بدايات يمن محمّد الأحمد
رسّامة الورود والأزهار والطّبيعة

بقلم: حسين أحمد سليم

صغيرة كانت يمن محمّد الأحمد, إبنة بلدة مشتى حسن في محافظة عكّار شمال لبنان, حين طلبت من أختها الّتي تكبرها عمرًا, أن ترسم لها صورة ما, حيث تجاوبت أختها الأكبر معها وحقّقت لها أمنيتها برسم ما تيسّر لها, ويُمن الصّغيرة بعمر الورود, تُحدّق فيها بنظرات دقيقة رافلة, تقرأ خطوط وأشكال وتفاصيل ما رسمت لها أختها, تلك اللحظة في بدايات عمر يُمن, كان لها وقعها المًؤثّر في نفسها, حيث سكنت دواخلها وإمتزجت في أحاسيسها, ونمت معها ورافقتها في تنامي عمرها, ولقدر تأثيرها في كينونتها, لم تستطع نسيانها في حياتها, ومن يومها أحبّت يُمن حركة فعل الرّسم, رغم أنّ الرّسم الأوّل ذلك, كان بسيطا وليس إلاّ خربشة لرسم طفولي فطري, لا يتميّز بتقنيّة الرّسم ولا معانيه...
وهي تتابع تعليمها على مقاعد الدّراسة في صُفوف المرحلة الإبتدائيّة, قامت معلّمة الرّسم ذات يوم, بتوزيع مجموعة من الصّور المختارة على التّلامذة الّتي على قدر أعمارهم من التّشكيل, ومن ضمنهم الطّفلة يُمن, لتكشف تلك المعلّمة التّربويّة, مستويات المواهب عند الطّلاّب, تمهيدًا لوضع آليّة التّفاعل معهم وفيما بينهم, وكان نصيب يُمن الصّغيرة, عبارة عن صورة لعصافير صغيرة تنضوي تحت جناح أمّهم العصفورة في عشٍّ من قشّ, إستحوذت تلك الصّورة على إهتمام يُمن الطّالبة, ممّا حفّذها على التّفاعل معها, وراحت تنفّذ تفاصيل الرّسم وعناصره, بكثير من الدّقّة والإنتباه والعناية, مُقلّدةً الرّسم الّذي بين يديها في محاكاة أولى في رحلة التّجريب مع بدايات لها في الرّسم, ليأتي نتاج ما قامت يُمن برسمه طبق الأصل, ممّا لفت الإنتباه من المعلّمة المشرفة, وبقيّة الطّلبة من رفاق يُمن في نفس الصّفّ... يومها كانت يُمن في الرّابع إبتدائي منتسبة في مدرسة خاصّة تابعة لراهبات القلبين الأقدسين في الشّمال اللبناني...
واظبت يُمن على ممارسة الرّسم بفعاليّة فرديّة أكثر, وهي تجتاز المرحلة المتوسّطة التّعليميّة في نفس المدرسة, مُقدْمة بتحريضٍ ذاتيّ حاصّ يتفاعل في جوانبها وجوارحها, على حركات أفعال التّجريب بالمحاكاة في إعادة رسم وتقليد وتشكيل كلّ ما ينال إستحسانها, وترفل لها ومضات طرفها ويطمئنها, وذلك كانت تمارسه يُمن خارج نطاق أطر البرامج التّربويّة لهذه المرحلة, الّتي ليس في مضمون برامجها من حصّة لممارسة الرّسم, وهو ما أثّر في نفسيّة يُمن كثيرًا, تلك الصّبيّة الّتي كانت تتمنّى أن يكون ولو حصّة أسبوعيّة في المنهج التّعليمي, كيّ تتفتّق المواهب عند الطّلبة, وخاصّة تلك الّتي تضيق بها في مكنونها من تشوّقٍ لتجسيد عبقات صدرها وخيالها ووجدانها, بمشهدياتٍ من جمال الطّبيعة الّتي تحيط بها في بلدتها المكتسية بالجمال...
شاءت لها ظروفها الّتي تعيش قلقة في قلب معاناتها, والّتي وقفت عائقًا أمامها من إلتحاقها بالمرحلة التّعليميّة التّقليديّة, فإلتحقت مكرهة على أمرها, بمهنيّة ثانويّة لتتلقّى الدّروس في إختصاص المعلوماتيّة رغمًا عن إرادتها, حيث كان إختصاص الحضانة رؤى تُحاكيها في البعد, لكنّ كانت تشعر بضيق في صدرها, لعدم تحقيق أمنيتها هذه لأسباب إقتصاديّة, وعدم توفّر المال اللازم لشراء الأدوات المطلوبة, لمثل هكذا إختصاص والّذي كانت تحبّه بشغف...
وبقيت يُمن محمّد الأحمد تتواصل مع غالبيّة رفيقاتها في المراحل التّعليميّة, تمارس مساعدتهم في تجارب الرّسم وفق قدراتها في ذلك الوقت, تلك الرّسومات الّتي كانت تنال إعجاب من يراها من الأساتذة لأولئك الطّلبة من رفاق يُمن محمّد الأحمد, وهي مكرمة تميّزت بها تلك الفتاة القرويّة الّتي تحمل في دواخلها كلّ السّمات الشّفيفة, تلك التّوصيفات الّتي تسِم أخلاقا محمودة كُلّ أبناء القرى النّائية...
تزوّجت يُمن في سنٍّ مبكرة من قريب لها, وهي ما زالت تتابع تحصيلها الثّانوي, وهي كما بقيّة رفيقاتها في نفس عمرها, تُحاكي نفسها بمعسول فرح الحياة, وتحقيق الآمال المرتجاة في بنية صرحها الزّوجيّ, وإنصرفت كما أيّ إمرأة لبناء بيتها الأسروي والإهتمام بعائلتها... وإستمرّت في ممارسة الرّسم من حين لآخر, تراودها الأفكار الكثيرة, تنتظر ومضات الأيّام لها لتحقيقها, وهو ما بدأت بترجمته الفعليّة حين إنصرفت ترسم لأولادها ما يحتاجونه في مدارسهم, ممّا أدهش الأسرة التّليميّة في نفس المدرسة الّتي سبق لها ودرست في رحاب صفوفها... وكانت رسومات يُمن لأولدها يتم تعليقها في ساحات المدرسة وعلى جدرانها ليُشاهدها جميع الطّلاّب في المدرسة كونها مختارة من بين أجمل أعمال الرّسم للتّلامذة في جميع صفوف المدرسة...
يُمن محمّد الأحمد الّتي نشأت على حبّ الرّسم والتّشكيل الفنّي, منذ بدايات عمرها وهي طفلة صغيرة, والّتي مارست الكثير منه في تجارب عديدة في كلّ مراحل دراستها التّربويّة, حيث نالت بعض أعمالها إعجاب المحيطين بها... تربّص القدر بمسيرة يُمن محمّد الأحمد, فوقف عائقا أمامها ومنعها لفترة من متابعة تجاربها في فنون الرّسم, لتعود مولودة من جديد كما الفينيق ينبثق من تحت الرّماد, ليمارس حركة فعل الحياة بقوّة, هكذا يُمن عادت بقوّة وشغف وشوق, ترود هيكل فنون الرّسم والتّشكيل, تحمل الرّيشة بيد والألوان بيد أخرى, مُحاولة ترجمة ما يتفاعل في خفاياها, مشهديّات مختارة من واقع حياتها ومحيط بيئتها, تجسيدًا على قصاصات الورق المقوّى, إضافة للأشغال اليديويّة والرّسم على الزّجاج وتجارب لها في تشكيل وتجسيد الأشكال المختلفة, إضافة لتقديم يد العون الفنّي بأعمال لطلاّب تُحقّق لهم النّجاح...
إلتحقت يُمن محمّد الأحمد بمحترف أحد الفنّانين الكبار في بيروت, تمارس التّجارب التّأهيليّة لتطوير قدراتها في الرّسم والتّشكيل تحت إشراف فنّي متمرّس وله تاريخ طويل في غمار الفنون التّشكيليّة والنّقديّة, عنيت به الفنّان العربي السّوري عبّود سلمان "أبو فرات" الّذي شاءت له ظروفه أن يقيم في لبنان ليُكمل مساراته الفنّيّة متفاعلا مع أخوة له وزملاء في رحاب عاصمة الفنّ والتّشكيل والإبداع بيروت... حيث حصلت يُمن محمّد الأحمد على قبسات من التّجارب والخبرات الفنّيّة, والّتي أثرت ثقافتها وتجاربها فنّيًّا لتدفع بها واثقة النّفس في تطبيقاتها وتجاربها الفنّيّة في معتركات الحياة...
رغم بدايات يُمن محمّد الأحمد المتجدّدة بعد زمن ركدت فيه قسرًا, فإنّ في نتاجات تجاربها تتوامض السّيّالات, الّتي تعكس إبداعًا مميّزًا, ويُبشِّرُ لها بمستقبل مشرق, لا ينقصه سوى التّركيز في المتابعة والتّجريب في أرحبة عوالم الفنون التّشكيليّة نظريّا وتطبيقيّا لتزيد من قدراتها... سِيّما وهي تقوم بوضع دراسة شاملة لتنفيذ مشهديّات فنّيّة تشكيليّة, تعالج حالة واحدة وفكرة واحدة, تمهيدا لمعرضها الفنّي الأوّل الّذي يتراءى لها في البعد المرتجى, إضافة لإهتمامها في محاولات جادّة في الخلق والإبداع والإبتكار ,محاكاة لما يعتلج في وجدانها الفنّي, بالإعتماد على الإبحار التّطبيقي في شؤون تقنيّة المحارف والرّسم الرّقمي الحديث, إبحارًا آخر في التّجريد الفنّي والرّسم الهندسي الشّامل والزّخرفي وتركيب اللوحة الحروفيّة, وتفعيل حركة تطوير الأعمال اليدويّة والتّجسيميّة, وخلق محترفها الورودي العابق بضوع الطّيب من شذي بلدتها الرّيفيّة, لبناء صروح عوالمها في ميزة لها ترسم شخصيّتها الفنّيّة الّتي تحملها في بواطن وعيها وعرفانها...
تلكم هي يُمن محمّد الأحمد, الّتي يليق بها لقب رسّامة الورود والأزهار والطّبيعة...