مدى تفاعل الأدب مع قلوب الأطباء
عدنان عبد النبي البلداوي

القلب مستودع العواطف والانفعالات، المختص بممارسة عمليات المودة والبغض والغضب والخوف والبهجة والحزن والتفاؤل والتشاؤم.. وقد استأثر بكل تلك وما يجري مجراها عند جميع الناس في كل زمان ومكان ، فلا يهمهم كونه أداة فسلجية لضخ الدم ، أوكونه عضوا مشتركا مع الدماغ في تبادل الوظائف السيكولوجية بفعل روابطهما التشريحية عبر الأعصاب وعن طريق الغدد الصم .. انه الإحساس وحسب ، هكذا القلب عند الناس شاع وعُرف ، ولأن الأدب في جميع مجالاته هو واحد من عوامل إثارة الأحاسيس في الدعوة الى الحب والسلام، فإنه بحكم مهمته هذه يحوم في أجواء القلب بمفرداته وصوره ، ليحتل مكانا في مخادع ذلك المستودع الصغير الحجم ،الكبير المهام .. سواء أكان قلب فيلسوف أم قلب مهندس أم قلب فيزيائي ام قلب طبيب ام غير ذلك في أجواء العلم، وإذا كان في كل قلب من هذه القلوب نصيب او نسبة ما من تفاعل تلك الومضات الأدبية ، فما مدى ذلك التفاعل مع قلب الطبيب..؟
ان من طبيعة الأدب هو البحث عن مستلزمات النهوض بالإنسانية ، بغية أن يستكمل بها مهامه على أفضل وجه ممكن ، ولما وجد في قلب الطبيب نبضا فاعلا وهدفا مشتركا لإسعاد البشرية فقد دخله بلا استئذان ، فتفاعل مع علمياته حتى أصبحت مُدافة مع الخيال الخصب الموصل الى خدمة الحقيقة ، لأن رسالة الأديب الى الإنسانية هي رسالة منمقة قد صاغها في قالب جميل .. فهو لايكتب او يقول رسالته في أي أسلوب إلا بعد أن يختار أفضل ما في اللغة من كلمات ومضامين الى الإنسانية لتجد فيه جميع الأجيال ما يخاطب وجدانها ويشبع حاجة من حاجاتها النفسية والعقلية، فالأديب الذي قرأ كتب الفلسفة مثلا ، يستخدم المصطلحات الفلسفية فيما يسوقه من أدب ، وكذلك الحال بالنسبة للأديب الطبيب او الأديب الذي يصطبغ أدبه بالعلوم الفيزاوية او الكيميائية او غير ذلك من سائر العلوم.. ولايختلف اثنان في ان كل عالم يستأنس بالأدب سواء أكان ذلك مصادفة ام اختيارا ، لان الأدب ملاذ الوجدان وأنيس الولهان ، ولكن لماذا كانت وما زالت صحبة الأدب للطبيب صحبة دائمة بتواصلها وتؤكد وجودها نظريا وعمليا..؟
إن من طبيعة ومن صميم مهنة الطبيب هو الاتصال الدائم بالأجسام والأمزجة ، بينما يتصل عالم الفيزياء بحكم معلوماته مع ظواهر الكون ، والمهندس مع المساحات والآلات ، وفي ضوء ذلك وغيره من الأمثلة ، يمكن ان نقول ان رفقة الأدب الذي يمثل المشاعر والأحاسيس ، مع الطبيب الذي يمثل الحفاظ على سلامة تلك الانفعالات ، لتؤدي دورها الإنساني في الحياة ، هي رفقة دائمة دوام الحياة ودوام نبضات القلب وايعازات الدماغ،وقد عززت البحوث والتجارب التي قام ويقوم بها الطب النفسي في مجال العقل والأمزجة ان الطب رديف الأدب في توجهه الإنساني الهادف الى تقديم ما هو أمتع وأجمل واسلم من اجل حياة ترفل بالسرور وعزة النفس وبمجتمع واع يعرف أفراده أصول التعامل ، ولما كان أسلوب الطبيب يعتمد على تعامل خاص مع المريض ، بهدف إبعاد الأوهام والوساوس ، بسبب ما أوجده المرض ، فإن رسالة الأديب هي تهذيب النفس ومنحها أجواء رفيعة المستوى ترفدها الوجدانيات لتخلق من الصياغة التعبيرية مضمونا شافيا ومؤنسا للنفوس.
لقد أراد الأدب من الطبيب أن يقف عند علة المرض ، بغية نقل المريض من التعاسة الى السعادة ، ليصبح لديه استعداد نفسي هادئ لاستقبال انفتاحات النص الأدبي وما فيه من استكمال بهجة الحياة وسرورها والتي هي في الوقت نفسه انسجام الأفراد الموصل في نهاية المطاف الى أجواء من التعامل الإنساني الواعي المؤهل للإسهام في بناء صرح الحضارة ومعالم الرقي والازدهار.
لقد أحس الطبيب الأريب ان مهمته لاتقف عند تشخيص خلل في الكبد مثلا ، بل راح بفضل التفاف عناصر الأدب حول مدارات أفكاره يبحث عن الدوافع ، وهذا ماجعله يروّض لسانه وقلمه ،ليصوغ عبارات أدبية مطعمة بمصطلحات علمية تسهم في تقديم صورة مؤثرة الى المريض تنقله الى حالة نفسية أفضل، وقد أشار ابو بكر الرازي الى ذلك بقوله :
(يجب على الطبيب ان يوهم المريض أبدا بالصحة ويرجيه بها ، لأن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس ..)
ومن المعاصرين يقول الدكتور محمد الخليلي صاحب كتاب معجم أدباء الأطباء( إن كلا من الأديب والطبيب يعتمد على الحدس والمنطق) ومن حديث للدكتورة نوال السعداوي الباحثة الروائية المصرية تقول(ان الأدب والقصة والرواية هي تشريح نفسي للناس والمجتمع )
ومن تحصيل حاصل الممارسة العملية لمهنة الطب التي ترافقها المشاعر الإنسانية يقول الطبيب جورج دوهاميل الأديب الفرنسي الشهير:
( في مطلع هذا القرن تعرفت على هنري زميلا يدرس الطب والجراحة مثلي ، وأدركنا ان معرفة الإنسان وطبيعة البشر أمثالنا لاتتم بالعمل على سرير المرض والألم ، بل نعايشهم ونراهم في حياتهم يعانون الحب والغيرة والصداقة والطموح ، وبذلك اشتركنا في مشاطرة الناس آلامهم ، وعرفنا ان من واجبنا الكتابة عن الإنسان للإنسان..)
اما تراثنا فقد زودنا بضخ متواصل من نتاجات الشعراء والكتاب ، التي تؤكد صلة الانفعالات وأثرها في نتائج السلوك وصحة البدن .
وتقدمت العلوم لتؤكد ان تلك الاستنتاجات لم تكن حصيلة علوم نظرية او مشاهدة أحداث وحسب، بل هي حصيلة متابعة علمية لكيفية تأثير تلك الانفعالات في الجسم ، فمما قدمه المختصون بعلم النفس والطب النفسي :
( ان المشاعر الايجابية السارة تصحبها تبدلات جسمية ملحوظة ، كقلة الإدرار وتناقص كمية الفوسفات وكلوريد الصوديوم في الجسم ، والمشاعر الايجابية هذه تؤدي عند استمرارها الى السمنة وتنشيط الدماغ والى زيادة طافة الجسم على بذل الجهد المطلوب ،ويحصل العكس في حالة المشاعر السلبية ، اذ يفقد الذهن نشاطه ويتعرض الجسم الى الهزال ويفقد المرء ثقته بنفسه وتطغى عليه حالة القلق والتخاذل كما تزداد كمية الإدرار وتزداد كمية كلوريد الصوديوم والفوسفات في الدم ويفقد الدماغ قدرته على مواصلة العمل ويتشتت الانتباه ..)
وفي ضوء ذلك وغيره تأمل الطبيب الأريب فلم يجد ما يعزز رسالته الهادفة الى النهوض والرقي بالإنسان صوب السعادة إلا في الأدب ، فتقارب معه بلا نسب وتآلف مع مضامينه الخيّرة بلا شرط او قيد.
فهنيئا للعلم بالأدب وهنيئا للأدب بالعلم .