمع ممن تثقلهم السذاجة فنرى هنا: ص48 ((التفت العم لطوف إلى الحاج ابراهيم قائلاً:
-أيعقل ياحاج أن يتسع هذا الصندوق لكل ما ذكرت...؟
-انتظر يالطوف ،وسوف نرى بأعيننا كل شيء ...
إذاً عنصر الكلام التقليدي وإسباغ البساطة على شخصية العم لطوف هو انعكاس للجو العام أكثر من كونه حقيقة موجودة فيه كفرد ,فالتلفاز يتسع لكل ماهو إيجاب وسلب إنه مصدر إعلامي وبسيط ومرتبط بمعاناة أهل الحي ومن هم على شاكلة أهل الحي من المجتمعات المغلوبة على أمرها, طرح الكاتب لقضايا جوهرية في مقاطع حكائية إنما هو إبراز المتانة في القص لديه
اختراق الفكرة من خلال بساطة ووصف الحركات والشخصيات والقدرة على ربط ذلك ضمن إيقاعيات فنية تعكس لنا أجواء الماضي وعلى العموم فالشخصيات ليست وليدة زمن ما بمقدار ما هي سوى تعبير عن انسحاق الإنسان ورؤيته للخلاص منه قيوده المجحفة بحق بقاءه في الحياة ، البساطة هي طابع الإنسان الأول ، وحاجة الإنسان للصفاء هي حاجة كبيرة وكأن الجو العام يشير إلى ذلك حيث تكون لهفة المتلقي للأشياء أكثر عفوية وبداهته تكون إزاءه جدتها أكثر إلحاحاً واجتذاباً ،أيضاً يجسد الكاتب مدى الإنقسام البشري والتفاوت بين المجتمعات المتقدمة التي تبتكر الأشياء وتفكر دائماً باستخلاص بدائل حياتية في حياتها ومسيرتها عموماً وبين مجتمعات ما تزال تعتمد البساطة والبدائية في التعايش مع الأشياء وافتقارها إلى آليات التعايش الجديدة والرقي في التفكير ، يركز على مسألة اتساع الهوة بين الغني الطامح والفقير المتلاشي أي التابع
يمثل انقطاع الكهرباء رمزاً بعيد المدى ، يجسد صرخة الإنسان لمواكبة الحاضر ، وقدرته على إحداث ثقب في طبقة الجهل السميكة التي تعيش في سيكولوجيا المجتمعات النامية ، الصراع بين المتناقضات في ظل مجتمع مغلق يستمد تنفسه من بقايا أشياء محدودة وهنا ينغمس العم لطوف وفق هذا المنحى من إثبات وجوده وبقدرته على لفت الانتباه والجذب أكثر من التلفاز ذاته وهذا انحياز للإنسان القادر على تحريك العالم دون أن يكون منحازاً أو تابعاً، فغاية هذه الشخصية هو الكشف عن نقاب الأشياء المعلنة ظاهراً ، حيث يلجأ العم لطوف إلى بث الإغواء في صدور الناس من خلال حكاياه التي تجمع بين الخيال والواقع وتجنح في عموم معاناة الإنسان الكادح البسيط ويمثل ميل الغالبية لجاذبية حكاياه هو لمعرفتهم أكثر ماهية الألم الذي يتلبسهم وعدم قدرته على تقبل الصندوق وسيلة التطور الجديدة بالنسبة لهم وهو بمثابة أن الأشياء النقية تكون الأجمل والأصفى لبقاءهم بعيدين عن زيف المدنية والنفاق المستشري، الغرائبية وعناصر الإثارة والتشويق كلها قادت نحو الفكرة التي تبع على السخرية والتهكم والكوميدية السوداء التي تعكس حال البسطاء ومعاناتهم ، قدرة الكاتب على بث روح التساؤل من خلال هذه الشخصية المتميزة بحضورها داخل القص على مستوى الشخصيات والفرادة التي تميزها من كونها المدير المدبر للتصادم الذي يحدث بين الشخوص عموماً، وهنا يعكس الكاتب إشكالات المجتمع من خلال سعي الانسان المتميز إلى إشعال فتيل الاحتجاج من أجل بث قيم الأخلاق داخل مجتمع متداعٍ يغلب الفساد على طابعه العام ورؤية الكاتب من خلال شخصية العم لطوف قائمة على كشف الرذيلة لإسقاط قناعها والدخول إلى عالم العم لطوف الغرائبي هو بمثابة توغل في أتون القصة وهدفها ومبعثها الغائي ، كونها ارتبطت بالإنسان وبقضاياه الأكثر حساسية وإرباكاً في مسيرة التطور والارتقاء سعياً إلى الأجمل والأبهى والأفضل دائماً، وما طريقة اتخاذ الكاتب لمظاهر الوصف الخارجي إلا بياناً لقيم البشر وعيوبها كما هنا ص63: ((بقينا وحدنا ، نصارع خيوط الدهشة التي تكاثفت حول ألسنتنا ، معتقلة إياها في حلوقنا الجافة علق كل منا أكثر من إشارة استفهام على شفاهه الممطوطة ،فيما انتصبت إشارات التعجب ، لتنصف حدقات أعيننا المتسعة ، وهي تترجح في نظرها ما بين الباب والنافذة ..!))
في قصة (الأفعوان) يتجسد الوعي الإنساني بقدرته على وصف التداعيات التي نمت إثر تسلل الأفعى فالدهشة تعبير عن حضور القلق والقلق نتج عن عائق طبيعي وحيوية القص متأتية من عناصر التشويق والجذب اللذين يسهمان في إنماء بذور الخيال الخصب لدى المتلقي وهذه الحيل اللغوية مناسبة لدخول الذهن لحظة صفاء فعملية القص قائمة على الوصف الذي له علاقة ب الظاهيراتية التي تعتمد على وصف الأشياء والتحليل القائم على فهم الظواهر أولاً وبيان العلاقة فيما بينهما ثانياً وترسيخ جمالية التضاد ثالثاً والقدرة على ربط هذه المكونات بمكونات لها علاقة بالاتجاه السميائي الذي يعرف باستنباط العلامات إثر العلاقة بين الدال والمدلول فلا تخلو القصة من علامات قد تشكل أدوات في فهم العالم وفقاً لرؤية الكاتب والعمل الفني الذي وضعة , وصف الحياة الطبيعية البسيطة ، هو بمثابة دعوة الإنسان للصفاء الطبيعي الذي أشاد به (جان جاك روسو)وهو بمثابة العودة لها لأنها تمثل أهم مفاتيح الخلاص والوئام الانساني القادمين حتماً
فالمدنية والحضارة وقيم التحضر ووسائل التقنية حملت كل ما هو جديد وكل ما هو إيجابي وسلبي للإنسان ، لكنها أحاطت الإنسان بأقنعة الزيف والتصنع الذي أنتجت قيم بعيدة عن الصفاء الطبيعي
العم لطوف يهندس الكلمات ، يعطيها طابعها الإنساني المشبع بالمفاهيم الخلاقة ، مبتكرٌ مبدع وتأثيره على الآخرين عميق وهنا نتأمل في قصة (حمامتان بيضاوان) ، تداعيات حكايا العم لطوف على الآخرين من رفقائه في المجالس : ((أمرٌ واحد أخذ يتبدل في علاقتنا مع العم لطوف، ذلك أننا-ومنذ أن دخلنا سن اليفاع لم نعد مستمعين فقط ,بل صرنا مساهمين في رواية بعض الأحاديث أو الحكايا التي كانت ، تدور في مجالسه!))
إنه يركز على تحرير الإنسان ويجسد قدرة الأحداث والمواقف على بناء الشخصية المتألمة من منحاها الاحتجاجي الذي يطالب بالعدالة والإنصاف ، في عالم استهلاكي اختلت فيه طبائع البشر وتفاعلهم مع منظومة القيم الأخلاقية , ينطلق الكاتب محمود الوهب من تحدثه عن نموذج فردي مميز يحتوي هموم الطبقة الكادحة التي اختارت أن تجرب الأشياء وتدخل في حيز المواقف والتجارب مستفيدة من الحياة بأوجهها المتناقضة وهنا نتأمل في ذات القصة ص81 : ((دفعْت الباب ، تقدمت بحذر حتى مدخل الصابون ..رأيت مجموعة من النساء ، كنَّ في حالة لهو ومرح، كان جواً حريمياً خالصاً ..!فما إن رأينني حتى تصايحن:
ولي وتراكضن ، يختبئن في الغرف المجاورة ! لقد كنَّ شبه عاريات ...لكن صاحبة الصوت الأول ،ردت عليهن : هذا لطوف .. لطوف الأجير.. أجيرنا في المزرعة..! ثم اقتربت نحوي.. تمد يديها العاريتين حتى الإبطين .. تريد حمل الأغراض التي أخذت تهتز بين يدي..! ،كانت هي الأخرى شبه عارية ,بل هي عارية إلا من ثوب رقيق أسود ,يلتصق على جسدها الوردي الناعم..)) طريقة الوصف تجسد تناقضاً بين حالة الإنسان البسيط الأجير وحالة النساء اللاتي يعشن في أجواء من النعومة والرفاهية وهي مثار جانب يركز على أن التفاوت الطبقي يجعل الإنسان أكثر خجلاً من التحدث بالأشياء التي تخص جوانب الفتنة لدى النسوة اللاتي لم يرتعدن كثيراً من رؤية العم لطوف لكونه مجرد أجير وإنسان بسيط مما نلمس لدى الكاتب مقدرة على الإحاطة بجمالية الوصف , وصف الحالة والمشهد والإحساس بمأساة هذا التفاوت البشري بين عالم النساء الذي نراه هنا أقرب إلى الرفاهية والنعومة والدلال وعالم العم لطوف البسيط الذي يحتاج إلى لحظات من التلذذ بهذا السحر والحس الأنثوي مما يتمخض لديه كنتيجة عن النقص هذا الإبداع الذي جعله الأكثر تأثيراً وتميزاً على مساحة الأفكار والأكثر إحساساً بأهمية الوجع في جعل الإنسان يرتقي من سلم البساطة إلى حالة من الإدراك والتأمل والصفاء اللامتناهي
في قصة (العفاريت) تتجلى اللمسات الأخيرة لدى الكاتب الذي أراد من العم لطوف أن يكون مثال ذلك الثائر المحتج الذي يبتعد عن منطق المساومات ويتجسد في إطار ذلك الصامد في وجه قوى اللجم والقهر وقد أضفى الكاتب عليه صفة الإنسان الثوري المقاوم من منحى إنساني فهو ينحاز إلى الجماهير الطيبة المنساقة للحياة بطيبتها ودماثتها فهنا نرى : ((ص91 في تلك الليلة يروي ثائر لم أكد أغفو , حتى جاء الجماعة أخذوني .. ظننت أنني الوحيد .. لكنني ، ومن خلال التحقيقات فهمت أننا جميعاً بمن فينا العم لطوف موجودون في نفس المكان))
إذن فالعم لطوف يشارك المجموع الهم الاجتماعي المزري الذي يلاحق حال الطبقات المعدمة
فهو بذلك يتسم بالموضوعية الهادفة التي لا تتوارى عن أحاسيس المجموعة البشرية وهمومها وهنا نلاحظ أيضاً: ((ص96 لا أعرف كم دامت المعركة بيني وبين هؤلاء العفاريت ، ولكني في النهاية ، وجدت نفسي في غرفة واسعة ، غرفة مفروشة بفرش إفرنجي ، فيها رجل يرتدي ثياباً مدنية أيضاً ، يتسلى بما يشبه السكين..!))
الرجل المقاوم الذي سرعان ما يلقى القبض عليه .. لأنه فعل المقاومة فعل ارتقاء نحو الأفضل ورؤية العالم بمنحاه المتناقض هو تعبير عن عدم اكتراث لبطش الآخر المتهالك على صعيد القيم والإرادة الخيرة ، هذا ما يؤكده الكاتب هنا من خلال وضعه لتداعيات ظروف اعتقال العم لطوف والمجيء به لغرفة التحقيق ، وعموم هذه المجموعة القصصية تهدف إلى بناء شخصية طامحة عادلة تتميز بالذكاء والشعور بالمجموع العام واستدعاء الإنسان النموذج والمثال في شخصية العم لطوف هو بمثابة استدعاء الأصالة الفردية التي تتمايز عن المجموع الذي من خلاله تتداعى عيوب البشر وقد كانت رسالة الكاتب في تخاريف العم لطوف قائمة على استعادة الريادة الحضارية الإنسان الذي يتعين عليه أن يكون في قمة القيم التي تسمو بالانتماء الوطني تماهياً بالعالمية وتأصلاً بقضية الانسان جوهراً وعملاً..