1-2-3 (123)!.. بقلم/ محمود سلامة الهايشة


كان أدهمُ جالسًا أمامَ التلفاز يُشاهد فيلمًا كرتونيًّا، لم يكُن في المنزل أحدٌ من أفراد الأُسرة سواه وأمه.
فجاءتْ أمُّه من المطبخ؛ لتطلَّ عليه، وقدَّمتْ له طبقًا ممتلئًا عن آخره (فيشارًا) - الذي يحبُّه أدهمُ كثيرًا - فوضعتْه أمامَه، فنظر لأمِّه وهو يبتسم نظرةَ رِضًا وسعادة، وبدأ يأكُل هذا (الفيشار) اللذيذ.
وتركتْه أمُّه ورجعتْ إلى المطبخ؛ لكي تكملَ تجهيزَ الغَداء لإخوةِ أدهم الموجودين في مدارسهم، ولوالده الموجود في عمله.
وظلَّ أدهم يشاهِد الكرتون المحبَّب إليه، وصوت التلفاز مرتَفِع، وعينه وأذنه على التِّلفاز، ويده تُمسِك بـ(الفيشار) وتضعه في فمِه، وفجأةً سمِع أدهم صوتًا مرتفعًا جدًّا لسقوط أطباق يأتي مِن ناحية حُجرة المطبخ، حيث توجد أمُّه، فقام من مكانه وجرَى مسرعًا لدرجة أنه ضرَب طبق (الفيشار) برجله فانقلبَ على الأرض، فدخَل المطبخ فوجَد بعضَ الأطباق والملاعِق تملأ أرضيةَ المطبخ، وأمُّه ملقاةٌ وسْطَها على الأرْض!!
فوقَف يبكي ويصرُخ، واقترب مِن أمِّه، يتكلَّم معها ولكنَّها لا تنطق، ورأى الدم ينزِفُ من رأسها التي جُرِحت، فقد فقدتْ أمُّه الوعيَ تمامًا.
رجَع الأبُ من عمله والأبناء مِن مدارسهم، فوجدوا بابَ الشقة مكسورًا ومشدودًا فقط، فدخلوا مفزوعين يبحثون عن أدهم وأمِّه، ولكنَّهم لم يجدوا أحدًا منهما داخل الشقة، ففَزِعوا بشدَّة، وازداد قلقهم عندما دخلُوا المطبخ فوجدُوا فيه فوْضَى عارمة، أطباق متكسِّرة، ووسْطَها آثارٌ للدِّماء!!
فخرَج الأب من الشقَّة يسأل الجيران في الشُّقق المجاورة عن زوجته وابنه أدهم، ولكن للأسف كانتْ إجابتهم: لا نعرف أين ذهبوا! فجميعهم كانوا في أشغالِهم، وأولادهم كانوا في مدارسِهم وجامعاتهم.
وَقَف الأب وأبناؤه في حَيْرة بالِغة يُفكِّرون، فنصَحَه أحدُ الجيران بأن يسأل حارسَ العمارة (بوَّاب العمارة) عنهما، فمِن الجائز أن يعرف أين ذهبَا.
فاستقلُّوا المِصعدَ وباقي الجيران نزَلوا على السُّلَّم مسرعين إلى حُجرة الحارس، مطرِقين عليه بابَه المغلَق، والأولاد تُنادي باسمه، ولكنَّه لم يردَّ عليهم، فبالتأكيد هو بالخارج، فأخْرج الأب هاتفَه الجوَّال، واتصل على رقْم الحارس، فردَّ عليه بعد فترة، فقال له الأبُ: أين أنت يا رجل؟! ألم ترَ زوجتي وابني أدهمَ اليوم؟!
الحارس: أنا معهما الآن يا أستاذ، نحْن في المستشفى، ومعي ابنُك أدهم، زوجتك تعِبَتْ ونُقِلت للمستشفى، وهي الآن ما زالتْ داخلَ غرفة العمليات، تُجري عملية الزائدة الدودية!!
أخَذ الأبُ نفَسًا عميقًا، وحمِد الله، ثم سأله: في أيِّ مستشفى؟ فأخبره الحارسُ عن اسمِ المستشفى؛ فركِب الأبُ سيَّارته، وبرفقته أولاده، وركِب الجيران سياراتهم، وانطلقوا جميعًا إلى المستشفى.
دخلوا المستشفى، فوجدوا الحارسَ جالسًا في صالة الاستقبال، ويجلس أدهم بجواره، وفي يدِه كيس بطاطس يأكُل منه، اشتراه له الحارس؛ لأنَّه جوعان، لم يأكلْ شيئًا منذ الصباح سوى بعضِ (الفشار) الذي لم يكن أكَلَه كلَّه.
فسأل الأبُ الحارس: أين زوجتي الآن؟ وقبل أن يتكلَّم الحارس، أخبرتْه إحدى الممرِّضات بأنَّها أجرَتْ عملية إزالة الزائدة الدودية، التي كانتْ على وشكِ الانفجار، وقد خرجت منذ دقائقَ من غُرْفة العمليات إلى غُرفة العناية المركزيَّة، حتى تُفيقَ من آثار المُخدِّر (البِنج)، ولن تراها إلا بعدَ ساعتين من الآن، ويمكنك الآن الانتظار في هذه الصالة، حتى تُنقلَ إلى غرفة أخرى.
فذهب الأبُ للاستعلامات؛ لكي يعرفَ مَن الذي أتى بزوجته للمستشفى، حيث إنَّ الحارس أخبره بأنَّه فُوجِئ بسيَّارة الإسعاف، وطلَب منه المسعِفون فتْح باب الشقة، حيث سمعِوا صوت بكاء وصُراخ أدهم خلْفَ الباب، ولأنَّه ما زال في الثالثة من عُمُره، فلم يستطيعْ فتح الباب، فطلَب الحارس منه أن يبتعدَ عن الباب؛ حتى يقوموا بكسْر الباب.
وبالفعل تمَّ "فسخ" الباب، فدخل المسعِفون، فوجدوا الأم ملقاةً على ظهرها في أرضية المطبخ، والدم يُحيط بها، فحملوها على النقَّالة بعد أن تأكَّدوا أنَّها ما زالتْ على قيْد الحياة.
أخَذ الحارس أدهمَ، وسحب باب الشقَّة "المفسوخ" دون أن يُغلِقَه بشكلٍ كامل.
فاندهش الأبُ جدًّا، فمَن إذًا اتصل بالإسعاف؟! فتوجَّه لموظَّف الاستقبال: هل زوجتي هي التي اتَّصلت بكم حتى تُرسِلوا سيارةَ الإسعاف؟!
فأجابه: لا، لا، الذي اتَّصل بنا هو طفلٌ صغير جدًّا، كان يبكي بكاءً شديدًا، ولم يُفهَم من كلامه شيءٌ سوى كلمات بسيطة كـ ماما، دم، مطبخ.
ففَهِمْنا أنَّ هناك مريضًا ولا يستطيع الكلام في الهاتف، فقام هذا الطِّفل بالحديث بدلاً عنه، وبالتأكيد هو ابنُك أدهم طالَمَا كان مع أمِّه في الشقة، ولكنَّ المسعفين عندما وصلوا وجدوا زوجتَك في حالة إغْماء كامل، وبالتأكيد لم تتحرَّك مِن مكانها منذ أن سقطتْ على الأرْض!!
فقال الأب: وكيف عرفتَ عُنوانَ الشقَّة؟!
فابتسم الموظَّف، وقال: يا أستاذُ، عن طريق إظْهار رقْم الطالب، فمِن خلال رقْم هاتِف شقَّتك عرفْنا العنوان بشكل دقيق، فالحمدُ لله أنَّ الاتصال جاء من هاتف أرْضي، وليس من هاتف جوَّال؛ حتى نتمكَّنَ من معرفة العُنوان.
مرَّت عِدَّةُ ساعات.
أفاقتِ الأمُّ من تأثير المُخدِّر، وبدأتْ تستوعب كلَّ ما يحدُث حولها، وتكلَّمت وعرَفت كلَّ ما حدَث لها، ولكنَّها لم تتذكر شيئًا منذ أن كانتْ تطبخ في المطبخ، وفجأة لم تشعرْ بشيء، فسألها زوجُها: مَن الذي اتصل بالمستشفى؟!
فسكتَتْ، وقالت: هل اتَّصل أحدٌ بالمستشفى؟! بالتأكيد هو أدهَم.
فابتسمتْ، وطلبَتْ أن ترَى أدهمَ، فأحضروه لها؛ فسألَهَا الطبيبُ الذي أجْرى لها العملية الجِراحية: كيف عرَف أدهمُ وهو في هذه السِّنِّ الصغيرة رقْمَ الإسعاف حتى يتَّصل به؟!
فنظرتِ الأم لأدهم، وقالت: يا أدْهَم، هل تعرِف رقْم المستشفى؟
فسَكَت أدْهم للحظة، وقال: المستشفي 1 - 2 - 3 (واحد - اثنين - ثلاثة).

فقالت الأم: أنا دائمًا كنت أُحفِّظه رقْمَ المستشفى.
1 - 2 - 3؛ أي: (123) رقْم الإسعاف!!

---------------
بقلم:
#محمود_سلامة_الهايشة
elhaisha@gmail.com