في الذكرى السادسة والستين للنكبة الفلسطينية
قراءة في ذاكرة القضية الفلسطينية
د. لطفي زغلول
www.lutfi-zaghlul.com

يحيي الشعب الفلسطيني في الخامس عشر من شهر أيار/مايو في الوطن والشتات الذكرى السادسة والستين لنكبته، عام 1948 يوم أن هجّر من وطنه الشرعي إلى منافي الشتات.
بداية، السياسة في الوطن الفلسطيني المحتل ذات شجون وأشجان. أما أنها ذات شجون، فإن شجونها كثيرة كثيرة. أما أشجانها فهي لا تعد ولا تحصى. شجونها تدور في أفلاك الدولة الفلسطينية من منظور فلسطيني. عدم اعتراف إسرائيل بحق العودة. الأسرى الفلسطينيون في سجون الإحتلال الإسرائيلي. تكريس الإستيطان بشكل عام قائم على مصادرة الأراضي الفلسطينية. جدار الفصل العنصري الذي قارب على الإنتهاء. الإنتهاكات المستدامة للمقدسات الإسلامية وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك.
ما يسمى البؤر الإستيطانية العشوائية. الحواجز الأمنية الإسرائيلة التي تحاصر التجمعات السكنية الفلسطينية. الإجتياحات العسكرية الليلية والنهارية المستدامة. تعنت الحكومة الإسرائيلة برفضها تجميد الإستيطان. تهويد القدس والمخاطر التي تتهدد المسجد الأقصى المبارك. الضغوطات الأميركية غير الجادة على إسرائيل. وأخيرا وليس آخرا رفض الحكومة الإسرائيلية الإعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة كاملة عاصمتها القدس.
ولنبدأ بها واحدا واحدا.الدولة الفلسطينية من منظور فلسطيني تشكل الحد الأدنى لمطالب الشعب الفلسطيني. إنها دولة حدودها الرابع من حزيران / يونيو 1967. إنها دولة مستقلة ذات سيادة كاملة على أراضيها ومعابرها، وأجوائها، ومياهها، وكل ثرواتها المعدنية الأخرى الظاهرة منها أو الباطنة، طاهرة مطهرة من كل أشكال الإستيطان، عاصمتها القدس الشريف. وهذا حق للشعب الفلسطيني، يشكل الحد الأدنى من مستحقات القضية، لا منة من أحد.
حق العودة حق مقدس للشعب الفلسطيني الذي ما زال يرزح في مخيمات الشتات . لقد هُجّر الفلسطينيون من أراضيهم، وأبعدوا قسرا عن ممتلكاتهم ومدنهم وقراهم، منذ العام 1948، أي عام النكبة التي يحاول الإسرائيليون أن يطمسوا ذكرها. لقد كفلت الأمم المتحدة ممثلة الشرعية الدولية عبر قرارها الصادر عنها رقم 194 هذا الحق للفلسطينيين الذين يصرون على تطبيقه مهما تقادم الزمن عليه، في حين أن الحكومات الإسرائيلة أيا كان لون طيفها السياسي تتجاهله وتصر على رفضه وعدم الإعتراف به.
ويتساءل الفلسطينيون في الوطن والشتات: عن أي سلام يجري الحديث عنه، وهنالك ما ينوف عن آلاف الأسرى في سجون ومعتقلات الإحتلال الإسرائيلي؟. وما هو المبرر القانوني والأخلاقي لاستبقائهم خلف قضبان هذه السجون والمعتقلات؟. أما الإدعاء بأنهم ارتكبوا جرائم ضد الحق العام، وأن أيدي بعضهم ملطخة بالدم فهو لاغ وباطل لا أساس له من المصداقية. إنهم أسرى حرية الشعب الفلسطيني، وهم أحد أهم همومه وأشجانه، ولا يتصورون أي سلام بدون تحريرهم.
فيما يخص الإستيطان الإسرائيلي، فقد دأبت الحكومات الإسرائيلية أيا كان لون طيفها السياسي، منذ أن وطئت أقدام الإحتلال الإسرائيلي ما تبقى من الوطن الفلسطيني على إقامة المستوطنات في خيرة الأراضي الفلسطينية التي صادرتها علانية من أصحابها الشرعيين.
إن أهم هذه المستوطنات ما أقيم على التلال الفلسطينية. ولإسرائيل أهداف وغايات استراتيجية، أهمها الإشراف على القرى والبلدات الفلسطينية ومحاصرتها. واليوم وبعد ستة وأربعين عاما على الإحتلال الإسرائيلي، هناك ما ينوف عن مئات المستوطنات، باستثناء ما تسميه إسرائيل مستوطنات عشوائية تجاوز تعدادها المائة بؤرة استيطانية.
فيما يخص ما تسميه إسرائيل بؤرا إستيطانية عشوائية ، فلإسرائيل غايات وأهداف تتمثل في إيهام العالم أنها غير شرعية، وأنها تعمل على تفكيكها. وحقيقة الأمر أن الفلسطينيين يعتبرون كافة أشكال الإستيطان غير شرعية ولا قانونية، ولا يفرقون بين عشوائية وغير عشوائية، ويطالبون بتفكيكها، كونها قد أقيمت على أراض فلسطينية مصادرة ومغتصبة.
في هذه الأيام تتردد نداءات دولية بضرورة تجميد الإستيطان. وبرغم كل النداءات الدولية الجادة وغير الجادة، فإن الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الحالية متعنتة برفضها هذه النداءات، ومصرة على الإستمرار والمضي في مشروعاتها الإستيطانية. وحقيقة الأمر إن الموضوع لا ينتهي بتجميد الإستيطان، وإنما بتطهير الوطن الفلسطيني من أدرانه كلية. وتتردد هذه الأيام أفكار مؤداها تجميد الإستيطان مقابل التطبيع العربي مع إسرائيل. وكأن القضية الفلسطينية تنتهي عند هذا الحد من الهراء السياسي. فعن أي تطبيع يجري الحديث للإلتفاف على حقوق الشعب الفلسطيني؟.
أما جدار الفصل العنصري ، فهو أولا وآخرا إستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية، ومحاصرة عشرات البلدات والقرى الفلسطينية داخله، وعدم السماح لسكانها بالدخول إليها أو مغادرتها إلا بتصاريح. ونحن هنا لا نريد إلا أن نذكر بعدم شرعية هذا الجدار الذي صدر بحقه قرار بعدم شرعيته من محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة في لاهاي.
إن الحديث عن الحواجز الأمنية العسكرية له أشجانه. فقد شكلت بكافة أشكالها التي أقامها الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في حزيران/ يونيو من العام 1967، أحد أخطر أسلحة هذا الإحتلال، وأشدها شراسة وفتكا، أشهرها في وجوه الفلسطينيين على مدار الساعة واليوم والشهر والعام، مستهدفا النيل من روحهم المعنوية، غير عابىء بكل إفرازاتها الكارثية عليهم، جاعلا منها رمزا لوجوده العسكري الإحتلالي، وفارضا إياها بقوة السلاح كعقوبة جماعية مستدامة.
أما أهم أشكال هذه الحواجز فهي:
1- الحواجز المتحركة " الطيارة "، وليس لها مكان ثابت، أو زمن محدد.
2- الحواجز الثابتة، وتكون في العادة على مداخل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية.
3- السواتر الترابية، وتكون في العادة على مداخل القرى الفلسطينية.
4- البوابات الحديدية، والبلوكات الإسمنتية، وتكون في العادة داخل المدن ، وبين أحيائها ، او تلك المقامة على جدار الفصل.
5- الحدود والمعابر ونقاط التفتيش الأخرى، سواء تلك الدولية، أو الفاصلة مع مناطق الخط الأخضر.
6- الجدار الفاصل، وهو أخطرها على الإطلاق كون طوله سيبلغ عند إنهاء بنائه ما يزيد عن سبعمائة كم.
لقد كانت هذه الحواجز وما زالت سببا رئيسا من أسباب إيقاع كافة أشكال الأذى والمكروه والشر والضرر على الفلسطينيين، وعلى كافة الصعد الجيوسياسية والإقتصادية والتجارية والإجتماعية والتعليمية والثقافية والصحية والنفسية. وكانت أيضا سببا رئيسا في تدهور أوضاعهم الإنسانية، ذلك أنها جعلت من كل التجمعات السكانية الفلسطينية كانتونات معزولة عن بعضها، أو بصحيح العبارة معتقلات "جيتوهات" محاصرة مغلقة ومطوقة.
لا تمحي من ذاكرة الفلسطينيين صورة الإجتياحات العسكرية الإسرائيلية سواء تلك التي تكون في النهار، وغالبا ما تكون في الليل. وفي حقيقة الأمر ليس هناك وقت معين لها، إن الوطن الفسطيني بمدنه وبلداته وقراه ومخيماته مستباح من قبل جيش الإحتلال. وكما هو المعتاد تسفر هذه الإجتياحات والإقتحامات والمداهمات عن مزيد من الشهداء والإعتقالات وهدم المنازل بعد تفجيرها.
ولا ينسى الفلسطينيون كيف كانوا يحشرون بالعشرات في منزل واحد، ولا كيف كانوا يؤمرون للنزول إلى الشوارع هم وأطفالهم في البرد والمطر، ولا كيف كان أبناؤهم يساقون تحت أنظارهم وهم معصوبو العيون، مقيدو الأيدي، ولا كيف كان هؤلاء المساكين يضربون بقسوة وبلا رحمة.
لقد ظلت القدس بالنسبة للفلسطينيين قضية ذات أبعاد متعددة. فإلى جانب كونها عاصمة سياسية لدولتهم الفلسطينية العتيدة التي يصرون أن تتبوأ مكانها على خارطة العالم السياسية، فهي قبل هذا وذاك عاصمتهم وعاصمة أشقائهم الروحية في العروبة والإسلام. وحسبها أنها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول الأعظم محمد صلّى الله عليه وسلم ومنها عرج إلى السماء.
لقد تمادت السياسات الاسرائيلية كثيرا فيما يخص اغتصاب القدس، وغذت الخطى في وتيرة تهويدها، كون هذا الفعل الإسرائيلي لا يلقى أدنى رد فعل عليه من قبل الأنظمة العربية والإسلامية، لقد أصبحت قضية القدس لا تحتل أدنى مساحة من أجنداتها السياسية أو غير السياسية، الأمر الذي أضاء ضوءا أخضر مستداما للحكومات الإسرائيلية أيا كان لون طيفها السياسي على مدى ستة وأربعين عاما كي تعمل براحتها على تنفيذ كل مخططات تهويد القدس، وانتزاعها شبرا شبرا من أيدي اصحابها الشرعيين، والقيام بتهويدها جغرافيا وديموغرافيا، ولتصبح إسرائيل قيّمة على مقدساتها التي يفترض أنها وقف لكل المسلمين.
ان قضية القدس والمقدسات الإسلامية تتجاوز كل تراكمات التقصيرات العربية والإسلامية بحقها، ولا تغيبها من الذاكرة أو تعتم عليها فهي تشكل مساحة شاسعة من التاريخ والتراث والعقيدة. والفلسطينيون وهم جزء لا يتجزأ من الأمتين العربية والإسلامية قد نذروا أنفسهم حراسا وأمناء عليها وعلى مقدساتها. ونضالاتهم على شرفها واجب وشرف لهم وبمثابة رسالة دائمة إلى العرب والمسلمين، وتذكير وهم على ثقة بأن الذكرى تنفع المؤمنين. وتظل القدس بركانا قد يبدو أنه خامد في أحاسيس أصحابها الشرعيين أينما كانوا، لكن احتمالات ثورته قائمة على الدوام وليس لها وقت معين.
أما الحديث عن الأقصى المبارك فها هم الفلسطينيون هذه الأيام يصرخون ويتصدون مرة أخرى. وها هي الحفريات جارية على قدم وساق غير آبهة باحتجاجات الفلسطينيين الذين يستقرئون نذر المخاطر جراءها. إنها استخفاف واستهانة بمشاعر المسلمين في كافة أرجاء العالم، والأقصى جزء لا يتجزأ من عقيدتهم وتاريخهم المجيد. لقد قصرت الأنظمة العربية والإسلامية تقصيرا فاضحا بحق الأقصى، وكأنه لا يعنيها.
إنها النوايا المبيتة للمسجد الأقصى تحديدا، سواء من تحت أساساته، حيث الأنفاق المتعددة الإتجاهات والأهداف، أو سواء من حيث ما يحيط به.
ولا تقف هذه الاجراءات العدوانية بحق الأقصى عند هذه الحدود، فإن ما يسمى " أمناء الهيكل " ما زالوا يقفون للأقصى المبارك بالمرصاد، يتربصون به، ويتحينون الفرص للإنقضاض عليه، بغية هدمه وإقامة " الهيكل " المزعوم عليه، وهم الذين قد جهزوا ما أطلقوا عليه حجر الأساس، والذين طالما طافوا به في مدينة القدس تحديا وتهديدا وتوعدا وترهيبا.
منذ أن كان حريق الأقصى المبارك، لم تتوقف الإعتداءات عليه. فها هي الأنفاق تحفر في أساساته. وها هم المتطرفون اليهود يطالبون باقتسام الأقصى بين المسلمين وبين اليهود. وها هم يوجهون سهام أطماعهم إلى المصلى المرواني. وها هم يقتحمون باحات الأقصى تحت حماية جنود الإحتلال للصلاة فيها.
إنه مسلسل من التحديات لا ينتهي، يستهدف الأقصى المبارك. إلا أن الأخطر من هذا كله تغاضي الأنظمة العربية والإسلامية عما يجري للأقصى، الأمر الذي أعطى ضوءا أخضرلمزيد من التحديات التي تنصب عليه وعلى بقية المقدسات الإسلامية الأخرى.
وما زلنا في شجون القضية الفلسطينية. ففي خطابه الأخير في جامعة بار إيلان في مدينة بير السبع ، تحدث بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلة اليمينية المتطرفة عن قضايا كثيرة تهم المصالح الإسرائيلية . وفي حديثه هذا تجاهل كثيرا من القضايا التي تهم الشعب الفلسطيني، ويعلق عليها آمالا عريضة في استعادة حقوقه.
تجاهل فيما تجاهل حق العودة لأولئك الذين يقبعون في مخيمات الشتات، والذين أجبروا قسرا وإكراها على ترك أراضيهم ومدنهم وقراهم عام 1948، عام النكبة. تجاهل قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف، ومن باب ذر الرماد في العيون اشترط لقيامها، إذا كان لا بد أن تقوم، أن تكون منزوعة السلاح، وأن تكون أجواؤها ومعابرها الحدودية البرية والمائية ضمن السيطرة الإسرائيلية. وكذلك الحال بالنسبة لمصادرها المائية والمعدنية الأخرى.
وطمأن الإسرائيليين أن القدس سوف تبقى موحدة، وعاصمة أبدية لإسرائيل. وأن المستوطنات سوف تبقى فيما أسماها يهودا والسامرة. وفي طرحه هذا تجاهل الشعب الفلسطيني وما له من استحقاقات لا تسقط وإن تقادم الزمن عليها. هذا الشعب الذي بدونه وبدون استعادة حقوقه لن يكون هناك أي سلام.
وأخيرا لا آخرا يتبقى اثنان من شجون القضية الفلسطينية. الأول يخص العلاقات الأميركية الإسرائيلية. إذ يخطىء من يظن أن عهد الرئيس الحالي باراك أوباما يختلف عن عهد سابقه جورج دبليو بوش. إلا أن لكل واحد منهما أسلوبه في التعبير عن علاقته بإسرائيل. ويقينا إن ما يسمى بالضغوطات على إسرائيل فيما يخص الإستيطان وحل الدولتين واستحقاقات خارطة الطريق هي في حقيقتها غير جادة، ولعب في الوقت الضائع.
أما ثاني هذه الشجون فهو يخص الأنظمة العربية التي كانت القضية الفلسطينية تتبوأ سلم الأولوية في أجنداتها السياسية. إلا أنها ومع الأيام لم تعد كذلك، وقلبت هذه الأنظمة لها ظهر المجن، وتحولت إلى قضية شؤون إجتماعية وإنسانية.
لقد صمت الصوت العربي عن تهويد القدس، والمكائد التي تحاك ضد المسجد الأقصى المبارك، والإستيطان الذي افترس الوطن الفلسطيني، وترك الفلسطينيون يواجهون آلات البطش العسكرية ليلا نهارا، وعلى مدى ستة وأربعين عاما، ومن قبلها أعوام النكبة التسعة عشر.
هذه هي شجون القضية الفلسطينية، أو لنقل هي جزء منها. أما أشجانها ومآسيها وآلامها وأحزانها فكثيرة لا تعد ولا تحصى. إن الوطن الفلسطيني محتل محاصر مستباح، ولا تلوح في آفاقه أية بادرة لأية حلول سياسية تعيد له حقوقه المشروعة. إنه ما زال في مرافىء التيه والسراب. لعل غدا آخر يلوح في أفقه، ولعل شمسا أخرى تشرق على أيامه.
أما الشعب الفلسطيني الذي يحيي الذكرى السنوية السادسة والستين لنكبته، فهو صابر لا تلين له قناة ولا تهون له إرادة. إنه مصر على استرجاع كامل حقوقه في وطنه، وأولها إنهاء هذا الإحتلال الغاشم، ومنظومة الحقوق الأخرى. وإن غدا لناظره قريب.