البحرُ الرَّائِقُ في تَفْسِيرِ
{ إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ }

الدكتور محمد عناد سليمان



ذُكرتْ في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تتعلَّق بالأخلاق الإنسانيَّة والإسلاميَّة التي يجب أن يتحلَّى بها النَّاس في حياتهم وتعاملهم، وأن تكون طريقًا واضحًا في سير العلاقات الاجتماعيَّة بينهم، فنهى سبحانه وتعالى عن السّخرية، والتّنابز بالألقاب، وسوء الظَّنِّ، والغِيبة، والتَّجسُّس، والنَّميمة وغير ذلك، كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}(الحجرات)، وقوله أيضًا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)}(الحجرات).

ومن هذه الأخلاق التي أوجبها الله علينا التثبُّت فيما يرد إلى مسامعنا من كلام، كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}(الحجرات). وهي مرادنا في هذا المقال، نبحث فيها، وفي معانيها.

*{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }

بدأ سبحانه وتعالى قوله مخاطبًا الذين آمنوا، وليس المقصود بذلك المسلمين العرب على ما يذهب إليه عامَّة النَّاس؛ لأنَّه قد ثبت سابقًا وبيَّناه في أكثر من مقال أنَّ الإسلام هو دين الله في الأرض، وليس مختصًا بأمَّة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، فقال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ (19)}(آل عمران). وأنَّ هذا الدين هو الذي أمر الله به جميع الأمم السَّابقة أن يدخلوا فيه؛ بل إنَّ من يبتغ غيره فلن يقبل الله منه فقال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}(آل عمران)، وكلُّ من يدخل هذا الدِّين فهو مسلم بالمطلق.
أمَّا الذين آمنوا فهم أعلى درجة من المسلمين، { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)}(الحجرات).
وقد ذكر الله الذين آمنوا في السُّورة خمس مرَّات، وفي كلِّ مرة يرشدهم سبحانه وتعالى إلى مكرمة من مكارم الأخلاق، متوزَّعة على خمسة أقسام، فمنها ما يتعلَّق به جلَّ وعلا، ومنها ما يتعلَّق بالنَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت أوَّل آية تُفتتح بها السُّورة فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}(الحجرات). ومنها ما يتعلق بالإنسان الحاضر في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ ....(11)}(الحجرات) ، ومنها ما يتعلق بالغائب في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضا .....(12)}(الحجرات).

*{ إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ ِبنَبَأٍ }

جاء حرف الشَّرط « إنْ » ليدلَّ على أنَّ إيراد النَّبأ من الفاسق متوقع الحصول، بخلاف «إذا» التي تقتضي التَّحقيق في الوقوع، وهذا يناسب صدر الآية لخطاب المؤمنين؛ لأنَّ المجيء نادر الحصول. والفاسق: الخارج عن طريق الحقِّ والصَّلاح، وكلُّ من خرج عن طريق ذلك يسمَّى فاسقًا، وجاء نكرة مع الشَّرط ليفيد العموم في وجوب التثبُّت، وناسبت لفظة « فاسق » ما بعدها من النبَّأ.
واستنبطَ أهل العلم من هذه الآية أنَّ «الفاسق» لا تقبل شهادته؛ لأنَّ الله قد أمر السَّامع بالتثبُّت، فلو كان مقبول الكلام لما احتيج إلى ذلك منه؛ دلَّ عليه قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)}(النّور).
بل إنَّ الله سبحانه وتعالى قد وصف «الفاسقين» بالنِّفاق فقال تعالى: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)}(التوبة).

و«النَّبأ» لا يكون إلا لأمر عظيم فيه تخوُّف وبلاء، كقوله تعالى: { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)}(النبأ) ، وهو بخلاف الخبر الذي يكون للخير والبشارة، كقوله تعالى: { إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)}(النّمل) ، وفي موضع آخر قال: { إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)}(القصص).
و«النَّبأ» إمَّا أن يكون قولاً أو يكون حدثًا، وفي التَّحقيق يتقدّم الثّاني على الأوَّل؛ وكلاهما منجذب إلى ركنين، إن صحّ الأوَّل بطَل الثّاني، وإن صحّ الثَّاني بَطَل الأوَّل. وهما الصّدق والكذب. فنعت «زيدٍ» «عمرًا» بالـ«سرقة»؛ يتطلّب التّحقيق جرّ البرهان على صحّة حدوث «الـسّرقة»، أو بطلانها؛ لا إثبات صدور القول من «زيد» أو عدمه. فإن قام الّدليل على الحدث؛ وقع الصّدق في الثّنتين معًا؛ وتفلّت السّامع ذي البينين من إطالة السّؤال، وكثرة الحلّ والتّرحال.

*{ فَتَبَيَّنُوا }

قرأ حمزة والكسائي «فتثبَّتوا»، أي: اطلبوا إثبات الأمر وبيانه، وذهب بعضهم إلى أنَّ «تبيَّنوا» أبلغ وأشد من «تثبَّتوا»؛ لأن المتثبِّت قد لا يتبيَّن، وقلَّما يكون التَّبيين بعد التثلُّت، وذهب أبو عليّ الفارسيّ إلى أنَّ التثبُّت خلاف الإقدام، لقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66)}(النساء). لما فيه من وجوب التأنِّي وعدم العجلة.
وقد سبقت الإشارة إلى أنَّ «النَّبأ» قد يكون قولا أو حدثًا، والتَّبيين عن السَّامع يقتضي أمرين:

الأوَّل: بطلان الحدث. وهذا يقتضي بالتّرتيب بطلانَ القول، وصاحبه سقط في الجاذب الثّاني؛ والغائب استحقّ الجاذب الأوَّل.
الثّاني: سعيه إلى إلزام المتجاذبين وإسقاطهما على القول لا على الحدث؛ وهنا يتحوّل من سامع إلى ناقل؛ ويصبح شريكا للأوَّل؛ ويصبح«الفاسقُ» جمهرةً من الفاسقين الذين يدخلون الفتنة بين «القوم»، فيزيدون العلّة علّة؛ والطّيِن بِلَّة، وهذا إثبات الغبن؛ وغياب العقل؛ وجري وراء السّراب.

*{ أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ }.

الإصابة تستعمل في الحسنة والسَّيئة، وقد اجتمعا على التَّرتيب في قوله تعالى: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ...(79)}(النساء). و«القوم» جاء نكرة يفيد العموم، وإن كان الفاسق مفردًا، إلا أنَّ تفشّي «النّبأ» يؤدي إلى الفتن بين النَّاس. والجهل فوق الخطأ؛ لأنَّ المجتهد لا يسمَّى جاهلا إذا أخطأ.

*{ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }.

النَّدم همٌّ دائم، والنُّون والدَّال والميم في تقاليبها جميعها تفيد الدَّيمومة والاستمرار، كقولهم: أدمن شرب الخمر، ومدمن: أي مقيم، ومنه سمِّيت المدينة، والنَّدم يكون على فعل غير محمود صدر من صاحبه، ومنه قوله تعالى: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)}(المائدة)، ومنه قوله تعالى أيضًا: { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)}(الشعراء).
وفيه فائدتان كما نبَّه بعض أهل العلم:

الأولى: تقرير التَّحذير وتأكيده، فإنَّ مثل هذا الفعل وإن كان واقعًا، يستوجب الهم والحزن الدَّائمين، لذا لا بدَّ من الاحتراز منه.
الثَّانية: مدح للمؤمنين الذين لا يفعلون ذلك، ولا يلتفتون إليه، مما يخرجهم من دائرة النَّدم والحزن.
ونذكر هنا أنَّ واردات العقل من الفكر المتنقل لها طريقان متوازيان:

الأوّل: وحي وخيال، ووهم ومنام.
الثّاني: واقع حسي؛ مسموع ومرئي. ومدار الكلام على الثاني، لعدم توقّع الأول، ولا سلّم عقلاني ينبني عليه، فلا يُناقش، ولا يُهدر الوقت في سجاله؛ لأنّه مفض إلى الجدال، وإطالة الكلام، وإن كان الأوّل مشترك معه عند انعدام السلّم، والنُّزوع إلى التّعنُّت والتَّحجّر في الرَّأي. وبما أنّ الثَّاني واقع محسوس، ومرئي ملموس، فللسَّامع فيه ثلاثة مذاهب:

المذهب الأوّل: تبنِّيه، والأخذ به، دونما استفسار أو استفهام، وهو حينئذ شريك للمتكلم، وقرينه الأوّل، وهو ناقل ومتبنٍ في آن معًا، فينطبق عليه لفظ الـ«إمعة»، وقول الشَّاعر:
وما أنا إلا من غزية إن غزت * غزوت وإن رشدت غزية أرشد

المذهب الثَّاني: رفضه، وردّه، وعدم المساس به، والسَّامع حينها غير مبال، وينبغي أن يدخل في الصنف المعروف والمشهور فـ«ليصمت».
المذهب الثّالث: وقوفه موقف المحاور المناقش، مستندًا إلى مبدأي الرَّفض أو القبول، واعتماد الرَّأي والرَّأي الأخر، وحسبه فيهما أمران:

الأوّل: التَّفنيد إن اختار المبدأ الأول، ووجهته فيها الطَّريقة المثلى، والمؤنة العليا؛ قوله تعالى: { فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}(البقرة).
الثّاني: التَّصديق إن اختار المبدأ الثاني، ويعوزه فيه الدّليل والبرهان، ليتقوى موقف السَّامع، ويصبح داعما للمتكلّم.
أمَّا إن ختار أحد المبدأين دون الوجهتين والطّريقتين فقد دخل في نطاق المذاهب الثَّلاثة، لا رضي ولا أرضى، وأدخل نفسه في الموازي الأوّل، وأصبحا كسامع ومتكلم وحيًا من الخيال، وضربًا من الأوهام.

عن موقع رابطة أدباء الشام