تفْسيرُ القُرْآنِ بِالقُرْآَنِ

حدُّ السَّارق والسَّارقة

الدكتور محمد عناد سليمان


أشرنا في أكثر من موضع إلى أنَّ إنتاج فكرٍ ما فإنَّه إما أن يكون مستحدثًا جديًدًا، وإمَّا أن يكون إحياءً لقديم، وفي كلا الحالتين يجب على العالم الفطِن أن يبحث في الأسباب التي أدَّت إلى إيجاد الجديد، أو إحياء القديم.

ولعلَّ من أهم ما نراه اليوم في الحالة التي وصلت إليها الأمَّة الإسلاميَّة، بروز بعض الأحكام والأفعال التي يحاول من يجريها أن يجدَ لها مستندًا شرعيًا، إمَّا في كتاب الله، أو في سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، أو في أيِّ أثر يرى فيه دعمًا لفعله، ومبرِّرًا لتصرُّفه، وهو حال كثير من الحركات الفكريَّة التي اتَّخذت من ذلك عمادًا لها، تُقيم عليه حجَّتها وأدلَّتها، وإن خالفت النَّص الصَّريح، أو العقل البشريّ؛ بل إنَّ بعضها قد يلجأ إلى إسقاط النَّصِّ الصَّريح من الاعتبار، سواء أكان كتابَ الله، أم سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، أو العقل البشريّ على نحو ما فعلته الحركة «الإخباريَّة» في «إيران»لتثبيت «الفكر الصَّفويّ» في عصرها.

ومن هذه الأفعال التي نراها اليوم، تقطيع الرّؤوس والتَّكبير عليها، وكأنَّها بهائم تُذبح، أو قربانًا يُقدَّم، أو ضحيَّة عيد تُهدَى، يقصدون بها وجه الله سبحانه وتعالى، أو قطع يد السَّارق، وجلد الزَّاني من غير إقامة الدَّليل عليه، وغيرها من الأفعال التي لا يُراد منها إلا تشويه الإسلام، وتثبيتُ صفة«الإرهاب» بحقِّ المسلمين.
وأخصِّصٌ هذا المقال المتواضع للحديث عن حدِّ قطع يد «السَّارق»، اعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن»، وهل لهذا الحدِّ نصُّ صريح؟ أم أنَّ التأويل قادَ النَّاس إليه؟ وهل ما ورد من أحاديث وأخبار تتوافق مع النَّصِّ القرآنيّ أم تتعارض معه؟ وما الموقف الحاصل إن وقع التَّعارض؟

وأوَّل ما يطالعنا به القرآن الكريم قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}(المائدة). وهي الآية التي اعتمدها أهل العلم والفقهاء لإقامة حدِّ السَّرقة على فاعلها بقطع يده، واختلافهم في ماهية القطع، هل هي من الكوع، أم الأصابع، أم الكفِّ، وهل تقطع اليد اليمنى أم اليسرى، وغير ذلك من الأحكام الفقهيَّة التي أصَّلوها في ذلك بناء على حكمهم المسبق بوجوب قطع يد السَّارق عامَّة من ذكر أو أنثى.

لكن التّدبُّر في هذه الآية، ومعانيها، والسِّياق الذي وردت فيه، وبالاعتماد على منهج «تفسير القرآن بالقرآن» يظهر لنا خلاف ما ذهبوا إليه، وإن كان إجماعًا، فلا حجَّة في إجماع قلَّ فيه المخالفون، ولا عبرة في قليلٍ كثرُ عليه المتأوِّلون.

وأوَّل ما نقف عليه في هذه الآية لفظ { فاقطعوا }، وهل المراد منه القطَّع الذي هو البتر حقيقة؟ وهل المراد منه فصل اليد عن الجسم؟ أم أنَّ ثمَّة معنى آخر تشير إليه؟ ولمعرفة ذلك نورد الآيات التي وردت بلفظ «قَطَعَ» مخفَّفًا في القرآن الكريم، حتى نتبيَّن المعنى المقصود من «القطع» في هذه الآية.
ويمكن أن نصنِّف ما ورد في معنى القطع في ثلاثة أنواع:

الأوَّل: قطع الأمر والبتُّ فيه، واتخاذ القرار اللازم: ومنه قوله تعالى: { قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)}(النمل).

الثَّاني: قطعُ الدَّابر: ومنه قوله تعالى: { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}(الأنعام). وقوله أيضًا: { فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (72)}(الأعراف). وقوله تعالى: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)}(الأنفال). وقوله أيضًا: { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66)}(الحجر). ولا شكَّ أن قطع الدَّابر المراد منه ذهاب أصلهم، واستئصال شأفتهم، ومنع نسلهم من الاستمرار. ونظيره قوله تعالى: { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (127)}(آل عمران).

الثّالث: قطع السَّبيل كقوله تعالى: { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)}(العنكبوت).
سواء أكان قطع الطَّريق على حقيقته، أم قطع نسلهم بإتيانهم الرِّجال دون النِّساء، وفي كليهما تظهر حقيقة المنع المقصودة من القطع.

فالذي يظهر من هذه الآيات التي ورد فيها لفظ «القطع» أنَّ المقصود «المنع»، وليس «البتر» الذي هو الفصل، ونظيره قوله تعالى: { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}(البقرة). والمراد به قطع كلّ ما أوجب الله وصله، من أرحام وغيرها. وإذا كان الأمر كذلك في هذه الآيات، نجدُ أنَّ معنى قطع يد السَّارق التي هي بمعنى بترها وفصلها عن جسم الفاعل غير صحيح، وغير ظاهر فيها. ولنا في ذلك أدلَّة أخرى غير التي مضت، أشار إليها القرآن الكريم نفسه، حيث أنَّ «القطع» الذي يراد منه «الفصل» قد جاء بلفظ آخر ومغاير لما ورد في الآيات السَّابقة، حيث ورد بلفظ «قطَّع» المضعَّف، ومن أمثلته قوله تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)}(البقرة). ولا شكَّ أنَّ التَّقطيع الحاصل هنا هو الفصل، وعدم القدرة على العودة والرُّجوع بعد رؤية العذاب، كقوله تعالى: { لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}(المؤمنون).

ومن المعنى الدَّالِّ على الفصل قوله تعالى: { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً ...(160)}(الأعراف). أي: جعلناهم اثني عشرة فرقة، ولا يخفى على أحد معنى الفصل الظَّاهر في هذه الآية، ونظيره قوله تعالى: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}(الأعراف). ونظيره أيضًا قوله تعالى: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)}(الحج). وقوله أيضًا: { وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15)}(محمد).

ولعلَّ من أظهر المعاني الواضحة في معنى الفصل قوله تعالى: { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}(يوسف). وقوله أيضًا: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}(يوسف). ولا شكَّ أنَّ التَّقطيع الحاصل هنا هو الجرح الذي ألمَّ بالأصابع، ولقائل أن يقول: أين الفصل والبتر في هذه الآية؟ نقول: الفصل حاصل من الجرح النَّاتج عن التَّقطيع، وهو فصل اللَّحم عن بعضه حتى وصل إلى العظم في بعض الرِّوايات، وهو ظاهر في الآيتين.

بل إنَّ القرآن الكريم أشار صراحة إلى قطع اليد بلفظ المضعَّف لا المخفَّف، في دلالة واضحة على أنَّ المراد في السَّارق ليس الفصل أو البتر، ولو أراد ذلك لذكره مضعَّفًا لا مخفَّفًا في قوله: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ...(38)}(المائدة). من ذلك قوله تعالى على لسان فرعون: { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)}(الأعراف). وقال في موضع آخر:{ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71)}(طه)، وقوله أيضًا: { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)}(الشُّعراء).

وبعدَ هذا العرض الموجز والسَّريع، يتضِح أنَّ المقصود ليس القطع حقيقة، وإنَّما المنع، وإزالة الأسباب الموجبة للسَّرقة، ولا يجوز قطعُ يدُ السَّارق، فلو كان القطع مرادًا لجاء اللفظ مضعَّفًا كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}(المائدة).

بل إنَّ تتمة الآية تشير إلى أنَّ ثمَّة توبة ومغفرة قد تخرج من السَّارق، فقال تعالى: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39)}(المائدة). ولا محالة أنَّ القطع الذي هو البتر لن يكون توبة لعدم القدرة على إرجاع اليد إلى حالها. وقد استدلَّ عطاء وجماعة بهذه الآية على أنَّ القطع يسقط بالتَّوبة، وهو المناسب لسياق الآيات، وإن ردَّه بعضهم. والله أعلم.
ومن الجدير بالذِّكر أن نثبت ما ذكره الرَّازيّ في تفسيره فقال: «قال كثير من المفسِّرين الأصوليّين: هذه الآية مجملة من وجوه:

أحدها: أنَّ الحكم معلَّق على السَّرقة ، ومطلق السَّرقة غير موجب للقطع؛ بل لا بدَّ وأن تكون هذه السّرقة سرقة لمقدار مخصوص من المال، وذلك القدر غير مذكور في الآية فكانت مجملة.

وثانيها: أنَّه تعالى أوجب قطع الأيدي، وليس فيه بيان أنَّ الواجب قطع الأيدي، الأيمان والشّمائل، وبالإجماع لا يجب قطعهما معًا فكانت الآية مجملة.

وثالثها: أنَّ اليد اسم يتناول الأصابع فقط، ألا ترى أنَّه لو حلف لا يمسّ فلانًا بيده، فمسّه بأصابعه فإنّه يحنث في يمينه، فاليد اسم يقع على الأصابع وحدها، ويقع على الأصابع مع الكفّ، ويقع على الأصابع والكفّ والسّاعدين إلى المرفقين، ويقع على كلّ ذلك إلى المنكبين، وإذا كان لفظ اليد محتملا لكلِّ هذه الأقسام، والتَّعيين غير مذكور في هذه الآية فكانت مجملة.

ورابعها: أنَّ قوله: فاقطعوا، خطاب مع قوم، فيحتمل أن يكون هذا التَّكليف واقعًا على مجموع الأمَّة، وأن يكون واقعًا على طائفة مخصوصة منهم، وأن يكون واقعًا على شخص معيّن منهم، وهو إمام الزَّمان كما يذهب إليه الأكثرون، ولما لم يكن التَّعيين مذكورًا في الآية كانت الآية مجملة، فثبت بهذه الوجوه أنَّ هذه الآية مجملة على الإطلاق، هذا تقرير هذا المذهب». ثم ذكر ردَّه على هذه الوجوه وهو ردٌّ ضعيف لا يفنِّدها، ولا تعتمد عند التَّحقيق.

وما قدَّمناه رأينا ومذهبنا في هذه المسألة، ولقائل ولمجتهد أن يخالف، ولا رادَّ له في ذلك، فلكلِّ مجتهد نصيب، ولكلِّ علم بابه. والله تعالى أعلم.

عن موقع رابطة أدباء الشام