آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الفردوس الأندلسى المفقود ومأساة المورسكيين

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي الفردوس الأندلسى المفقود ومأساة المورسكيين


    الفردوس الأندلسى المفقود

    ومأساة المورسكيين

    د. إبراهيم عوض


    الأندلس وحضارتها موضوع يستهوى الأقلام ويحظى بأكبر قدر من التعاطف من قِبَل كثير ممن يكتبون فيه، وبعضهم من غير الغربيين أنفسهم. وكثيرا ما يشير إليه الكتاب العرب بعبارة "الفردوس الإسلامى المفقود". والحق أن الأندلس والإنجاز الحضارى للمسلمين فى ذلك القطر جدير بهذا الإعجاب وما فوق هذا الإعجاب. ومن الذين كتبوا فى ذلك الموضوع وأبْدَوْا انبهارا بذلك الإنجاز المستشرق البريطانى ستانلى لين بول، الذى وضع كتابا عن حضارة الإسلام فى الأندلس سماه: "The Story of the Moors in Spain"، وترجمه الشاعر على الجارم إلى لغة القرآن بعنوان "قصة العرب فى إسبانيا". وقد أشاد الجارم، فى مقدمته لتلك الترجمة، بروح الإنصاف التى يتصف بها ذلك المستشرق فى كلامه عن حكم المسلمين لشبه الجزيرة الأيبيرية. وها هى ذى بعض السطور التى تصور هذا الإنصاف وترينا كيف كان حكم أجدادنا لتلك البلاد، وكيف استطاعوا أن يجعلوا منها جنة من جنان المولى سبحانه فى أرضه، وهو ما يبعث على الألم والأسف والندم حين ينظر الإنسان حوله ويقارن بين وضعنا الحالى المزرى رغم كثرة الإمكانات التى أفاضها الله علينا، ذلك الوضع الذى يجعلنا فى مؤخرة الأمم فى الفاعلية والإبداع والعزة والكرامة، وبين أولئك الأجداد الذين خرجوا من جزيرتهم وهم يفتقرون إلى كل شىء من أدوات الحضارة ونظمها وأوضاعها، اللهم إلا شيئا واحدا فيه كل شىء لمن عنده قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ألا وهو القرآن:

    "ملك المسلمون ثلثى شبه الجزيرة وسمَّوْها بــ"الأندلس"، وأنشأوا بها مملكة قرطبة العظيمة، التى كانت أعجوبة العصور الوسطى، والتى حملت وحدها فى الغرب شعلة الثقافة والمدنية مؤتلقة وهّاجة وقت أن كانت أوربا غارقة فى الجهالة البربرية فريسة للشقاق والحروب. ويجب ألا يجول ببال أحد أن العرب عاثوا فى البلاد أو خرّبوها بصنوف الإرهاق والظلم كما فعل قطعان المتوحشين قبلهم، فإن الأندلس لم تُحْكَم فى عهد من عهودها بسماحة وحكمة كما حُكِمَتْ فى عهد العرب الفاتحين. من أين جاء لهؤلاء العرب كل هذه المواهب السامية فى الإدارة والحكم؟ فقد جاؤوا مباشرة من صحرائهم العربية، ولم تترك لهم فتوحهم المتوالية من الزمن إلا قليلا لدراسة فنون سياسة الأمم المغلوبة. نعم إن بعض رجال دولتهم كانوا من اليونان والإسبان، ولكن هذا لا يبطل العجب لأن هؤلاء لو تُرِكوا وحدهم أو عملوا فى ميدان آخر بعيد عن العرب لعجزوا عن أن يكون لهم أمثال هذه النتائج الباهرة. وكل ما هُيِّئَ للعقول الإسبانية من القدرة الإدارية لم يكف لجعل الحياة أيام دولة القوط محتملة هانئة كما يمكن أن يرضى ويهنأ شعب مغلوب يحكمه غاصب، بل إنها كانت أسعد حالا وأرخى بالا مما كانت عليه حين كان حكامها القوط يدينون بدينها الذى تراءَوْا باسمه دون حقيقته، فإن اختلاف الدين كان فى الحق أقل المصاعب التى لاقاها العرب فى أول حكمهم، وإن أصبح بعد ذلك مثار عنت واضطراب لأن ميول الإسبانيين للمسيحية كانت لا تقل عن ميولهم للوثنية، فقد فرض عليهم قسطنطين المسيحية فرضا، فبقى الناس متشبثين برومانيتهم ولم يترك الدين فى نفوسهم إلا أثرا ضئيلا، وهم فى الواقع لم يكونوا فى حاجة إلى دين جديد، بل كانوا فى أشد الحاجة إلى القدرة على أن يعيشوا حياتهم فى أمن ورغد. وقد منحهم سادتهم المسلمون هذين"[1].

    هذا ما قاله ستانلى لين بول فى بداية كتابه، وقد كرره مرة ثانية فى نهايته فقال تعقيبا على ما أنزله نصارى الإسبان بالمسلمين من مذابح وتهجير قسرى بعد انتصارهم فى غرناطة آخر معاقل المسلمين بشبه الجزيرة الأيبيرية: "لكن الإسبان لم يدركوا أنهم قتلوا الإوزة التى تبيض بيضة من ذهب فى كل يوم، فقد بقيت إسبانيا قرونا فى حكم العرب[2] وهى مركز المدنية، ومنبع الفنون والعلوم، ومثابة العلماء والطلاب، ومصباح الهداية والنور. ولم تصل أية مملكة فى أوربا إلى ما يقرب منها فى ثقافتها وحضارتها، ولم يبلغ عصرُ فرديناند وإيزابيلا القصيرُ المتلألئُ ولا إمبراطوريةُ شارل الخامس الأوجَ الذى بلغه المسلمون فى الأندلس. وقد بقيت حضارة العرب إلى حين بعد خروجهم من إسبانيا وضاءة لامعة، ولكن ضوءها كان يشبه ضوء القمر، الذى يستعير نوره من الشمس. ثم عقب ذلك كسوف بقيت بعده إسبانيا تتعثر فى الظلام. وإنا لنحس فضل العرب وعظم آثار مجدهم حينما نرى بإسبانيا الأراضى المهجورة القاحلة التى كانت فى أيام المسلمين جناتٍ تجرى من تحتها الأنهار تزدهر بما فيها من الكروم والزيتون وسنابل القمح الذهبية، وحينما نذكر تلك البلاد التى كانت فى عصور العرب تموج بالعلم والعلماء، وحينما نشعر بالركود العام بعد الرفعة والازدهار"[3]. كذلك يقف فيليب حِتِّى المستشرق اللبنانى المتأمرك فى كتابه: "The Arabs- A Short History" عند سقوط الأندلس وقفة خاصة تستثير الآلام الحادة وكأن هذا السقوط قد وقع بالأمس القريب لا قبل مئات السنين.

    والحق أننى كلما قرأت قصة الأندلس وكيف خرج منها الإسلام استولى علىَّ الذهول. لقد تمثلتْ فى هذه القصة كل عيوبنا، التى لم نتخلص منها بعد، فقد تناحر ملوك الطوائف فيما بينهم، وكان معظمهم يضع يده فى يد النصارى ضد إخوانهم المسلمين، وانصرف الحكام والشعوب إلى ملذاتهم مطمئنين لاهين لا يهتمون كثيرا بالخطر المتربص بهم. بل إن البيت الحاكم كثيرا ما انقسم على نفسه فى المرحلة الأخيرة من الوجود الإسلامى هناك، بينما يقف الأعداء فى مواجهتهم كتلة واحدة. كما أن الحكام المسلمين فى المشرق لم يهتموا بما يقع لإخوانهم فى الجنوب الغربى من أوربا، وتركوهم لمصيرهم التعس، ولم يبالوا بنكث حكام إسبانيا النصارى للمعاهدات التى عقدوها مع أولئك المسلمين ولا بالتنصير والتهجير الإجبارى لهم، وكأن ما يحدث لا يحدث لإخوان لهم مسلمين، أو كأنه يحدث فى الفضاء الخارجى بعيدا عن الأسماع والأبصار.

    ليس ذلك فحسب، بل إن المؤرخين والعلماء المسلمين، إلا القليلين جدا منهم وبإيجاز شديد لا يشفى غليلا، لم يتناولوا مأساة المسلمين الذين بَقُوا فى الأندلس بعد انتصار النصارى عليهم والقضاء على دولتهم[4]. ومن ثم اعتمد محمد عبد الله عنان وغيره ممن كتبوا عن تلك المأساة على ما سجله لنا الغربيون، والإسبان بنوع خاص، إلى جانب مخطوط واحد تقريبا تركه لنا أحد الموريسكيين ممن فر من إسبانيا قبيل القضاء النهائى على كل أثر للإسلام فى تلك المبلاد وكتب ما شاهده هناك. وهو أمر مثير للحيرة والغيظ[5]. ومن يقرأ المجلد الأخير من الموسوعة التى ألفها محمد عبد الله عنان عن تاريخ الأندلس يدرك أبعاد الكارثة تمام الإدراك.

    لقدعملت السلطات الإسبانية بعد سقوط غرناطة، التى كانت تمثل الصفحة الأخيرة من كتاب الإسلام فى الأندلس، على محو الإسلام والمسلمين محوا من تلك البلاد، واتخذت لذلك الغرض من الوسائل ما لا يخطر على بال الشيطان ذاته إجراما ووحشية وعنفا وقسوة وترويعا واغتصابا للأموال والممتلكات ومحاصرة وتجويعا وقسرا على تغيير الدين والهوية واللغة والثقافة والملبس والطعام وسحقا للعظام وحرقا لأجساد الأحياء. ومن بين الوسائل التى لجأت إليها السلطات الملكية والكنسية هَدْم الحمامات عنوان النظافة، تلك التى يعدها الإسلام شطرا من الإيمان، وكان شعارهم الذى رفعوه سببا لتدميرها أنها من تراث عصر الكفر[6]. يقصدون أن المسلمين كفار، وأن توحيدهم الخالص من كل شائبةٍ كفرٌ، وأن النظافة شعيرة من شعائر الكفر![7] ذلك أن الأوربيين لم يكونوا فى ذلك الوقت يعرفون للنظافة معنى[8].

    فانظر كيف انقلب الحال، وصارت النظافة قيمة غريبة فى كثير من ديار المسلمين بالمخالفة الصريحة وغير المفهومة ولا المقبولة لأوامر دينهم، التى لا يمكن تأويلها لتتسع لهذا الانحراف، وهو ما سيكون الحساب عليه عسيرا أشد العسر يوم القيامة رغم تصور جموع المسلمين أنه أمر غير ذى بال، وكأن من السهل أن يدخل الجنة ويستمتع بما فيها من نظافة ونظام وجمال وراحة بال وسكينة وسعادة من كانت تصرفاتهم على النقيض من هذه المعانى الحضارية العظيمة! ومن الوسائل التى استخدمتها السلطات النصرانية فى إسبانيا أيضا للقضاء على الإسلام الطرد الجماعى من البلاد على أوسع نطاق. كما أحرقوا المصاحف والكتب بالأكوام فى الميادين العامة بالمدن فى احتفاليات بربرية حاشدة حتى لقد ذكر أقرب من كتب عن ذلك الموضوع من المؤرخين الإسبان أنفسهم أن المصاحف والكتب العربية والإسلامية التى أشعلت فيها النيران تخطت حاجز المليون بعدة آلاف[9]. وهكذا انتهى الإسلام فى الأندلس، ولم يعد هناك مسلمون بعدما كانوا يبلغون الملايين. ومع هذا نرى الدول الأوربية تتهم الإسلام بأنه دين الإرهاب والإقصاء، ويزعمون أنهم هم أصل التسامح والإنسانية وسعة الأفق![10]

    وهنا أحب التنبيه إلى خطإ من يظن أن الأندلسيين الذين اضْطُهِدوا من محاكم التفتيش وعُذِّبوا وقُتِلوا أو نُصِّروا بالقوة الجبرية أو طُرِدوا من البلاد ونُفُوا كانوا كلهم عربا أو كانت أغلبيتهم من العرب. لقد كانت أعداد العرب فى الأندلس بالآلاف[11]، بينما كان تعداد السكان بالملايين، وكان المسلمون يشكلون الأغلبية من هذه الملايين[12]. ولكى تتضح لك الأوضاع أذكر لك أن عدد سكان مملكة غرناطة وحدها فى أواخر حكم المسلمين هناك كان أربعة ملايين[13]. فكم كان عدد السكان فى شبه جزيرة أيبريا كلها؟ وماذا كانت نسبة العرب الأقحاح بينهم؟ وحين سقطت غرناطة فى يد فرناندو وإيزابيلا وصارت إسبانيا كلها تحت إمرتهم وصنعوا بالمسلمين الغرناطيين ما شاؤوا استداروا إلى أهل المدن الأخرى فخيروا من بقى منهم بين التنصر والخروج من البلاد يصحبهم الفقر والإهانة والتضييق والتصعيب، مما أدى إلى أن يقبل معظمهم التنصر. إذن فمعظم من نزل بهم العسف الصليبى إنما كانوا من أهل البلاد الأوربيين لا من العرب الفاتحين. ولم يفت واحدا كالدكتور فيليب حِتِّى أن يبرز هذه الحقيقة التى يجهلها أو يتجاهلها كثير من الناس، ألا وهى أن معظم المورسكيين، أى مسلمى تلك البلاد، هم إسبان لا عرب. ولهذا كان القساوسة الذين يقومون بتنصيرهم يذكّرونهم بأن آباءهم كانوا نصارى، وينبغى من ثم أن يعودوا إلى النصرانية دين الآباء، وإلا فإن محاكم التفتيش تنتظرهم، ويا ويل من تنتظره محاكم التفتيش![14] وقد ذكر أحد المستشرقين الإسبان، وهو الأستاذ خوليان ريبيرا، أن نِصْف المورسكيين على الأقل كانوا إسبانا مسلمين أُكْرِهُوا على التنصر[15]. والواقع أنهم لا بد أن يكونوا أكثر من ذلك طبقا لما شرحته هنا من أن العرب الخُلَّص فى الأندلس كانوا يعدون بالآلاف فقط، على الأقل فى البداية، مع ملاحظة أن كثيرين جدا منهم لم يكونوا عربًا خُلَّصًا من ناحية الدم كما سوف نشرح بعد قليل. وفى الكلمة التى قدم بها المستشرق فارنند برودال لكتاب لوى كاردياك: "الموريسكيون المسلمون والمسيحيون" نجده يقول: "والحقيقة، كما يقر بذلك المتَّهِمون المسيحيون، أن هؤلاء الموريسك، أبناء الإسلام العنيدين، قد انحدروا من أرض إسبانيا نفسها، وأن جذورهم التاريخية ممتدة لتشملهم كفلاحين أو حضريين"[16]. وفى موضع آخر من الكتاب نفسه يقول مؤلفه لوى كاردياك إن المفهوم الحالى لكملة "المورسك: Morisco" قد ظهر سنة 1560م، وإنه يتبنى "التحليل الذى يُعْطَى لمفهوم الموريسكيين، وهُمْ كل المسلمين بإسبانيا الذين بَقُوا فى الجزيرة بعد سنة 1493، واعتنقوا الدين المسيحى الكاثوليكى"[17].

    ومما يؤكد ما أقول أن هناك مورسكيين كثيرين هاجروا إلى أمريكا الجنوبية، التى كانت تسيطر عليها إسبانيا آنذاك. فلو كان كل المورسكيين عربا لكان مورسكيّو أمريكا بالضرورة عربا. ولو كانوا عربا فما الذى يضطرهم أن يبقَوْا هناك تحت حكم الإسبان، الذى نالهم منه قبل ذلك فى إسبانيا من الرعب والشقاء والمهانة والذل والتعاسة والإفقار والعيش على شفا الموت فى كل لحظة ما الله وحده به عليم، ولديهم أرض الله الواسعة فى بلاد أسلافهم العربية، مما لا يحتاج إلى قطع كل تلك المسافات الطويلة فى أهوال المحيط الأطلنطى والتعرض للقراصنة وقطاع الطرق الأوربيين من كل لون ، بينما لا تحتاج الرحلة إلى بلاد المغرب إلا قطع عرض البحر المتوسط ليصبحوا بعدها آمنين معززين مكرمين يمارسون دينهم وحياتهم فى أمان ما بعده أمان، وكرامة لا تعادلها كرامة، بعيدا عن محاكم التفتيش، التى كانت لها أذرع طويلة وقوية فى العالم الجديد يمكنها أن تقبض عليهم وتعيدهم من حيث أَتَوْا؟[18] والملاحظ أن مادة "Morisques" فى النسخة الفرنسية من موسوعة "ويكبيديا" لا تستعمل لـ"المورسيكيين" كلمة "العرب" أبدا بل "المسلمين". وهذا هو الاستعمال الصحيح كما بينت فى هذا الفصل بالأدلة المفصلة المحكمة. وبالمناسبة هناك مورسكيون هاجروا إلى فرنسا خصصت لهم المادة المذكورة قسما منها[19]. وهو دليل آخر يعض ما قلته من أن المورسكيين لم يكونوا كلهم ولا أغلبهم عربا، وإلا فما الذى يضطر المسلم العربى فى تلك الأزمان إلى اللجوء لفرنسا النصرانية؟ وفى بحث وقع لى على المشباك (الإنترنت) للدكتور أحمد شحلان عنوانه "مكونات المجتمع الأندلسي ومكانة أهل الذمة فيه" منشور فى "منتديات جبالة:Montadayat Jbala " نجده، بعد الفراغ من حديثه عن العرب والبربر الذين فتحوا الأندلس، والصقالبة الذين استجلبهم الحكام المسلمون من أسارى أوربا واستخدموهم فصاروا مسلمين، وأهل البلاد الذين بقوا على دينهم، ينتقل إلى الحديث عمن أسلم من الإسبان فيقول: "والكثير من أصحاب الأرض من غير هؤلاء ممن دخل الإسلام سيكونون في واقع أمرهم معظم سكان الأندلس، وسيصبحون في مصاف العرب والبربر بعد أجيال، وقد تستحيل التفرقة بين هؤلاء وهؤلاء"[20].

    لقد وقع العسف والطغيان على رؤوس المسلمين: من العرب ومن أهل البلاد جميعا، وهؤلاء الأخيرون هم الأغلبية. بل إن الأشخاص الذين كانوا يحملون ألقابا عربية لم يكونوا فى الغالب عربا خُلَّصًا كما وضحنا من قبل، بل كانت تجرى فى شرايينهم نسبة كبيرة من الدماء الإسبانية عن طريق التزاوج والمصاهرة. فكثيرا ما يتزوج العربى أو يتخذ له أَمَةً من أهل البلاد، فيأتى الجيل الجديد من هذا الزواج وهو يحمل فى عروقه خمسين فى المائة من الدماء الإسبانية، ثم يتم مثل هذا التزاوج فى ذلك الجيل المولد ليأتى جيل ثالث يحمل خمسة وسبعين فى المائة من تلك الدماء... وهلم جرا[21]. ومن هنا كنت أقول لطلابى ضاحكا عن ولادة بنت المستكفى: ربما كانت نسبة الدم العربى الذى يجرى فى عروقها لا تزيد، بهذه الطريقة، عن خمسة فى المائة. ومن هنا لا غرابة أن تأتى ملامحها أوربية: شعرٌ ذهبىٌّ، وعينان زرقاوان، وبشرةٌ بيضاءُ، فضلا عن طبعها اللاهى اللعوب. صحيح أن الأمر قد لا يتم على هذا النحو بالضبط، لكن ما قلته يعطينا فكرة تقريبية عن هذا الموضوع[22]. وقد ألفيتُ ليفى بروفنسال، المستشرق الفرنسى المشهور، يتحدث عن هذا التزاوج قائلا عن العرب والبربر الذين فتحوا البلاد: "لم يلبث هؤلاء وأولئك أن تمازجوا (يقصد مع أهل شبه الجزيرة الأيبيرية)، اللهم إلا إذا استثنينا بعض الجزائر الصغيرة الجبلية التى بقى سكانها زمنا طويلا مستعصين على التحول. وقد شكل أولئك الوافدون نواة الأرستقراطية العربية والبورجوازية فى المدن. وسرعان ما أخذ عددهم بالازدياد بفضل رصيد هام جدا، ألا وهو المسلمون الجدد، أعنى من سكان شبه الجزيرة، الذين أخذ دخولهم فى دين الفاتحين يتزايد بمحض إرادتهم، فى أغلب الأحيان، طمعا فى التخلص من الجزية والاستفادة من ظروف مادية أفضل. وقد نتج عن ذلك أن الصلات بين المسلمين القدامى والمسلمين الجدد ازدادت على مر الزمن توثقا وتماسكا بفضل الزواج. لذلك فإن عرب إسبانيا، الذين كانوا فى العصور التى أعقبت الفتح يفخرون أعظم الفخر بتحدرهم من أجدادهم فى بلاد العرب أو سوريا، كان يجرى فى عروقهم جميعا جزء وفير من الدم الإسبانى، إذ ما من شك أنه كان قد حصل، فى ظل الخلافة فى قرطبة، تمازج عرقى هام، فى المدن على الأقل، بين العرب الخُلَّص والبربر والمولدين"[23].

    بل إن هناك من يذهب أبعد من هذا كثيرا لدرجة المغالاة غير المقبولة، إذ إن أحد المطارنة المكلفين من الدولة بتنصير المسلمين بعد سقوط غرناطة قد جمع المسلمين البلنسيين المراد تنصيرهم فى الكنيسة وأخذ يعظهم ويفهمهم أن الدين الحق هو النصرانية وأن الإسلام دين باطل، ثم ثَنَّى فشرح لهم تاريخ أصلهم قائلا إن الدم النصرانى يجرى فى عروقهم، لأن المسلمين حينما فتحوا بلنسية لم يكن معهم نساؤهم، فتزوجوا من نصرانيات، ومن هذا الزواج جاء شعب المنطقة[24]. ومن ثم فالسكان، حسب رأيه، هم نصارى بالحق الإلهى والحق الطبيعى معا. أما إذا كانوا اليوم مسلمين فلأنهم مرتدون. كما أفهمهم بكل وضوح أنه لا بد من تنصيرهم شاؤوا أم أَبَوْا[25]. وواضح مدى التعسف فى هذا الكلام، إذ من قال إن كل مسلم من مسلمى فتح بلنسية قد تزوج من بلنسية؟ ومن قال له إن كل امرأة بلنسية تزوجت مسلما آنذاك كانت نصرانية؟ ألا يمكن أن تكون يهودية أو وثنية؟ ثم ألا يمكن أن تكون قد اعتنقت الإسلام، ولم تظل بعد اقترانها بمسلم على دينها القديم؟ ولنفترض أن ذلك صحيح، فهل دين الشخص يحدده دين أمه؟ إن النصارى الأندلسيين بهذه الطريقة لن يكونوا نصارى لأنه ما من واحد منهم إلا وجدة من جداته كانت غير نصرانية ثم اعتنقت النصرانية. وهو ما ينطبق على النصارى فى كل بلاد العالم، بل على كل صاحب دين. فهل نلغى الأديان جميعا، ويعود كل منا إلى اعتناق دين أقدم جدة له؟ ولكن كيف يا ترى يعرف الواحد منا دين أقدم جداته؟ ولماذا لا يُعْتَدّ بدين المسلم المشارك فى فتح بلنسية بدلا من الاعتداد بدين زوجته أو أَمَته النصرانية، إن كانت فعلا نصرانية؟ بل لماذا، ما دام لا بد من اتخاذ الأم أساسا فى تحديد دين سلالتها، أن تكون أُمُّ المسلم المشارك فى فتح بلنسية هى الأساس فى تحديد دين سلالتها؟

    وقبل ذلك كله أين الاختيار الحر لكل شخص فى أمر كهذا هو أهم أمور حياته جميعا؟ وما معنى الإصرار على التنصير القسرى للناس بهذه الطريقة؟ إننا لا نشاحّ فى أن كثيرا جدا من التزاوج قد تم بين المسلمين الفاتحين والنساء الإسبانيات، لكن العقلاء لا يفهمون الأمر كما فهمه هذا المطران اللعين، ولا يرتبون عليه تلك البلايا المضحكة، وشر البلية ما يضحك. ولا ريب أن القول بأن الأغلبية الساحقة من سكان إسبانيا الحاليين هم مسلمون لكونهم ينحدرون من أصلاب مسلمين اختاروا الإسلام بملء حريتهم، إلا أنهم قد فُرِض عليهم التنصير فرضا، لا ريب أن هذا القول هو أكثر منطقية من كلام المطران المضاد للعقل والإنسانية. وأذكر أنى قرأت منذ مدة طويلة أن من إسبان اليوم من يحن لأصوله الإسلامية. وليس مستبعدا أن تعود إسبانيا يوما إلى دين الأجداد الذى قُسِروا على التحول عنه إلى دين لم يختاروه بحريتهم ولا اقتنعوا به يومذاك، ولولا التهديد بالقتل أو التهجير ومصادرة الأموال ما أعلنوا، من خارج قلوبهم، التحول إليه أو تظاهروا بذلك التحول.

    وفى كتابه: "الأندلسيون المواركة" يمس عادل سعيد بشتاوى موضوع التزاوج بين المسلمين والأيبيريات موضحا أنه "نظرا لطبيعة تكوين الفاتحين (أى العرب) كان من الطبيعى أن يلجأوا إلى نساء شبه الجزيرة، فكن أمهات أجيال جديدة من العامة والحكام على السواء. والمعروف أن عبد العزيز بن موسى بن نصير اتخذ من أيلة، أرملة لذريق، زوجة عُرِفَتْ باسم "أم عاصم". وتزوجت حفيدةُ الملك القوطى غيطشة، فى الشام، من عيسى بن مزاحم، وعُرِفَتْ باسم "سارة القوطية بنت المند". وقد كان عبد الرحمن الداخل نفسه من أُمٍّ جاريةٍ بربريةٍ تُدْعَى: "راح". إلا أن سائر أمراء قرطبة كانوا أبناء جاريات كما يدل على ذلك استعراض أسمائهن: فهشام الرضا من أم ولد تدعى: "جمال"، وكذلك أم الحكم الربضى: "زخرف"، وعبد الرحمن الأوسط: "حلاوة"، ومحمد بن عبد الرحمن: "بهير"، والأمير المنذر: "أيل أو أثل"، والأمير عبد الله بن محمد: "بهار أو عشار". ويذكر أن الخليفة الناصر لدين الله كان حفيد بشكنسية سميت: "عبدة"، وهى ابنة شانسو (شانجة) الثانى ملك نافار (نبارة)، وولدت له عبد الرحمن المعروف باسم "شنجول". وما انطبق على حكام الجنوب فى عموميته هذه انطبق على الشمال فى بعض الحالات، إذ إن من المعروف أن ألفونصو السادس اتخذ من كنَّة المعتمد بن عباد: "زائدة أو سيدة" زوجة أو خليلة ولدت له ابنه الوحيد سانشو (شانجة)، الذى قُتِل وهو يحارب الأندلسيين فى معركة إقليش. وهذا النوع من العلاقات الاجتماعية كان مقبولا فى فترة كثرت فيها الجوارى حتى ليقال إن عدد أولاد وبنات عبد الرحمن الثانى وصل إلى 200، وكان للأمير محمد 100 ولد ذكر فى فترة عرفت سيادة العنصر الأندلسى وشيوع الإسلام فى معظم المناطق الواقعة إلى الجنوب من نهرى دويرة وإبرة بما فى ذلك المناطق المحيطة بسرقسطة"[26].

    ولقد كان هناك مورسكيون فى بلاد أمريكا الجنوبية التى غزتها إسبانيا وأخضعتها لسلطانها. لكن لوى كاردياك الأستاذ الفرنسى يقول عنهم إنهم عبيد من عرب إسبانيا وبربرها. فهل يمكن أن يشكل عبيد كهؤلاء عقبة فى نشر النصرانية هناك بالنشاط الذى يقومون به لنشر الإسلام فى تلك البلاد كما يقول؟[27] ترى هل يستطيع العبيد أن يكونوا بهذه الخطورة، وهم الذين لم يكونوا يملكون حياتهم ذاتها، وليس لهم أى أمل فى النجاح فى ذلك الميدان، وبخاصة أنهم بعيدون كل ذلك البعد السحيق عن بلاد العرب والمسلمين؟ ولقد كان هناك مثلا فى أمريكا الشمالية عبيد مسلمون من أفريقيا، فهل استطاعوا الحفاظ على إسلامهم أصلا، فضلا عن أن يفكروا فى نشره، بَلْهَ أن ينجحوا فى ذلك؟ ودعنا من أنهم يمكن أن يمثلوا أى تهديد للدولة والمجتمع هناك. ثم إن كاردياك قد ذكر بين المورسكيين الأمريكان عددا من كبار رجال الدولة والكنيسة، فكيف يصح القول بأنهم عبيد؟ وفى مصر الآن نجد من يقولون عن الثمانين مليون مسلم إنهم عرب، وينبغى أن يعودوا إلى الجزيرة العربية كما جاؤوا منها، خالطين بين الإسلام والعروبة قولا واحدا، مع أن عدد العرب الذين دخلوا مصر هو مسألة آلاف. وهذه الآلاف لا يمكن أن تكون قد نمت حتى صارت خمسة وثمانين مليونا، بينما تقلصت ملايين المصريين الأصلاء إلى أن صاروا خمسة ملايين فحسب. أريد أن أقول إن المسلمين فى مصر هم مصريون أصلاء تركوا دياناتهم السابقة من نصرانية ووثنية ويهودية واعتنقوا الإسلام، مثلما كانت الأغلبية الكبيرة من مسلمى الأندلس إسبانية أصيلة، أما مسلمو العرب والبربر فلم يكونوا يشكلون سوى نسبة محدودة من سكان تلك البلاد.

    ويؤكد مرة أخرى كلامى ما جاء فى كتاب "قصة العرب فى إسبانيا" لستانلى لين بول من أن كاردينالا مقربا من إيزابيلا ملكة إسبانيا قد أغراها بإصدار مرسوم تخير فيه المسلمين بين التنصر ومغادرة البلاد. وجاء فيه أن أسلافهم كانوا على دين النصرانية، وأنهم من ثم أولاد الكنيسة منذ أَتَوْا إلى الدنيا، فيجب عليهم أن يعودوا إلى أحضانها كرة أخرى. وبعد هذا المرسوم أغلق ذلك الرجل المتعصب المساجد وأحرق عصارة الفكر الإسلامى من مخطوطات لا حصر لها أبدعها المسلمون على مدى قرون. وأُنْذِر المسلمون وأُدْخِلوا قسرا فى دين الرحمة بنفس الطريقة التعيسة التى مارسها الملك والملكة لإكراه اليهود على التنصر. ونتيجة لهذا التعذيب استجاب لعرض الكاردينال طائفة من المسلمين آثروا أن يتركوا دينهم على مغادرة وطنهم، بينما تمسك الباقون بذاتيتهم الإسلامية وثقافتهم العربية[28].

    فانظر كيف تذكِّر السلطات الإسبانية النصرانية المسلمين الأندلسيين بأن النصرانية كانت دين أجدادهم. إذن فهم كانوا يعدونهم أهل البلاد الأصليين، وإن كانوا عربا بالمعنى الثقافى والروحى، إذ كانوا يتحدثون العربية، وكانت أسماؤهم عربية، وكانت ثقافتهم عربية[29]، وكان الشعراء والكتاب يبدعون قصائدهم ورسائلهم وكتبهم بالعربية، ويُذْكَرون فى كتب الأدب والتاريخ بوصفهم عربا، ويحتلون أرفع المواضع فى كتب تاريخ الأدب العربى كما هو معلوم[30]. ومن هنا فمن الطبيعى أن يحتفظوا بكتبهم العربية، وشعائرهم وتقاليدهم وأخلاقهم الإسلامية، فتأتى الدولة والكنيسة بعد سقوط غرناطة وتعملان على خلعهم من هذا التراث العربى الإسلامى بكل سبيل، فتحرق مصاحفهم وكتبهم وتبذل كل ما عندها من إمكانات لإعادة لسانهم إلى لغة البلاد الأولى، وتحارب نظافتهم وكثرة استخدام المياه فى حياتهم اليومية، وتشن حربا ضروسا على نفورهم من الخمر والخنزير، وتقيم لهم محاكم الذل والعار والقتل والسحق والهرس وتحطيم العظام المعروفة فى التاريخ بـ"محاكم التفتيش"، ثم يقال كذبا وزورا إنها تحارب العرب. نعم، كان العرب (والبربر أيضا) هم الذين فتحوا شبه جزيرة أيبيريا، لكن نسبتهم بالقياس إلى الإسبان المسلمين كانت نسبة جد محدودة، مثلما يشكل المصريون المسلمون ذوو الأصل العربى نسبة ضئيلة جدا إزاء المسلمين من المصريين الأصلاء. وها نحن نرى السلطات والكنيسة فى شبه الجزيرة الأيبيرية تعاملان المسلمين فى البداية على أنهم إسبان أصلاء.

    وفى الفقرة الخاصة بالمورسكيين من مادة "Spain" فى ط2006م من النسخة الإنجليزية من موسوعة "Encarta" يوصَف المورسكيون دائما بأنهم "مسلمون إسبان"، ولا يوجد ذكر لكلمة "عرب"على الإطلاق[31]. كذلك نجد مادة "Espagne" من "Encyclopédie Universalis" (ط2010م) تتحدث عن المورسكيين باعتبارهم مسلمين، فلم تحصرهم فى العرب: "Ce fut le tour des musulmans du royaume de Grenade en 1502, puis de ceux de la couronne d'Aragon en 1525. On les appela dès lors «morisques».". وبالمثل تعرِّف طبعة 2012م من الموسوعة البريطانية (Encyclopaedia Britannica) المورسكيين بأنهم "المسلمون الإسبان الذين تحولوا إلى النصرانية"، مؤكدة أنهم، من الناحية العرقية، لا يتميزون فى شىء عن النصارى الإسبان الذين بَقُوا على دينهم بعد الفتح العربى لشبه الجزيرة الأيبيرية[32]. وتقول مادة "Morisques" بموسوعة "Laousse" المشباكية، فى تعريف المورسكيين، إن "هذا اللفظ يطلق على المسلمين الإسبان الذين تم تنصيرهم على أيدى الكاردينال سيسنيرو بدءا من 1499م بأمر من إيزابيلا الكاثوليكية": "Se dit des musulmans d'Espagne convertis au christianisme par le cardinal Cisneros à partir de 1499, sur ordre d'Isabelle la Catholique". وفى المقال الخاص بالمورسكيين فى كل من النسخة الفرنسية والإنجليزية والعربية بموسوعة "ويكيبيديا" نجد أن المورسكيين لا يشار إليهم أبدا على أنهم "عرب" بل يقال دائما إنهم "مسلمون". كما نقرأ فى النسخة العربية من تلك الموسوعة أن دوايت رينولدز فى فلمه الوثائقى: "When the Moors Ruled in Europe"[33] قد ألح على أن أخطر شىء فى عملية الطرد هو أن الإسبان لم يطردوا العرب أو البربر فى المقام الأول، بل كانت الأغلبية العظمى ممن يتم إخراجهم أيبيريين كإخوانهم نصارى الشمال، الذين كانوا يهجِّرونهم من البلاد[34]. وهذه رؤية مختلفة تماما عما صار يقوله الإسبان فيما بعد كذبا عن عملية الطرد وهدفها.

    وقد قام الإسبان بتعذيب المسلمين وتنصيرهم بالإكراه وأحرقوا المصاحف والكتب الإسلامية والعربية وحولوا المساجد إلى كنائس. ولكنهم، بعد هذا التنصير الإكراهى، لم يكونوا يطمئنون إليهم بل كانوا يأمرون رعاياهم النصارى بالتجسس عليهم: فإذا وجدوا بينهم من يأكل يلبس ثيابا نظيفة يوم الجمعة، أو يولى وجهه نحو الشرق،أو يسمى الله، أو يتوضأ أو يستحم، أو يأكل ليلا فى رمضان، أو يختن أولاده أو يختار لهم أسماء عربية[35]، أو يكفن موتاه فى ثياب جديدة، أو يستغيث باسم "محمد" عند الشدة، أو ينشد أغانى عربية عرفوا أنه لا يزال فى أعماقه مرتبطا بالإسلام رغم تنصره الظاهرى، فكانوا ينزلون به أفظع ألوان العقاب[36]. وبالمثل كان يعذَّب تعذيبا بشعا كل من يكتشفون أنه يأخذ ماءه من مضخة كان قد دقها العرب لا من مضخة نصرانية.

    وبلغ الأمر أن جورج دو بيرالطا مثلا، وهو بائع متجول مسلم أجبر على التنصر واتخذ اسما إسبانيا، لم يوفق يوما فى كسب رزقه، ولدى خروجه من أحد المنازل مهموما جرّاء ذلك تمتم قائلا: "يا محمد!" تنفيسا عما هو فيه من ضيق، ثم أخذ ذيله فى أسنانه مطلقا ساقيه للريح خشية أن يسمعه أحد ويقبض عليه ويقدمه لمحمكمة التفتيش. وفى مناسبة أخرى كان هناك نقاش بين نصرانيين إسبانيين، فشتما النبى محمدا، فلم يستطع أحد المسلمين المتنصرين أن يمسك نفسه من الألم، ورد قائلا: "ماذا فعل لك محمد؟". وكانت النتيجة شنيعة، إذ تم تفتيشه ونزعت ملابسه، فاكتشفوا أنه مختون. ولك أن تتخيل ما وقع به من تعذيب تقشعر له الأبدان. وحتى تتصور أبعاد الأمر يكفى أن تعرف أن حرق الشخص حيا هو أحد أساليب التنكيل فى مثل تلك الأحوال. كما كان على المسلمين أن يتركوا أبواب بيوتهم على الدوام مفتوحة حتى يمكن النصارى اقتحامها فى أى وقت لمعرفة ما يتم بداخلها أملا فى القبض على أهلها وهم يمارسون شعيرة إسلامية أو يتصرفون كما يتصرف العرب. وعندئذ ينزل بهم التنكيل الرهيب[37].

    وكانت سجون محاكم التفتيش وأساليب التعذيب المتبعة فيها من الفظاعة بما لا يمكن تخيله: لقد كانت جدرانها من السمك بحيث لا يمكن نقبها بأى حال. كما كانت تدهن زنازينها بالشحم حتى لا يستطيع أحد المساجين تسلقها إلى النافذة الضيقة العلوية الوحيدة والمثبت فيها ثلاثة أدوار من الحديد الغليظ كيلا يمكن الهروب عن طريقها. وكانت هناك غرف تحت الأرض لا يستطيع أحد غير القساوسة المشرفين على السجن وما يدور فيه من تعذيب أن يصل إليها. ومن أدوات التعذيب يمكن أن نذكر الكلاليب التى تستخدم فى فصل العظام عن اللحم، والسياط التى تنتهى بقطع الحديد الشائك لجلد المسجونين وتمزيق لحومهم، وقدور الحديد التى يغلى فيها الرصاص أو الزيت لصبه على المساكين المسجونين، وأكاليل الحديد ذات المسامير الحادة الناتئة من الداخل والتى تطوق جبهة المعذَّب ثم تُضَيَّق شيئا فشيئا بمفتاح له لوب حتى تنغرز المسامير فى الرأس، والكلاليب ذات الرؤوس الحادة التى تسحب أثداء النساء من صدورهن، والآلات التى تسلّ الألسنة من جذورها أو تهشم الأسنان تهشيما، والأحذية الحديدية التى توضع على النار لدرجة الاحمرار ويجبر المتهم على ارتدائها فى قدميه مع تضييقها قليلا قليلا، والمشانق المعلقة فى السقف لقتل المسكين نصف قتل بحيث يظل يتألم ألما رهيبا لا نهاية له، والسلاسل الصلبة المربوطة فى أنحاء متباعدة من سقف الغرفة والتى تتجاذبه حتى تمزق أوصاله، والتابوت الذى ركبت فيه حراب حادة من الداخل والذى يجبر من يراد تعذيبه على دخوله ثم يُطْبَق عليه فجأة فتخترق الحراب عينيه وقلبه، والآلة الحديدية التى يُطَوَّق بها الشخص ثم تضيَّق على رئتيه بوساطة لوالب حتى تتقطع أنفاسه وتتحطم عظامه، والقمع الذى يصب فى فمه الماء تباعا من خلاله، وهو مربوط بالحبال إلى إحدى الموائد الممدد فوقها، إلى أن يختنق وتزهق روحه، أو الجدار الذى كانوا يحفرونه ويدفنون فيه ضحيتهم ثم يعيدون بناءه مع ترك ثقب صغير يراه الناس منه وهو يموت داخل الجدار. وعلى التعيس الذى يتم تعذيبه بأية وسيلة من تلك الوسائل ألا يفتح فمه رغم ذلك بصيحة تأوه. ومن أجل ذلك اخترعت آلة من الحديد تشتمل على مربع فى هيئة صليب توضع فى فمه كى تمنعه من الصياح دون أن تعوقه عن التنفس. وبهذا يزداد عذابه فظاعة وشنعا، إذ كيف يتألم إنسان دون أن يصيح من الألم؟[38]. ثم لا ينبغى أن ننسى مصادرة الديوان لأموال المتهم لصالح الديوان أو فرض غرامات باهظة عليه يدفعها للديوان[39].

    لقد فعل الإسبان بالمسلمين الأفاعيل البشعة بعد انتهاء الحكم الإسلامى فى شبه الجزيرة الأيبيرية من تنكيل وتضييق وتفتيش للبيوت والضمائر وتنصيرٍ قَسْرِىٍّ وتحريق وتغريق وقتل وتشريد وطرد من الأندلس وتدمير للكتب كما هو معروف للجميع حتى انتهى الأمر بأنْ لم يعد هناك مسلم واحد فى تلك البلاد. لقد تم تنصير المسلمين فى إسبانيا أو طردهم أو قتلهم، ومن نجا من هذا كله كان عليه أن يخفى دينه لا يطلع عليه أحدا من الإسبان. ولكنهم أُخْرِجوا من البلاد إخراجا، ولم يبق سوى النصارى، وانطوت صفحة الإسلام والمسلمين تماما من شبه جزيرة أيبيريا بناء على تلك السياسة الاستئصالية التى تأخذ على عاتقها تطهير البلاد من المسلمين بحيث لا يبقى منهم أحد على الإطلاق رغم أن المعاهدة التى تمت بين الطرفين عقب انتهاء الحكم الإسلامى فى غرناطة تنص على احترام حرية المسلمين الدينية والسياسية وحقوقهم الاقتصادية. وهذا عكس ما كان يصنعه المسلمون مع رعاياهم من النصارى واليهود حين كانت للمسلمين السيادة فى الأندلس، إذ لم يقع منهم ضغطٌ قَطّ على أى شخص لتحويله إلى الإسلام، ولم يصادروا حرية أى إنسان فى الإيمان بما يشاء أو يطردوه من البلاد أو يأخذوا أمواله عَنْوَةً، فضلا عن أن يقتلوه.

    لقد احترم المسلمون، طبقا لتعاليم دينهم، أديان الآخرين، وتركوا لهم حرية الاعتقاد والعبادة وخَلَّوْا بينهم وبين تطبيق شريعتهم لم يتعرضوا لهم بشىء، والدليل على ذلك بقاء من أراد الحفاظ على دينه من أبناء تلك البلاد التى فتحها المسلمون نزولا على أوامر دينهم بعدم التعرض لأحد فى معتقداته وضميره. وهو ما شهد به كثير من المؤرخين الغربيين. لكن لما دارت الأيام لم يجد المسلمون شيئا من هذا كله، بل تم استئصالهم والقضاء على دينهم وفُرِّغَت البلاد منهم بالوسائل البشعة التى أومأنا إليها. ومع هذا كله نرى المورسكيين، قبل تهجيرهم، حريصين بينهم وبين أنفسهم على مراعاة أوامر دينهم ونواهيه والاحتفال سرا بالمناسبات الإسلامية رغم أن ذلك يمكن جدا أن يسوقهم إلى المحكمة والتعرض من ثم إلى ألوان بشعة من العقاب يصعب جدا تخيلها. بل كثيرا ما كانوا يَنْسَوْن الحذر فيصرحون أمام جيرانهم ومعارفهم وأصدقائهم وزوارهم ومضيِّفيهم وخُدَّامهم الإسبان بما فى نفوسهم أو يومئون إليه من بعيد، فيبلغ هؤلاء السلطات، التى تقبض عليهم فى الحال وتسوقهم إلى محاكم التفتيش حيث تُنْزِل بهم ما لا يطاق من العذاب أو تقتلهم قتلا وحشيا. ومن يقرأْ مثلا كتاب د. لوى كاردياك: "الموريسكيون المسلمون والمسيحيون" يَرَ أمثلة كثيرة على هذه الكوابيس المروعة. وفى ذات الوقت يشكو رجال الدين النصارى مر الشكوى من عدم إيمان المورسكيين الحقيقى بالنصرانية رغم الوسائل الشديدة التى يتبعونها لتعريفهم بديانتهم الجديدة المفروضة عليهم جَبْرًا وكَرْهًا وبكيفية ممارسة شعائرها.

    ويلخص جوستاف لوبون المستشرق الفرنسى فى كتابه: "La civilisation des Arabes" بعض الأهوال التي تعرض لها المسلمون في الاندلس بعد سقوط غرناطة، مؤكدا أنه من المستحيل علينا قراءة قصص التعذيب والاضطهاد الذى صبه المسيحيون المنتصرون على رؤوس المسلمين المنهزمين دون أن ترتعد منا الفرائص: فقد عمّدوهم عَنْوة، وسلّموهم لدواوين التفتيش لتحرق منهم ما استطاعت إحراقه. ورأى القس بيلدا القضاء على جميع العرب ممن لم يكونوا قد اعتنقوا المسيحية بعد بما فيهم النساء والأطفال. وبهذه الطريقة أُبِيد وأُبْعِد ثلاثة ملايين عربى. وكان ذلك الراهب قد قتل في قافلة واحدة للمهاجرين العرب قرابة مائة ألف في أكمنةٍ نصبها مع أتباعه. بل لقد طالب بقتل جميع العرب في إسبانيا حتى المتنصرين منهم بحجة أنه من المتعذر التفرقة بين الصادقين والكاذبين، ومن ثم يتعين قتلهم جميعا ليحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى، فيُدْخِل غير الصادقين منهم نار الجحيم[40].

    ومن موقع "قصة الإسلام" بإشراف د. راغب السرجانى نقرأ، فى مقال بعنوان "محاكم التفتيش أسوأ الحقب دموية بحق المسلمين" أن محاكم التفتيش قد بدأت أعمالها بهدم الحمامات العربية، ومنع الاغتسال على الطريقة العربية، ومنع ارتداء الملابس العربية أو التحدث باللغة العربية أو الاستماع إلى الغناء العربي، ومنع الزواج على الطريقة العربية أو الشريعة الإسلامية، ووضعت عقوبات صارمة جدا بحق كل من يثبت أنه يرفض الخمر أو لحم الخنزير، وكل مخالفة لهذه الممنوعات والأوامر تعد خروجًا على الكاثوليكية ويحال صاحبها إلى محاكم التفتيش. وكان المتهم الذي يمثل أمام المحكمة يخضع لاختبار أولي، وهو أن يشرب كؤوسًا من الخمر يحددها المحاكمون له، ثم يُعْرَض عليه لحم الخنزير ويطلب منه أن يأكله، وبذلك يتأكدون أنه غير متمسك بالدين الإسلامي وأوامره. لكن هذا الامتحان لا يكون عادة إلا خطوة أولى يسيرة جدا إزاء ما ينتظر المتهم من رحلة طويلة جدا من التعذيب، إذ يعاد بعد تناوله الخمر والخنزير إلى الزنزانة في سجن سري دون أن يعرف التهمة الموجهة إليه. وهو مكان من أسوأ الأمكنة، مظلم، ترتع فيه الأفاعي والجرذان والحشرات، وتنتشر فيه الأوبئة. ويشتمل التعذيب على كل ما يخطر على البال من أساليب وما لا يخطر منها، وتبدأ بمنع الطعام والشراب عن المتهم حتى يصبح نحيلاً غير قادر على الحركة، ثم تأتي عمليات الجلد ونزع الأظفار، والكي بالحديد المحمي ونزع الشعر، ومواجهة الحيوانات الضارية، والإخصاء، ووضع الملح على الجروح، والتعليق من الأصابع. وخلال كل عمليات التعذيب يسجل الكاتب كل ما يقوله المتهم من صراخ وكلمات وبكاء، ولا يستثنى من هذا التعذيب شيخ أو امرأة أو طفل، وبعد كل حفلة تعذيب، يترك المتهم يومًا واحدًا ثم يُعرض عليه ما قاله في أثناء التعذيب من تفسيرات القضاة، فإذا كان قد بكى وصرخ: "يا ألله" يفسر القاضي ذلك بأن كلمة "الله" التي لفظها هى إله المسلمين، وعلى المتهم أن ينفي هذا الاتهام أو يؤكده، وفي كلتا الحالتين يجب أن يتعرض التعذيب من جديد، وهكذا يستمر في سلسلة لا تنتهي من تباريح الآلام[41].

    واللافت للانتباه أن المستشرق الألمانى جوزيف هِلْ لم يتطرق إلى تلك الصفحات البشعة من تاريخ المسلمين فى الأندلس رغم تخصيصه فصلا كاملا لرصد إنجازاتهم الحضارية فيها وفى بلاد المغرب. وهذه ثغرة معيبة، لأن مثل تلك الصفحات لا يمكن طيها هكذا دون تمكين القارئ من إلقاء نظرة على الأقل عليها. أما تجاهلها والقفز فوقها وكأنها لا وجود لها فنقص معيب. ويلفت النظر أكثر من ذلك خلو كتابات العرب والمسلمين القدامى من الكلام عن هذه الإجراءات الوحشية الإجرامية التى قضت على الإسلام والمسلمين تماما فى بلاد الأندلس. أترى العالم الإسلامى لم يكن يعلم بما يجرى للمسلمين هناك من كوارث؟ إن هذه لو صحت لكارثة أخرى. لكن الواقع أن الحكام كانوا يعرفون ما يقع فى تلك البلاد، ولطالما استغاث المسلمون هناك بهم كى يرسلوا إليهم ما يغيثهم ويوقف ذلك السيل العرم عن اجتياحهم[42]، فكيف سكت العلماء والمفكرون والمؤرخون فى مصر والمغرب والعراق والشام وأواسط آسيا، اللهم إلا أصداء خافتة فى كتاباتهم لا تكاد تبين؟[43] ألم يعلم بها علماؤنا ومؤرخونا القدامى فيوسعوها حديثا وتحليلا وتحميسا للحكام المتخاذلين كى يهبوا ويصنعوا شيئا بدلا من ذلك العجز الذى لا يليق؟ أمعقول أن كل تلك الآلاف المؤلفة التى فرت من الأندلس إلى بلاد المغرب لم تلفت نظرهم إلى أن هناك مأساة؟ ألم يحك أحد من أولئك الفارِّين بدينهم وحياتهم وأعراضهم وكرامتهم لهؤلاء العلماء ما جرى؟[44] لقد كان المورسكيون المحاصرون فى الأندلس يعلمون بما يجرى فى العالم الإسلامى، وبخاصة فى بلاد المغرب القريبة منهم[45]، فكيف لا يعرف المسلمون فى البلاد الإسلامية بما يقاسيه إخوانهم تحت حكم الإسبان وفظائع محاكم التفتيش، وهم على العكس منهم غير واقعين تحت حصار ولا تعذيب ولا محاكم تفتيش ولا مطاردات ولا مصادرة للممتلكات ولا خطط شيطانية جهنمية لتدمير الهوية؟ كما كانت هناك اتصالات أخرى دينية تتم بين مسلمى الأندلس المنصَّرين جبرا وبين إخوانهم فى بلاد المغرب، إذ كانوا يرسلون إلى علماء الدين هناك بأسئلتهم المتعلقة بوضعهم غير الطبيعى وكيف يمكنهم أن يحافظوا على دينهم فى إطاره. وكانت الفتاوى الخاصة بما يستفسرون عنه تصلهم [46]. ومعنى ذلك أن الاتصال قائم، والظروف الخانقة التى يعيش فيها المورسكيون معروفة للمسلمين خارج إسبانيا قبل قيام السلطات الإسبانية بطردهم من بلادهم بوقتٍ جِدِّ طويلٍ. بل لم تقف استعانتهم بمن يمكن أن يساعدهم على بعض الحكومات الإسلامية فحسب، بل كانت هناك مراسلات لهم مع السلطات الفرنسية لما بينهم وبينها من اتفاق على معاداة الحكومة الإسبانية، وكانت هذه المراسلات تهدف إلى التنسيق بين الطرفين بغية الثورة على السلطات فى إسبانيا[47].

    والواقع أننا لا نكاد نملك، فى هذا الصدد، من كتابات مفصلة بعض الشىء سوى ما كتبه الشهاب الحجرى عن تلك المأساة فى كتابه: "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب"، فهل هو وحده الذى شاهد ما جرى من فظائع محاكم التفتيش وسياسة الاستئصال النصرانية التى كان حكام إسبانيا ورجال دينها يتبعونها للقضاء على شأفة الإسلام والمسلمين، واستطاع الفرار إلى بلاد الإسلام وتسجيل ما شاهد؟ لا، لأنه يشير فى كتابه إلى ثلاثة أشخاص مثله: أحدهم كان أسيرا بالأندلس، ثم تركها إلى بلاد المغرب، والثانى كان مترجما بالأندلس ثم انتقل إلى تونس، والثالث من أهل الخير والدين حسب وصفه له، وقد ترافقا فى الهروب إلى بلاد المغرب[48]. وفوق ذلك فقد تعجب السلطان المغربى أن يكون من أهل الأندلس من يمكنه الحديث بالعربية السليمة، مما يدل على أنه على علم كبير بأوضاع الناس هناك. وفضلا عن هذا كله كان هناك فَارُّون من جحيم الحكم الإسبانى ومحاكم التفتيش، ولا شك أن هؤلاء سوف ينبئون إخوانهم المسلمين فى البلاد التى فروا إليها بما يمارس ضد أهليهم فى شبه الجزيرة الأيبيرية من سحق ومحق. ثم انتهى تطور الحوادث إلى أن فيليب الثالث ملك إسبانيا أمر بإخراج جميع المسلمين من بلاده إلى المغرب[49]. وهو ما يعنى أن هؤلاء المهاجرين سوف ينتقلون إلى بلاد المغرب حيث يحكون للمغاربة شعبًا وحكومةً ما وقع عليهم وعلى من تنصر من المسلمين من فظائع تحت حكم النصارى. فكيف لم يصلنا شىء من هذا سواء كتبه أحد هؤلاء المهاجرين؟

    ليس ذلك فقط، بل كان الشهاب الحجرى، بكل أسف، موجزا أشد الإيجاز فى حكاية ما شاهد، ولم يكتبه إلا بعد إلحاح من معارفه فى البلاد الإسلامية المختلفة التى ساح فيها؟ إنه لأمر عجيب غاية العجب! أومثل هذا الأمر يحتاج إلى إلحاح؟ أومثل هذا الأمر يُكْتَفَى فى تسجيله بالإيجاز؟ ومرة أخرى لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ إن كتاب الشهاب الحجرى هو فى أساسه قصة عن الهروب من الأندلس وفى بعض الأمور العقيدية لا فى فظائع محاكم التفتيش، وإنْ وَرَدَ فيها عَرَضًا بعضُ تلك الفظائع. أقول هذا لأن محمد عبد الله عنان يعلل غياب مثل تلك الكتب بأن المسلمين فى الأندلس لم يكن بمستطاعهم الكتابة عن هذا الموضوع جراء ما كانوا يعيشون فيه من إرهاب وطغيان واستبداد مروع لم يسمح لهم بالتنفس[50]. ذلك أننا لا نتكلم عن أولئك الأندلسيين الذين بَقُوا فى الأندلس، بل عن الأندلسيين الذين هاجروا إلى بلاد المسلمين، ولم يعد ثم خوف على حياتهم إذا كتبوا عن تجربتهم المفزعة مع حكومة الأندلس وما يعرفونه من فظائع محاكم التفتيش[51].

    والغريب أن يقوم دبلوماسى مغربى ذو أصل أندلسى فى أواخر القرن السابع عشر برحلة سفارية إلى البلاط الإسبانى لتحرير عدد من الأسارى المسلمين، فيكتب فى ذلك كتابا يصف فيه ما صنعه فى تلك الرحلة، ثم لا يتطرق إلى مأساة المسلمين الذين بَقُوا فى ذلك البلد مع محاكم التفتيش رغم أنه قد أشار مرة إلى ما كان ينتظر أحد اليهود الكبار هناك من محاكمة وعقاب رهيب إن ثبتت عليه التهمة التى زُنَّ بها. وهذا الدبلوماسى المغربى ذو الأصل الأندلسى هو محمد الغسانى الأندلسى، وكتابه هو: "رحلة الوزير فى افتكاك الأسير".

    ثم إن مأساة الأندلس أفظع من مأساة التتار بمراحل شاسعة. ذلك أن التتار، رغم كل فظائعهم، لم يخططوا للقضاء على الإسلام، ومن ثم لم تكن لهم سياسة منظمة يضعونها نصب أعينهم لتحقيق هذا الغرض، بل كانوا ينطلقون كالإعصار المدمر يجتاحون ما يجدونه فى طريقهم فحسب. وكان بإمكان المسلمين أن يقفوا أمامهم ويحاربوهم لو أرادوا واستعدوا، فكان الأمر إذن فيما بينهم وبين المسلمين أمر حرب متبادلة. ثم انتهى الأمر بهزيمتهم هزيمة ساحقة على يد المماليك فى عين جالوت، ثم دخلوا فى نهاية المطاف دين الرسول الكريم وصاروا جندا من جنوده المخلصين. أما صليبيو الأندلس فكانوا شياطين منظمة ترسم وتصمم وتخطط وتنفذ، وهى طوال الوقت لا يحيد لها بصر عن غايتها النهائية، وهى استئصال الإسلام والمسلمين من شبه جزيرة أيبيريا، حتى تحقق لهم ما أرادوا بحذافيره، وبوسائل عاتية فى الإجرام والقسوة والبشاعة لا تخطر على بال إبليس ذاته كما شاهدنا. ولم يكن هناك أى أمل للمسلمين فى النجاة بعد أن استغاثوا عبثا بالحكام المسلمين خارج الأندلس واستنفدوا ما كانوا يستطيعونه من ثورات تم سحقها سحقا شنيعا. والعجيب أننا عرفنا بما كان يتم فى تلك المحاكم من حكايات وأوضاع يشيب لهولها الولدان بل الأَجِنّة فى بطون أمهاتهم مما كتبه بعض الإسبان والأوربيين. ويجد القارئ فى كتاب د. على مظهر عددا من تلك الحكايات البالغة الفظاعة. وقد اعتمد فيه، ضمن ما اعتمد، على ما كتبه بعض المؤرخين الأوربيين.

    ومع هذا فـ"لا تزال ترى إلى اليوم كثيرا من الأسبانيين يدَّعون أن أصلهم عربى. يذكرون ذلك مفاخرين، ويعدّون ذلك من أمارات الشرف والتغنى بذكرى الماضى الجميل" كما يقول محمد كرد على، الذى يمضى قائلا: "وقد رأينا الإسبانيين فى القرن التاسع عشر والعشرين نهضوا نهضة لا بأس بها للبحث عن ماضيهم أو ماضى إسبانيا الإسلامية، وصرفوا فى ذلك وقتا ومالا، وتوفَّر على هذا العمل طائفة منهم حرصوا أجمل حرص على الأخذ من المدنية العربية ليكفِّروا عن سيئات أجدادهم، الذين عوَّروا بعملهم مصانع العرب وخططهم، وحرقوا ومزقوا أسفارهم وآثارهم". كما أشار، رحمه الله، إلى عكوف بعض المستشرقين المتخصصين فى التاريخ الأندلسى على جمع تراث العرب والمسلمين فى تلك الديار من الكتب والفنون وإنشاء المؤسسات الخاصة بذلك كى يطلع عليه الجمهور ويعرف هذا الجانب المشرق من ماضيه. ومن ذلك مثلا الجزازات التى ورثها المستشرق آسين بلاسيوس من أستاذه المستشرق المشهور الإيطالى الأمير كايتانى، وتضم أسماء ثلاثين ألف عالم أندلسى، بغية تنشيط البحث فى التراث الأندلسى[52]. وينبغى أن نضيف إليهم بعض العلماء الغربيين الآخرين الذين أنصفوا الأندلسيين وأبرزوا إنجازاتهم العظيمة وفضلهم الحضارى والثقافى على أوربا أيام كانت أوربا تيعش فى ظلام حالك وتخلف مخيف، ومن هؤلاء العالم والمؤرخ الفرنسى جوستاف لوبون وجوزيف هل. وإذا رجعت إلى كتاب الأول الذى وضعه فى أواخر القرن التاسع عشر، وهو كتاب "حضارة العرب"، رأيت مدى صدق هذا العالم فى إنصاف المسلمين وحكمهم لإسبانيا ضمن إنصافه الحضارة العربية كلها. أما الآخر فرغم أننى لم أتعرض لما قاله فى حق حضارة الإسلام فى شبه الجزيرة الأيبيرية فإن الحق يقتضينى أن أعلن أنه، رغم ما أخذته عليه من إهمال الحديث عن المورسكيين وما تعرضوا له من معاملة وحشية بعكس لوبون، الذى سلط الضوء فى ذلك الوقت المبكر على ألوان الشقاء التى انصبت على رؤوسهم انصبابا، قد قال فى حقهم وفيما صنعوه للحضارة الإنسانية وما أَسْدَوْه من جميل عظيم لأوربا وقت انغماسها فى أوحال التخلف والهمجية كلاما طيبا لا بد أن أشيد به وبصاحبه مهما كان اختلافنا معه. وقد وضع كتابه هذا فى بداية القرن العشرين.

    وفى الفترة الأخيرة شهدت الساحة العلمية نشاطا ملحوظا يهدف إلى تسليط الضوء على ما وقع بالمورسكيين من مظالم وجرائم وحشية والعمل على رد الاعتبار إليهم بعد كل تلك القرون. وهناك مواقع ضوئية متعددة لمثل تلك الغاية. ومما طالعته فى بعض تلك المواقع المقال التالى الذى يعطينا فكرة عن ذلك الموضوع الحيوى الشديد الأهمية. كتب محمد العربي المساري بموقع "الأندلس- مورسكيون أندلسيون"[53] بتاريخ 11/ 9/ 2010م تحت عنوان "الموريسكيون" يقول: "لم أتمكن من المشاركة يوم السبت الماضي في السلسلة البشرية التي ربطت فيما بين المسجد الشهير والبيعة اليهودية في قرطبة الفيحاء. وكان الغرض هو التقاء بعض موقعي البيان الذي دعا مؤسسة "جائزة أمير أستورياس"، التي يرأسها ولي العهد الإسباني، إلى منح جائزة "الوفاق" في هذه السنة للمنحدرين من الموريسكيين، تكريما لهم بمناسبة الذكرى المائوية الرابعة لطرد آبائهم من إسبانيا. ففي أبريل 1609 صدر الأمر بالطرد النهائي لمن بقي في إسبانيا محافظا على ديانته، وهم الفوج الأخير من أولئك المسلمين في الخفاء الذين بدأ التخلص منهم منذ 1502.

    وقد اختيرت مائوية الطرد مناسبة لتجديد المطالبة بإعادة الاعتبار لأولئك المطرودين، وذلك ضمن محاولات تصالحية عديدة كان أبرزها مشروع توصية تقدم به الفريق النيابي الاشتراكي في الكورطيس سنة 2009 لإصدار تصريح للاعتراف رمزيا بالخطأ المرتكب في حق تلك الفئة. وفي سنة 2006 كان منصور إيسكوديرو، رئيس لجنة مسلمي إسبانيا، قد طلب من الرئيس ثاباطيرو منح أحفاد الموريسكيين الجنسية الإسبانية بالأفضلية أسوة بما تم اتخاذه في حق السيفرديين بمقتضى المادة 22.1 من قانون الهجرة المصادق عليه في 1985 على يد حكومة اشتراكية. وفي العام الماضي وقعت الدعوة إلى إحياء ذكرى إحراق الكتب العربية في باب الرملة بغرناطة. وهي دعوات قوبلت بالتجاهل، وأحيانا بالمقاومة الشديدة. والنص الذي تمت قراءته في قرطبة يوم السبت يقع في ثلاث صفحات، وهو مكتوب بالإسبانية، وكذلك بالعربية: اللغة التي كتبت بها صفحات نيرة من الثقافة العالمية، كتبها أبناء الأندلس، في زمن كان باقي أوربا يرزح في القرون الوسطى. ويقوم النص المشار إليه بصفة جوهرية على أن الذين نالهم قرار الطرد هم إسبان طردوا من أرضهم فقط لأنهم مسلمون. ويجب التأكيد أن الأمر يتعلق بأرض إسبانية. وأن مسلمي تلك الأرض قد أبدعوا ثقافة راقية سمحت بالتعددية الدينية والعرقية وبالتعايش والتسامح، وأن الإسلام حرك فيهم التعلق بمثل وقيم سامية انسجمت مع نبوغهم الخاص، الذي هو نبت تربة إسبانيا المعطاء. وحينما حل بعض أبنائهم بالمغرب على أفواج كان حلولهم به إضافة ثمينة تركت بصمتها في شتى مناحي حياته.

    وبعد قرون من ذلك، جاء إلى مراكش في 1924 بلاس إينفانطي، المسمى في ديباجة دستور منطقة الحكم الذاتي بالأندلسي: "أب الوطنية الأندلسية"، وحج إلى أغمات، ووقف على قبر المعتمد حيث نطق بالشهادة. وكانت تلك تجربة مشهودة دلته على حقيقة بدت له ساطعة. فقد كتب أنه في مراكش لم يشعر بأنه أجنبي. وكان من منظمي مبادرة بيان قرطبة الداعي لإنصاف الموريسكيين مؤسسة إينفانطي الراعية للقيم التي استشهد من أجلها بلاس إينفانطي بيريث دي برغاش في غشت 1936 في بداية الحرب الأهلية حيث اغتاله الفلانخيون بعد أربعة أسابيع من انطلاق انقلاب فرانكو بتطوان".

    وتحت عنوان " فتح ملف الموريسكيين" من مادة "مورسكيون" بـ"ويكيبيديا" العربية كلام مهم عن تلك القضية يحسن أن أورده هنا: "بعد أربعة قرون على حادث طرد المسلمين الموريسكيين من الأندلس في القرن السابع عشر تحرك البرلمان الإسباني لكي يعيد فتح أبرز صفحات التاريخ الأسود لإسبانيا التي لا زالت أشباحها تطارد الذاكرة الإسبانية اليوم. فقد وضع الفريق الاشتراكي أمام لجنة الخارجية في البرلمان مشروع قانون ينص على رد الاعتبار لأحفاد الموريسكيين الذين طردوا بشكل جماعي من إسبانيا. ويقدر عددهم في المغرب بحوالي 4 ملايين نسمة من أصل 35 مليونا (إحصاء 2007)، ويعيش حاليا معظمهم في شمال المغرب. بل إن بعضهم ما زال يسكن في قرى بمحاذاة السواحل المطلة على مضيق جبل طارق حيث يمكن مشاهدة السواحل الإسبانية من الضفة المغربية. وينص مشروع القانون على رد الاعتبار لأحفاد الموريسكيين، الموجودين اليوم في المغرب بشكل خاص، وفي بعض البلدان المغاربية بشكل عام، ويوصي بتقوية العلاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية معهم، لكنه لا يذهب إلى حد مطالبة الدولة بالاعتذار الرسمي عن تلك الجريمة، أو تعويض أحفاد المطرودين اليوم مقابل ممتلكات أجدادهم التي سلبت منهم، أو تمكينهم من الحصول على الجنسية الإسبانية.

    ويرى بعض المسؤولين عن المنظمات الإسلامية في إسبانيا أن المشروع، وإن كان يساويهم باليهود السفارديم الذين طردوا من الأندلس قبل خمسة قرون بعد صدور قانون بهذا الشأن عام 1982، إلا أنه لا يشير إلى ضرورة اعتذار إسبانيا للمسلمين مثلما اعتذرت لليهود الإسبان قبل عام 1992. و في عام 2012 أعلنت وزارة العدل الإسبانية أن مدريد قررت منح حق الحصول على الجنسية الإسبانية لأحفاد اليهود الذين طردوا من البلاد عام 1492. ويصعب تحديد عدد المستفيدين من القرار، لكن دراسات تشير إلى وجود 250 ألف شخص في العالم يتحدثون لهجة اليهود الإسبان. جاءت هذه الخطوة في سياق التحركات التي أصبح يقوم بها أحفاد الموريسكيين في المغرب وخارجه للتذكير بالتزامات إسبانيا الحديثة تجاههم، كما أنه أيضا يأتي في سياق الانفتاح الذي بات يطبع القراءات التاريخية المعاصرة لتجربة إسبانيا التاريخية بعيدا عن الانغلاق القديم. فقد عقد الموريسكيون المغاربة في عام 2002 أول مؤتمر من نوعه حول هذا الموضوع بمدينة شفشاون طالبوا فيه إسبانيا بالاعتذار لهم، كما دعوا إلى الاهتمام بأوضاع تلك الفئة التي رَأَوْا أنها تشكل جزءا من تاريخ إسبانيا.

    كان المشروع خطوة أولى في الطريق الصحيح، كما يرى بعض المهتمين بالملف، مثل الدكتور عبد الواحد أكمير مدير "مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات"، الذي قال إن المشروع يعتبر نوعا من الاعتراف بأن الإسلام يشكل جزءا من الهوية الإسبانية. فالعديد من المؤرخين الإسبان اليوم أصبحوا ينكبون على تلك المرحلة بالنقد والتحليل في اتجاه محو الصورة السلبية التي علقت بالذهنية الجماعية للإسبان عن الموريسكيين، ويعتبرون أن المسلمين الإسبان الذين طردوا قبل 400 عام لم يكونوا غرباء عن البلاد، بل كانوا إسبانا اعتنقوا الإسلام، بل إن شريحة واسعة منهم، كما بينت الدراسات التاريخية، لم تكن تعرف حتى اللغة العربية، وذلك ردا على تلك الأطروحات التي تقول إن الموريسكيين هم عرب ومسلمون جاؤوا مستعمرين لإسبانيا من خارجها، وتم إرجاعهم من حيث أتوا بطردهم".

    أما فى النسخة الإنجليزية من ذات الموسوعة فنعرف أنه قد اكتشف مؤخرا فى بعض المناطق الريفية من إسبانيا جماعات مورسكية ما فتئت تمارس الإسلام بعد كل تلك القرون والاضطهادات وما حاق بها من قتل ونفى ومصادرة للممتلكات وتنصير إجبارى ممنهج وضغط وسحق ومحق، وإن لم يكن الإسلام الذى تمارسه هذه الجماعات هو الإسلام الصحيح. وهو أمر مفهوم بعد كل ما عانته تلك الجماعات من ضغوط جبارة لاإنسانية وعزلة خانقة فصلت تلك الجماعات عن المسلمين خارج إسبانيا طوال تلك القرون. تقول الموسوعة:

    "Unlike the Morisco diaspora in North Africa who have remained strongly aware and proud of their andalusi roots, Moriscos identity as a community was wiped out in Spain, be it via either expulsion or absorption by the dominant culture. Nevertheless, a journalistic investigation over the past years has uncovered existing communities in rural Spain (more specifically in the provinces of Murcia and Albacete) which seem to have maintained traces of their Islamic or Morisco identity, secretly practicing a debased form of Islam as late as the 20th century, as well as conserving Morisco customs and unusual Arabic vocabulary in their speech".

    وأخيرا فقد يشوق القراء المصريين أن يعرفوا أن فى مصر بعضا من سلالة الموريسكيين المنتشرين فى كل القارات[54]، فقد عرفت بمحض المصادفة اليوم فى صفحة د. جمال بن عمار الأحمر[55]، سليل أسرة "الأحمر" الأندلسية الشهيرة التى كان منها الملوك والأمراء فى شبه الجزيرة الأيبيرية أيام كانت للمسلمين السيادة عليها، أن فى محافظة الأقصر بصعيد مصر نجعا يسمى: "أولاد الحج" أسسه جماعة من الأندلسيين كانوا قد أَتَوْا من الأندلس وبلاد المغرب حجاجا، وأن بعضا من سلالة المورسكيين الموجودين فى مصر قد خدموا فى الجيش المصرى أيام محمد على باشا حسبما جاء فى المادة الخاصة بهم من نسخة "ويكيبيديا" العربية[56].



    [1] ستانلى لين بول/ قصة العرب فى أسبانيا/ ترجمة على الجارم (ضمن "الأعمال النثرية الكاملة لعلى الجارم/ 305- 306.

    [2] جرى على الجارم فى كل مرة تقريبا على ترجمة كلمة "The Moors" بـ"العرب".

    [3] المرجع السابق/ 426.

    [4] لست أقصد بهذا الكلام إلى القول بأن العرب يخلون من الفضائل العظيمة. وكيف أقصد هذا، وهم قد فتحوا البلاد فأحسنوا سياستها إلى حد بعيد، وكان حكمهم أفضل من حكم الإمبراطوريات الأخرى كثيرا جدا رغم كل شىء. إنما أعنى عيوبهم فى فترات الضعف والانحدار، وإلا فصجائف مجدهم وعظمتهم تنطق بفضلهم بأجلى بيان، وأبلغ لسان. إننا، حين نعيب العرب ونضيق بعيوبهم، إنما نفعل ذلك من باب الحب لهم والغيرة عليهم، إذ نريد لهم أن يظلوا متلألئين دائما، أقوياء دائما، منتصرين دائما، متحضرين دائما، أعزة كراما دائما.ولكن من يستطيع أن يكون هكذا طول الحياة؟ الواقع أنه ما من أمة علت وسادت إلا جاء يوم انحدرت فيه وهانت وصارت مَسُودَة. بيد أننا، فى غمرة حبنا لقومنا وألمنا لما حاق بهم، ننسى أنهم فى الأول والآخر بشر فيهم عيوب البشر، وسيئات البشر، وضعف البشر، وغرور البشر، وشهوات البشر، وميل البشر فى نهاية المطاف إلى الركون للدعة والراحة وترك الجهاد... إلخ. ومع هذا فمن الطبيعى أن يكره الإنسان الضعف والانهزام ويطمح إلى المثال الأعلى رغم معرفته أنه لا يمكن بلوغه دائما. ولولا هذا الطموح والتألم بعدم الاستمرار فى القمة ما استطاع البشر أن ينجزوا شيئا ولكانوا، متى ما انهزموا وانحدروا، يبقون فى انهزامهم وانحدارهم لا يقومون منه أبدا.

    وقد لمس على الجارم هذه المسألة فى كلمته التى أثبتها بين يدى ترجمته لكتاب ستانلى لين بول عن الحكم الإسلامى فى الأندلس، فقال معلقا على الاضطراب الذى شاب بعض فترات التاريخ الأندلسى: "ومن العجب أنك، على الرغم من هذا الاضطراب الشامل، تقرأ فى قصة الأندلس صحائف من ذهب تتجلى فيها مدنية العرب معجزة من المعجزات، وآية من الآيات. فقد كانت الأندلس فى العصور الوسطى شعلة النور، ومنار الهداية، وكانت جامعاتها بقرطبة وإشبيلية وغرناطة وغيرها ملتقى طلاب العلم من الشرق والغرب، وكان فيها للأدب والشعر والفنون عامةً منزلةٌ لم تكد تصل إليها أمة... خفقت الجوانح بحب الأندلسيين على الرغم مما يزعمه التاريخ من أنهم أُعْطُوا مُلْكًا فلم يحسنوا سياسته، واستناموا إلى الشهوات، واستعان بعضهم على بعض بالأعداء. على أنه يجدر بأهل الرأى ألا يتعجلوا فى الحكم على أهل الأندلس، وهم لم يعيشوا فى بيئتهم، ولم يدرسوا أتم الدرس الأحوال التى ألمت بهم، ولم يدققوا النظر فى نظام الحكم الذى التزمته الأمم فى هذه الأزمان. إن المسلمين بالأندلس كانوا فى أرض غير أرضهم، وفى إقليم اجتمعت فيه كل صنوف الفتنة والجمال، وكان أعداؤهم من الإسبان يحيطون بهم من كل جانب، وأعداؤهم فى المشرق ينصبون لهم الحبائل. أفبعد هذا نصب عليهم اللوم جميعا، ونحمّلهم وزر تصاريف الزمان، وسيطرة الأحوال التى وضعتهم فيها يد القدر؟ إن العرب عاشوا فى هذه الفتن الجائحة نحو ثمانمائة عام قل أن تستطيع أمة سواهم البقاء فى مثلها.

    ليقل الشعوبية ما شاؤوا، ولْيَقْسُ ابن خلدون وأمثال ابن خلدون على العرب كما أرادوا. اليس من التجنى أن يدعى ابن خلدون أن العرب لا يصلحون لسياسة الأمم، وأنهم أمة جهل وتدمير، وأنهم إذا نزلوا بلدا أسرع إليه الخراب؟ إن سماحة حكم العرب بالأندلس وجمال مدنيتهم واتساع مدى ثقافتهم أسمى من أن يصل إليه إنكار منكر أو جحود جاحد. وإن فى آثارقرطبة وإشبيلية وغرناطة التى لا تزال ماثلة إلى اليوم من معجزات البناء والهندسة ما يخجل كل من يدعى أن أمة العرب أمة خراب وتدمير، وأنهم يهدمون القصور ليتخذوا من أحجارها أثافى للقدور، ومن خشبها أوتادا للخيام. أين هذه الأثافى، وأين تلك الخيام من جنات الأندلس الباسمات وقصورها الشامخات؟ ثم أين هى من عظمة دمشق وجمال بغداد فى حكم العباسيين، وازدهار القاهرة فى عهد الفاطميين؟ إن العرب يبنون ولايهدمون، وإن الهدامين لآثارهم ومدنياتهم إنما هم أعداؤهم من البربر والإفرنج والتتار وغيرهم. وإذا كانت دولة العرب قد مُنِيَتْ بالانحلال السريع فى الشرق والغرب فإن أكثر السبب فى هذا، فيما يغلب على الظن، إنما يعود إلى نظام الحكم الذى كان قائما لا إلى طبائع العرب أنفسهم. ولو نظرنا فى عهودهم إلى الأمم حولهم فى أقطار الأرض لرأينا أنها أصيبت بما أصيب به العرب" (ترجمة على الجارم لكتاب بول: "قصة العرب فى أسبانيا" ضمن "الأعمال النثرية الكاملة لعلى الجارم"/ 275- 277).

    [5] انظر محمد عبد الله عنان/ دولة الإسلام فى الأندلس- ج4 نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصِّرين/ ط4/ مكتبة الخانجى/ القاهرة/ 1417هـ- 1997م/ 3- 8. وقد عاب ستانلى لين بول الحكام الإسبان قائلا إنهم لم يكونوا أمناء فى معاملة المسلمين فى الأندلس، إذ أكرهوهم على خلع أزيائهم الجميلة واستبدال قبعات النصارى وسراويلاتهم بها وهجر سُنَّة الغسل والاستحمام اقتداءً بهم فى الصبر على تراكم الأقذار على أجسادهم ونبذ لغتهم إلى لغة الإسبان وطرح عاداتهم وأسمائهم والتسمى، بدلا من ذلك، بأسماء أسبانية (انظر ترجمة على الجارم لكتاب بول: "قصة العرب فى أسبانيا" (ضمن "الأعمال النثرية الكاملة لعلى الجارم"/ 423).

    [6] See Philip Hitti, The Arabs- A Short History, Princeton University Press, P. 168.

    وذكر محمد كرد على أن رجال الدين الكاثوليك فى أسبانيا قد حظروا على الناس الاستحمام لأنه يشبه الوضوء لدى المسلمين مما كانت نتيجته انتشار أمراض الجلد، وخاف الأطباء أن يوصوهم بالنظافة والاغتسال خشية وقوعهم تحت القصاص (انظر كتابه: "غابر الأندلس وحاضرها"/ المكتبة الأهلية/ القاهرة/ 1341هـ- 1923م/ 165).

    [7] كانت المنشورات التى تحض الأوربيين على الهجوم على بيت المقدس وعلى كراهية المسلمين تنعتهم دائما بـ"الكفار". يرجع مثلا إلى المادة الخاصة بـ"الحروب الصليبية" فى النسخ المختلفة من "الويكبيديا". وقد أفتى بابا روما بأن قتل "الكفار"، أى المسلمين" لا يُعَدّ إثما: "le pape écrivit que ce n'était pas un péché de verser le sang des infidèles[" كما ذكر كاتب المادة فى النسخة الفرنسية من تلك الموسوعة.

    [8] رغم أن الأوربيين إنما اقتبسوا الحمامات العمومية منا أثناء مُقَامهم فى بلادنا أيام الحروب الصليبية، ثم نشروها فى بلادهم بعد عودتهم (Philip Hitti, The Arabs- A Short History, P. 196).

    [9] انظر محمد عبد الله عنان/ دولة الإسلام فى الأندلس- ج4 نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصِّرين/ 316/ هـ4. وهنا مفارقة أخرى، فقد صرنا نحن فى الفترة الأخيرة نكره الكتب والقراءة بشكلٍ وبائىٍّ مُخْزٍ، ونؤثر إراحة أدمغتنا من التفكير تجنبا لوجع الرأس، وهو أحد العوامل الأساسية لما نحن فيه من تخلف لا نفكر أبدا فى الخروج منه، وكأنه عمل صالح نتقرب به إلى المولى سبحانه، غير دارين أنه أحد السبل الأكيدة إلى النار: نار التقهقر والذلة فى الدنيا، ونار السعيرِ والهُونِ فى الآخرة.

    [10] لعله من المناسب هنا أن نورد مقال الكاتب الإسرائيلى المعروف أوري أفنيري بعنوان "سيف محمد" مترجما إلى العربية كما وجدته فى عدد من المواقع الضوئية مع بعض التعديل اللغوى القليل. ففى هذا المقال (الذى رد به افنيرى على بابا روما منذ سنوات عندما اتهم الإسلام بأنه دين إرهابى) رد قوى على النفاق الغربى الذى يسول لأصحابه توجيه هذه التهمة الكاذبة للدين الحنيف فى الوقت الذى يمثلون هم فيه الإرهاب فى أبشع صوره. قال أفنيرى: "منذ أن كان قياصرة روما يقذفون بالمسيحيين إلى الحلبة فريسة للأسود شاهدت العلاقات بين القياصرة ورؤساء الكنيسة تقلبات كثيرة. لقد حوّل القيصر قسطنطين الأكبر، الذي ارتقى السلطة عام 306، قبل 1700 سنة بالضبط، الدين المسيحي إلى دين الإمبراطورية، التي كانت تضم أرض إسرائيل أيضا. ومع مرور الزمن انقسمت الكنيسة على ذاتها بين فرعيها: الشرقي (الأرثوذكسي) والغربي (الكاثوليكي). وقد طالب البطريرك الغربي، الذي أصبح البابا فيما بعد، من القيصر الاعتراف بسلطته العليا. لقد تصدرت النزاعات بين القيصر والبابا، في العديد من الأحيان، مركز تاريخ أوروبا وجزأت الشعوب. لقد عرفت هذه النزاعات مدا وجزرا. كان هناك قياصرة أقالوا البابا أو نَفَوْه، وكان هناك باباوات أقالوا أو نَفَوُا القيصر. وقد "ذهب إلى كانوسا" أحد القياصرة، وهو هاينريخ الرابع، ووقف هناك حافي القدمين على الثلج لمدة ثلاثة أيام متواصلة أمام مقر البابا حتى وافق الأخير على إلغاء النفي الذي فرضه عليه. غير أنه كانت هناك فترات طويلة تعايَشَ فيها القياصرة والباباوات بسلام. ونحن، في الفترة الحالية، نشهد انسجاما يثير الدهشة بين البابا الحالي، بندكتوس السادس عشر، والقيصر الحالي، بوش الثاني. وعلينا أن ننظر، على هذه الخلفية، إلى خطاب البابا الذي أثار ضجة عالمية. إنه يندمج بشكل جيش في الحملة الصليبية التي يقودها بوش ضد "الفاشية الإسلامية" في إطار "صراع الحضارات".

    وفي خطابه الذي ألقاه في جامعة ألمانية أراد البابا الخامس والستون بعد المائتين أن يثبت وجود فرق جوهري بين المسيحية والإسلام: فبينما ترتكز المسيحية على المنطق فإن الإسلام ينكره. وبينما يرى المسيحيون منطقا في أعمال الله ينكر المسلمون أي منطق في تلك الأعمال. وبصفتي ملحدا يهوديا فإني لا أنوي أن أحشر نفسي في هذا النقاش. فمن أنا لأتتبع منطق البابا؟ غير أني غير قادر على التزام الصمت حيال مقطع واحد من خطابه متعلق بي كإسرائيلي يعيش إلى جانب خط الجبهة في "حرب الحضارات". فلكي يثبت انعدام وجود المنطق في الإسلام يدعي البابا أن النبي محمدا قد أمر أتباعه بنشر دينه بقوة السيف، وهذا أمر غير منطقي، على حد تعبير البابا، لأن الروح هي مصدر الإيمان، وليس الجسد. وكيف يمكن للسيف أن يؤثر على الروح؟ لتدعيم أقواله اقتبس البابا أقوالا أدلى بها قيصر بيزنطي بالذات من أتباع الكنيسة الشرقية المنافسة. ففي أواخر القرن الرابع عشر ذكر القيصر عمانوئيل الثاني نقاشا أجراه، على حد زعمه (هذا الأمر مشكوك فيه)، مع مثقف فارسي مسلم مجهول. وفي خضم النقاش قال القيصر بخشونة (على حد قوله) أمام شريكه في الحديث: "أرني شيئا جديدا أتى به النبي محمد. وسترى أشياء سيئة وغير إنسانية فقط، كما فى أمره الخاص بنشر دينه بقوة السيف".

    تثير هذه الأقوال ثلاثة أسئلة: أ- لماذا قالها القيصر؟ ب- هل هي صحيحة؟ ج- لماذا كررها البابا الحالي؟ عندما سجل عمانوئيل الثاني هذه الأقوال كان مليكا على إمبراطورية آفلة. لقد ارتقى السلطة عام 1391 حيث كانت قد تبقت محافظات قليلة من الإمبراطورية العظيمة. وقد هدد الأتراك باحتلال هذه المناطق أيضا في أي لحظة. في تلك الفترة كان الأتراك قد وصلوا إلى ضفاف الدانوب بعد أن احتلوا بلغاريا وشمال اليونان، وهزموا الجيوش التي أرسلتها أوروبا مرتين بهدف إنقاذ القيصرية الشرقية. وفي عام 1452، بعد بضع سنوات فقط من موت عمانوئيل، احتل الأتراك عاصمته: القسطنطينية (إسطنبول اليوم) وكانوا سببا في نهاية الإمبراطورية التي دامت أكثر من ألف سنة. وفي أيام حكمه تجول القيصر عمانوئيل في عواصم أوروبا طلبا للمساعدة. لقد وعد بتوحيد الكنيسة من جديد. ولا شك في أنه كتب القصص عن نزاعاته الدينية ليثير حفيظة أوروبا ضد الأتراك وليقنعها بالخروج إلى حملات صليبية جديدة. كانت نيته سياسية، وما كانت اللاهوتية إلا لخدمة السياسة.

    إن الأمور، من هذه الناحية، تتوازى مع احتياجات القيصر الحالي جورج بوش، فهو أيضا يحاول توحيد العالم المسيحي ضد "محور الشر" الإسلامي. إضافة إلى ذلك فإن الأتراك أيضا يطرقون باب أوروبا، ولكن في هذه المرة بوسائل سلمية. ومن المعروف أن البابا يعارض القوى التي تطالب بانضمامهم إلى الاتحاد الأوروبي. هل هناك حقيقة في ادعاء القيصر عمانوئيل؟ لقد شكك البابا ذاته بأقواله. كلاهوتي حقيقي له سمعته لا يمكنه أن يسمح لنفسه بتزييف ما هو مكتوب. لذلك ذكر أن النبي محمدا قد منع في القرآن بشكل واضح نشر الدين بقوة السيف. لقد اقتبس من سورة البقرة الآية 256 (صحيح أن البابا لا يخطئ، ولكنه أخطأ هنا: لقد قصد الآية 257. وقد جاء فيها: "لا إكراه في الدين!"). كيف يتجاهلون قولا بسيطا وقاطعا إلى هذا الحد؟ يدعي البابا أن هذه الآية قد كتبت في بداية مسيرة محمد حينما كان ما زال يفتقر إلى القوة، ولكن مع مرور الوقت أمر باستخدام السيف من أجل الدين. لكن لا يوجد لمثل هذه الوصية أي ذكر في القرآن. صحيح أن النبي محمدا قد دعا إلى استخدام السيف في معاركه ضد خصومه من القبائل المسيحية واليهودية في شبه الجزيرة العربية عندما كان يؤسس دولته، غير أن هذا كان عملا سياسيا وليس دينيا، معركة على الأرض لا على بساط الدين.

    من أقوال يسوع المسيح: "تعرفونهم من ثمارهم". وعلينا أن ننظر إلى تعامل الإسلام مع الديانات الأخرى حسب اختبار بسيط: كيف تصرفوا خلال أكثر من ألف سنة، بينما كانت القوة بين يديهم، وكان بمستطاعهم "نشر دينهم بقوة السيف"؟ هم لم يفعلوا ذلك. لقد سيطر المسلمون في اليونان طيلة مئات السنين، فهل اعتنق اليونانيون الإسلام؟ هل حاول أي شخص إدخالهم في الإسلام؟ على العكس لقد شغل اليونانيون وظائف كبيرة في الحكم العثماني. كما أن شعوب أوروبا المختلفة مثل البلغار والصرب والرومانيين والمجريين، الذين عاشوا فترات طويلة تحت حكم الأتراك، قد تشبثوا بدينهم المسيحي. إن أحدا لم يجبرهم على اعتناق الدين الإسلامي، وظلوا مسيحيين متدينين. لقد أسلم الألبان وكذلك البوسنيون، ولكن أحدا منهم لا يدعي بأنهم قد أكرهوا في ذلك. لقد اعتنقوا الدين الإسلامي ليكونوا محببين إلى السلطة وليتمتعوا بخيراتها.

    في عام 1099 احتل الصليبيون القدس وذبحوا سكانها المسلمين واليهود من دون تمييز، وكانت هذه الأمور تنفذ باسم يسوع الطاهر النفس. في تلك الفترة، وبعد 400 سنة من احتلال المسلمين للبلاد، كان ما زال معظم سكان البلاد من المسيحيين. طيلة كل تلك الفترة لم تجرى أية محاولة لفرض دين محمد على السكان. لكن بعد أن طُرِد الصليبيون من البلاد بدأ معظمهم يتبني اللغة العربية ويعتنق الدين الإسلامي. وكان معظم هؤلاء هم أجداد الفلسطينيين الحاليين.

    ولم تُعْرَف أية محاولة لفرض دين محمد على اليهود. لقد تمتع يهود أسبانيا، تحت حكم المسلمين، بازدهار لم يسبق له مثيل في حياة اليهود حتى أيامنا هذه تقريبا. وكان شعراء مثل يهودا هليفي يكتبون باللغة العربية، وكذلك الحاخام موشيه بن ميمون (الرمبام). كما كان اليهود في الأندلس المسلمة وزراء وشعراء وعلماء. وقد عمل في طلطيلية المسلمة مسلمون ويهود ومسيحيون معا على ترجمة كتب الفلسفة والعلوم اليونانية القديمة. وكان ذلك "عصرا ذهبيا" بالفعل. ترى كيف كان لهذا كله أن يحدث لو كان النبي محمد قد أمر أتباعه "بنشر الإيمان بقوة السيف"؟

    لكن المهم هو ما حدث لاحقا حين احتل الكاثوليك أسبانيا واستولَوْا عليها من المسلمين، فقد بسطوا فيها حكما من الإرهاب الديني. لقد وقف اليهود والمسلمون أمام خيار قاس: اعتناق المسيحية أو الموت أو الهرب. وإلى أين هرب مئات آلاف اليهود الذين رفضوا تغيير دينهم؟ لقد استقبل معظمهم على الرحب والسعة في الدول الإسلامية. واستوطن "يهود الأندلس" بلادا تمتد من المغرب في الغرب إلى العراق في الشرق، ومن بلغاريا (تحت حكم الأتراك آنذاك) في الشمال إلى السودان في الجنوب. ولم تتم ملاحقتهم في أي مكان أو يواجهوا أي شيء يضاهي تعذيب محاكم التفتيش أو لهيب المحارق أو المجازر أو والطرد الذي ساد في معظم الدول المسيحية حتى حدوث الكارثة. لماذا؟ لأن محمدا قد منع بشكل واضح ملاحقة "أهل الكتاب". لقد تم تخصيص مكانة خاصة في المجتمع الإسلامي لليهود وللمسيحيين. ولم تكن هذه المكانة مساوية تماما لمكانة المسلمين، ولكنها كادت تكون كذلك. صحيح أنه كان يتوجب علهم دفع جزية خاصة، ولكنهم قد أُعْفُوا من الجيش مقابلها. وهذه الصفقة كانت مجدية جدا لليهود. يقال إن الحكام المسلمين قد عارضوا محاولات إدخال اليهود في الإسلام حتى بالوسائل اللطيفة لأن هذا الأمر كان معناه خسارة عائداتهم من الضرائب. لكن كل يهودي مستقيم يعرف تاريخ شعبه لا يمكنه إلا أن يشعر بالعرفان تجاه الإسلام، الذي حمى اليهود طيلة خمسين جيلا، في الوقت الذي كان العالم المسيحي فيه يلاحقهم، وحاول في العديد من المرات إجبارهم على تغيير دينهم "بالسيف".

    إن قصة "نشر دين محمد بالسيف" هي أسطورة موجهة، هى جزء من الأساطير التي نشأت في أوروبا أيام الحروب الكبيرة ضد المسلمين: إعادة احتلال أسبانيا من قبل المسيحيين والحروب الصليبية وملاحقة الأتراك، الذين كادوا يحتلون فيينا. وإني أشتبه في أن البابا الألماني الشريف يؤمن هو أيضا بهذه الأساطير عن إخلاص. وهذا يعني أن زعيم العالم المسيحي، وهو لاهوتي مسيحي هام بحد ذاته، لم يبذل جهدا في التعمق في تاريخ الأديان الأخرى. ترى لماذا صرح بهذه الأقوال علنا؟ ولماذا الآن بالذات؟ لا مناص من النظر إلى الأمور على خلفية الحملة الصليبية الجديدة التي يخوضها بوش ومؤيدوه الإنجيليون وحديثه عن "الفاشية الإسلامية" و"الحرب العالمية ضد الإرهاب"، بينما يتم توجيه كلمة "الإرهاب" إلى المسلمين. إن هذا الأمر بالنسبة لمن يوجه بوش هو محاولة ساخرة لتبرير الاستيلاء على مصادر النفط. وهذه ليست المرة الأولى التي تلبس فيها المصالح الاقتصادية الجرداء قناعا دينيا، وكذلك ليست المرة الأولى التي تتحول فيها حملة نهب إلى حملة صليبية. وإن خطاب البابا ليندمج بشكل جيد في هذه المساعي. ولا أحد يعرف ما هي النتائج الممكنة".

    [11] تتبع د. حسن مؤنس أعداد العرب الذين وفدوا على الأندلس فألفاهم يقاربون الاثنين والعشرين ألفا ونصف الألف، وإن كان قد لفت النظر إلى خصوبتهم فى الإنجاب، مع ملاحظة أنهم أكثروا من الزواج بنساء البلاد، مضيفا أنهم كانوا يأتون إلى الأندلس دون زوجاتهم، وهو ما لا أوافقه عليه، إذ السؤال هو: هل كانوا يطلقون زوجاتهم قبل أن يفدوا على الأندلس أم هل كانوا يتركونهن معلقات طوال حياتهن ما دام الذى يذهب إلى هناك لا يعود عادة كما يقول هو نفسه (ص432/ هـ1)؟ ثم الأولاد، ماذا يحدث لهم بعد أن يتركهم آباؤهم إلى الأبد؟ لو كان هذا صحيحا لصار مشكلة اجتماعية وإنسانية لا يمكن أن تمر على العلماء والمؤرخين والفقهاء والحكام مرور الكرام. فأين الحديث فى كتب أسلافنا عن هذه القضية لو كان الأمر كما يقول؟ اللهم إلا إذا قلنا إنه لم يَكُ يأتى إلى الأندلس سوى العزاب. لكن أين الدليل؟ وهل هذا من سنة الحياة؟ بل هل هذه هى عادة العرب فيما فتحوه من بلاد؟ يمكن أن نقول إن كثيرا من الفاتحين كانوا يأتون وحدهم فى مبدإ الأمر، ثم بعد أن يستقروا يرسلون فى استقدام أسرهم: زوجات وأولادا. ثم هل كل الذين أتوا إلى الأندلس كانوا من الفاتحين ليس إلا؟ إن هناك من أَتَوْا فى فترات السلم، فلا يعقل أن يترك كل هؤلاء زوجاتهم أولادهم ويأتوا خفافا؟ وهناك أيضا الولاة وأمثالهم. فهل كان هؤلاء يفدون إلى الأندلس دون زوجات وأولاد؟ وعلى غير هذا النحو يصعب علىَّ تماما أن أتصور الأمر أو أتقبله (انظر كتاب د. مؤنس: "فجر الأندلس"/ العصر الحديث ودار المناهل/ بيروت/ 1423هـ- 2002م/ 408- 409، 418، 526). وقد نقل هو نفسه، رحمه الله، عن ابن حزم أنه كان بالأندلس عرب لم يقترن أحد منهم بنساء الأندلس (ص418). ولا أظن هؤلاء هم الوحيدين الذى كانوا كذلك. والواقع أن عبارة د. شوقى ضيف أكثر دقة حين يقول إن كثيرين فى الجيش الفاتح كانوا يتزوجون من الإسبانيات (انظر كتابه: "تاريخ الأدب العربى- عصر الدول والإمارات (الأندلس)/ دار المعارف/ 46).

    [12] انظر ص459- 461 من كتاب د. حسين مؤنس: "فجر الأنلس" لترى كيف كان انتشار الإسلام قويا فى تلك البلاد منذ فترة مبكرة. فما بالنا بعد أن استقرت الأمور للحكم الإسلامى هناك؟ ويضيف، رحمه الله، فى مواضع أخرى من الكتاب (ص464- 465، 472، 526- 528) أن الإسبان قد أسلموا واستعربوا بسرعة كبيرة، فأصبح المسلمون يشكلون معظم السكان، وسجلت أعمالهم صفحة مشرقة فى تاريخ الإسلام. كما أدى التزاوج بين الفاتحين وأهل البلاد إلى أن صار الفصل بين الفريقين أمرا عسيرا.

    [13] انظر مثلا د. على مظهر/ محاكم التفتيش فى أسبانيا والبرتغال وغيرها/ المكتبة العلمية/ 17. ويقدر البعض عدد من تم تعذيبهم من مسلمى غرناطة ثلاثة ملايين (المرجع السابق/ 22). وذكر ستانلى لين بول أن عدد من نُفِىَ (نُفِىَ فقط) من المسلمين بعد سقوط غرناطة ثلاثة ملايين (انظر ترجمة كتابه: "قصة العرب فى أسبانيا" بترجمة على الجارم ضمن "الأعمال النثرية الكاملة لعلى الجارم"/ 425). فهل يظن ظان أن العرب كانوا يشكلون فى غرناطة وحدها كل هذا العدد؟ ودعنا ممن قُتِل أو بقى هناك من المسلمين لم يغادر البلاد وتنصر أو كتم إسلامه وظل يمارسه سرا حتى مات. وحتى تتضح الصورة مزيدا من الاتضاح أنبه إلى أن المؤرخين يقدرون عدد سكان الأندلس (الأندلس كلها لا غرناظة فحسب) فى عهد المنصور بن ابى عامر، أى قبل انتهاء الحكم الإسلامى هناك بنحو خمسمائة عام، بثلاثين مليون نسمة تقريبا (انظر د. أسعد حومد/ محنة العرب فى الأندلس/ ط2/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 1988م/ 6). وقد ذكر المؤرخون الغربيون أن نصارى الأندلس بعد عام 1171م قد صاروا نادرين. أى أن الدولة الإسلامية آنذاك كانت فى الأغلب الأعم مسلمة (المرجع السابق/ 196). هذا عن المسلمين فى غرناطة. فماذا عنهم فى المدن الأخرى التى سقطت فى أيدى النصارى قبل غرناطة؟ لم يكن الحال مختلفا كثيرا فى الواقع، وكان أمام المسلمين فى تلك المدن إما أن يَبْقَوْا فيتعرضوا للتنصير والعنت وإما أن يرحلوا. ولم يضع التنصر حلا لتعاستهم، إذ ظل النصارى يسخرون منهم ويعتدون عليهم. وإذا عاد أحدهم عن النصرانية التى أُكْرِه عليها حُكِمَ عليه بالقتل وصودرت أمواله. وكثيرا ما تم تحويل المساجد إلى كنائس. وما أسهل أن يتحول المسلم آنئذ إلى رقيق ليس له أية حقوق. وكان البابا فى روما يدعو حكام تلك الممالك إلى التنكر لما قطعوه مع المسلمين عند تسلمهم تلك المدن من عهود بحجة أن المسلمين كفرة، وينبغى ألا يقام أى اعتبار للعهود التى تُقْطَع معهم ولا للأيمان التى تُعْطَى لهم. وتمت عمليات تهجير جماعية للمسلمين الذين لم يتنصروا. أما عند اضطرار الدولة لترك المسلمين مؤقتا دون تهجير فقد كانت تخلى بين طوائف الشعب وبينهم كى تعتدى عليهم وتغتصب ممتلكاتهم وتسترقّهم دون أن تتدخل لحمايتهم وكأنها لا ترى ولا تسمع. ولم تؤد الاحتجاجات والثورات الإسلامية على هذه الأوضاع المجحفة إلى أى تغيير (السابق/ من 203 لعشرات الصفحات).

    [14] See Philip Hitti, The Arabs- A Short History, P. 168.

    [15] انظر محمد عبد الله عنان/ دولة الإسلام فى الأندلس- ج4 نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصِّرين/ 430.

    [16] من مقدمة فارناند برودال لكتاب د. لوى كاردياك/ الموريسكيون المسلمون والمسيحيون- المجابهة الجدلية 1492- 1640 مع ملحق بدراسة عن الموريسيكيين بأمريكا/ ترجمة د. عبد الجليل التميمى/ تونس/ 1983م/ 16.

    [17] المرجع السابق/ 148/ هـ1.

    [18] انظر المرجع السابق بدءا من ص 145 إلى آخر الكتاب حيث يدور الحديث عن المورسكيين فى أمريكا.

    [19] وفى الترجمة التى قام بها ذوقان قرقوط لكتاب ليفى بروفنسال: "حضارة العرب فى الأندلس" (دار مكتبة الحياة/ بيروت/ 14) نقرأ: "ما من مدينة من مراكش على الإطلاق يأهل ولو جزءا منها الموريسك المسلمون المطرودون من أسبانيا إلا وتحتفظ بشغف حتى الآن بطابع مدينتها الأندلسية"، كما نجد (ص30) أن المصطلح المستخدم للمورسكيين الذين انتقلوا إلى بلاد المغرب العربى هو "الإسبان المسلمون" لا "العرب".

    [20] انظر http://montadajbala.ahlamontada.net/t3602-topic وقد نقل د. شحلان هذا الكلام عن ليفى بروفنسال (E. Lévi-Provençal, L'Espagne musulmane au Xe siècle: Institutions et vie sociale, Larose, Paris, 1932, 1, P. 75 ).

    [21] فى كتابه : "فجر الأندلس" (ص8) يذكر د. حسين مؤنس أن أمهات الغالية العظمى من العرب والبربر فى الأندلس كن أسبانيات.

    [22] تحت عنوان "موريسكيون أم أندلسيون؟" كتب أحمد الطاهرى بموقع "الأندلس- مورسكيون أندلسيون" المغربى (http://moriscosandalusies.com/?p=441 بتاريخ 25/ 7/ 2014م) ما يلى: "لعل في إجماع الدارسين على تبنّي مُصْطلح "الموريسكيين"، اقتناعا أو تقليدا، ما يُؤكد تواطؤ النُّخَب العلمية الضّمني مع رجالات السياسة والكنيسة المسؤولين عن حدوث إحدى أكبر الفظائع في تاريخ الإنسانية. ولا يخفى عن مُطَّلِعٍ طابعُه المُتَحَيّزٌ الذي يُحِيل على مجموعة بشرية يُفْترض أنها أجنبية عن شبه جزيرة أيبيريا. ويتعلق الأمر بلفظٍ مُبْتَدَعٍ من طرف القطاعات الأكثر تعصّبا ضمن المجتمع الإسباني في وصف الأمة الأندلسية التي تعرّضت للمُصادَرة والتقتيل والتنكيل والطرد من بلدها.

    فعبارة "مُورُو"، والتصغير منها "مُورِيسْكو" الـمُسْتعْمَلان على أوسع نطاق بين النصارى الأيبيريين الكاثوليك لتمييز المُختلفين عنهم من المسلمين واليهود، تُحيل على أصل مغربي مُفترَض لكافة الأندلسيين باعتبارهم، طمْسا للحقائق، مُحْتلين لشبه الجزيرة، على إثر عبور طارق بن زياد وجنده البربري مضيق جبل طارق منذ نحو عشرة قرون خلت عن عملية طردهم النهائي خلال سنوات 1609 1614. ومن المعلوم أن الجذر اللغوي لِلّفظ مُشتق من موريطانية، وهو الاسم الأمازيغي القديم الذي كان يُطلق على بلاد المغرب المصاقِبة لشبه جزيرة أيبيريا.

    والجدير بالملاحظة أن الأندلسيين الذين تعرّضوا للتضييق والتنصير والطرد من وطنهم ما وافقوا يوما على تسميتهم: "الموريسكيين"، المُبتَدَعَة من طرف جلاديهم. ولا يخفى عن مُطّلِعٍ على تاريخهم كيف ظلوا مُسْتمْسِكين بهويتهم الأندلسية، مُفتخرين بكونهم ورثة حضارة وثقافة كوْنِيَتَيْن، سواء خلال مُقَامهم بالجزيرة الأيبيرية أو بعد طردهم منها. ولا تُعْوِزُنا الدلائل الكاشفة عن إصرارهم على نعْت أنفسهم بأهل الأندلس أو بـ"الأندلس المسلمين" حسبما ورد مُوَثقا في كتابات مشاهير نُخَبهم الناجية من محاكم التفتيش. وبالمثل فقد ظل مُعظم أهل القلم، مغاربة وأفارقة ومشارقة، طوال العصر الحديث ينعتونهم بـ"أهل الأندلس، وإن كانوا الآن نصارى ففيهم رأفة وتحَنُّّن ومَيْل إلى الإسلام" على حد توضيح أحدهم. وحتى بعد طرْدِهم واستقرار جماعاتهم بمختلف أنحاء دار الإسلام ظلت حوليات تاريخ المغرب وإفريقية وعامة الناس يصِفونهم بـ"الأندلسيين" أو بـ"الأمم الجالية من جزيرة الأندلس" حسب تعبير الشيخ محمد الباجي المسعودي صاحب كتاب "الخلاصة النقيّة في أمراء إفريقيّة".

    وغني عن البيان أن محاكم التفتيش الإسبانية هي التي دأبت على نعتهم بـ"النصارى الجُدُد الموريسكيين" أو"النصارى الجُدُد من المور" باعتباره المصطلح القانوني الذي يُمَيّز وضعية الأندلسيين الـمُنَصَّرين عمن سواهم من قدامى النصارى الأيبيريين. ولا يخفى كيف تحرّك المتطرفون من رجال الدين والمؤسسات الكنسية وقطاعات واسعة من النُّخَب المجتمعية المتشبِّعة بروح الكراهية تجاه الأندلسيين لعزلهم عن غيرهم من سكان شبه الجزيرة وتوجيه التهم والنعوت الصادمة لهم. وتزخر الوثائق الرّسمية والحوليات التاريخية الإسبانية بعبارات القذف في حقهم، من شاكلة "الكلاب من المور" و"العِرْق الموريسكي" و"البذرة العَفِنة"، إلى ما عدا ذلك من العبارات البذيئة التي يأنف المرء عن ذِكْرها. ولم يتردد الراهب فراي نيكولاس ذيل ريو عن وصف الأندلسيين بـ"الطائفة الخبيثة" ضمن التقرير الذي رفعه إلى الملك فليب الثاني يوم 13 يونية 1606. وسرعان ما تطورت الأمور في اتجاه عزل الأندلسيين سياسيا واتهامهم بـ"الطابور الخامس" المتآمر مع العثمانيين وأمراء بادس ببلاد الريف ضد الدولة الإسبانية.

    وهو الاتهام الخطير الذي تمّ تضمينه في قرار الطرد الملكي كالتالي: "إن هؤلاء الموريسكيين بعِنادهم وتصَلّبهم قد حاولوا التآمر ضد تاجي الملكي وضد الممالك الإسبانية، وقد طلبوا النجدة من السلطان التركي ومن أمراء آخرين". ويتعلق الأمر بتمهيد الرأي العام الإسباني والمسيحي على وجه العموم لقبول إحدى أخطر عمليات التطهير العرقي في التاريخ. وهو ما يتجلى بوضوح من خلال تصريح رجال الكنسية على لسان الأسقف الشهير مارتين ذي سالفاتييرا مُحفِّزًا الملك والسلطة السياسية للإقدام على تلك الخطوة المؤلمة بقوله: "إن من أعظم الواجبات الملقاة على جلالتكم تطهير كافة أنحاء هذه الممالك من الطائفة البغيضة من أتباع محمد".

    ولا يخفى كيف تمّ منع تداوُل اللغة العربية بكافة أنحاء شبه الجزيرة الأيبيرية، إذ صدرت الأوامر صارِمَةً عن محاكم التفتيش بَدْءًا من سنة 1561م بإحكام الرّقابة على الأندلسيين "ومَنْعهم من القراءة والكتابة بالعربية". أردَفت السّلطات الكنسية ذلك بشن إحدى أخْرَق حمَلات الاجتثاث الفكري في تاريخ الإنسانية، إذ كانت "النصارى تقتُل وتَحْرِق كل من يجِدُون عنده كتابا عربيا أو يعرفون أنه يقرأ بالعربية". وتزخر الحوليات التاريخية بالتفاصيل المعروفة لدى العموم عن المصير المؤلم الذي أَلَمَّ بآلاف الكتب والمصنفات العربية التي تعرّضت للإتلاف والإحراق ومَحْو الآثار في أحلك موجات الجهل والظلام التي هبّت رياحها عاصفة على شعوب المنطقة.

    ولا يَسَعُنا في هذا المقام إلا أن ندعو المختصين وعموم المهتمين إلى تصحيح المفاهيم، بدْءا بوضع مُصْطلح "الموريسكيين" المُبْتَدَع بإسبانيا العصور الوسطى ومحاكم التفتيش بين مزدوجتين، إذ فيه حُمُولة إيديلوجية ويفتقر إلى الموضوعية. ونقترح تعويضه بعبارة "الأندلسيين الـمُنَصَّرين" الأقرب إلى الحقيقة التاريخية. ولا يخفى كيف ترسّخ مفهوم "الموريسكيين" في الوسط الأكاديمي ولدى عموم الناس بسبب غياب وجهة النظر الأندلسية وعُقْم البحث في التاريخ الحديث بالجامعة المغربية.

    ولا مجال للاقتناع بالتصورات الشائعة التي اخْتَزَلت هذا الفصل الخطير من تاريخ شبه الجزيرة الأيبيرية باعتباره لدى أشهر المُختصين مُجَرّد قضية اجتماعية ومُشْكِل "أقلية بدون تاريخ وطني خاص". ونسْتغرب كيف تعْمد مؤسسة التراث الأندلسي المرموقة، في ظل الوضع الحالي للدراسات الأندلسية، إلى تنظيم مؤتمر دولي بغرناطة أيام 13- 16 ماي 2009 بمشاركة جامعيين مغاربة بعنوان "الموريسكيون: تاريخ أقلية"، مع العلم أن الأندلسيين في غرناطة بالذات لم يكونوا عند الشروع في طردهم أقلية ولا أكثرية بل أمّة متكاملة ضمن مملكة أندلسية قائمة.

    ولا يخفى الهدف الغير المعلن من هذا المنهاج الغير الموضوعي في التحليل. فما إن يتِمّ بتر الأصل الأندلسي وحَصْر الموضوع في إطار تاريخ إسبانيا الحديث حتى يتمّ تحويل القضية إلى ما اشتهر لدى الدارسين بـ"المشكلة الموريسكية"، التي واجهتها الدولة الإسبانية الحديثة في إحدى أكبر عمليات الطمْس التي تعرّض لها تاريخ البلد وماضي أهله. وما دام الأمر يتعلق بمشكلة فلا بأس من التماس الحلول لها وإن اقتضى الأمر الإقدام على إحدى أفظع الجرائم في تاريخ الأمم مُمَثَّلاً في تقتيل وطرد أمة بأكملها. واضح أن الأمر يتعلق بتوفير غطاء أكاديمي يُبرّر تنفيذ مرسوم الطرد الصادر عن الملك فليب الثالث يوم 22 شتنبر 1609م، إذ قال: "وللقيام بما لَزِمَنا من حِفْظ مملكتنا ودَفْع ما يعرض لها اتّفق نظرُنا... على إخراج جميع الموريسكيين الذين هُمْ في تلك السّلطنة، ويُلقى بهم في بلاد البربر".

    ويَحِق لنا أن نتساءل: وإذا كان الباحثون الأجانب قد اسْتَبْحَروا في تناول جزئيات هذا الموضوع وتوسّعوا في نشره وتلقينه لطلابهم ومباشرة إعداد الأطروحات والرسائل الجامعية للبحث في أدق مفاصله فما هي النتائج التي أسْفرت عنها أعمال الدارسين العرب، والباحثين المغاربة على وجه التحديد، بخصوص هذا الفصل المؤلم من تاريخ الأندلس؟ لا يخفى كيف ظلت أعمال المؤرخين المغاربة وغيرهم من المختصين العرب رهينة تصورات المدارس التاريخية الأجنبية، تتأرجح بين المتداول في هذا البلد أو ذاك بالألسِنة الموروثة حَصْرًا عن عهد الاستعمار: إنجليزيا كان أو فرنسيا أو إسبانيا. ولا يتردّدون في أحسن الحالات عن ترويج نتائج أبحاث رواد المختصين من أمثال باسكوال بورونات وهنري شارل لي وهنري لوبير وغيرهم. وها هم اليوم يتناقلون نتائج أعمال المجدّدين أمثال لويس كارْدِيَاك وبِرْنارْد فانْسُون ومِيكِيل ذي إبَالزا، دون أدنى قدرة على الاجتهاد بفكرة مفيدة.

    أما المهتمون بالدراسات الإسبانية في الجامعة المغربية فقد ظلوا مع استثناءات قليلة منشغلين بتدريس أبجديات اللغة وتلاوة مشاهير النصوص الأدبية، بينما ظلت أقلام المُتَرْجِمين المغاربة غافلة عن نقل أمهات المصادر الإسبانية إلى أوسع القراء والمهتمين بتاريخ الأندلس في العالم العربي. وغَنِيّ عن البيان أن معظم المادة التاريخية المرتبطة بالأندلسيين المنصَّرين إسبانية. ويتعلق الأمر بما يندّ عن الحصر من الوثائق الرسمية والكنَسِية والبلدية وسِجلات الـمُوَثِّقِين وغيرها مما لم يتمكن البحث التاريخي المعاصر إلى اليوم من استيعاب كافة مضامينها. ومن أبرز أصنافها على الإطلاق، نظرا لثراء محتوياتها، "وثائق محاكم التفتيش"، التي ما زال قسم كبير منها خارج دائرة التحليل التاريخي. ناهيك عن الحوليات التاريخية وكتب تقسيم الأراضي وغيرها من المصادر الإسبانية المصَنَّفة بالقشتالية والقطلانية والبلنسية وعجمية أرغون وغيرها من الأعجميات الأيبيرية التي لم تسْترعِ الانتباه المطلوب من طرف المؤرخين المغاربة المختصين في التاريخ الحديث بما فيهم أولئك الذين قدّموا أطروحاتهم عن الفصل الأخير من تاريخ الأندلس.

    وتزخر دُور الأرشيف بفرنسا وإيطاليا والبرتغال وتركيا وغيرها من البلدان بوثائق إضافية. وهي الوثائق التي استقطبت اهتمام مئات الباحثين من مختلف الجنسيات الذين أنجزوا أعمالا ذات شهرة واسعة في الأوساط الأكاديمية. وما كاد القلائل من الدارسين المغاربة ينتبهون إلى غزارة هذا الصّنف من الوثائق وشرعوا في قراءة بعض نصوصها لإنجاز رسائل وأطروحات بهدف الحصول على شواهد ورتب علمية حتى توقفوا عن البحث بمجرد ولوجهم الجامعات وترقيهم في أسلاكها دون تقديم أيّ اجتهادات في موضوع الأندلسيين المُنَصَّرين بإسبانيا والبرتغال.

    وباستثناء بعض النصوص ذات الأهمية اللغوية والمضامين الدينية يكاد صوت الأندلسيين المنصَّرين ينعدم وسط هذا الزَّخْم التوثيقي الإسباني. ولا يخفى كيف بادر رواد المستعربين إلى الكشف عن أهمية ما يُعْرَف ضمن الدراسات الأندلسية بـ"الأدب الأعجمي" و"الموريسكي" المكتوب بالأعجميات الإسبانية والرسم العربي. حدث ذلك على إثر اكتشاف محتويات مكتبة أندلسية كاملة خلال بدايات القرن الماضي بموضع ألموناسيد ذي لا سييرا بناحية سرقسطة. وما كاد بعض المهتمين بالدراسات الإسبانية من الجامعيين المغاربة ينتبهون متأخّرين إلى هذا الكنز المعرفي حتى توقفوا عن البحث في مضامينه مُكتفين بإصدار مقالات يتيمة لم تتجاوز تحليل بعض الكلمات والمفردات اللغوية.

    ولم يكن الدور الملحوظ الذي لعبه الأندلسيون المطرودون في صياغة تاريخ المغرب الحديث لِيَسْتَحِثّ هِمَم الشُّعَب المختصة في الجامعات المغربية للتعمّق في دراسة هذا الموضوع. وقد ظلت معارف المغاربة بخصوصه هزيلة إلى حدّ مُخْجِل. وما دامت مصادر المعرفة غائبة عن حقل البحث الأكاديمي فمن البديهي أن تُسْرِف الأقلام المهتمة بهذا الموضوع في ترديد العموميات والتعبير عن المشاعر وتركيب الجُمَل المزركشة بعبارات الأسى والتحَسّر. وسواء في كتاباتهم العربية أو الفرانكفونية ما زالوا إلى اليوم مُقلّدِين ما كتبه رّواد الباحثين الأجانب أمثال بيِيرْ دان ودو كاستري وكْوَانْدرو وكوثالبيس بوستو عن قراصنة سلا والجمهورية الأندلسية بالرباط، و"الموريسكيين" بالمغرب، دون تقديم إضافات تُذْكَر لا على مستوى مناهج البحث ولا بخصوص المادة التاريخية ولا بإثارة قضايا جديدة. غاية ما تفَتّقت عنه قريحة بعضهم تلوين الأساليب واستبدال بعض المفاهيم من شاكلة "القرصنة" بـ"الجهاد البحري والمقاومة" أو ما إلى ذلك من تعابير.

    وإذا كان المؤرخون والمستعربون الإسبان على اختلاف توجهاتهم الفكرية قد بذلوا جهدا كبيرا لتغطية هذه الفترة من تاريخ بلدهم وإثبات تصَوّراتهم عمّن اعتبروه بمفهومهم: "موريسكيين" فما زالت المكتبة المغربية إلى اليوم شبه فارغة من البحوث المفيدة عن مآل الأندلسيين المُهَجَّرين الذين استقرّوا بمختلف مدن ومناطق البلاد. وليس أدل على العُقْم المنهجي والركون للتقليد من عدم تحفظ الباحثين المغاربة وعموم الدارسين العرب المعاصرين من اقتباس مصطلح "الموريسكيين"، الذي ينِمّ ضِمْنيا عن التمييز العنصري والديني الذي ظل الإسبان الكاثوليك يكنّونه للأندلسيين: مسلمين ويهودا. ولم يتردد بعضهم عن الحديث عن "مقاومة عربية" و"طرد للعرب" من الأندلس إلى ما عدا ذلك من العبارات التي تنم عن إغفال أبجديات التاريخ الأندلسي.

    وغني عن البيان أن عرب الأندلس كانوا خلال القرون الهجرية الأولى مجرد عنصر متفاعل مع بقية العناصر الإثنية المغربية والأيبيرية، عجمية وبربرية. وهي العناصر التي تشكلت منها حينئذ هوية مجتمعية جامعة عُرِفت في دار الإسلام بـ"الهوية الأندلسية". ومن الفاضح تاريخيا أن نتحدث عن قومية أو مقاومة عربية بشبه الجزيرة الأيبيرية خلال بدايات العصر الحديث! وليس أقل افتِضاحا أن تظل أصوات جامعيين مغاربة مُسْتمسكة إلى اليوم في ندواتها ومقالاتها بترديد مفاهيم محاكم التفتيش الكاثوليكية دون أدنى تحفظ، متنكرة لذاكرة أمّة بأكملها من الأندلسيين المنصَّرين بحدّ السّيف والمُهَجَّرين قسْرا من بلدهم، وقد ظلوا مُسْتمسكين إلى حد الموت بهويتهم الأندلسية، رافضين نعتهم بـ"الموريسكيين".

    وما إن التَفَتْنا إلى هذا الموضوع الذي لا يَنْدَرج ضمن الحقل المعرفي الذي انصَبَّت عليه أبحاثنا المرتبطة بالعصر الوسيط حتى تجلى الفراغ الواسع الناتج عن إهمال الدارسين المغاربة المختصين في التاريخ الحديث وعجزهم عن أداء رسالتهم رغم أغلبيتهم العددية. ولذلك بادَرَت مؤسسة الإدريسي المغربية الإسبانية للبحث التاريخي والأثري والمعماري بالتعاون مع المركز الثقافي الإسلامي ببلنسية منذ سنة 2007 إلى تكوين مجموعة بحث مغربية إسبانية برتغالية وفق مقتضيات قانونها الأساسي لانتشال ما أمكن من ذاكرة الأندلسيين الشفوية.

    وقد عمدنا في سنة 2009 إلى تنظيم مؤتمر دولي بجامعة بلنسية حول "الموريسكيين" البلنسيين، ووقّعْنا اتفاقية تعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة تطوان على أمل أن نُقَدّم تكوينا مختصّا لطلاب العلم وفتح الآفاق أمام الدارسين والمهتمين للبحث في هذا الموضوع المُهْمَل والغامض. وفي نفس السياق شاركنا أيام 23- 30 مارس 2013 المنصرم في مهرجان تطوان الدولي التاسع عشر لسينما البحر الأبيض المتوسط بمائدة مستديرة مع أفلام وثائقية في موضوع "السينما وتاريخ الموريسكيين- وجهات نظر أخرى" بحضور خبراء ومُختصين منهم من أمضى نحو 12 سنة في التنقيب عن مضامين الوثائق المخطوطة وإحصاء أعقاب الأندلسيين المُنَصَّرين بأسبانيا.

    ولا نسْتغرب في ظل الفراغ العلمي الهائل أن تنزلق الأقلام غير المختصة من دائرة البحث التاريخي إلى ترديد مقالات الغير وخرْبشة الكلام بالأقاصيص المُسَلِّيَة وعقد المجامع لاجترار الهذر بمشاع القيل والقال. وها هي أصوات هؤلاء وأولئك صادحة بالجهالات في محاولة لتحويل الأندلسيين وحضارتهم من موضوع تاريخي إلى سلعة في أسواق السّاسة، تماما كما دأب أمثالهم من المنتفعين والمتسلقين وأشباه الباحثين على التسوّق بالنفخ في الكلام عن شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي وبطولات أهل الريف يُرَدّدُون مقالات غيرهم، وهُمْ أعجز الناس وأكسلهم عن البحث في التاريخ".

    [23] ليفى برفنسال/ حضارة العرب فى الأندلس/ ترجمة ذوقان قرقوط/ 16- 17.

    [24] سبق أن ناقشت د. حسين مؤنس بخصوص هذا الرأى، وبينت مدى مجافاته لمنطق الحياة والواقع.

    [25] انظر د. أسعد حومد/ محنة العرب فى الأندلس/ 240.

    [26] عادل سعيد بشتاوى/ الأندلسيون المواركة- دراسة في تاريخ الأندلسيين بعد سقوط غرناطة/ مطابع إنترناشيونال برس/ القاهرة/ 1403هـ- 1983م/ 258.

    [27] انظر ص150 من كتاب د. لوى كاردياك: "الموريسكيون المسلمون والمسيحيون"/ ترجمة د. عبد الجليل التميمى.

    [28] Stanley Lane-Pool, TheMoors in Spain, New York & London, 1903, PP. 270- 271

    [29] مشهورة جدا فى تاريخ الأندلس شكوى ألفارو القسيس القرطبي من شبان النصارى فى الأندلس، إذ يقول: "يطرب إخواني المسيحيون لأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء و الفلاسفة المحمديين، لا لتفنيدها بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين نجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ وا أسفا! إن شباب المسيحيين، الذين هم أبرز الناس مواهبَ، ليسوا على علم بأي أدب و لا أية لغة غير العربية، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة. وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية إذا ذُكِرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلّفات غير جديرة بالتفاتهم. لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة العربية فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة! بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم" (جوستاف إ. فون جرونباوم/ حضارة الإسلام/ ترجمة عبد العزيز توفيق/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ مكتبة الأسرة/ 1997م/ 81- 82). فإذا كان هذا هو موقف الشبان النصارى الإسبان من لغة القرآن فما بالنا بالشبان والرجال والشيوخ والنساء المسلمين؟ وما بالنا بموقف المبدعين من تلك اللغة؟ ولقد كان كثير من أولئك المبدعين يهودا ونصارى، فما بالنا بالمبدعين المسلمين؟ وانظر مثلا ما كتبه المستشرق الإسبانى آنخل جنثالث بالنثيا عن الشعراء والكتاب اليهود فى الأندلس واتخاذهم اللغة العربية وسيلتهم فى هذا الإبداع وعكوفهم على الثقافة العربية حتى بعد انطفاء الحكم الإسلامى فى الأندلس، وكذلك تصويره لانكباب النصارى على الثقافة العربية على نفس النحو (تاريخ الفكر الأندلسى/ ترجمة د. حسن مؤنس/ 26- 29، 486 وما يليها).

    [30] فى "تاريخ الفكر الأندلسى" يؤكد المستشرق الإسبانى آنخل جونثالث بالنثيا أن أهل البلاد، أى الأوربيين من سكان شبه الجزيرةا لأيبيرية، قد تعلموا اللغة العربية، إذ كانت لغة الدولة والدين فى الإسلام، وأقبلوا على اعتناق الإسلام فى حرية ورضا، وتم التزاوج فى سهولة ويسر بينهم وبين العرب الفاتحين، ووجدوا فى الإسلام الطمأنينة والكرامة. بل لم يمض على فتح البلاد الكثير حتى انصهر المستعربون فى الفاتحين العرب إلى درجة قاربت التلاشى والذوبان فيهم، ولم يعودوا يعرفون سوى اللغة العربية ومطالعة آثارها والكتابه بها مما أثار فزع بعض رجال دينهم (انظر الكتاب المذكور/ ترجمة د. حسن مؤنس/ 1- 2، 5).

    [31] "In the early 17th century the Spanish inquisitors turned their attention to Muslims. Between 1609 and 1614 more than 250,000 Spanish Muslims were driven out of Spain. Later, the Spanish Inquisition sought to discipline persons suspected of practicing Protestantism".

    [32] "(Spanish: “Little Moor”), one of the Spanish Muslims (or their descendants) who became baptized Christians...Though they were racially indistinguishable from their Old Christian neighbours (Christians who had retained their faith under Muslim rule), they continued to speak, write, and dress like Muslims".

    [33] إنتاج 2005م.

    [34] أشعر بالرضا وأنا أقرأ ما يقوله بعض كبار المتخصصين فى هذا الموضوع من أن الأغلبية الساحقة للمورسكييين هم مسلمون من أهل شبه الجزيرة الأيبيرية، وليسوا عربا فقط. لقد كنت أكرر ذلك دائما فى محاضراتى وكتاباتى، لكنى لم أعكف على دراسته إلا فى الأيام الأخيرة، فألفيت عددا مهما من الباحثين يقولون ما كنت أقوله من قبل اعتمادا على مجرد المنطق العقلى المهتدى بخطوط التاريخ الأندلسى العامة.

    [35] ومن هنا رأينا السلطات الإسبانية تفرض عليهم بعد التنصير أسماء أسبانية: فمثلا سُمِّىَ الأميران سعد ونصر، من أمراء البيت الحاكم لغرناطة قبيل سقوطها، بالدوق فرناندو دى جرانادا ودون خوان دى جرانادا، وقائد ألمرية يحيى النيار باسم الدون بيدرو دى جرانادا، وابنه على باسم الدون ألونسو دى جرانادا فنيجاس، وعميد آل الثغرى باسم جونثالفو فرنانديث ثجرى، وشابّ من سلالة الأمويين حكام الأندلس القدامى باسم فرناندو دى كردوفا وفالور، وابن عبو باسم ديجو لوبيث... إلخ (محمد عبد الله عنان/ دولة الإسلام فى الأندلس/ 4/ 315، 366، 269). وهناك أيضا دييجو هرنانديز، وهو اسم رجل مسلم من طليطلة أُجْبِر على التنصر وقُدِّمَتْ فيه شكوى لمحكمة التفتيش. ومثله إنيجو هرارو، الذى كان يتأذى من نوم كلبة زوجته النصرانية معهما فى الفراش، فشكته إلى نفس المحكمة. ولدينا أيضا اسم السيدة جوانا دى توريس، والصياد جينيس دياز، والعبد جوان بوتستا، والمحارب القديم أندريس لوبيز، وألكسندر كاستالانو، ومارونيمو دى كاريون، وألفارو دى كوردوبا، ورودريجو إل روبيو، وماريانا فرانكو، وبرينادا سواريز، ولوب هنستروسا، وماتيو بيريز، وبدرو زامورانو، وجوان كاراتون، والفقيه ميجويل كافانى... إلخ (د. لوى كاردياك/ الموريسكيون المسلمون والمسيحيون/ ترجمة د. عبد الجليل التميمى/ 20- 22، 64، 69- 70، 72- 74، 78).

    [36] انظر د.على مظهر/ محاكم التفتيش/ 26 وما بعدها، 82، ومحمد عبد الله عنان/ دولة الإسلام فى الأندلس- ج4 نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصِّرين/ الفصل الثانى كله من الكتاب الثالث بدءا من ص328، وهو بعنوان "ديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية".

    [37] انظر د. لوى كاردياك/ الموريسكيون المسلمون والمسيحيون/ ترجمة د. عبد الجليل التميمى/ 27، 32، 44، 81- 82، 90 وما بعدها، وكتابى: "نظرات إسلامية فى الموسوعة العربية الميسرة"/ مكتبة السوادى للتوزيع/ جدة/ 1415هـ- 1995م/ 66- 69.

    [38] انظر د.على مظهر/ محاكم التفتيش/53- 54، 84- 86، 97- 98، ومحمد عبد الله عنان/ دولة الإسلام فى الأندلس- ج4 نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصِّرين/ الفصل الثانى كله من الكتاب الثالث بدءا من ص328، وهو بعنوان "ديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية". وكان مسلمو أسبانيا يصفون محاكم التفتيش بأنها محاكم الشيطان، وأنها تقوم على العجرفة والاختلاس واللواط والفجور والسباب والجحود والغرور والتكبر والاستبداد والسرقة والجهل والظلم والظلام، وأن رجالها حلفاء الشيطان (انظر لوى كاردياك/ الموريسكيون المسلمون والمسيحيون/ ترجمة د. عبد الجليل التميمى/ 103- 104). والواقع أن هذه الصفات لا تمثل واحدا على المليون من الحقيقة البشعة لتلك المحاكم الإبليسبة طبقا لما ذكره المؤرخون من الإسبان والأوربيين أنفسهم، وهم الذين عرفنا وعرف العالم كله منهم حقيقة أمرها.

    [39] انظر لوى كاردياك/ الموريسكيون المسلمون والمسيحيون/ ترجمة د. عبد الجليل التميمى/ 111- 113.

    [40] انظر كتابى: "الحضارة الإسلامية- نصوص من القرآن والحديث ولمحات من التاريخ"/ دار الفردوس/ 1432هـ-2011م/ 70- 71.





    [41] عند مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس أرسل نابليون حملته إلى أسبانيا، وأصدر مرسوما سنة 1808 م بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية. ولنستمع إلى هذه القصة التي يرويها لنا أحد ضباط الجيش الفرنسي الذي دخل إلى إسبانيا بعد الثورة الفرنسية، وهو الكولونيل ليموتسكي أحد ضباط الحملة الفرنسية في إسبانيا: "كنت سنة 1809 ملحقا بالجيش الفرنسي الذي يقاتل في إسبانيا، وكانت فرقتي بين فرق الجيش الذي احتل مدريد العاصمة، وكان الإمبراطور نابيلون أصدر مرسوما سنة 1808 بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية. غير أن هذا الأمر أُهْمِل العمل به للحالة والاضطرابات السياسية التي سادت وقتئذ. وصمم الرهبان الجزوبت أصحاب الديوان الملغى على قتل وتعذيب كل فرنسي يقع في أيديهم انتقاما من القرار الصادر وإلقاءً للرعب في قلوب الفرنسيين حتى يضطروا إلى إخلاء البلاد فيخلوا لهم الجو. وبينما أسير في إحدى الليالي أجتاز شارعا يقل المرور فيه من شوارع مدريد إذ باثنين مسلحين قد هجما عليّ يبغيان قتلي، فدافعت عن حياتي دفاعا شديدا، ولم ينجني من القتل إلا قدوم سرية من جيشنا مكلفة بالتطواف في المدينة، وهي كوكبة من الفرسان تحمل المصابيح وتبيت الليل ساهرة على حفظ النظام. فما إن شاهدها القاتلان حتى لاذا بالهرب. وتبين من ملابسهما أنهما من جنود ديوان التفتيش. فأسرعت إلى المارشال سولت الحاكم العسكري لمدريد وقصصت عليه النبأ، وقال: لا شك بأن من يُقْتَل من جنودنا كل ليلة إنما هو من صنع أولئك الأشرار. لا بد من معاقبتهم وتنفيذ قرار الإمبراطور بحل ديوانهم. والآن خذ معك ألف جندي وأربع مدافع وهاجم دير الديوان واقبض على هؤلاء الرهبان الأبالسة".

    ثم يتابع قائلا: "أصدرتُ الأمر لجنودي بالقبض على أولئك القساوسة جميعا وعلى جنودهم الحراس توطئةً لتقديمهم إلى مجلس عسكري، ثم أخذنا نبحث بين قاعات وكراسيّ هزازة وسجاجيد فارسية وصور ومكاتب كبيرة. وقد صنعت أرض هذه الغرفة من الخشب المصقول المدهون بالشمع. وكان شذى العطر يعبق أرجاء الغرف فتبدو الساحة كلها أشبه بأبهاء القصور الفخمة التي لا يسكنها إلا ملوك قصروا حياتهم على الترف واللهو. وعلمنا بعد أنَّ تلك الروائح المعطرة تنبعث من شمع يوقد أمام صور الرهبان. ويظهر أن هذا الشمع قد خلط به ماء الورد.

    وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب. إننا فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها، فلم نجد شيئا يدل على وجود ديوان للتفتيش، فعزمنا على الخروج من الدير يائسين. كان الرهبان أثناء التفتيش يُقْسِمون ويؤكدون أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهما باطلة، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس توشك عيناه أن تطفرا بالدموع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير. لكن اللفتنانت دي ليل استمهلني قائلا: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنته حتى الآن؟ قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئا مريبا. فماذا تريد يا لفتنانت؟ قال: إنني أرغب أن أفحص أرضية هذه الغرف، فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها.

    عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة. وكنا نرقب الماء، فإذا بالأرض قد ابتلعته في إحدى الغرف. فصفق الضابط دي ليل من شدة فرحه، وقال: ها هو الباب،. انظروا. فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف. كان قطعة من أرض الغرفة، يُفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب رجل مكتب رئيس الدير. أخذ الجنود يكسرون الباب بقحوف البنادق، فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها الغبرة. وفُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر كانت تضئ أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين. ولما هممت بالنزول وضع راهب يسوعى يده على كتفي متلطفا، وقال لي: يابني، لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال. إنها شمعة مقدسة.

    قلت له: يا هذا إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء. وسنرى من النجس فينا، ومن القاتل السفاك. وهبطت على دَرَج السلم يتبعني سائر الضباط والجنود شاهرين سيوفهم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مرعبة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام به حلقة حديدية ضخمة، ورُبِطَتْ بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بها. وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء. ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض. رأيت فيها ما يستفز نفسي ويدعوني إلى القشعريرة والتـقزز طوال حياتي. رأينا غرفا صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفا على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممدا بها حتى الموت، وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان. ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي. وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها. كان السجناء رجالا ونساءً تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين. وقد استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء وتحطيم أغلالهم، وهم في الرمق الأخير من الحياة. كان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبوا عليه من عذاب. وكان السجناء جميعا عرايا حتى اضْطُرّ جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعض السجناء. أخرجنا السجناء إلى النور تدريجيا حتى لا تذهب أبصارهم. كانوا يبكون فرحا، وهم يقبّلون أيدي الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب وأعادوهم إلى الحياة. كان مشهدا يبكي الصخور. ثم انتقلنا إلى غرف أخرى فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان. عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب منها آلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري. كانوا يبدؤون بسحق عظام الأرجل ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة والدماء الممزوجة باللحم المفروم. هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين. ثم عثرنا على صندوقٍ في حجم جسم رأس الإنسان تماما يوضع فيه رأس الذي يريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال حتى لا يستطيع الحركة. وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام، في كل دقيقة نقطة. وقد جُنّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت. وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة. كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره. فإذا أغلق مزق جسم المعذب المسكين، وقطعه إِرْبًا إِرْبًا. كما تم العثور على آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد ليخرج اللسان معها، ليقص قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنفٍ حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين. وتم العثور على سياط من الحديد الشائك يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم".

    [42] وفى المادة المخصصة فى النسخة العربية من موسوعة "ويكيبيديا" للشهاب الحجرى، وهو مسلم موريسكى هرب من أسبانيا بعد سقوطها فى يد النصارى، واستقر فى بلاد المغرب حيث عمل مترجما ودبلوماسيا بالبلاط السلطانى هناك، أنه أجرى فى هولندا مفاوضات مع الأمير الهولندى موريس من أورانج حول إمكانية حدوث تحالف بين هولندا والإمبراطورية العثمانية والمغرب والموريسكيين، ضد العدو المشترك: أسبانيا، إذ كان أكبر هَمّ أفوقاى هو استرجاع الأندلس وإقناع الحكام بالتوجه إلى تحريره، لكنه فشل في ذلك. وكتب أفوقاى قائلا: "جزيرة الأندلس استردادها سهل، و استرجاعها قريب... ولما دخلت في أيام المنصور مراكش وجدت عنده من الخيل نحو ستة و عشرين ألفا. فلو تحركت هذه لَفَتَحَها واستولت عليها في الحين". وأضاف محرر المادة أن هذه الدعوة لم تصدر من الشهاب الحجرى وحده، بل كان أغلب القادة العسكريين الأندلسيين فى الجيش المغربي يضغطون ويمهدون لدخول أسبانيا، خصوصا بعد هزيمة الأرمادا، لكن السلطان عد هذه المغامرة تهورا، وبدلا من ذلك صرف طاقة الجيش في الحرب المغربية السونغية فى الصحراء الكبرى. وقد فصل محمد عبد الله عنان بعض الشىء فى الكلام عن حياة الشهاب الحجرى ومغامرته فى الهروب من أسبانيا والاضطهادات الشنيعة التى وقعت على المسلمين هناك (انظر كتابه: "دولة الإسلام فى الأندلس- ج4 نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصِّرين/ 502- 504). وقد صدرت رحلة أفوقاى المعروف بـ"اشهاب الحجرى" عام 2004م عن دار السويدى بأبو ظبى والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، بعنوان "رحلة أفوقاى الأندلسى- مختصر رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب" فى سلسلة "ارتياد الآفاق" بتحرير د. محمد رزوق.

    أما بالنسبة إلى استغاثات الأندلسيين بحكام الإسلام الأقوياء فإليك ما كتبه أشهر متخصص فى تاريخ الأندلس، الأستاذ محمد عبد الله عنان، عن مصير الاستغاثة التى بعثوا بها إلى السلطان فى مصر: "وحاول المسلمون فى يأسهم أن يلجأوا إلى معاونة سلطان مصر، فأرسلوا إليه كتبهم يصفون إكراههم على التنصر، ويطلبون إليه أن ينذر ملك أسبانيا بأنه سوف ينكل بالنصارى المقيمين فى مملكته إذا لم يكف عنهم. فنزل سلطان مصر عند هذه الرغبة وأرسل إلى فرناندو يخطره بما تقدم. وانتهز فرناندو هذه الفرصة فأوفد إلى بلاط القاهرة سنة1501 سفارته التى كان سفيره فيها بيترو مارتيرى الحبر الكاتب والمؤرخ، فأدى مارتيرى سفارته ببراعة، واستطاع إقناع السلطان بما يلقاه مسلمون الأندلسمن من الرعاية، وأن يطمئنه على مصيرهم" (دولة الإسلام فى الأندلس/ 4/ 325).

    [43] ومن ذلك قول ابن إياس فى تاريخه لَدُنْ تدوينه حوادث شهر صفر 906هـ (أغسطس1500م) "عقب محنة التنصير بأشهر قلائل" كما يقول محمد عبد الله عنان (دولة الإسلام فى الأندلس/ 4/ 322): "وفيه جاءت الأخبار من المغرب بأن الفرنج قد اسْتَوْلَوْا على غرناطة، التى هى دار ملك الأندلس، ووضعوا فيها السيف بالمسلمين، وقالوا: من دخل ديننا تركناه، ومن لم يدخل قتلناه. فدخل فى دينهم جماعة كثيرة من المغاربة خوفا على أنفسهم من القتل. ثم ثار عليهم المسلمون ثانيا وانتصفوا عليهم بعض شىء، واستمرت الحرب بينهم. والأمر لله تعالى فى ذلك". وهذا كل ما كتبه ابن إياس، وهو واحد من أكبر وأشهر مؤرخى عصره. وكان الله يحب المحسنين! وبالنسبة إلى سياسة التنصير القسرى الذى اتبعتها السلطات الحكومية والكنسية فى أسبانيا آنذاك هناك كتب ودراسات كثيرة فى هذا الصدد. وآخر ما قرأت منها دراسة يوسف العلوى (Youssef El Alaoui): " L’évangélisation des morisques ou comment effacer les frontières religieuses"، وهى موجودة فى العدد 79 من مجلة "Les Cahiers de la Méditerranée" لعام 2009م/ 51- 72.

    [44] وفى الفترة الحالية ينشط بعض العرب بغية الحصول على شىء من التعويض، وإن كان متأخرا، وهو مجرد تعويض معنوى، فتراهم ينبشون الرماد ليكشفوا الجمرات المحمرة تحته وينفخوا فيها بغية لفت الأنظار إلى ما حاق بأجدادنا الأندلسيين من مآس لا تفوقها سوى مآسى الهنود الحمر فى الأمريكتين، وعلى يد الإسبان وأمثالهم من الأوربيين القساة القلوب المتحجرى المشاعر. والمقال التالى، وهو للدكتور عبد الجليل التميمى الناشط فى هذا المجال، يطلعنا على لمحة من ذلك النشاط المستحدث، منشور فى صفحة الأستاذ الدكتور على المشباك، وعنوانه: "خيانة الأمة العربية والإسلامية للذاكرة الموريسكية الجريحة!"، وتاريخ نشره ‏19 فبراير، 2014م: "حملت إلينا الأنباء هذه الأيام (منتصف شهر فيفري 2014) أن البرلمان الإسباني أقر قانونا جديدا يمنح بموجبه الجنسية الإسبانية لليهود السفاريد الذين طردوا من الأندلس في مارس 1492. ووفقا للتقاريرالصحفية فإن هناك حوالي ثلاثة ملايين من اليهود سيتزاحمون على السفارات والقنصليات الإسبانية عبر العالم للحصول على الجنسية الإسبانية الموعود. وهذا ما يترجم عنقوة الخط التصاعدي للإعلام الدولي المهيمن والمتعاطف مع إسرائيل للتأثير المباشر على البرلمانيين الإسبان للموافقة على هذا القانون الجديد. وللتذكير فقط، ومع الرجع التاريخي، فقد ألقى جلالة الملك الإسباني خوان كارلوس خطابا في مارس 1992 قدم فيه اعتذارا لليهود لطردهم التعسفي من الأندلس، وأن جلالته يرفض حتى يومنا هذا أي اعتذار للمسلمين، الذين أَهْدَوْا لأسبانيا منظومة حضارية متكاملة. وللعلم كنت وجهت منذ 22 سنة إلى جلالته ثلاث رسائل في هذا المعنى راجيا من جلالته التفضل بإقرار أن ما حصل من مأساة طرد الموريسكيين لا يمكن قبوله إطلاقا وأن الدولة الإسبانية عليها واجب الاعتراف بذلك والاعتذار علانية للعالم العربي والإسلامي. إن عدم الاهتمام بالمطالبة بهذا الاعتذار المغيَّب أصلا من تفكيرنا وسلوكنا ومناهجنا التربوية والجامعية هو إدانة مباشرة لوجودنا السياسي وتنكرنا المطلق للذاكرة الموريسكية الجريحة حول تراجيديا طرد الموريسكيين من الأندلس سنة 1609.

    وفي هذا السياق فإن جامعات العالم العربي والإسلامي ومراكزه العديدة ومنظماته سجلت غيابها فلم تساهم للمطالبة بهذا الاعتذار، وقد طالبنا الجميع بمنح هذه الحقبة الزمنية كل الاهتمام بتدريسها وإدخالها في مناهجنا التربوية بالمعاهد وأقسام التاريخ، إلا أن أحدا لم يعر نداءنا منذ ثلاثة عقود أي اهتمام على الإطلاق سواء أكان ذلك في الجامعات العربية أو المنظمات المعنية بالثقافة والتربية والعلوم وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. ومن المخجل لنا حقا أن يقوم أحد أبرز الأساتذة في هذا الاختصاص، وهو العلامة الفرنسي لوي كاردياك، الذي تجاوز سن الثمانين مسخرا حياته لخدمة التاريخ الموريسكي، بالمطالبة بحملة إعلامية جماعية من أجل هذا الحق التاريخي. وإنه سيكون أكثر سعادة وامتنانا إذا ما تحقق هذا المطلب. وعلى الرغم من تجاوزه سن الثمانين ونيف في خدمة التاريخ الموريسكي، سيحتفل بطريقته الخاصة!

    وعليه كم هو بائس حقا موقف العرب والمسلمين الذين، بحكم عدم مطالبتهم أسبانيا رسميا بالاعتذار لما حصل لطرد الموريسكيين من أندلسيتهم، ساهموا بصمتهم وعدم مطالبتهم بحزم وإصرار أسبانيا بهذا الاعتذار الحضاري وأنهم يتحملون المسؤولية الكاملة في هذا الموقف. وهي لعمري وصمة عار في جبينهم جميعا ودون استثناء. ومع هذا لم نطلب من أسبانيا منح المائة ألف موريسكي الذين احتضنتهم تونس يومئذ ووفرت لهم الأمن والأمان، وكذا الخمسين ألف الذين احتضنهم المغرب الأقصى، والثلاثين ألف الذين احتضنتهم الجزائر، وهناك بضعة آلاف احتضنتهم الدولة العثمانية، منحهم الجنسية الإسبانية، إذ مطلبنا يندرج فقط في السياق الحضاري والإنساني، وأن ما قدمه العرب لإسبانيا خلال ثمانية قرون هو أبلغ وأثمن رسالة حضارية لأسبانيا والإنسانية جمعاء. وهي مفخرتنا جميعا، بل أذهب إلى الاعتقاد أن العرب المسلمين قد خانوا تاريخهم الأندلسي والموريسكي بصفة أخص وتنكروا له، وتساؤلي: هل سيستفيق ضميرالعرب والمسلمين يوما ما لتشكيل وعي جماعي فاعل ويطالب البرلمانيين الإسبانيين أن يتبنوا موقفا مشرفا ونبيلا ويأخذوا قرارا جريئا وتاريخيا بتقديم الاعتذار الذي سوف نبقى نطالب به على الدوام؟ والتساؤل المحير: هل سيستفيق هذا الضمير العربي والإسلامي بعد هاته الأحداث الأخيرة ليتبنواموقفا تاريخيا؟ إني، مع أسفي العميق، أشكك أن يكون العرب والمسلمون في موعد مع التاريخ".

    [45] انظر، على سبيل المثال، د. لوى كاردياك/ الموريسكيون المسلمون والمسيحيون/ ترجمة د. عبد الجليل التميمى/ 83-86 حيث نراهم يحيطون علما بما وقع من معارك بين الإسبان والجزائر، ويتجاوبون جيدا مع ما يأتيهم من هناك من أنباء تتعلق بسير المعركة.

    [46] المرجع السابق/ 91- 93، 124.

    [47] انظر المرجع السابق/ 133 وما بعدها.

    [48] انظر "مختصر رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب"/ 35- 36، 38.

    [49] ص47.

    [50] انظر محمد عبد الله عنان/ دولة المسلمين فى الأندلس- العصر الرابع/ 308- 309.

    [51] وهناك موضوع آخر لا أعرف أن المسلمين المعاصرين له قد كتبوا فيه أو أشاروا له، ألا وهو الثورات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية. ولم نعرف إلا من رفاعة الطهطاوى شيئا عن الثورة الفرنسية الثانية فى عشرينات القرن التاسع عشر حين كان رفاعة هناك إماما للبعثة المصرية التعليمية الموجودة فى باريس وواحدا من طلابها، إذ خصص، للكلام عن تلك الثورة وما شاهده من وقائعها، صفحات من كتابه: "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز".

    [52] محمد كرد على/ غابر الأندلس وحاضرها/ 47- 50.

    [53] http://moriscosandalusies.com/?p=435

    [54][54][54] يستطيع القراء أن يقتفوا بعض آثار المورسكيين فى القارات المختلفة من خلال ما هو مكتوب عنهم فى موقع "World Organization Of Andalusian People"، الذى يشرف عليه د. جمال الأحمر. وهو، بالمناسبة، من سلالة المورسكيين. وقد تتبع بحث لقيته على المشباك عنوانه " Les morisques: expulsés ou exterminés? " البلاد التى هاجر إليها المورسكيون، فذكر منها بلاد المغرب والإمبراطورية العثمانية وفرنسا وإيطاليا والهند وبلاد ما وراء الصحراء الكبرى، وبخاصة مالى. وهو فى هذا يعتمد على ما كتبه برونو إتيين فى سلسلة مقالاته المنشورة فى عدد إبريل ومايو 2004م من "le Nouvel Observateur" بعنوان "Nos ancêtres les Sarrasins". والبحث المشار إليه منشور عام 2014 فى "journal albayane": http://www.albayane.press.ma/index.p...ntent&view=art icle&id=13726:etude--les-morisquesn-expulses-ou-exterminesn&catid=54:special& وفى كتاب "السفر إلى المؤتمر" لشيخ العروبة المرحوم أحمد زكى كلام عن التجاء جماعة من الأندلسيين المنفيين، إلى فرنسا حيث انصهروا فى شعبها ونفعوه بما كانوا عليه من خبرة وتفوق فى العلم والصناعة والمدنية (انظر الكتاب المشار إليه/ ط2/ المطبة الأميرية/ القاهرة/ 1311هـ- 1894م/ 434). ولعل أحمد زكى، فى هذا الكتاب الذى ألفه فى أواخر 1892م وبداية 1983م، أول من فتح الكلام عن الأندلس بعد طول صمت (انظر ص445- 446). وفيما يتعلق بتوجه طوائف من المسلمين المنفيين قسرا إلى فرنسا قرأت أن أعداد الذين خرجوا من برجوس إلى فرنسا تقدر بـ16723 تقريبا على مرتين، خلا من تسللوا إليها سرا من أراجون (انظر د. أسعد حومد/ محنة العرب فى الأندلس/ 368- 369).

    [55] عرفت د. الأحمر، وهو أستاذ جامعى مغربى، منذ عدة سنوات دون أن نتقابل، يوم كنا نحن الاثنين ننشر مقالاتنا ودراساتنا بموقع "الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب" (واتا) كل من بلده، فلفت نظرى ما كان ينشره فى ذلك الموقع حول قضية المورسكيين ومطالبته هو وبعض رفاقه، بوصفهم أحفاد هؤلاء القوم، الحكومة الإسبانية بالاعتراف بحقوق المسلمين الذين طُرِدوا من الأندلس أو نُصِّروا قسرا وإكراها، واغتُصِبَتْ أموالهم. ولم أظن وقتها أننى سوف أكتب فى يوم من الأيام فصلا طويلا كهذا الفصل عن المورسكيين.

    [56] فى كتاب "غابر الأندلس وحاضرها" لمحمد كرد على (ص138- 139) أن جماعة من مسلمى الأندلس المهجَّرين قد وصلوا إلى مصر والشام والقسطنطينية وغيرها من بلاد المسلمين.

    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 04/08/2014 الساعة 12:47 AM

  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الفردوس الأندلسى المفقود ومأساة المورسكيين

    كتابات الدكتور إبراهيم عوض‎ shared a link.
    20 minutes ago · Edited
    هذان مقالان: واحد بالعربية، وآخر بالفرنسية عن اكتشاف المسلمين لأمريكا قبل كولومبوس. ونبدأ بالمقال الفرنسى أولا ثم نتلوه بالمقال العربى
    ================================================== ===

    اكتشاف المسلمين لأمريكا
    (مقال بالفرنسية فى موقع الشبيبة الإسلامية بكويبيك)

    Découverte de l'Amérique par les musulman
    9 Avril 2012 , Rédigé par La jeunesse de l'Islam au Québec

    Le sujet est d’une importance capital, et suscitant beaucoup de passion et d’interrogation, la découverte de l’Amérique, qui a été très longtemps synonyme d’une histoire de conquéreurs, (histoire des hommes de troupes).

    Ainsi la découverte du nouveau monde par les européens n’est qu’une légende qui a traversé le temps, institutionnalise dans les établissements scolaires, européens et même musulman.

    En fait le continent américain, n’a pas été découvert par Christophe Colomb, comme on nous la toujours appris mais il a été bien connue bien avant, par d’autre peuple et en particulier par les peuple musulman.

    Les principaux références bibliographique qui ont, infirmé et démontré quel’idée de la découverte de l’Amérique par Christophe est complètement, remise en question.

    1-référence bibliographique :le livre intitulé(Afrique contre Amérique)édité en langue espagnole, par l’auteur luiza isabel al ferris do tolido,Duchesse de la ville de cedonia en Espagne ,descendante de l’une des grandes familles espagnoles, qui a vécu dans son palais ,près de la grande rivière en Andalousie, et qui avait en sa possession des documents et des références bibliographique d’une importance capital ,sur l’histoire de l’Andalousie et de la présence des musulmans en Amérique avant Christophe colombe, du fait que ses ancêtres étaient des généraux et amiraux dans l’armée et la marine espagnole et des gouverneurs en Andalousie .

    2-référence bibliographique : ce sont un ensemble d’article édites par les Drs Charif Ali ben Mountasser ELkatani et Mokhtar Ambou ,et de recherche sur l’entité musulmane,dans le monde contemporain financé par le premier ministre libanais Rafik al Hariri.
    Deux volumes ont vu le jour sur l’islam en Amérique, le premier édité par abdallah quik un musulman d’origine américaine, sur l’islam en Amérique avant Christophe Colomb, professeur à l’université de Toronto, réputé pour son militantisme en Amérique.

    3 -référence bibliographique : très importante en langue anglaise, intitulé (the Melugin ou parfois appelé(the white of the appalachians) , considéré comme les occupants de cette région de l’est de l’Amérique du nord, dont Brand kennedy, écrivain et auteur du livre sur les origines des Melugin,qui a été financé par l’université de virginie ,et cette étude a prouvé que leurs origines , étaient islamique ,du Portugal de la période, de la présence musulmane, et qui ont gardé des traditions islamique à ce jour ,et lune des personnalité importante issue de cette catégorie n’est autre que Abaraham Lincoln, qui a affranchi les esclaves ,pour réparer , les injustices commises par les chrétiens de l’Andalousie.

    A la lumière de documents authentifiés ,deréférences bibliographiques , historiques et archéologiques, on peut en déduire que la découverte de l’Amérique par Christophe Colomb était une légende , car les scandinaves , ont bel et bien foulé le sol du continent américain ,bien avant lui de mille ans.

    Ainsi, les relations, avec l’Amérique était continuel avant et après l’islam, et en particulier après l’avènement de l’islam, et prétendre que l’Amérique a été découverte par ce navigateur n’est que allégation.

    Hayat Canada

    (http://stephanlajeunesse.over-blog.c...103133275.html)
    ================================================== =





    عن الوجود الإسلامي في الأمريكتين قبل كولومبس وأصول «إبراهام لنكولن» الأندلسية؟

    ("عن موقع "إسلام بوست)

    هذه محاضرة ثرية ألقاها الأستاذ الدكتور علي بن المنتصر الكتاني في جمعية الشرفاء الكتانيين بالرباط، المغرب، قبل سنوات، عن الوجود الإسلامي في القارتين الأميركيتين قبل كريستوفر كولومبس بمئات السنين، وفضح كذب ادعاء الأوروبيين اكتشافها.

    والدكتور علي بن المنتصر الكتاني، رحمه الله، كان أستاذا زائرا في مجال الطاقة والعلوم والتكنلوجيا في عدة جامعات أمريكية وعربية، كجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية ومعهد ماساشيوستس للتكنولوجيا M.I.T، بالولايات المتحدة الأميركية، وجامعة الملك عبد العزيز بالرياض، وجامعة الملك فهد للعلوم والتقنية بالظهران.

    وإلى نص المحاضرة:
    الموضوع حقيقة في غاية الأهمية وشيق جدا، وأنا ابتدأت في التعرف عليه منذ كنت مقيما في أميركا. وخلاصته أن أمريكا لم يكتشفها كريستوف كولومب، بل كانت معروفة من لدن كثير من الشعوب، خاصة الشعوب الإسلامية.

    وعرضي هذا سوف أبنيه على ثلاثة كتيبات:

    الكتاب الأول: كتاب مهم جدا في طريق الصدور، والذي عندي هو نسخة عنه من الإنترنت، مكتوبة بالإسبانية: “Africa versus America”، وكتبته لويزا إيزابيل أل فيريس دو توليدو، “Luiza Isabel al ferris Do Tolido”، وهي دوقة مدينة سيدونسا “Cedonia”، وهي سليلة إحدى أكبر العائلات الإسبانية، ولا زالت تعيش في قصرها قريبا من مدينة سان لوقا دو باراميدا “San Luca De Paramida”، قرب نهر الوادي الكبير في الأندلس، وعندها مكتبة ووثائق فريدة من نوعها، بصفة عامة، عن تاريخ الأندلس، وبصفة خاصة عن الوجود الإسلامي في أمريكا قبل كريستوف كولومب، لأن أجدادها كانوا حكام إسبانيا وكانوا جنرالات في الجيش الإسباني، وكانوا حكام الأندلس وأميرالات البحرية الإسبانية. فالوثائق التي في ملكها تعتبر هامة جدا.

    والكتاب الثاني: هو مجموعة مقالات استكتبتها أنا والدكتور مختار امبو بتمويل من رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ضمن موسوعة عن الوجود الإسلامي في العالم اليوم، مجلدان منها عن الإسلام في أمريكا. أول مقال فيها كتبه عبد الله الحكيم كويك، وهو أمريكي مسلم، أستاذ في جامعة طورنطو، وله تاريخ نضالي في أمريكا. كان من مجموعة بلاك تايغرز “Black Tigers”، وكان من المشهورين. ومقالاته هاته عن الإسلام في أمريكا قبل كريستوف كولومب، وهي مقالات موثقة ومهمة جدا.

    الكتاب الثالث: مهم جدا، بالإنجليزي، واسمه الميلنجر “The Malingers”، اسم إذا رآه شخص لا يعيره اهتماما، يسمونهم أحيانا “The white of the Appalachians”، جبال الأبالاش، تقع في شرق الولايات المتحدة، وبها سكان يسمونهم “ميلونجونز”، أحدهم اسمه: “براند كينيدي” “Brand Kennedy”، كتب كتابا عن أصول الميلونجونس بتمويل من جامعة فرجينيا الغربية، وتبين أن أصولهم إسلامية من أندلسيي البرتغال، وبقيت فيهم عادات إسلامية إلى الآن، ومن أهم الشخصيات التي تنتمي إلى هذه الطبقة من الناس: “أبراهام لينكولن”، “Abraham Lincoln”، وتحرير أبراهام لينكولن للعبيد كان انتقاما للأندلس من النصارى بطريقة غير مباشرة، إذ إن التاريخ لا يمسح بهذه السهولة.

    بهذه المقدمة أريد أن ألخص لكم أهم نقاط محاضرتي، وهي:

    أولا: ما هي البراهين التي تثبت الوجود الإسلامي في أمريكا قبل كريستوف كولومب؟.

    ثانيا: هل هذا الوجود قبل كريستوف كولومب مازالت له آثار إلى الآن، أم مُسحت؟ وهذا السؤال ناتج عن اهتمامي بمستقبل الإسلام حول العالم، وهو ما أسميه: “Residual Islam around the world”، توجد شعوب بأكملها وهي من بقايا الإسلام في مختلف بقاع القارات الخمس، ومعنى ذلك: أن رجوع الإسلام إليهم يعتبر من أسهل ما يكون، ونأتي بأمثلة عن أمريكا.

    بعد هذه المقدمة أريد أن أرجع إلى القول بأن اكتشاف أميركا من قبل كرستوف كولومب إنما هو كذبة صريحة، لأن الآن هناك براهين مستفيضة بأن الإسكندنافيين وصلوا إلى أمريكا ألف عام قبل كريستوف كولومب، مثال ذلك تول هايير داليدا “Toll Hoyer Da lida”، الذي كما تعرفون خرج من مدينة آسفي بالمغرب بباخرة صفها بورق البردي “Papyrus”، وقطع المحيط إلى أميركا بسهولة، وبرهن بذلك أن قدماء المصريين ذهبوا كذلك إلى أميركيا.

    إذا؛ فالعلاقات مع أميركا كانت متواصلة قبل الإسلام وبعده، وبصفة خاصة بعد الإسلام من طرف الشعوب الإسلامية. إذن فإن لفظة “اكتشاف”، كلمة تعتبر خرافة مرت علينا ونعلمها لأطفالها، وهذا الذي سأذكره لا يعلّم لأحد في المدارس الإسلامية ولا في غيرها، إذ إن معظم الوثائق الباقية هي الآن في الغرب، ومع الأسف الشديد فوثائقنا العربية ليس عندنا منها شيء، لأن باحثينا لم يبحثوا، ولو بحثوا لوجدوا.

    طبعا؛ سيجد الباحث صعوبة في البحث، لأنه في الوثائق القديمة لن يقولوا “القارة الأمريكية”، إذ إنه لم يكن تقسيم القارات سابقا إلى قارات كما نقسمها الآن، ففي الماضي كانوا يقسمون العالم إلى مناخ، مناخ كذا وكذا. فعندما يتكلمون عن إفريقيا يتكلمون عن مناخها، ويعدون أمريكا من إفريقيا.

    سأقسم حديثي عن الوجود الإسلامي في أمريكا قبل كريستوف كولومب إلى منطقتين اثنتين:

    فالأولى: من المغرب والأندلس.

    الثانية: من إفريقيا العربية الإسلامية، وكلها إسلامية طبعا.

    * المنطقة الأولى: المغرب والأندلس
    أولا؛ القرائن والآثار الموجودة الآن في هذا الوقت، الكلمات، والآثار اللغوية: ففي لغة الهنود الحمر هناك كلمات عربية وأمازيغية بكثرة، ولا يمكن أن تكون موجودة إلا بسبب وجود عربي أو أمازيغي قديم هناك، القرائن التاريخية التي جاءت في الكتب القديمة –العربية وغير العربية– والآثار الموجودة إلى الآن رغم المجهود الكبير الذي عمل عليه الإسبان، بعد كريستوف كولومب لمسح أي أثر للإسلام أو الوجود الإسلامي في القارة الأميركية، وذلك طبعا لتحريف التاريخ.

    العرب قديما كانوا يسمون المحيط الأطلسي بحر الظلمات. إذا نظرنا إلى القرائن الأركيويوجية (الأثرية)، نجد أنه اكتشفت كتابات كوفية في أميريكا الجنوبية بالعربية، فمن أوصلها إلى هناك؟ واكتشفوا في عدة أماكن كنوزا تحوي عملات ذهبية رومانية وأخرى إسلامية.

    وفي العادة إذا اكتشف كنز في محل ما فإن تاريخ ضرب العملة الذي فيه يعتبر تاريخ وصول الكنز إلى المحل المذكور، وذلك طبيعي في البحث العلمي. وآخر عملة اكتشفوها كانت للقرن الثامن الميلادي، أي أن ثمة باخرة إسلامية وصلت في القرن الثامن الميلادي إلى ذلك المحل وتركت ذهبها هناك.

    دعنا نقارن ما ذكرناه -وما وهو إلا غيض من فيض أمثلة أخرى كثيرة- بما جاء في بعض أمهات الكتب العربية. مثلا: أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي؛ ذكر في كتابه “مروج الذهب ومعادن الجوهر” المكتوب عام 956 ميلادية، أن أحد المغامرين من قرطبة اسمه الخشخاش بن سعيد بن الأسود، عبر بحر الظلمات مع جماعة من أصحابه إلى أن وصل إلى الأرض وراء بحر الظلمات، ورجع سنة 889م، ربما من قرأ هذا الكلام في زمنه اعتبر المؤلف مخرفا، وهنا عندي قطعة من كلام المسعودي ربما أترجمها لكم لاحقا، وهو كلام متعلق بمغامرة الخشخاش.

    وقال الخشخاش لما عاد من رحلته وجد أناسا في الأرض التي وصلها، ووصفهم، بل لما رسم المسعودي خريطة للعالم، رسم بعد بحر الظلمات أرضا سماها: الأرض المجهولة. فيكون رسم أرضا هناك ولم يدّع أنه ليس بعد بحر الظلمات أي أرض، كما كان يدعيه الأوروبيون في خرائطهم وكتبهم.

    أي إنه في القرن التاسع الميلادي كان المسلمون يعرفون أن ثمة أرضا وراء بحر الظلمات، وليست هي الهند كما ادعاه كريستوف كولومب، والذي ذهب إلى تلك الأرض وعاد وعاش ومات، وهو يظن أنه إنما ذهب إلى الهند، لم يظن قط أنه اكتشف أرضا جديدة. ولذلك فإلى يومنا هذا بكل جهل يسمي الأوروبيون أمريكا بالهند الغربية “L’Inde Occidental. West India”.

    وثمة وثيقة تاريخية أخرى عندنا في التاريخ العربي؛ وهي قصة ذكرها عمر بن القوطية، وهي حديثه عن رحلة ابن فروخ الأندلسي عام 999م، ومما يظهر من كلامه: أن ابن فروخ لم يصل إلى أمريكا، غير أنه زار جزر كناريا “Canaries”، في المحيط الأطلسي، وقطع منها إلى جزر أخرى في المحيط الأطلسي، ووصف أهالي كناريا ثم عاد إلى الأندلس.

    وثمة قصة مفصلة أكثر من جميع ما ذكرت، وربما يعرفها جميعنا، وهي قصة الشريف الإدريسي الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي بين 1099-1180م، والذي كان من سبتة، شريفا حمّوديا إدريسيا، وكان هو العالم الجغرافي الذي اصطفاه “روجر”، الملك النورماندي لصقلية، الذي كان يعد من الملوك الصقليين المتفتحين تجاه الإسلام، ولم يضطهد المسلمين عندما احتل النورمانديون صقلية وأخذوها من أيديهم.

    ففي كتابه “الممالك والمسالك” جاء بقصة الشباب المغرورين؛ وهم: جماعة خرجوا ببواخر من إشبونة “Lisbon”، وكانت في يد المسلمين وقتها، وقطع هؤلاء المغامرون بحر الظلمات، ورجع بعضهم، وذكروا قصتهم وأنهم وصلوا إلى أرض وصفوها ووصفوا ملوكها. والغريب في الأمر أنهم ذكروا أنهم وجدوا أناسا يتكلمون بالعربية هناك.

    وإذا كان أناس يتكلمون بالعربية هناك فهذا دليل على أن أناسا كثيرين وصلوا قبلهم إلى هناك، حتى تعلم أهلها العربية ليكونوا ترجمانا بينهم وبين الملوك المحليين، وعلى أنه كان هناك وجود إسلامي في ذلك التاريخ على تلك الأرض. الوصف الذي أعطاه هؤلاء المغامرون يظهر أنه وصف للجزر الكارابية، كوبا أو إسبانيولا، أو غيرهما من جزر البحر.

    وهناك أمثلة أخرى في اللغة وغيرها. فأعطي في اللغة أمثلة كذلك: فالأوروبيون رسموا خريطة لأمريكا، ومنها خريطة لفلوريدا، وذلك عام 1564م، ذكروا فيها مدنا ذات أسماء توجد في الأندلس والمغرب. ولكي تكون أسماء عربية هناك، فبالضروري كانت هجرة عربية قبل المائة أو المائتي عام على الأقل. مثلا: في الخارطة هناك مدينة ميارقة، وواضح أنها تحريف لميورقة، وهي جزيرة من الجزر الشرقية المسماة الآن بالبليار، ومدينة اسمها كاديكا، وهي تحريف لقادس الواقعة جنوب الأندلس. وأخرى اسمها “مارّاكو” تساوي: مراكش…إلخ.

    دوقة مدينة سيدونيا، بناء على وثائقها كتبت كتابا في غاية الأهمية إثر تشجيع مني، حيث إنني في دراساتي عن الموريسكيين اكتشفت شيئا غريبا جدا، اكتشفت بأنه عام 1644م، قامت مؤامرة في الأندلس لتحريرها من إسبانيا، وإعادة الدولة الإسلامية فيها، دخلت في هذه المؤامرة فئات أربع:

    أولا: ملك البرتغال، وذلك أول استقلالها الذي كانت أضاعته من قبل بعد هزيمتها في معركة واد المخازن، وانضمت إلى إسبانيا، وفي عام 1644م، أعادت استقلالها.

    ثانيا: شخصية من ولاية المرية اسمه “طاهر الحر”، لم تعط الوثائق اسمه النصراني، وهو ينسب نفسه إلى بيت بني الأحمر. ثار هو وجماعة معه.

    ثالثا: موريسكيو الرباط، في الوثائق المغربية يظنون بأنهم أرادوا التعاون مع النصارى، غير أنهم في الحقيقة أرادوا تحرير الأندلس، حيث كان المقرر أن يدخلوا مصب الوادي الكبير ببواخر ليحتلوا إشبيلية.

    رابعها: وهذا هو الشاهد عندنا: دوق مدينة سيدونيا، والذي كان الحاكم باسم ملك إسبانيا على منطقة الأندلس. فكيف يقوم دوق مدينة سيدونيا الذي يمثل السلطة النصرانية (المسيحية) على الأندلس بمؤامرة من أجل تحرير الأندلس؟ لم أفهم ذلك!!!.

    فلما التقيت الدوقة الحالية لمدينة سيدونيا استدعتني في (قصرها) قرب مدينة سان لوقا دو باراميدا، قرب مصب الوادي الكبير، فقلت لها: “ما سبب ذلك؟!”، وإذا بجوابها كان أغرب مما كنت أتوقع، حيث أجابتني: “بديهي؛ لأن أصلنا –عائلة دوق مدينة سيدونيا– مسلمون، بل أكثر من ذلك أننا كنا مسلمين سرا”. وقالت لي: “تعال أريك في قصرنا؛ كنت أدق حائطا وعندما أسقطته وجدت أسفله مسجدا داخل القصر”، وفعلا صليت –أنا المحاضر– في ذلك المسجد داخل القصر. فإذن؛ هذا الدوق – رحمه الله – قام بمجهود كبير لتحرير الأندلس.

    والأهمية في دوقة مدينة سيدونيا؛ أن عندها مكتبة فاخرة مليئة بالوثائق منذ ثلاثمائة وأربعمائة وخمسمائة عام، من ضمنها وثائق مسلمي أميركا الجنوبية!، والبرهان على الوجود الإسلامي في أميريكا قبل أربعمائة عام من كريستوف كولومب. وأخبرتني أنها خائفة من أنها إذا ماتت –وهي تبلغ حوالي سبعين عاما– من أن تسرق وثائقها وتعدم، لأنها تقول بأنه: “لا ثقة في نصارى إسبانيا إلى يومنا هذا”، وهي تقول بأنه: “إلى يومنا هذا يعدمون الوثائق التاريخية المضادة لخرافاتهم التاريخية التي يحبون إقناع الناس بها”.

    قلت لها: “اكتبي كتابا وضعي هذه الوثائق فيه”، فكان ذلك السبب الأساس لكتابتها هذا الكتاب، فهذا الكتاب الذي سمته: “من إفريقيا إلى أميركا”، كتاب وثائقي رائع، موثق بالوثائق التي عندهم في مكتبة دوق مدينة سيدونيا، هذا الكتاب صدر في هذا الشهر (نهاية سنة 2000)، ومن الضروري أن يترجم للعربية، وإلى لغات أخرى، حيث هو مكتوب باللغة الإسبانية.

    ومن المسائل المهمة التي لا نعرفها معاشر المغاربة، أن ياسين والد عبد الله بن ياسين –مؤسس دولة المرابطين– قطع المحيط الأطلسي وذهب إلى المناطق شمال البرازيل، وغينيا، ونشر فيها الإسلام. ذهب إلى هناك مع جماعات من أتباعه، وأسس منطقة كبيرة كانت تابعة للدولة المرابطية. أي: إن الدولة المرابطية لم تكن في شمال إفريقيا والأندلس والبرتغال فحسب، وإنما كانت أيضا فيما يسمى الآن شمال البرازيل وغينيا، وهذا موثق بالوثائق التي تملكها الدوقة المذكورة.

    وفعلا، وإلى يومنا هذا؛ هناك مدن وقرى في تلك المناطق اسمها: فاس، مراكش، تلمسان، سلا…وقد كنت أظن أن تلك الأسماء جاءت مع الرحالة الإسبان، غير أنها قالت لي: “لا؛ بل كانت قبل مجيء الإسبان، إنما كانت مع وجود المسلمين قبل أربعمائة عام من كريستوف كولومب”.

    إذا؛ بصفة عامة وبتلخيص شديد: العلاقات بين المغرب والأندلس وما يسمى اليوم بأميريكا كانت متواصلة، وحسب معظم العلماء؛ فالآن –سواء من الطرف الإسباني أو الأميركي– فإنهم يعتقدون أن قبل كريستوف كولومب كان الإسلام منتشرا في شمال أمريكا وفي جنوبها، وأن أول عمل قام به كونكيسادور “Conquistador” –الإسبان النصارى– هو متابعة هجومهم على الإسلام الذي كان في الأندلس، بالقضاء على الإسلام والقضاء على الوثائق التي تبرهن أي وجود إسلامي في تلك القارة.

    ورغم هذا المجهود الكبير لم يستطيعوا القضاء على كل شيء.

    * المنطقة الثانية: علاقة الدولة العثمانية وإفريقيا مع أميركا
    الآن نرى علاقة الدولة العثمانية مع أميركا قبل كريستوف كولومب، وسأكمل بذكر علاقات الممالك الإسلامية في إفريقيا الغربية مع أمريكا قبل كريستوف كولومب.

    عام 1929م، اكتشفت خريطة للمحيط الأطلسي رسمها بيري محيي الدين رايس، الذي كان رئيس البحرية العثمانية في وقته، وذلك سنة 919 هـ/ أي: حوالي: 1510-1515م، الخريطة الموجودة الآن: الغريب فيها أنها تعطي خريطة شواطئ أمريكا بتفصيل متناه غير معروف في ذلك الوقت بالتأكيد، وليس الشواطئ فقط، بل أتى بأنهار وأماكن لم يكتشفها الأوروبيون إلا أعوام: 1540-1560م، فهذا يعني – وكما ذكر بيري رايس – بأن هذه الخريطة مبنية على حوالي تسعين خريطة له وللبحارين الأندلسيين والمغاربة الذين قدموا قبله، فسواء هو أو المسلمون قبله سيكونون عرفوا قطعا تلك المناطق، وعرفوا اسمها قبل الأوروبيين.

    ومن ضمن المسائل في هذه الخريطة التي تدل على تقدمهم على الأوروبيين بكثير في معرفتهم بالقارة الأمريكية: أنهم أظهروا جزرا في المحيط الأطلسي لم يكن يعرفها الأوروبيون، بما فيها: جزر الرأس الأخضر “Cap Verde”، وماديرا، وجزر الأزور، وبما فيهم جزر كناريا بالتفصيل، التي كنا نسميها “جزر الخالدات”.

    والغريب في الأمر أنه أظهر بالتفصيل جبال الأنتس التي هي جبال تشيلي غرب قارة جنوب أميركا، التي لم يصلها الأوروبيون إلا عام 1527م، وأظهر أنهارا في كولومبيا، ونهر الأمازون بالتفصيل، ومصبه الذيْن لم يكونا معروفين عند الأوروبيين ولا موجودين في خرائطهم. وأظهر نهر الأمازون بالتفصيل، بحيث رسم في مصب النهر المذكور بوضوح جزيرة يسمونها الآن “ماراجو”، وهي الآن موجودة في الخريطة الحالية التي ما وصلها الأوروبيون إلا آخر القرن السادس عشر.

    من بعد ذلك هناك خريطة للحاج أحمد العثماني عام 1559م، وهي تدل كذلك على معرفة واضحة بالقارة الأميركية متفوقة على معرفة الأوروبيين. والحقيقة أن الرعب الكبير الذي كان للأوروبيين في القرن السادس عشر أن تحتل الدولة العثمانية أمريكا وتطردهم منها كان هاجسهم، ونذكر أنه في القرن السادس عشر كان الوجود الإسلامي ما يزال في إسبانيا، كان الموريسكيون مضطهدين محاربين، بيد أنهم كانوا ما يزالون مقاومين.

    أما الأفارقة؛ فكما قلت لكم: أظهر تول هايير داليدا عام 1969م، بالرحلة التي قام بها من مدينة آسفي المغربية إلى البحر الكاريبي أنه بالإمكان أن يكون قدماء المصريين قد أبحروا إلى أمريكا. لماذا؟. لأنهم وجدوا تشابها كبيرا بين حضارة الأزتك والحضارة المصرية.

    وفعلا؛ يظهر أن أول من قطع البحر من مسلمي إفريقيا الغربية كانوا من مملكة مالي، لأن شهاب الدين العمري قال في كتاب “مسالك الأبصار وممالك الأمصار” بأن سلطان مالي من سموسة (كلمة غير واضحة) لما ذهب للحج عام 1327م، ذهب يوزع الذهب في طريقه لحد أن ثمن الذهب رخص في مصر بسبب ما وزعه من الذهب، وأخبر بأن سلفه أنشأ مائتي سفينة وقطع المحيط الأطلسي نحو الضفة الأخرى وأنابه عليه في حكم مالي ولم يعد قط. وبذلك بقي هو في الملك.

    ووُجدت كتابات في البيرو والبرازيل وجنوب الولايات المتحدة تدل على الوجود الإفريقي من كتابات إما بالحروف الإفريقية بلغة الماندينك؛ وهي لغة لشعب كله مسلم الآن، يسمونهم: “الفلان”، أو بحروف كوفية عربية. وكذلك تركت اللغة المانديكية آثارا لها في الهنود الحمر إلى يومنا هذا.

    والحقيقة؛ انتشر المانديك من البحر الكاريبي إلى شمال وجنوب الأمريكتين، وهناك قبائل هندية إلى يومنا هذا مازالت تكتب بحروف لغة الماندينك.

    هل طمس الإسبان جميع الوجود الإسلامي والوجود المانديكي وآثارهم ولم يبق من ذلك شيء؟!، هذا كثير، ولا يمكن. فإذا رجعنا إلى كتابات المكتشفين الأوروبيين الأوائل بمن فيهم كريستوف كولومب؛ نجد بأنهم ذكروا الوجود الإسلامي في أميريكا.

    فمثلا؛ في كتاب كتبه ليون فيرنيل عام 1920م، وكان أستاذا في جامعة هارفرد، اسم الكتاب “إفريقيا واكتشاف أمريكا”، “Africa and the discovery of America”، يقول فيه: “إن كريستوف كولومب كان واعيا الوعي الكامل بالوجود الإسلامي في أمريكا”، وركز في براهينه على براهين زراعية ولغوية وثقافية، وقال بأن المانديك بصفة خاصة انتشروا في وسط وشمال أمريكا، وتزاوجوا مع قبيلتين من قبائل الهنود الحمر، وهما: “إيروكوا” و”الكونكير” في شمال أمريكا، وانتشروا – كما ذكر – في البحر الكاريبي جنوب أمريكا، وشمالا حتى وصلوا إلى جهات كندا.

    بل وذكر كريستوف كولومب نفسه بأنه وجد أفارقة في أمريكا. وكان يظن بأنهم من السكان الأصليين، ولكن لا يوجد سكان أصليون زنوج في أمريكا. فمن أين أتوا؟!

    “جيم كوفين” كاتب فرنسي، ذكر في كتابه “بربر أمريكا”، “Les Berberes d’Amerique”، بأنه كانت تسكن في أمريكا قبيلة اسمها “المامي”، “Almami”، وهي كلمة معروفة في إفريقيا الغربية معناها: “الإمام”، وهي تقال عن زعماء المسلمين، وذكر بأن أكثريتهم كانت في الهندوراس في أمريكا الوسطى، وذلك قبل كريستوف كولومب.

    كذلك في كتاب “التاريخ القديم لاحتلال المكسيك”، “Historia Antigua de la conquesta de Mexico”، لمانويل إيروسكو إيبيرا، قال: “كانت أمريكا الوسطى والبرازيل بصفة خاصة، مستعمرات لشعوب سود جاؤوا من إفريقيا وانتشروا في أمريكا الوسطى والجنوبية والشمالية”.

    كما اكتشف الراهب فرانسسكو كارسيس، عام 1775م قبيلة من السود مختلطة مع الهنود الحمر في نيوميكسيكو في الولايات المتحدة الأمريكية “المكسيك الجديدة”، واكتشف تماثيل تظهر في الخريطة المرفقة تدل دلالة كاملة بأنها للسود. وبما أنه لا يوجد في أمريكا سود، إذًا كانوا قادمين من إفريقيا.

    وزيادة على كل ما ذكر، هناك آثار للوجود الإفريقي الإسلامي في أمريكا، في شيئين هامين: تجارة الذهب الإفريقي، وتجارة القطن، قبل كولومبوس. ومعروف أن التجارة مع المغرب وإفريقيا كانت كلها على الذهب عبر الصحراء. وسيدي مولاي أحمد الذهبي السعدي –والذي لا يعجبني كثيرا– قطع الصحراء إلى تومبوكتو لضرب دولة إسلامية مسكينة كي ينهب ذهبها ويسكت طلبات المغاربة الذين كانوا يطالبونه بتحرير الموريسكيين في الأندلس.

    من السهل معرفة الذهب الإفريقي في أي مكان كان، لأنه يرتكز على التحليل التالي: لكل 32قسمة من الذهب يوجد 18 من الذهب، و6 من الفضة، و8 أقسام نحاس، وهذه التركيبة من الذهب تدل على أن أصله إفريقي، وخاصة منذ القرن الثالث عشر. وجد هذا الذهب عند الهنود الحمر بأمريكا.

    ولكن هناك قرائن أكثر من القرائن المبنية على الذهب؛ هناك قرائن لغوية، وقرائن شهود عيان.

    القرائن اللغوية: أن الكلمات التي تطلق باللغة العربية، أو اللغات الإفريقية على النقود، هي شبيهة بالكلمات التي تستعمل من طرف قبائل الهنود الحمر، وهذه الكلمات لا يمكن أن تكون جاءت عن طريق الغزوين الإسباني أو الأوروبي.

    فمثلا: بالعربية: غنى، وغنية، وغنيمة. أصبحت بلغة الهنود الحمر: “غواني” “Guani”، معناها: الذهب. كلمة كنقود، ونقية، ونحاس، أصبحت بلغتهم: “نيكاي”، بمعنى: حلي من ذهب. كلمة “التبر”، صارت: “توب”، أي: الذهب. وكذلك لقبا للملك من ملوكهم. أي: أن هذه الكلمات العربية لا يمكن أن تصل إليهم لولا وجود عربي هناك.

    تجارة القطن مهمة كذلك؛ لأنه لم يكن هناك قطن في أمريكا، بل جاء من إفريقيا الغربية، وتعجب كولومب نفسه في كتاباته، حيث قال: “إن الهنود الحمر يلبسون لباسا قطنيا شبيها باللباس الذي تلبسه النساء الغرناطيات المسلمات”. وابنه أكد ذلك الكلام كذلك.

    والغريب في الأمر أن قبيلة موجودة الآن في أمريكا الوسطى اسمها: “كاليفونا” “Galifona” في غواتيمالا، يسمونهم: “الهنود الحمر السود”، لأنهم هنود حمر غير أنهم سود الألوان، وهم من بقايا المسلمين الماندينكا الذين كانوا هناك، وكثير من عاداتهم لا زالت عادات إسلامية إلى الآن. سأتكلم عن هذا عند حديثي عن بقايا هذه الشعوب، ماذا فُعل بها، وكيف كان مصيرها؟.

    وقال “مييرا موس” في مقال في جريدة اسمها: “ديلي كلاريون”، “Daily Clarion”، في “بيليز”، وهي إحدى الجمهوريات الصغيرة الموجودة في أميريكا الوسطى، بتاريخ عام 1946م: “عندما اكتشف كريستوف كولومب الهند الغربية، أي: البحر الكاريبي، عام 1493م، وجد جنسا من البشر أبيض اللون، خشن الشعر، اسمهم: “الكاريب”، كانوا مزارعين، وصيادين في البحر، وكانوا شعبا موحدا ومسالما، يكرهون التعدي والعنف، وكان دينهم: الإسلام، ولغتهم: العربية!”. هكذا قال.

    نحن في المدرسة لا يعلموننا هذا الشيء، يقولون: “كان الكاريب وانقرضوا”. لم ينقرضوا؛ بل أفنوهم!!. أفنوهم!. وإلى هذا اليوم تسمى تلك الجزر بالكاريبي، في البحر الكاريبي، سميت عليهم.

    والذين بقوا –وذلك لمخالطتهم للهنود الحمر– هم: “الكاليفونا”، وقد بقوا إلى يومنا هذا في أمريكا الوسطى، ولا شك أن أصولهم إسلامية، لأن الكثير من العادات الإسلامية لا زالت فيهم.

    أين هي هذه الشعوب الآن؟

    كثير من الشباب المسلم أنشأ علاقات مع الكاليفونا، وكثير منهم رجع إلى الإسلام، وأصبحت مساجد كثيرة تظهر في تلك الشواطئ بين هؤلاء الكاليفونا.

    أما هؤلاء الميلونجونس، والذين هم مهاجرون من البرتغال في أوائل القرن السادس عشر؛ فقد هربوا من محاكم التفتيش إلى البرازيل، فلما جاء البرتغاليون واحتلوا البرازيل؛ تابعتهم محاكم التفتيش، فركبوا البواخر وهربوا إلى أمريكا الشمالية، قبل أن يصلها الإنجليز، واختلطوا مع قبائل الهنود الحمر. غير أن الإنجليز لما عادوا عاملوهم معاملة الهنود الحمر، قتلا وإبادة، فهربوا إلى جبال الأبالاش. واحد منهم اسمه: “بروند كينيدي”، “Brand Kennedy”، أخذ تمويلا من جامعة فرجينيا الغربية “West Virginia”، لدراسة أصول هؤلاء القبائل، ومن أين أتوا، لأنه واحد منهم.

    وبدءا من دراسة عاداتهم؛ اكتشف بأن أصولهم -كما ذكرت- من المسلمين الأندلسيين. والغريب في الأمر أن التاريخ مخيف، فأي شعب يُضطهد إلا وينتقم لنفسه بطريقة من الطرق. وأحد زعماء الولايات المتحدة، الذي هو سليل هذا الشعب، هو “أبراهام لينكولن”، انظر إلى صورته وصورة أفراد الميلونجونز كيف يشبههم، وبذلك يظهر بأن الجذور في تحرير السود هي كأنه يحرر نفسه، فانتقم بتلك الطريقة من النصارى البيض.

    وهذا الذي أهداني هذا الكتاب نفسه، والذي هو أستاذ في جامعة طورنطو”Toronto”، أصله كذلك: من جهة ينتمي للميلونجونس، ومن الجهة الأخرى للزنوج.

    وخلاصة الأمر، أنه يجب أن نعتمد على أنفسنا لمعرفة جذورنا..وإحدى الأسلحة القوية للشعوب المتغطرسة التي تريد أن تمحو وجود الشعوب المستضعفة الأخرى: هي تحريف التاريخ. ولذلك فإنه من العار علينا أن نعتمد في اكتشاف تاريخنا، أو تاريخ الإسلام، أو غيره…على الوثائق الغربية، وإن كنا نحمد الله على بقاء آثار إسلامية في الغرب مثل ما عند دوقة مدينة سيدونيا، والتي أخرجت وثائقها وبرهنت على الوجود الإسلامي أربعمائة وخمسمائة عام في أمريكا الجنوبية قبل كريستوف كولومب. أو يأتي واحد مثل “براند كينيدي”، ليثبت بأن شعبا كاملا من أمريكا الشمالية ذو أصول إسلامية.

    (http://www.islampost.tv/Story/عن-الو...تين-قبل-ك.html)

    Découverte de l'Amérique par les musulmans - La jeunesse de l'Islam au Québec
    stephanlajeunesse.over-blog.com
    Le sujet est d’une importance capital, et suscitant beaucoup de passion et d’interrogation, la découverte de l’Amérique, qui a été très longtemps synonyme d’une histoire de conquéreurs, (histoire des hommes de troupes). Ainsi la découverte du nouveau...


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •