حين تصير الترجمة "وطنًا"
مهنة الترجمة من أكثر المهن ثراءً وإمتاعًا، وهي تؤثر في حياة الإنسان وصوغ شخصيته. عندما تنتمي إلى هذه المهنة وتحبها بصدق، وتعطيها من وقتك وجهدك وصحتك، تجد نفسك قد وقعت في منظومة العشق الأبدية التي لا فكاك منها. فتظل تتعلم وتجيد وتجوّد وتحسن من نفسك في عملية مستمرة دؤوبة لا تنتهي ولا يمكن أن تتوقف. وتنشغل ليلاً ونهارًا بالحديث عن الترجمة ويعذب الكلم في فمك كلما كررت الكلام عنها، فهي معشوقة ملء السمع والعين، لا تترك لك مجالاً للراحة منها أو التفلت من ربقتها ولو ثوان. تجد نفسك تضع الأهداف واحدًا تلو الآخر، تلتمس القمم واحدة بعد أخرى، فكلما بلغت هدفًا مددت عينك لما بعده، ولا تكتفي بالنجاح أو تشبع منه كشارب من البحر قدره ألا يرتوي أبدًا مهما شرب. ولكن بحر النجاح في الترجمة ليس ملحًا أجاجًا بل عذب حلو. مع النجاح يأتي التميز والمزيد من التميز والمزيد من التميز، والتميز يجعلك تتقاضى أجرًا أفضل ويشعرك بالرضاء عن نفسك كلما تمكنت من أدواتك وفككت شفرات النصوص، ورأيتها أمامك واضحة المعالم بلا لبس أو خلط.

وفي الترجمة التنافس حلال والرقي حق والامتناع عن التطور عيب كبير. فترى غيرك ينشر إبداعه في ترجمة ما، فتشعر بالغبطة وتتمنى لو تدرك ما وصله فلان وتكد أكثر لتبلغ ذاك المستوى. وحقيقة بلوغ المستويات العُلى من الترجمة يقتضي بالضرورة توسيع دائرة قراءتك واطلاعك، وتوسيع مداركك والإحاطة بالعالم من حولك؛ فالمترجم ليس أرضًا هامدة لا حياة فيها، بل أرضًا أمطرت بمطر العلم فاهتزت وربت، وعمتها كل أشكال الحياة.

وممارسة الترجمة هي السبيل إلى أن تصبح مترجمًا، عليك أن تنزل بنفسك إلى هذا المعترك وتجرب مرات ومرات حتى تنجح في صوغ الجمل بعبارات منمقة جزلة ترضى عنها أنت قبل غيرك. فإن كنت طالبًا ترجم مقالات من على النت وانشرها على الصفحات المختلفة، وإن كنت مترجمًا مبتدئا ترجم قطعًا من الكتب المتخصصة، واسمع محاضرات الترجمة للأساتذة الكبار، انشغل بالتقليد حتى تبرع في الإبداع. وحتى لو كنت مترجمًا متخصصًا فعليك أن تجلب الوثائق المتخصصة من المواقع الدولية ذات الصياغة المجودة والمحسنة والتي عكف عليها كبار المترجمين، وتعلم منها، وصادق الورقة والقلم وأدمنهما، فهما صديقا كل مترجم. المس الورقة بحنان والتمس منها أن تبوح بأسرارها إليك، فحتى الورقة الفارغة لها أسرار تهمس بها في أذن ذوي الألباب. خُط بيدك على الورق الأبيض ما تريد أن تخطه في عقلك بمداد لا يبهت مع الزمن.

وكذلك عليك أن تجيد التحدث بطريقة أهل اللغة التي تترجم إليها، فهذا يساعدك على أن تستقم في فهمها لاحقًا، فاللغة كائن حي متكامل لا تستطيع أن تحمله في وجدانك مشوهًا أبترًا معوج الصوت، فاستمع إلى اللغة في الفيديوهات الوثائقية واستخدم الفيديوهات التي تنطق اللغة وكرر وراءها مرارًا وتكرارًا، وهذا الإحساس الجميل عندما تبرع في نطق كلمة بطريقة صحيحة بعد أن كنت تنطقها بشكل خاطئ يعطيك مشاعر الطفل أبدا، فأنت طفل سعيد يلهو بكلماته، يفرح حتى تطفو الدمعة فوق عيونه عندما يتحدث مع أجنبي ويجيد التواصل.

وهكذا تسحبك الترجمة معها في بحر حوار بلا شطآن، وترتبط بها ارتباطًا وثيقًا كحبل سُري لا ينقطع ولا تخرج من رحمها إلا بخروجك من الحياة، إنها عشق وولع وأسلوب حياة، إنها "الوطن".