المنطق ينتصر للقمة العربية
الدكتور عزت السيد أحمد


مقال كتبته في 2003/2/26 ونشر ضمن كتاب:
العرب أعداء أنفسهم
الصادر بدمشق عام 2004م.
أعيد نشر هذا المقال بمناسبة اقتراب انعقاد القمة العربية


أمَّة أجمع حكامها على جلد الذات فتوافقت نتائج قممهم

بعد لأيٍ وجهد، و(تبويس) لحى، ورجاء وتضرع وبكاء... خلصت الدول العربية إِلَى الموافقة بل السَّماح بعقد القمَّة العربيَّة في مطلع آذار القادم. ولكن على الرَّغْمِ من الوصول هذه النتيجة الَّتي التفضل بالسَّماح بعقد القمة فإنَّ هذا التفضُّل ظلَّ مشروطاً بخلافات لها بداية ما لها نهاية؛ فمن اعتذار عن المشاركة، إِلَى ضآلة مستوى التمثيل، إِلَى الخطوط الحمراء والسوداء... لتغدو هذه القمة من قبل أن تعقد قمة اللانتيجة، وقمَّة اللاقرار.
أن تعجز القمة العربية عن القرار أو الفعل أو النتيجة أو كلها معهاً أمر لم يعد مثار دهشة على الإطلاق، لأنَّ القمم العربيَّة السابقة على الرَّغْمِ من تحقيقها الإجماع أو شبه الإجماع الدائم على انعقادها لم تكن قط عند أدنى حدود المسؤولية أو المطلوب!! فكيف إذا كانت القمة قائمة أصلاً على هٰذا الشرخ الكبير في الاشتراطات والاختلافات والامتناعات والاحتجاجات؟؟!
بعد إخفاق الدعوة إِلَى قمة استثنائية لبحث الأزمة العراقيَّة والتهديدات الأمريكيَّة لحجج رُبَّما لا تصمد أمام أيِّ تشريح نقدي سطحي أو معمق، منها أنَّ القمة الدورية قريبة ولا حاجة للاستعجال، يفترض أنَّ موجبات القمة الاستثنائيَّة قَدْ علقت على كاهل القمة الدورية إِلَى جانب مهامها الدوريَّة الاعتياديَّة. ورُبَّما حَتَّى تحقق القمة الدورية شيئاً مما كان مطلوباً منها في القمة الاستثنائية المجهضة تمت الدعوة إِلَى قمَّة مبكرة.
هنا بدأت أولى المشكلات الَّتي تمثلت باحتجاج بعض الدول على هٰذا التقديم أيضاً بحجج لا يمكن أن تصمد لحظة أمام أيِّ تحليل.
كان من الممكن أن يمرَّ هٰذا الاحتجاج أَو الاعتراض من دون أيِّ تساؤلٍ أو شكوكٍ أَو علامات استفهام، ولٰكنَّ الذي قلب الموازيين هو الطَّلب الذي تقدَّمت به الحكومة العراقيَّة لتأجيل القمة إِلَى ما بعد تقديم فريق المفتشين تقريرهم إِلَى الأمم المتحدة. فما إن تَمَّ تقديم هٰذا الطلب/ الاقتراح حَتَّى انقلبت الموازيين من جديد، وانعكست المواقف، فالدول الَّتي اعترضت على تقديم القمة صارت تطالب بتثبيتها، أو بمعنى آخر رفض الاقتراح العراقي، والدول الَّتي أيدت التقديم أيدت التَّأخير، أو بمعنى آخر أيدت الاقتراح العراقي، أمَّا مصر فقد تصرفت في كلِّ ذلك وكأنها هي وحدها القمة العربيَّة، وهي وحدها الأمة العربيَّة؛ فهي الَّتي ألغت، وهي دعت، وهي الَّتي قدمت... ولم تكترث بمن وافق أَو احتجَّ أَو اعترض إِلَى درجة أوحت بأَنَّها يمكن أن تعقد القمة ولو كانت وحدها فيها.
لن نقوِّم الموقف الفردية للحكام العرب، وهي بالضرورة مواقف حكوماتهم ومندوبيهم ومسؤوليهم، وكلُّها على درجة من الوضوح الفاضح الَّتي يبدو معها أيُّ شرح أو تحليل نافلة لا لزوم لها ولا ضرورة.
إنَّ ما يستحقُّ الوقوف عنده هنا هو ظاهرة تستعصي على الفهم، ظاهرة تصفع الضمير بكعب حذاء عتيق، ظاهرة تحير الحليم.
منذ أكثر من عشر سنوات، عندما اجتاحت القوات العراقية الكويت وليس من شكٍّ في خطأ هذه الخطوة، تداعى العرب للقمة بإيحاء أمريكي أو غيره، فتسارعوا تسارع الجياع على قصعة الأكل، وكانوا في القاهرة في بدء التشاور. كان العنوان حينها ردع العراق، والمضمون تقديم التسويغ للولايات المتحدة بضرب العراق، وقد علم الجميع بذۤلكَ، وعلى علمهم بأنهم ذاهبون للسماح بضرب العراق لا محض إخراجه من الكويت فقد تسارعوا إِلَى الموافقة والإقرار من قبل الاجتماع.
ذۤلكَ التسارع حينها، وإعطاء الولايات المتحدة المسوغ لتصفية العراق وسحق قواه كان صدمة للدول الغربيَّة قبل الشعوب العربيَّة، ولاسِيَّما أنَّ المخطط الأمريكي حينها لدخول المنطقة والسيطرة عليها كان واضحاً لهم على الأقل، ولم يكن خافياً علينا على أيِّ حال. أي كان من الواضح أنَّ غرض الولايات المتحدة حينها ليس إعادة العرش الكويتي وإنَّما الوجود الراسخ القوي في الخليج العربي.
بل حَتَّى ولو لم يكن غرض الولايات المتحدة واضحاً فإنَّ عنصر المفاجأة للغرب من موافقة العربي على تصفية العراق كان كبيراً، لأنَّها تعني ضمناً إعطاء الفرصة للغريب لضرب الأخ والقضاء عليه.
القمة القادمة الآن هي في الافتراض النظري قمة لدرء خطر الحرب على الَّتي تريد الولايات المتحدة شنها على العراق من غير سبب إلا سبب إذلال الأمة العربيَّة. أي إنَّ الموقف الآن هو عكس ما كان عليه تماماً قبل عشر سنوات.
التحليل المنطقي يقول إنَّ الموقف ينبغي أن ينعكس أيضاً، فإذا كانوا قَدْ هجموا قبل عشر على عقد القمة للسماح بضرب العراق هجوم الصقر على الفريسة، فمن المفترض أن يتهربوا الآن من عقد قمَّة يكون غرضها الدفاع عن العراق، لا سِيَّمَا وأن الذي تداعوا بالأمس ولبوا هم ذاتهم الذين يتداعون اليوم.
إنَّ اتساق النتائج أو المواقف مع التحليل المنطقي يعني سلامة المنطق والمنطق ليس بحاجة لمن يدافع عنه. ولٰكنَّ هٰذا الاتساق المنطقي في موقف الحكام العرب يقودنا إِلَى نتيجة حتمية في التحليل المنطقي أيضاً وهي أنَّ مواقف هؤلاء الحكام ثابتة متسقة مع ذاتها، لم تتغير، ومن المؤكِّد أنَّها لم تتغير. ومن ثَمَّ فإنَّ موقفهم من تصفية القوة العراقيَّة الَّتي هي في المحصلة قوة للعرب ليست موقفاً طارئاً ولا عارضاً إنَّما هو موقف صميميٌّ متأصِّل في نفوسهم، هو الإصرار على جلد الشَّعب العربي بالضَّعف الذي يسمح لمن هب ودب أن يملي علينا إرادته وشروطه.
سيوجد من يعترض بأنَّ هٰذه القوة قَدْ أسيء استخدامها، ولن نعترض على ذۤلكَ، ولٰكنَّ ما ينبغي أن يكون مدركاً هو أنَّ صدام حسين وسلطته لن يظلَّ إِلَى الأبد، أمَّا القوة العراقية فكانت ستظلُّ للعراق والعرب، وهٰذه القوة الَّتي هي ملك العرب هي الَّتي تحاربها الولايات المتحدة وستقضي عليها بفضل الجهود العربيَّة، وهي المقصود، وهي الَّتي يصرُّ الحكام العرب على تدميرها. ورُبَّما هنا يمكن أن نفهم ما أعلنه أكثر من مسؤول أمريكي عندما قالوا: «إنَّ الحكام العرب يرفضون ضرب العراق في العلن، ولكنَّهُم كلُّهم أبدوا لنا تخوَّفهم من تنامي القوة العراقيَّة».
لَقَد كرر كثيرٌ جدًّا من المثقفين العرب، وحَتَّى الأوربيين والأمريكيين والآسيويين... قولهم: لو أنَّ الولايات المتحدة ستقتصر فعلاً على إزاحة صدام حسين ونظامه، على الرَّغْمِ من خطورة المبدأ ذاته على كثير من الحكام العربي أنفسهم، لما كان هناك من مشكلة، فلتأخذه وتذهب، ولكنَّ المشكلة أكبر من ذۤلكَ بكثير، فصدام حسين ونظامه لا يشكل أيَّ ذرة من غبار المشروع الأمريكي، هٰذا ما أفصح عنه الأمريكيون أنفسهم، وأفصح عنه بوش ذاته وغيره من المسؤولين الأمريكيين: ستبقى الجيوش الأمريكية في العراق طالما اقتضت الحاجة إِلَى ذۤلكَ!! ومن ذا الذي يقدِّر الحاجة إِلَى بقاء الجيش الأمريكي في العراق؟ ومن ذا الذي يحدِّد الدور الذي يقوم به الجيش الأمريكي في العراق؟ ومن ذا الذي يعرف ما الذي ستفعله الولايات المتحدة بعد ذۤلكَ؟؟!
على الرَّغْمِ من أنَّ منطق الحكام العرب لا يختلف أبداً عن المنطق الأمريكي، ولا اختلاف بَيْنَ غايات الحكام العرب وغايات المخططين الأمريكيين، بما فيها إيمانهم وقبولهم بفكرة «أكلت يوم أكل الثور الأبيض»... فإنَّنا لا نجد مناصاً من دعوتهم للدفاع عن ذاتهم لا عن صدام حسين.
إنَّ الحيلولة دون وقوع الاعتداء على العراق هي في الأساس حيلولة دون بدء مسلسل الكابوي الأمريكي في تغير الحكام وفرض الأنظمة الْمُشَكَّلة في وكالات الاستخبارات لأمريكية.
فهل من سميع؟؟