الرسول: تعقيبات على ما كتبه جوزيف هل عن الرسول فى كتابه: "الحضارة العربية"
بقلم إبراهيم عوض


نعبر الآن إلى الفصل الثانى من كتاب المستشرق جوزيف هِلْ، وهو عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وعنوانه: "Mohamed". وأول شىء أحب أن أتعرض له هو ما انتهجه د. إبراهيم أحمد العدوى فى ترجمة هذا الفصل، إذ قال ما نصه: "اقتضى هذا الفصل تعديلا فى الأسلوب، ولا سيما فى بعض الفقرات التى عالج فيها المؤلف شخصية الرسول ودعوته إلى الإسلام، إذ تحمل تجنّ[1] يكشف عن تعصب المؤلف ووقوعه فى الخطإ الذى تردى فيه كثير من غلاة المستشرقين ضيق[2] الأفق"[3]. وكنت أرجو أن يحتفظ المترجم بكلام هِلْ كما هو ثم يرد عليه فى الهامش مثلا، بدلا من أن يغير ما كتبه المؤلف فيجهل القارئ ما قاله فعلا، بل قد يظن أن ما يقوله د. العدوى قريب من كلام المستشرق الجرمانى. ثم إن مثل تلك الكتب غير متوافرة بين أيدينا، وقليل ما هم الذين يعرفون لغات أجنبية بيننا. إن دعوتى هذه لا يمكن أن تنال من الرسول أو من الدين الذى حمّله الله سبحانه مسؤولية تبليغه للعالمين، فالإسلام جبل شامخ مشمخر لا تؤذيه أية كتابات مهما كان من عداء أصحابها له وتجنيهم عليه. والمهم أن نتعرف إلى ديننا من مصادره الأصلية ومن علمائه الكبار الشامخين الذين يستطيعون أن يجلوا وجهه الكريم العظيم. بل لقد استطاع المستشرق الألمانى أن يضع يده على بعض الجوانب العظيمة فى شخصية نبينا رغم أنه لم يكن من المؤمنين به.
ومما حور د.العدوى فيه من كلام مستشرقنا قول هِلْ: "According to the old biographers the Prophet believed he had heard the first words from the other world in a trance"[4]، الذى يعنى أنه، طبقا للكتَّاب الأوائل لسيرته ، كان النبى يعتقد أنه سمع الكلمات الأولى من العالم الآخر فى حالة غياب عن الوعى، إذ جاءت الترجمة هكذا: "وتروى لنا كتب السيرة القديمة أن الرسول سمع هذه الكلمات التى ألقى بها الوحى لأول مرة وهو فى حالة أشبه بالحلم". دعنا من الاختلاف فى التفاصيل بين ترجمتى وترجمة د. العدوى، فليس هذا بالأمر المهم، بل المهم هو أن المؤلف يقول إن النبى "كان يعتقد أنه سمع تلك الكلمات من العالم الآخر" بينما تقول الترجمة إنه سمعها فعلا من الوحى. والفرق واضح بين الأداءين. وكيف يعرف القارئ ما قاله المستشرق بالضبط؟ لقد كانت هناك طريقة أخرى يمكن أن ينهجها المترجم إذا كان يتحرج من نقل الأصل كما هو، إذ كان بمستطاعه أن يكتب ما يريد فى النص، ثم يوضح فى الهامش ما قاله المؤلف. وهى أخف بعض الشىء من إثبات كلام المستشرق فى النص كما هو. إن المستشرق، بطبيعة الحال، لم يكن من المسلمين، ومن الطبيعى إذن ألا يؤمن بالوحى. وهو، على الأقل فى ظاهر القول، لم يرم النبى بالكذب كما يفعل بعض المستشرقين الآخرين الذين يصورونه مخادعا كذابا، بل صوّره صادقا فى اعتقاده بأنه تلقى الوحى من السماء، وإن لم يكن لهذا الاعتقاد وجود خارج نفسه ، إذ هو مجرد تصورات غير صحيحة، لكنه لم يخترعها اختراعا. صحيح أن المستشرق لم يقل ذلك فعلا، بَيْدَ أن هذا هو ما يكمن بين السطور. وللمستشرقين غير المسلمين تفسيرات ثلاثة لنبوة محمد : أنه كان كذابا مخادعا عن سبق إصرار، أو أنه كان واهما مخدوعا يظن أنه نبى على حين أنه لم يكن كذلك، أو أنه كان مريضا بمرض عصبى هو السبب فى الهلاوس أو الهستيريا التى كان يتخيل معها مشاهدة جبريل وسماعه بينما الحقيقة أنه لم يكن هناك ما يُرَى ولا ما يُسْمَع، بل لم يكن هناك جبريل أصلا. إنْ هى إلا أوهام خيلها له المرض النفسى الذى كان يعانى منه. وقد تناول كاتب هذه السطور تلك الشبهات الثلاث وفصّل القول فيها وفى تفنيدها تفصيلا فى كتابه: "مصدر القرآن- دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى".
وسوف أتوقف هنا قليلا إزاء الشبهة الاستشراقية الثانية التى يدعى أصحابها أن النبى محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن نبيا، لكنهم مع ذلك لا يتهمونه بالكذب والتدليس، بل يقولون إنه كان مخدوعا عن أمره فكان يحسب خطأً أنه نبى يوحى إليه من السماء رغم أنه لم يكن وحىٌ ولا يحزنون. ولعل المشركين كانوا يقصدون ذلك عندما اتهموه بالجنون عارضين عليه أن يأتوه بطبيب يعالجه من الرَّئِىّ الذى يأتيه، فما كان منه إلا أن تلا عليهم فى منتهى الهدوء والسكينة صدر سورة "فُصِّلَتْ"، وهو ما لا يمكن أن يكون رد فعل شخص مجنون أو به مس من الجن أبدا، بل شخص يتمتع بالتعقل الشديد والحكمة البالغة. أما فى العصر الحديث فإن نظراء مشركى قريش يتحدثون عن اللاوعى ومكنوناته من الرغبات الدفينة التى لم تتحقق.
ولو كان هذا التفسير صحيحا لما نزل الوحى فى كثير من الأحيان يعارض رغبات الرسول وميوله كما هو الحال مثلا حين تُوُفِّىَ عمه أبو طالب، الذى طالما حماه من القرشيين وسفاهتهم وأذاهم والذى لم يؤمن به رغم هذا، فاستغفر له رغبة منه أن يجنبه الله النار، فنزل قوله تعالى: "ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أُلِى قُرْبَى من بعدما تبيَّن لهم أنهم أصحابُ الجحيم" (التوبة/ 113). وحين قُتِل عمه الحبيب حمزة فى غزوة أحد وُمِّثَل بحثته أقسم فى نوبة من الغيظ بأنه لو ظفر بقريش فى موطن من المواطن ليُمَثِّلَنَّ بثلاثين رجلا منهم، فما كان من القرآن إلا أن نهاه عن المثلة أو أن يتجاوز فى عقوبتهم ما فعلوه، فنزل من فوره على ما أمره به الوحى دون أى تلجلج. وحين شعر بالحرج الشديد من المجتمع وتقاليده فتوقف هنيهة عن التزوج بزينب بنت جحش ابنة عمته وطليقة مولاه زيد بن حارثة نزل القرآن يعاتبه قائلا: "وتخشى الناسَ، والله أَحَقُّ أن تخشاه" (الأحزاب/ 37). وكان تعليق عائشة على الأمر أنه لو كان الرسول كاتما شيئا مما ينزل عليه لكتم تلك الآية. وحدث إبان وفاة ابنه الغالى إبراهيم الصغير، وقد ملأ الحزن فؤاده، أن كسفت الشمس، فظن بعض الصحابة أنها كسفت لموت الغلام، لكنه سرعان ما رد عليهم مرتفعا فوق أحزانه الهائلة قائلا: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته". وكان لا يحب لحم الضب، لكنه لما قُدِّم له ذات مرة اكتفى بأنْ لم يمد يده نحوه، فما كان من خالد بن الوليد، وكان حاضرا، إلا أن أخذ الضب المشوى وأكل منه، بينما احتفظ النبى بهدوئه دون أن ينكر عليه أو يظهر نفوره مما فعل.
ثم بالله كيف تفسر نظرية مكبوتات الوعى نزول قوله تعالى مثلا: "ولو تقوَّل علينا بعضَ الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لَقَطَعْنا منه الوتين * فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين" (الحاقَّة/ 44- 47)، أو قوله عَزَّ مِنْ قائل: "ولولا أنْ ثبَّتْناكَ لقد كدتَ تَرْكَنُ إليهم شيئا قليلا * إذن لأَذَقْناكَ ضِعْفَ الحياة وضِعْفَ المماتِ ثم لا تجد لك علينا نصيرا" (الإسراء/ 74- 75)، وفى الآيتين تهديدأيما تهديد، أو فى قوله : "لستَ عليهم بمسيطر"، "يسألونك عن الساعة: أَيَّانَ مُرْسَاها * فِيمَ أنت من ذكراها؟ * إلى ربك منتهاها * إنما أنت مُنْذِرُ مَنْ يخشاها" (النازعات/ 42- 45)، "قل: لستُ عليكم بوكيل" (الأنعام/ 66)، "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل، وما أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم" (الأحقاف/ 9)، "قل: لا أقول لكم: عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم: إنى مَلَكٌ" (الأنعام/ 50)، "وما أنا عليكم بحفيظ" (الأنعام/ 104)، وفى الآيات إلزام له بالحد الذى لا ينبغى أن يتخطاه وتركيز على أنه بشر من البشر لا يفترق عنهم من هذه الناحية بشىء؟ وعلاوة على ذلك فإن الغالبية الساحقة الماحقة من الوحى لا علاقة بينها وبين الرغبات النبوية، دفينة كانت تلك الرغبات أو غير دفينة، بل بتنظيم أحوال المجتمع وتشريع القواعد التى ينبغى أن تحكمه وبتاريخ الأمم والأنبياء، فكيف يا ترى يصح القول بأن الوحى إنما هو انعكاس لرغبات دفينة فى اللاوعى المحمدى؟
والغريب أنْ يعد مكسيم رودنسون شك الرسول فى أمر الوحى أول نزوله عليه دليلا على أن مصدر الوحى إنسانى لا سماوى. والواقع أن العكس هو الصحيح، فالشخص الذى يأتى تصرفا ما بدافع من رغباته المدفونه لا يشتبه أدنى اشتباه فى مثل تلك الدوافع المكبوتة، ولا يفكر أبدا فى التحقق من صحتها. كذلك فبعض المستشرقين قد فسر نبوته بأنها كانت تنفيسا لحقده على أغنياء قومه. ومدعى هذه الفرية يتجاهل أنه كان من أشد الزاهدين فى المال. ومن الناحية الأخرى لقد كان مال خديجة كله تحت تصرفه، فكيف يشعر بذلك الحقد، وهو لم يكن فقيرا؟ وهذا بافتراض أن شخصية محمد يمكن أن يتسلل إليها الحقد لأى سبب من الأسباب. إن محمدا كبير النفس، عظيم الروح لا يمكن أن يتدهدى إلى هذا القاع من السخائم والأحقاد. إنه سامق فى السماء! ولقد عرض عليه القرشيون، فيما عرضوا، أن يمدوه بما يريد من مال ويقلع عن الدعوة إلى الدين الجديد، لكنه أبى فى شمم ونبل وهدوء أعصاب. ويجد القارئ ذلك كله مفصلا فى كتابى: "مصدرالقرآن" فى الفصل الثانى من بابه الأول.
كذلك يتحدث جوزيف هِلْ عن تردد النبى الشديد قبل أن يدعو القرشيين إلى الإسلام[5]، فيغير المترجم المعنى قائلا إن النبى "عمد إلى نشر رسالته سرا بين قريش"[6]. وهذا غير ذلك. وكان ينبغى أن يلتزم د. العدوى بما كتبه المؤلف ثم يبين فى الهامش مثلا أنه لم يتردد لحظة فى تبليغ رسالته بعد أن أمره الله بالتبليغ، وأن كل ما فعله هو محاولة التحقق من أن ما وقع له فى الغار هو رؤية وسماع حقيقيان لا وهم توهمه. وهذا، بلا أدنى شك، مما يحسب للرسول عليه الصلاة والسلام، إذ معناه أنه كان يتبع منهجا تحقيقيا فى فهم ما حدث، ولم يسارع إلى التصديق الفورى لما شاهده وسمعه، فضلا عن أن يكون قد انتحله دون أن يكون قد وقع له شىء منه. تحكى كتب السيرة أنه ما إن ظهر له الملاك وأمره بقراءة ما يلقيه إليه باسم ربه، الذى خلق كل شىء حتى عدا يرتجف ناحية مكة وظل يعدو إلى أن بلغ البيت فاستنجد بزوجته أن تغطيه. فلما سمعت منه رضى الله عنها ما حدث طمأنته بأن الله لا يمكن أن يخزى مثله فى نبل الخلق وكرم الطبع ورقى الإنسانية وحنان القلب والصدق جزاء سيئا فيسمح للشيطان أن يضلله. وتذهب بعض الكتب الأخرى إلى أنها طلبت منه أن يجلس على فخذها الأيمن مرة، والأيسر مرة أخرى... إلى آخر ما تطالعنا به أمثال تلك الروايات، وكلها تشير إلى أن خديجة كانت تعمل على التيقن من أن ما مر به زوجها فى الغار من تجربة هو من عند الله. وزادت على ذلك أن أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذى أنصت جيدا إلى سرد ما وقع، وكان تعقيبه عليه أن هذا الذى نزل عليه هو نفسه الناموس الذى أتى موسى . ثم تتابع الوحى بما لم يعد معه ريب فى صحته، وتلا ذلك أمرُ الله لرسوله أن يقوم فيبلغ ما يوحى به إليه، فصدع الرسول بالأمر دون أدنى تردد. فهذا هو أمر الوحى على حقيقته نقوله ردا.
وبعد قليل نقرأ فى ترجمة د. العدوى لكتاب هِلْ عن الصلاة: "ومهما يكن من أمر هذه الصلاة وعلاقاتها بالمسيحية أو اليهود فإنها اكتسبت قوة وأهمية خاصة بين المسلمين"[7] فى حين يقول الأصل إنه "من المحتمل أن تكون اليهودية أو النصرانية قد أوحت (إلى النبى) شكل العبادة المعروفة فيها. وأيا ما تكن الحقيقة فى هذا فقد اكتسبت الصلاة بين المسلمين قوة وأهمية خاصة"[8]. وكنت أفضل لو أبقى المترجم الأصل كما هو وعقَّب بما يفيد أنه ليس هناك أدنى دليل على هذا الاحتمال الذى يطرحه بهذه الخفة غير العلمية. فلم تكن هناك كنيسة أو معبد يهودى فى مكة حيث ظهر الإسلام وحيث كان يعيش محمد ويدعو إلى دينه وحيث كان المسلمون الأوائل بعد ذلك يؤدون صلاتهم حتى يقال إنهم قد رَأَوُا اليهود والنصارى وهم يصلون فتأثروا بهم واسْتَوْحَوْا صلاتهم منهم. ومن ناحية أخرى فإن صلاة الإسلام تختلف تماما عن صلاة اليهود والنصارى فى كل شىء، سواء فى الأقوال أو الأفعال أو الحركات أو عدد المرات التى تؤداها يوميا، وقبل ذلك فى مفهوم الإله الذى تقدَّم له الصلوات، كما أن تخطيط المسجد يختلف عن كنيس اليهود وكنائس النصرانى. ومن المعروف أن الصلاة الإسلامية لا تعرف الغناء ولا الموسيقى بتاتا على عكس ما هو موجود لدى اليهود والنصارى. ثم إن الصلاة الجماعية عندنا لا يشترط فى أدائها وجود كاهن مخصوص يقوم بشعائرها، بل يستطيع أى مسلم أن يتولى قيادتها، علاوة على أن الإمام فى صلاتنا يولى وجهه نفس الجهة التى يتجه إليها مأموموه، وهى جهة القبلة، أما فى النصرانية مثلا فإن الكاهن يواجه المصلين.
كما أن اليوم الذى تتم فيه الصلاة الجماعية الأسبوعية فى الإسلام هو يوم الجمعة، بينما اليوم الأسبوعى فى اليهودية هو السبت، وفى النصرانية الأحد. وفوق ذلك فإنه لا يحرم على المسلم العمل فى ذلك اليوم، بل كل ما هو مطلوب منه أن يتركه ساعة الصلاة فقط لا طوال اليوم كما هو الحال فى سبت اليهود، الذى يجب أن يستريح فيه بنو إسرائيل من كل عمل هم ونزلاؤهم وعبيدهم وحيواناتهم[9]، فلا زرع ولا نسج ولا خبز ولا صيد ولا ذبح ولا سلخ ولا بيع ولا إشعال نار أو إطفاؤها مثلا، ومن خالف ذلك يُقْتَل. وعلى بنى إسرائيل أن يقدموا قربانا لله فى ذلك اليوم على نحو مخصوص ويجتمعوا فى المعبد يرتلون الأناشيد والمزامير، ويقرأوا بعض نصوص العهد القديم. ذلك أن المسلم لا يؤمن أن الله قد تعب من خلق الكون فاستراح يوم السبت، وعليه هو أن يستريح يوم السبت كما استراح الله، فالله فى الإسلام لا يصيبه لغوب حتى يستريح. وإن قول النبى : "أضلَّ اللَّهُ عنِ الجمعةِ من كانَ قبلنا: كانَ لليَهودِ يومُ السَّبتِ، والأحدُ للنَّصارى، فَهُمْ لنا تبعٌ إلى يومِ القيامةِ، نحنُ الآخِرونَ من أَهْلِ الدُّنيا، والأوَّلونَ المقضيُّ لَهم قبل الخلائق" ليعكس المسألة عكسا تاما، إذ يبين بجلاء ما بعده جلاء أن الإسلام لا يدين فى شأن ذلك اليوم وعبادته بأى شىء لأهل الكتاب. ولو كان الأمر بخلاف ذلك ما سكت اليهود ولا النصارى ولردوا على الرسول بأنه إنما أخذ الصلاة كلها من دينهم.
ثم إن الإسلام، منذ وقت مبكر، قد أدان ما اعترى كلا من الديانتين من تطور حَادَ بها عما كانت عليه لدن نزولها من عند الله، علاوة على اتهامه لليهود والنصارى بتحريف كتابيهما، فكيف يستوحى صلاة هؤلاء أو هؤلاء مع ذلك؟ كما أن الصلاة فى الكنيسة تتم أمام التماثيل والصور، وفى الإسلام لا تماثيل ولا صور فى أماكن العبادة، بَلْهَ أن كثيرا من المسلمين يرى أن التماثيل حرام مطلقا: فى مواضع العبادة أو فى سواها. بل إن الصلاة عند اليهود والنصارى قد خضعت لتطورات شتى، ولم تثبت على وضع واحد على عكس صلاتنا، فهى هى نفس الصلاة التى كان يصليها النبى وصحابته على وجه التطابق لم يُخْرَم منها شىء. ثم إن صلاتنا يلزمها وضوء، أما الصلاة لدى أهل الكتاب فليس لها وضوء. وفوق هذا وذاك لم نسمع أحدا من اليهود أو النصارى يعاير النبى بأنه قد اسْتَقَى صلاته من الطريقة التى يعبدون هم الله بها. بالعكس كان اليهود مثلا يسخرون من المسلمين فى المدينة كلما نادَوْا إلى الصلاة، إذ تذكر الآية الثامنة والخمسون من سورة "المائدة" أنهم كانوا يتخذونها آنئذ هُزُوًا ولَعِبًا.
وإذا كان الرسول قد تحرج من أخذ الناقوس أو البوق عن اليهود والنصارى كأداة للأذان، والأذان مجرد تنبيه للمسلمين كى يهبُّوا فيستعدوا للصلاة ويروحوا إلى المسجد، فهل تراه يقبل أن يستوحى الصلاة ذاتها منهم؟ كيف ذلك؟ وبأى منطق؟ ففى "التمهيد" لابن عبد البر: "اهتمَّ النبيُّ للصلاةِ: كيفَ يجمعُ الناسُ لها، فقيلَ له: انصبْ رايةً عندَ حضورِ الصلاةِ، فإذا رَأَوْهَا آذنَ بعضهم بعضا. فلم يعجبه ذلك، قال: فذُكِرَ له القُنْعُ (يعني الشَّبُّورُ. وقال زياد: "شَبُّورُ اليهودُ")، فلم يعجبهُ ذلكَ. قال: هو من أمرِ اليهودِ. فذُكِرَ له الناقوسُ، فقال: هو من أمرِ النّصارى. فانصرفَ عبد الله بن زيدٍ، وهو مهتمٌّ بِهَمّ النبيِّ ، فأُرِيَ الأَذَانَ في مَنامِهِ. قال: فغَدَا على رسولِ اللهِ فأخبرهُ فقال: يا رسولَ اللهِ، إني ليس بنائمٍ ولا يقظانٍ إذ أتاني آتٍ فأرانيَ الأذانَ. قال: وكان عمرُ بن الخطابِ قد رَآهُ قبلَ ذلك فكتمه عشرين يوما ثم أخبرَ النبيَّ ، فقال: ما منعكَ أن تخبرنا؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيدٍ، فاستحييتُ. فقال رسولُ اللهَ : يا بلالُ، قم فانظرْ ما يأمركَ به عبد الله بن زيدٍ فافعلهُ. قال: فأذَّنَ بلالٌ". وعلى نفس المنوال كان للمسلمين يوم الجمعة بدلا من سبت اليهود، وأحد النصارى كما سبقت الإشارة. ولو كان للرسول أن يستوحى شيئا من أمور الصلاة عن هؤلاء أو هؤلاء لكان من باب الأولى قد أخذ عنهم سبتهم أو أحدهم، وهو مجرد يوم تؤدى فيه العبادة الأسبوعية، وليس هو العبادة نفسها. فإذا كان قد حرص على تميز المسلمين بيوم صلاتهم الجماعية، فهل تراه يفكر مجرد تفكير فى استيحاء الصلاة كلها منهم؟ وبلغ من حرصه على التميز فى موضوع الصلاة أن سمى معبد المسلمين: "مسجدا" لا كنيسة ولا كنيسا. ثم أين الأخبار التى تقول بأن موضوع استحياء الصلاة، مجرد استيحائها فقط، من اليهود قد وُضِع على بساط البحث؟ أم إن الأمر لا يعدو عند المستشرق أن يكون مجرد خاطر ينبت فى ذهنه بغتة من حيث لا ندرى له مَصْدَرًا ولا مَأْتًى؟
ولكى يدرك القارئ ما فى كلام المستشرق هنا من زيف وتنطع أنقل له النص التالى عن الصلاة فى الديانة اليهودية من موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" للدكتور عبد الوهاب المسيرى تحت عنوان "الصلوات اليهودية". ومنه يتضح ألا صلة بين صلاتنا وصلاة اليهود بأى حال: ""تفيلاه" بالعبرية، وكانت تعني في أصلها "الإرهاق" أو "تعذيب الذات وإظهار الخضوع". والصلاة أهم الشعائر التي تُقَام في المعبد اليهودي. ويذكر سفر "التكوين" جملة صلوات متفرقة وعبادات، كما يذكر الضحايا والقرابين التي يجب أن يقدمها اليهودي للإله. ولم تكن الصلوات في بادئ الأمر محدَّدة ولا إجبارية، بل كانت تُتْلَى ارتجالاً حسب الأحوال والاحتياجات الشخصية والعامة. وثمة إشارة إلى بعض المظاهر المقدَّسة مثل وضع بعض الأحجار على هيئة مذبح قبل التضرع للإله. ومع التهجير إلى بابل بطلت الضحايا والقرابين، وظهرت العبادات بالصلوات. وقد بدأ علماء المجمع الأكبر في وضع قوانينها وفي تقنينها ابتداءً من القرن الخامس قبل الميلاد. ولم تكتمل هذه العملية إلا بعد هدم الهيكل وانتهاء العبادة القربانية المركزية التي كانت تأخذ شكل تقديم الحيوانات والنباتات، وحلت محلها الصلاة التي كان يُطلَق عليها "قربان الشفتين" أو "عبادة القلب". واستغرقت هذه العملية، كما تقدَّم، وقتًا طويلاً. وعلى أية حال فإنها لم تستقر تمامًا، إذ كان يضاف إلى الصلوات قصائد البيُّوط التي يؤلفها الشعراء الدينيون. ثم أُدخلت تعديلات جذرية على الصلوات ابتداءً من أواخر القرن الثامن عشر.
ولا يزال مضمون الصلوات خاضعًا للتغيير حسب التغيرات السياسية والأحداث التاريخية. ففي صلاة الصبح كان اليهودي يشكر الإله على أنه لم يخلقه أمميًا، أي من غير اليهود (الأغيار). والجزء الختامي من الصلاة نفسها، والذي يُتلى أيضًا في صلوات رأس السنة اليهودية ويوم الغفران، يبدأ بالدعاء التالي: "نحمد إله العالمين... أنه لم يجعلنا مثل أمم الأرض... فهم يسجدون للباطل والعدم ويصلون لإله لا ينفعهم". وقد حُذِف الجزء الأخير من الصلوات في غرب أوربا، وظل يُتداوَل شفويًا في شرق أوربا وإسرائيل. وبدأ يُعَاد طبعه مرة أخرى في كتب الصلوات في إسرائيل. كما يمكن أن تُضَاف أدعية وابتهالات مرتبطة بأحداث تاريخية وقومية مختلفة ودعاء للحكومة. وقد كانت الصلاة تُقَام بالعبرية أساسًا. ولكن، مع حركة إصلاح اليهودية، أصبحت الصلاة تُؤَدَّى بلغة الوطن الأم، وإن كـان الأرثوذكس قد احتفظوا بالعبرية. ويُطَعِّم المحافظون صلواتهم بعبارات عبرية.
وتُعَدُّ الصلاة واجبة على اليهودي الذَّكَر لأنها بديل للقربان الذي كان يُقدَّم للإله أيام الهيكل، وعلى اليهودي أن يداوم على الصلاة إلى أن يُعَاد بناء الهيكــل، وعليــه أن يبتهـل إلى الإله لتحقيق ذلك. أما عدد الصلوات الواجبة عليه فهي ثلاث صلوات كل يوم: 1- صلاة الصبح (شحَاريت)، وهي من الفجر حتى نحو ثلث النهار. 2- صلاة نصف النهار، وهي صلاة القربان (منْحه)، من نقطة الزوال إلى قبيل الغروب. 3- صلاة المساء (مَعَاريف)، من بعد غروب الشمس إلى طلوع القمر. وكانت الصلاتان الأخيرتان تُخْتَزَلان إلى صلاة واحدة (منحه - معاريف). ويجب على اليهودي أن يغسل يديه قبل الصلاة، ثم يلبس شال الصلاة (طاليت) وتمائم الصلاة (تفيلين) في صلاة الصباح، وعليه أيضًا أن يغطي رأسه بقبعة اليرمُلكا. والصلوات اليهودية قد تكون معقدة بعض الشيء، ولذا سنكتفي بالإشارة إلى القواعد العامة والعناصر المتكررة: 1- يسبق الصلاة تلاوة الأدعية والابتهالات، ثم قراءة أسفار موسى الخمسة في أيام السبت والأعياد، وتعقبها كذلك الابتهالات والأدعية. وهذه الأدعية والابتهالات لا تتطلب وجود النصاب (منيان) اللازم لإقامة الصلاة لأنها ليست جزءًا أساسيًا من الصلاة. أما الصلاة نفسها فتتكون من: أ- الشمَّاع، أي شهادة التوحيد اليهودية. ب- الثمانية عشر دعاء (شمونة عسْريه) أو العميداه. وهي تسعة عشر دعاء كانت في الأصل ثمانية عشر، ومن هنا كانت التسمية. جـ- دعاء القاديش. هذا، وتُضَاف صلاة تُسَمَّى: "موساف" (الإضافي) يوم السبت وأيام الأعياد. أما في عيد يوم الغفران، فتبدأ الصلاة بتلاوة دعاء كل النذور في صلاة العشاء، وتُضاف صلاة تُسمَّى: "نعيلاه" (الختام).
والصلاة نوعان: فردية ارتجالية تُتْلَى حسب الظروف والاحتياجات الشـخصية، ولا علاقـة لها بالطقوس والمواعيد والمواسم، وأخرى مشتركة، وهذه صلوات تُؤَدَّى باشتراك عشرة أشخاص على الأقل يُطْلَق على عددهم مُصطلَح "منيان"، أي النِّصاب، في مواعيد معلومة وأمكنة مخصوصة حسب الشعائر والقوانين المقررة. ويردد الصلوات كل المشتركين فيها، إلا أجزاء قليلة يرددها القائد أو الإمام أو المرتل (حزَّان) بمفرده. ويتجه اليهودي في صلاته جهة القدس، وأصبح هذا إجراءً معتادًا عند يهود الشرق كافة. أما في القدس نفسها، فيولي المصلي وجهه شطر الهيكل. وتوجد كتب عديدة للصلوات اليهودية لا تختلف كثيرًا في أساس الصلاة والابتهالات، ولكن الخلافات تنحصر في الأغاني والملحقات الأخرى. وقد تغيَّرت حركات اليهود أثناء الصلاة عبر العصور، ففي الماضي كان اليهود يسجدون ويركعون في صلواتهم (ولا يزال الأرثوذكس يفعلون ذلك في الأعياد)، ولكن الأغلبية العظمى تصلي الآن جلوسًا على الكراسي، كما هو الحال في الكنائس المسيحية، إلا في أجزاء معيَّنة من الصلاة مثل تلاوة الثمانية عشر دعاء (شمونه عسريه)، فإنها تُقْرَأ وقوفًا في صمت. ولا يخلع اليهود نعالهم أثناء الصلاة (باستثناء الفلاشاه والسامريين). ويُلاحَظ أن عدد المصليات في الوقت الحاضر يزيد على عدد المصلين في كثير من المعابد اليهودية (الإصلاحية أو المحافظة) مع أن العقيدة اليهودية لا تكلف النساء بالذهاب إلى المعبد، وليس بإمكـانهن تـلاوة الأدعية إلا في أجزاء من أدعية معينة مقصورة عليهن ـ ولا شك في أن المحيط المسيحي قد ترك أثرًا في اليهودية في هذا الشأن.
وقد اكتسـبت الصـلاة أهميـة غير عاديـة في التراث القبَّالي الحلولي، فالقبَّاليون يؤمنون بأن ما يقوم به اليهودي في العالم السفلي يؤثر في العالم العلوي. والصلوات من أهم الأفعال التي يقوم بها اليهودي في هذا المضمار، فالصلاة مثل التعويذة السحرية التي يستطيع من يتلوها أن يتحكم في العالم العلوي. ولما كان اليهود العنصر الأساسي في عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقون)، وهي العملية التي تتم بمقتضاها استعادة الشرارات الإلهية التي تبعثرت وولادة الإله من جديد، فهي تُسْرِع بالتقريب بين العريس/ الملك، والعروس/ الملكة (الشخيناه) وتوحِّد بينهما، كما تسهم في عقد الزواج المقدَّس بينهما. ولذا فإن اليهودي قبل أن يؤدي صلاته، يقول: "من أجل توحيد الواحد المقدَّس... مع أنثاه (الشخيناه)"... وحينما يتلو اليهودي دعاءً قبل الصلاة، فإنه يقول فيه إنه سيقوم بالصلاة حتى يتحقق الزواج المقدَّس (هازيفوج هاقادوش). ولكل فرقة يهودية منهاج أو عرف خاص بها. ولذا، يمكننا الحديث عن المنهاج الإشكنازي، والمنهاج السفاردي".
أما الصلاة عند النصارى فيوضحها النص التالى، وهو منقول من أحد المواقع النصرانية. ومنه يتبين أن صلاتنا مختلفة تمام الاختلاف عن صلاة النصارى أيضا، ولا تربطها بها أوهى صلة. يقول النص: "يمكن تعريف الصلاة في الإيمان المسيحي بأنها "لقاء مع الله". فيها يقدم المصلّي لله الشكر والحمد، ويسأله غفران خطاياه ويرفع أمامه طلباته وتضرعاته. وتندرج الصلاة في سياق عبادة الله الواحد. تدخل الصلاة في صلب حياة المؤمن المسيحي إذ تُعْتَبَر الغذاء الروحي الذي ينمّي الإيمان ويقويه ويثبته. ومن دون الصلاة يضعف المؤمن ويفتر إيمانه ويصبح فريسة سهلة لعدو الإنسان، أي الشيطان. إنه امتياز عظيم أن نكون في محضر الله نكلّمه ونشعر بروحه يقودنا ويرشدنا ويصغي إلى صلواتنا إصغاء الأب الحنون. الصلاة في المسيحية قد تكون فردية أو جماعية: الصلاة الفردية أن يكون المؤمن وحده في مكان معيّن (في بيته، سيارته، عمله، مدرسته أو جامعته، في الطائرة أو البحر أو في أي مكان آخر)، يصلّي لله بخشوع وتقوى ووقار ومهابة. والصلاة الجماعية، وهي غالبا ما تكون ضمن لقاء مجموعة من المؤمنين المسيحيين في اجتماع يدعى اجتماع الصلاة. لا يوجد شروط محدّدة للصلاة، كغسل اليدين مثلاً أو عدد ركعات معينة أو ترداد الكلمات نفسها كلّ مرة. الله لا ينظر إلى خارج الإنسان بل إلى داخله، أي فكره وقلبه (دون إهمال شكله الخارجي). الله يريدنا أنقياء من الداخل كي يُسَرّ بصلواتنا وتكون مقبولة عنده ويرضى بها ويستجيبها بحسب مشيئته. نقرأ في رسالة يعقوب 4: 8.
تحديد وقت الصلاة لا علاقة له بتعليم كتابي أو عقيدة إيمانية. إنما له طابع تنظيمي شكلي فقط. لذا يمكن لكل كنيسة أن تحدِّد موعدا أو وقتا معينا يلتقي فيه المؤمنون للصلاة في الكنيسة، كما يمكن لأي مؤمن أو مجموعة مؤمنين أن يصلّوا في أي وقت يحددونه. نحن نؤمن أنّ الله غير مقيّد بوقت ولا بمكان. وهو يصغي لمؤمنيه في أي وقت يطلبونه ويسألونه، مصلّين له بحمد وشكر وإكرام رافعين إليه تضرعاتهم وطلباتهم بإيمان وبنقاء الفكر والضمير. والإنجيل المقدس يحثّنا على الصلاة قائلاً في إنجيل لوقا 18: 1، وفي كولوسي 4: 2. يصلي المؤمنون بكل الاتجاهات، والله يسمعهم ويقبل صلواتهم إن كانت نابعة وصادرة من قلوب طاهرة وعقول نقيّة". أما من ناحية تنظيم للصلاة عند النصارى فهو أمر تفعله كل كنيسة حسبما يتراءى لها، ولهذا نرى ذلك الأمر يختلف من مذهب إلى مذهب، ومن كنيسة إلى أخرى.
ورغم ما ارتكبه المستشرق الجرمانى من أخطاء فى موضوع الصلاة الإسلامية نراه يلقى الضوء بقوة على دَوْر هذه العبادة فى تخليص العرب من تمردهم وكراهيتهم للخضوع إلى رئاسة الغرباء وطبعهم بطابع النظام والطاعة والوحدة والتضامن والمساواة والتواضع والتعالى عن العصبية القبلية[10]، وهى المعانى والقيم التى يتشربها المسلم حين يقف أمام ربه فى الصلاة، وعن يمينه وشماله وقدامه وخلفه إخوانه من المسلمين المصلين. ولا شك أن هذه من النظرات العميقة التى ينبغى أن نذكرها للمؤلف رغم اختلافنا معه فى كثير من الأمور. وكثير من المسلمين لا يخطر على بالهم ذلك المعنى ولا هذا الجانب من جوانب عبقرية الصلاة، بل يؤدونها والسلام، ثم هم بعد ذلك لا يهتمون خارج الصلاة لا بنظام ولا بطاعة ولا بتعاون، بل أحيانا ما لا يراعون ذلك أثناء تأديتهم إياها. ليس هذا فحسب، بل إنه يبدى إعجابه الشديد يمنظرالمسلمين وهم يصلون، قائلا إنه ما من أحد يشاهد المسلمين وقد انتظموا صفوفا فى الصلاة يؤدون شعائرها فى تناغم مدهش وهيبة ونظام إلا ويلاحظ على الفور القيمة التربوية لتلك الصلاة النظامية. وبالمناسبة فإن كثيرا من المستشرقين الذين شاهدوا صلاة المسلمين الجماعية قد أبدَوْا نفس الرأى وعلقوا بنفس الكلام وعبروا عن نفس الانبهار بما رَأَوْا وسمعوا. وإنى لأنتهز هذه الفرصة وأسأله: أَوَيمكن أن تكون هذه الصلاة التى أدهشتك مأخوذة من صلاة اليهود أو النصارى؟ فلماذا لا تشعر بذات الانبهار أمام تلك الصلاة الأخرى؟
وقد لاحظت أن بعض المستشرقين قد يتنبهون إلى أشياء فى ديننا لا نلتفت عادة إليها ولا نوليها تلك الأهمية التى يرونها لها. وأنا نفسى قد استفدت من بعض هذه الملاحظات التى أرتنى جمال دين محمد وروعته فى ضوء أشد سطوعا وتوهجا من ذى قبل رغم أنهم، بوجه عام، يعملون على التقليل من شأنه وصرف المسلمين عنه. ومن هذا ما قرأته عام 1982م فى لندن فى كتاب بعنوان "Muhammad and Learning" من إعجاب مؤلفه المستشرق ن. ستيفن (N. Stephen) بسبق النبى محمد لكل إنجازات الحضارة الحديثة بأربعة عشر قرنا فى مجال العلم والتعليم حين جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة بينما غاية ما وصلت إليه حضارتنا العصرية بعد كل هذا التقدم الهائل فى جميع المجالات بما لا يعد معه عصر محمد، فضلا عن بيئته التى كانت تسودها الأمية، وفضلا عن أميته هو نفسه، شيئا على الإطلاق، أن التعلم حق من حقوق البشر. وهو ما يعنى أن من حق البشر التنازل عن حقهم فى التعلم فلا يتعلموا، إذ الحق غير الفريضة، فالحق من الممكن والجائز أن يهمله صاحبه، أما الفريضة فواجب لا يمكنه الفكاك منه، ويعاقب على عدم القيام به... إلى آخر ما قال ذلك المستشرق. نعم، لقد كنت أحفظ هذا الحديث منذ صباى، إلا أننى لم ألحظ فيه هذا المعنى البعيد. والفضل فى ذلك يرجع لذلك المستشرق.
ومثل ذلك إبراز آرنولد تُويِنْبِى المؤرخ البريطانى، فى كلامه عن الإسلام والغرب، قيمة الخلوص من التعصب العرقى، التى يعدها إنجازا إسلاميا ضخما، ويرى أن الحضارة الحديثة بحاجة ملحة إلى اكتساب هذه الفضيلة الإسلامية الكريمة، التى لم تستطع الحضارات الأخرى أن تتحلى بها، فكانت القاعدة هى بروز الإحساس العرقى، الذى تجلى بقوة فى الحضارة الحديثة، إذ لم تكن الشعوب الناطقة بالإنجليزية حسنة العشرة مع الشعوب التى غزت بلادها، فكان أنْ قضت أو كادت على السكان الأصليين فى تلك البلاد أو عزلتهم ولم تختلط بهم احتقارا لهم. وقد عبر تُويِنْبِى عن أمله فى الأخذ بتلك القيمة الإسلامية العظيمة إذا أريد حسم الوضع لصالح التسامح والسلام[11].
وفى نفس الموضوع يقول المستشرق البريطانى توماس آرنولد: "إن الذي دفع المسلمين إلي أن يحملوا رسالة الإسلام معهم إلى شعوب البلاد التي دخلوها وجعلهم يَنْشُدون لدينهم بحقٍّ مكانًا بين ما نسميه: "أديان الرسالة" لهي حماسة من ذلك النوع من أجل صدق عقيدتهم... وإن انتشار أكثر من مائتي مليون مسلم في الوقت الحاضر لهو الشاهد على ما كان لهذه الحماسة من أثر خلال الثلاثة عشر قرنا التي تلت ظهور الإسلام... ومع أن هذه الإمبراطورية العظمى قد تصدعت أركانها فيما بعد وتضعضعت قوة الإسلام السياسية ظلت غزواته الروحية مستمرة دون انقطاع. وعندما خربت جموع المغول بغداد (1258م) وأغرقوا في الدماء مجد الدولة العباسية الذاوي، وطرد فرديناند ملك ليون وقشتالة المسلمين من قرطبة (1263م) ودفعت غرناطة آخر معاقل الإسلام في الجزية للملك المسيحي كان الإسلام قد استقرت دعامه وتوطدت أركانه في جزيرة سومطرة، وكان على أهبة أن يحرز تقدما ناجحا في الجزائر الواقعة في بلاد الملايو. وفي هذه اللحظات التي تطرق فيها الضعف السياسي إلى قوة الإسلام نرى أنه قد حقق بعض غزواته الروحية الرائعة. فهناك حالتان تاريخيتان كبريان وطئ فيهما الكفار من المتبربرين بأقدامهم أعناق أتباع الرسول. أولئك هم الأتراك السلاجقة في القرن الحادي عشر، والمغول في القرن الثالث عشر. وفي كلتا هاتين الحالتين نرى ا لفاتحين يعتنقون ديانة المغلوبين. وقد حمل دعاة المسلمين الذين كانوا خلوا كذلك من أي مظهر من مظاهر السلطان الزمني عقيدتهم إلى أفريقية الوسطى والصين وجزائر الهند الشرقية. وتمتد العقيدة الإسلامية اليوم من مراكش إلى زنجبار، ومن سيراليون إلىلا سبيريا والصين، ومن البوسنة إلى غينيا الجديدة... على أنه ينبغى ألا نلتمس الأدلة على روح الدعوة الإسلامية في قسوة المضطهد أو عسف المتعصب ولا حتى في مآثر المحارب المسلم، ذلك البطل الأسطوري الذي حمل السيف في إحدى يديه، وحمل القرآن في اليد الأخرى، وإنما نلتمسها في تلك الأعمال الوديعة الهادئة التى قام بها الدعاة وأصحاب المهن الذين حلموا عقيدتهم إلى كل صقع من الأرض. على أن هؤلاء الدعاة لم يلجأوا إلى اتخاذ مثل هذه الأساليب السلمية في نشر هذا الدين عن طريق الدعوة والإقناع بخلاف ما زعم بعضهم حينما جعلت الظروف القوة والعنف أمرا مستحيلا يتنافى مع الأساليب السياسية. فلقد جاء القرآن مشددا في الحض على هذه الطرق السلمية في غير آية منه... أضف إلى ذلك أن ما أحرزته سيوف المسلمين من نجاح واسع النطاق منقطع النظير قد زعزع عقيدة الشعوب المسيحية التي أصحبت تحت حكمهم، ورأت أن هذه الفتوح قد تمت بعون من الله، وأن المسلمون قد جمعوا بين النعيم في الدنيا وبين التوفيق الالهي، وأن إله الحرب، كما زعموا، لم يجعل النصر إلا في أيدي عباده المختارين. وهكذا ظهر نجاح المسلمين دليلاً علي صدق دينهم... لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين علي قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قُصِد به استئصال الدين المسيحي"[12].
كذلك يلقى هِلْ الضوء على الدور الخطير الذى تؤديه الزكاة والصدقات فى الإسلام. وهو، حين يفعل ذلك، لا يغيب عنه أن الجاهليين القادرين لم يكونوا ينسَوْن الفقراء، لكن ثمة فرقا هاما بين الوضعين هو أن الإسلام لم يترك أمر مساعدة المحتاج للشعور الشخصى كما كان الحال قبل بعثة النبى ، إذ جعل الزكاة ركنا من أركان الدين بحيث لا ترتبط بمزاج الشخص وطباعه وميوله وأغراضه الذاتية وظروفه الوقتية، بل لا بد من إخراجها فى كل حال، مما من شأنه تأمين حياة الفقراء والمساكين مع حفظ كرامتهم فى ذات الوقت، فهى حق لهم، وليست فضلا من المعطى يبذله إن شاء، ويحجبه إن شاء، ويجد فيه المحتاج إهانة له فى جميع الأحوال. والحق أن الزكوات والصدقات هى من الأمور الخطيرة التى جاء بها الإسلام، وهى كفيلة بالقضاء على الفقر فى أى مجتمع متى طبقت تطبيقا سليما من ناحية، ومتى التزم كل قادر من المسلمين بالعمل والإنتاج كما أوجب الإسلام من ناحية أخرى. لكن الملاحَظ أن كثيرا منا لا يخرج زكاته أو لا يؤديها على النحو الذى حدده الإسلام، وأن كثيرا منا أيضا لا يريد أن يجتهد فى البحث عن الرزق كسلاً وخمولاً ورغبةً فى أن يعيش كما تعيش الطفيليات، فتراه يمد يده بالسؤال غافلا عن تحذير النبى لأمثاله من أنهم سوف يأتون يوم القيامة وفى وجوههم نكتة سوداء علامة الخزى والهوان والبلادة والحقارة. كما أن كثيرا منا كذلك لا يهتم بأن يضع صدقته فى يد من يستحق، بل يسقطها فى يد من يقابله من الشحاتين المحترفين، وهو يظن أنه بذلك قد أرضى ربه وضميره، ناسيا أن الإسلام قد حدد المستحقين للزكاة تحديدا دقيقا، ووصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافا، أى ذوو كرامة وتعفف لا يريقون ماء وجوههم فى الشوارع والطرقات دون خجل أو عزة نفس ودون أن يظهر عليهم أبدا أثر ما يجمعونه من أموال من المارة فيظلون طوال عمرهم فى نفس الثياب القذرة المهلهلة، وعلى نفس الهيئة الزَّرِيَّة والانكسار المنفِّر والشكوى الـمُمِلَّة وعبارات الاستجداء المحفوظة التى لا تتغير أبدا، مما يدل على أن الأمر قد استحال على أيديهم حرفةً غيرَ كريمة.
ومما تجاهلته الترجمة العربية من كلام المستشرق الجرمانى قوله إن رسول الله قد أصابه الإحباط واليأس، ففترت عزيمته واعتزل الناس وهو فى حالة استسلام (he lost heart, and waited, resigned in seclusion) حين وجد أنه قد فشل فى مهمته (the failure of his mission) وأن الإسلام لم يعد يتقدم ويكتسب أنصارا جددا رغم كل ما بذله فى سبيل تبليغ الدعوة[13]. ومقطع الحق أن الرسول لم يشعر البتة فى أى يوم أو تحت أى ظرف بِخَوَر العزيمة أو الإحباط رغم كل ما عاناه وتعرض له من تكذيب واتهامات باطلة وسخرية وتآمر على حياته، وإلا فإذا كان عند المستشرق خير عن ذلك الإحباط المزعوم لقد كان عليه أن يخرجه لنا حتى نقتنع بما يقول. والغريب أنه يشكو من أن المعلومات الخاصة بحياته فى المرحلة المكية من دعوته شحيحة، فكيف إذن عرف أنه قد اعتزل الناس واستسلم لإحباطاته وفتور عزيمته؟ لقد صنعه الله على عينه، فلا يمكن أن يعتريه مثل ذلك اليأس المدَّعَى. كما أنه كان يرعاه ويأخذ بناصره طول الوقت، فأَنَّى يأتيه اليأس؟ ومتى اعتزل الرسول المجتمع كما يفترى عليه مستشرقنا؟ وفى أى مكان يا ترى تم هذا الاعتزال؟ وماذا كان يفعل إبان ذلك؟ الحق أنْ لو كان حدث هذا لنزل القرآن يؤاخذه عليه ويعاتبه العتاب الشديد. نعم لقد كان يشعر بالحزن خوفا على قومه من عذاب الجحيم حين يجدهم مصرين على الارتكاس فيما هم فيه من وثنية وتخلف وجهل ووحشية، وكان يريد لهم النجاة فى الآخرة، والعزة والكرامة والتحضر والمكانة العظيمة فى الدنيا، فكان الوحى ينزل عليه مواسيا منبها له إلى أنه قد قام بمسؤوليته خير قيام واضطلع بدوره كما أمره الله، فلا عليه بعد ذلك إن ظل قومه على عصيانهم وتمردهم وكفرهم، إذ تلك مسؤوليتهم هم لا هو. وهذا كل ما هنالك، أما اليأس والإحباط فلا ثم لا ثم لا ثم لا إلى أبد الآباد. وها هو ذا القرآن بين يدينا، فليدلنا هِلْ أو غير هِلْ على نص فيه يشير مجرد إشارة إلى أن اليأس قد انتابه فى مرة من المرات. وهيهات أن يأتينا بمثل ذلك النص!
ولنستمع إلى مناجاته عليه الصلاة والسلام لربه حين ذهب إلى الطائف يريد هدايتهم بعد أن تصلب المكيون فى وجه دعوته الكريمة، فاستقبله هناك العبيد والسفهاء والأطفال بالحجارة والتهكمات المريرة المؤلمة وطاردوه مطاردة بشعة، مما اضطره إلى اللجوء إلى بستان لعُتْبة وشَيْبة ابْنَىْ ربيعة، وشرع يبتهل إلى ربه يلتمس عنده السكينة والصفاء ويعلن أن كل ما يهمه هو ألا يسخط سبحانه عليه. إن نص تلك النجوى موجود بين أيدينا، وليس فيه قط شىء من ذلك اليأس المفتَرَى ظلما وتدليسا. وقد ذكرتُ الطائف هنا لأن المستشرق قد تحدث عنها بوصفها قمة الفشل فى مهمة محمد آنذاك. لنستمع: "اللهمَّ إليكَ أشكو ضعفَ قوتِي وقلةَ حيلتِي وهوانِي على الناسِ يا أرحمَ الرحمينَ. إلى منْ تكلُنِي؟ إلى عدوٍّ يَتَجَهَّمُنِي أو إلى قريبٍ مَلَّكتَهُ أمرِي؟ إنْ لمْ تكنْ ساخطًا عليَّ فلا أُبالِي. غيرَ أنَ عافيتَكَ أوسعُ لي. أعوذُ بنورِ وجهِكَ الكريمِ الذي أضاءَتْ له السماواتُ والأرضُ وأشرقتْ لهُ الظلماتُ وصَلَحَ عليهِ أمرُ الدنيا والآخرةِ أنْ تُحِلَّ عليَّ غضبَكَ، أو تُنزِلَ عليَّ سخطَكَ. ولكَ العُتْبَى حتى تَرضَى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بكَ". فأين اليأس هنا؟ إن بين هذا الدعاء وبين اليأس ملايين السنين الضوئية! بل إنى لأقول بملء الفم دون أى تردد: الواقع أنْ لو كان محمد نبيا مزيفا لكانت الطائف هى المحطة الأخيرة التى يترجل عندها من قطار الزيف هذا. لقد كافأه العبيد والمستضعفون هناك بالحجارة يقذفونه ويُدْمُونه بها، وهو الذى جاء، ضمن ما جاء به، بالعمل على إعادة آدميتهم إليهم ومساواتهم بسادتهم فى العزة والكرامة. فهل مثل هؤلاء ينبغى أن يضيع أى إنسان وقته وكرامته ويُقِلّ قيمته من أجلهم؟ لا كانوا ولا كانت المتاعب التى يلقاها الإنسان فى سبيل انتشالهم من وَهْدة الهوان والحقارة التى هم فيها. هذا إذا كان نبيا زائفا. أما، وهو نبى نقى من عند رب العالمين، فلا يأسٌ ولا تراجعٌ ولا أَبْهٌ بأى أذًى أو ضرر.
وانظر كذلك إلى ما أجاب به رسول الله قومه وعمه حين ذهبوا إلى أبى طالب، وقد ضاقت صدورهم وبَعِلَتْ نفوسهم، قلم يستطيعوا الصبر عليه أكثر من ذلك، وبلغ الأمر بعمه أنْ رجاه لأول مرة فى حياته بالكف عما يؤذيهم منه، بما يعنى أن الأمور قد وصلت آنذاك إلى منتهى وعورتها. يقول ابن إسحاق فى سيرة النبى: "لما بادَى رسولُ الله قومَه بالإسلام وصَدَع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون. وحدب على رسول الله عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله على أمر الله مظهرًا لأمره لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش أن رسول الله لا يُعْتِبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعَيْب آلهتهم، ورَأَوْا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، إن بن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفَّه أحلامنا وضلَّل آباءنا، فإما أن تكفَّه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقًا وردهم ردًّا جميلاً فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه. ثم شَرِىَ الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا. وأكثرت قريش ذكر رسول الله بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضًا عليه. ثم إنهم مَشَوْا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد اسْتَنْهَيْناك من ابن أخيك، فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا مِنْ شَتْم آباءنا وتسفيه أحلامنا وعَيْب آلهتنا حتى تَكُفَّه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا عنه، فعَظُمَ على أبي طالب فراقُ قومه وعداوتهم، ولم يَطِبْ نفسا بإسلام رسول الله لهم ولا خذلانه. وحدث أن قريشًا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، فأَبْقِ عليَّ وعلى نفسك ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاءٌ أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله : يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". فهذا رد محمد على قومه حين تأزمت الأمور بينهم وبينه غاية التأزم كما ترى. فهل يمكن أن ييأس صاحب هذا الرد أو يشعر بكلال العزيمة أو يستولى على قلبه الإحباط والقنوط؟ الجواب: لا بكل يقين!
على أن مستشرقنا الذى يقول إن رسول الله قد انتابه الإحباط وفتور العزيمة إزاء تصلب قومه وقلة الداخلين فى الإسلام منهم هو هو نفسه الذى ينفى ما يردده كثير من نظرائه من أن هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يثرب هى فى الحقيقة هروب، إذ نراه يقول إنها هجرة قد خُطِّط لها تخطيطا محكما، وكان هذا التخطيط تتويجا لما كان دائرا بين الرسول وبعض أهل يثرب ممن كانوا يُلِمّون بسوق عكاظ كل عام، وقابلهم حين كان يهتبل تلك المناسبة ويدعو قصاد ذلك التجمع إلى الإسلام، فشرح الله قوما من أهل يثرب للدعوة الكريمة وزاد عددهم مرة بعد مرة، لينتهى الأمر باتفاق بينه وبينهم على أن يغادر مكة ويلحق ببلادهم فيقوموا بحماية دعوته ممن يقصدها بشر. وكانت هذه بداية التفكير فى الهجرة النبوية الشريفة، التى يحلو للحاقدين من المستشرقين والمبشرين أن يسموها على سبيل المكايدة والمغايظة والإساءة إلى المقام النبوى الشريف: "هروبا". وما هى بهروب، فمثل الرسول فى شجاعته وتجرده وإخلاصه وعناية ربه به وطمأنته إياه بالنصر المبين مهما ادلهمت الأجواء من حوله لا يمكن أن يفكر فى الهروب. إنما كان الأمر خطة للخروج من النطاق الضيق الذى ضربه القرشيون على الدين الجديد إلى بلاد الله الواسعة حيث الهواء الطلق وتوافر فرصة الانتشار فى أرجاء بلاد العرب أولا، ثم العالم الفسيح بعد بلاد العرب ثانيا. ولقد كانت حياته كلها فى ميدان الدعوة سلسلة مترابطة الحلقات فى الشجاعة الأدبية والبدنية، فلم ترتبك خطواته يوما ولم يتقاعس أو يتردد فى تبليغ أى وحى ينزل عليه، وخاض غمار المعارك المتلاحقة ضد قوى البغى والشرك والإجرام المختلفة لا يعرف النكول ولا التراجع مع عدم بدئه أحدا بعدوان. كما بعث، وهو رئيس مدينة صغيرة لا يزال، برسائله إلى الملوك والأمراء والأباطرة من حوله يدعوهم فيها إلى دينه بثقة دونها كل ثقة، وعزيمة تتقاصر عنها العزائم، وأسلوب لا يعرف الثرثرة أو الكزازة ولا يتصاغر أو يتعالى، بل يعرض ما يريد صاحبه بكل لياقة ولباقة.
ولا ريب أن هذه نقطة تحسب لمستشرقنا الجرمانى. بيد أنه سرعان ما يفاجئنا بإطلاق لقظ "فارّين/ آبقين/ هاربين" (fugitives) على المسلمين الذين هاجروا آنذاك من مكة إلى المدينة[14]، مع أن المهاجرين كانوا يغادرون مكة عادة فى وضح النهار، فكيف يقال عنهم: "هاربون"؟ وقد قفز المترجم فوق هذه النقطة فلم يعرض لها بخير أو بشر، خارجا بالصمت عن "لا" و"نعم". كما عاد المؤلف فوصف الهجرة بـ"الهروب" فى أول صفحة فى الفصل الثالث من الكتاب، وهو الفصل الذى خصصه للحديث عن الفتوح الإسلامية حين سمى المهاجرين مرة: "Mohamed's companions in flight"، أى رفقاء محمد فى الهرب، ومرة: "fugitives"، أى الهاربين الآبقين[15]. وهكذا عادت ريمة لعادتها الاستشراقية القديمة.
وعلى نفس المنوال أهمل د. العدوى ترجمة ما كتبه هِلْ عن تغير شخصية الرسول بعد الهجرة وتحوله من نبى متجرد زاهد كل همه الدعوة إلى التوحيد والإصلاح الاجتماعى إلى حاكم يسعى إلى احتياز القوة والرئاسة. كما يزعم أن الرسول قدم تنازلات كثيرة لصالح اليهودية والنصرانية فى يثرب عاملا على إيهام أصحابهما أن الإسلام يوما ما سوف يندمج بهما[16]. وهذا كله كذبٌ صُرَاحٌ من أوله إلى آخره. ترى ما تلك التنازلات التى قدمها الرسول لصالح اليهودية والنصرانية؟ هل ترك الإيمان بالله الواجد الأحد مثلا إلى رب إسرائيل أو إلى الآب والابن والروح القدس؟ هل اعتذر إليهم عما نزل به القرآن من لعن بنى إسرائيل وفضح نفاقهم وكفرهم أو عما قاله فى عيسى من أنه مجرد عبد لله وليس إلها أو ابنا لله؟ هل تراجع عن نبوته، التى دعا الناس جميعا، بما فيهم اليهود والنصارى، إلى الإيمان بها وأكد أن الإيمان بلآخرة يستلزم الإيمان بها، فغير موقفه وأعلن أنه قد صار يهوديا أو نصرانيا أو أن اليهودية أو النصرانية تغنى عن الإسلام وتكفل لصاحبها النجاة فى الآخرة؟ هل هدم مسجده أو صيره كنيسا أو كنيسة؟ إنه لو كان قد فعل شيئا من ذلك لكان فيه حتفه كنبى وسياسى معا، إذ سوف ينفضّ أتباعه عنه، ويشنع عليه اليهود والنصارى ويتخذون منه هدفا لسهام سخريتهم وتهكمهم، ولا يتركونه إلا والإسلام جثة هامدة.
لقد فعل الرسول العكس من كل هذا تماما: فمن ذلك مثلا نزول القرآن بالآيات التالية: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَاْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" (المائدة/ 18)، "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا * فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا* لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء/ 150- 162)، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (المائدة/ 73-81)، "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ" (آل عمران/ 67- 68)، "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ" (آل عمران/ 75- 88)، "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران/ 93- 95)، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (المائدة/ 116- 118)... إلخ.
وهِلْ ذاته يذكر أن الرسول، بعد الهجرة، قد حوَّل القبلة من بيت المقدس والكعبة معا إلى الكعبة وحدها، إذ بعد الانقال إلى يثرب لم يكن ممكنا استقبال القبلتين معا[17]، فكان يتجه نحو الشمال كما كان يصنع فى مكة، لكنه سرعان ما تلقى وحيا من الله يأمره بالتحول بالقبلة نحو الكعبة إلى الجنوب. فهل هذا تنازل لليهود أم هل هو إدارة ظهر لهم؟ إن مستشرقنا للأسف يكتفى دائما فى مثل تلك الاتهامات بإلقاء الدعوى الكاذبة والمضى سريعا دون تقديم أى دليل، معتمدا على أن تفعل الشائعة الكاذبة فعلها فى بعض العقول والنفوس ممن ليس عند أصحابها الخبرة بالطريقة الثعلبية التى ينتهجها كثير من المستشرقين ولا العلم الذى يمكنهم من اكتشاف زيفهم وتدليسهم ولا الوقت الذى ينفقونه فى التقصى والبحث ولا طول البال الذى ينجدهم فى مثل تلك الظروف. من حق هِلْ وغير هِلْ ألا يؤمن بمحمد، لكن لا يصح التدليس فى حقائق التاريخ والكذب فى إيراد وقائعه واتهام الرسول بما ليس فيه وما لا يمكن أبدا أن يكون فيه.
ثم إن المدينة لم يكن فيها نصارى حتى يقال إنه قدم لهم تنازلات. وليرجع القارئ إلى صحيفة المدينة، فلن يجد لهم فيها ذكرا. ومستشرقنا نفسه، حين تناول الحديث عن تلك الصحيفة بُعَيْد ذلك[18]، لم يذكر سوى المسلمين واليهود. كما أن التاريخ لا يورد أية إشارة إلى أن أحدا منهم كان يقطن المدينة، وكل من ظهر من النصارى على مسرحها إنما كان قادما من الخارج، كالحبشة واليمن، يؤدى المهمة التى أتى من أجلها ثم يرحل كما جاء. وهذا يعطيك فكرة عن التدليس الذى قام به هِلْ. لقد ذهب المهاجرون المسلمون إلى الحبشة وواجهوا النجاشى وبطارقته الكبار فى بلادهم ذاتها، وهم أغراب مهاجرون قليلو العدد والعدة، لا قوة لهم هناك ولا ناصر، وكانوا فى ظرف عصيب فاحش الصعوبة، إذ كان قريش قد أرسلت وراءهم من يؤلب النجاشى وبطارقته ضدهم قائلين لهم إنهم يقولون فى المسيح قولا عظيما، يقصدون أنهم لا يقرون بألوهيته ، ورغم كل تلك الظروف المرعبة لم يخفوا ما يقوله القرآن عن المسيح من أنه ليس سوى عبد لله ورسول من رسله، فلا هو الله ولا هو ابن الله، بل تَلَوْا عليهم ما قاله القرآن فيهما دون أية جمجمة أو تخاذل أو مواربة. فكيف يمكن أن يتنازل النبى نفسه للنصارى، الذين لم يكن لهم وجود بالمدينة؟ أيمكن أن يكون أتباعه أقوى منه وأصلب وأحرص على نقاوة الدين الذى جاء هو به وأشجع منه فى مواجهة المآزق والمصاعب؟ أما اليهود فقد كان يدعوهم دائما إلى الإسلام ويحذرهم عاقبة الكفر والعصيان فى الآخرة، ويقول بصريح العبارة إنه لو كان نبيهم موسى ذاته حيا لما وسعه إلا أن يتبعه، وإن لم يحاول قط إكراههم على اعتناق دينه، بل أعطاهم حريتهم كاملة فى ممارسة عقائدهم وعبادتهم وأمَّنهم على أرواحهم وسوَّاهم تماما بالمسلمين، فعضوا اليد التى أكرمتهم وأحسنت إليهم. وكان القرآن دائما ما يجادلهم ويسفه اعتقاداتهم المنحرفة فاضحا خروجهم على دينهم، ومفندا كل شبهة سخيفة يحاولون أن يُجْلِبوا ويُلَبِّسوا بها على المسلمين، وقد مرت بنا آنفا آيات من هذا النوع. أفلو كان الرسول قد تنازل لهم أو للنصارى أكان يهاجمهم بهذا الشكل ويدعوهم إلى الإسلام ويقول لهم إن الكفر بدينه يخلدهم فى النار؟ كيف؟ هذا ما لا أفهمه.
أما تحول محمد من النبوة المتجردة الزاهدة إلى الرياسة والتسلط فأين فى حياته بالمدينة ما يومئ مجرد إيماء إلى هذا؟ لقد قال هِلْ نفسه إنه عليه الصلاة والسلام قد ظل فى الغاية من التواضع والبساطة فى كل أموره لم يحد عنهما، فلم يهتم بأية فخامة أو أبهة على الإطلاق[19]. فلم الكذب إذن والتقول على الرسول بالباطل والبهتان؟ وأين فى تصرفاته ما يدل على أنه مارس الاستبداد ولو يوما واحدا أو تكبر على أحد أو أهان أحدا أو اغتصب مال أحد أو احتجن شيئا من ميزانية الدولة لنفسه أو ميز شخصه أو أحدا من زوجاته بشىء لم يتمتع به المسلمون أو حرَّم على الناس أن ينتقدوه أو يعارضوه أو يبدوا رأيا مخالفا لرأيه أو اتخذ المواكب واصطنع الجلاوزة لإفساح الطريق أمامه واكتساح من يعترضه أو سجن أحدا أو قتله دون أن يكون هناك سبب قانونى يوجب عقابه، مع تسامحه المطلق فى الأمور المتعلقة بحقوقه الشخصية مع ذلك؟ إن الإجابة على كل هذه الأسئلة هى النفى القاطع الجازم. ثم هل كف الوحى عن النزول عليه فلم يعد يتلو على أتباعه قرآنا أو يرد على أسئلتهم فى أمور العبادة والمعاملات وأوضاع الأسرة، وكرس نفسه ووقته وجهده تماما للحكم وممارسة الرئاسة؟ الإجابة هنا أيضا هى النفى القاطع الجازم. لقد ظل الوحى يتتابع، وظلت الآيات تنزل ردا على ما يُطْرَح من أسئلة أو حلا لما ينجم من مشاكل، وظلت نصوص القرآن تتتناول شؤون العقيدة وتروى حكايات الأمم السابقة وأنبيائها، وتضع أسس الدولة الجديدة... إلخ. أى أن النبى ظل نبيا كما كان فى مكة، وإن كان قد أضاف إلى النبوة القضاء والقيادة السياسية والعسكرية، إذ الإسلام ليس عقيدة وعبادة فحسب، بل عقيدة وعبادات ومعاملات وأخلاقا وسياسة واقتصادا واجتماعا وتثقيفا وتعليما ونظاما إداريا وغير ذلك مما تقوم عليه الدول والمجتمعات. فلم التساخف إذن؟ وكيف تسول لإنسان ينتمى إلى العلم والعلماء نفسُه إلى ابتداع الأكاذيب والتدليسات على هذا النحو البالغ الفجاجة؟
ولنفترض أن ما قاله جوزيف هِلْ رغم ذلك كله صحيح، فهل هو يؤمن بأن محمدا فى مكة كان نبيا فعلا رغم انحرافه، كما يقول، عن سبيل المثل العليا فى المدينة؟ أم هو كلام والسلام لتخدير القارئ حتى يبتلع الطُّعْم؟ قد يقول قائل: ولكن كيف تتوقع من هِلْ الإيمان بنبوة شخص انحرف عن المثل العليا؟ هل الأنبياء ينحرفون؟ والجواب: نعم، ينحرفون حسب الكتاب المقدس الذى يؤمن به، أو يُفْتَرَض أن يكون من المؤمنين به، جوزيف هِلْ. ففى ذلك الكتاب نجد الأنبياء يزنون ويمارسون الجنس مع بناتهم ويعبدون الأصنام ويقترنون بزوجات وثنيات ويسهّلون عبادتهن لها ويقترفون القتل ويضعون الخطط الإجرامية لاغتيال الأبرياء ويقدمون زوجاتهم للملوك الطغاة دون أدنى تحرج... إلخ. وأهل الكتاب يدافعون عن هذا المفهوم الغريب للنبوة الذى لا نعرفه فى ديننا قائلين إن الأنبياء هم فى نهاية المطاف بشر من البشر فيهم ضعف البشر وشهواتهم، ومن الطبيعى أن يرتكبوا ذنوبا كغيرهم من البشر. عظيم! فإذا كان الأمر كذلك فما الذى ينقمه هِلْ وأشباهه إذن على النبى الكريم بافتراض أنه فعلا قد حاد عن الصراط السوىّ، وهو بكل تأكيد لم يحد، وحتى لو حاد فأخطاؤه لا تقارَن بأخطاء أنبياء العهد القديم؟ ألا يرى القارئ أن موقف هِلْ موقف بالغ الغرابة والشذوذ، وبخاصة ونحن نعلم أن محمدا كان يتربع فوق سنام الذروة العليا فى الاستقامة والعدل والرحمة والتواضع والبر والعطف والتسامح وسعة الصدر ورحابة الأفق واحترام الرأى الآخر والتفانى فى تحقيق مصالح العباد وترقيتهم وتوفير احتياجاتهم والحفاظ على كرامتهم وإنسانيتهم؟
ومما حوّره د. العدوى من كلام جوزيف هِلْ قول المستشرق الألمانى إن برنامج محمد قد تبلور بعد غزوة بدر فى أمرين: الرغبة فى إحراز القوة والتعطش إلى الانتقام: فأما حيازة القوة فاقتضت منه العمل على التخلص من اليهود فى المدينة، وأما الانتقام فتمثل فى تخطيطه لفتح مكة[20]، إذ جاء ما كتبه المترجم على النحو التالى: "ولكن برنامج الرسول تحدد فى ذلك الوقت بشكل واضح، وكان يتلخص فى هدفين أساسيين: نشر الدين وتدعيم سلطانه فى المدينة حتى يستطيع إخضاع مكة"[21]. ولكى يكون القارئ على بينة تامة من الأمر هأنا هذا أنقل له النص الإنجليزى كما هو: " About this time we clearly find, writ large, "love of power and vengeance" as cardinal points in the Prophet's programme". وهذا الكلام يحتاج إلى تعقيب: فأما اليهود فقد كتب الرسول أول مقدمه إلى يثرب صحيفة تتضمن الدستور الذى سوف تجرى الأمور فى المدينة على أساسه، وأهم ما تضمنه ذلك الدستور هو المساواة بين أهل المدينة دون النظر إلى أديانهم أو انتماءاتهم القبلية، والحرية الدينية المطلقة، والتكاتف بين مواطنى الدولة الصغيرة. لكن اليهود شرعوا منذ أول يوم فى الخيانة والغدر وإثارة المشاكل والتآمر على المسلمين والرسول حتى لقد خططوا لإلقاء رَحًى من الحجر عليه وهو جالس جنب جدار أُطُمٍ من آطامهم حينما ذهب إليهم لمطالبتهم بالتعاون فى دفع بعض الديات طبقا لما أرساه الدستور المذكور، واعتدَوْا دون أدنى استفزاز من جانب أحد من المسلمين على امرأة كانت تتبضع من سوقهم فعرَّوْا سوأتها على نحو همجى خسيس وفضحوها على رؤوس الأشهاد دون ذنب جنته، مما ترتب عليه وقوع قتيلين: واحد من يهود، وآخر من المسلمين، وكانوا دائما ما يسخرون من صلاة المسلمين ويقولون عن الأذان إنه شر من نهاق الحمير، ويسبون الله ويتهكمون على كل ما يقوله القرآن يلوونه عن مقاصده ويتخذونه أداة للتنكيبت والتبكيت، ويدخلون الإسلام فى أول النهار ثم يخرجون منه فى نهايته زاعمين أنهم وجدوه دينا زائفا بغية التشويش على المسلمين وإلقاء الشبهات فى قلوبهم لينصرفوا عنه، ويوقعون بين الأوس والخزرج بإثارة الأحقاد الميتة وتذكيرهم بالحروب القديمة التى كانت بينهم فى الجاهلية كى يعودوا إلى الاقتتال من جديد، وهو ما كاد يؤدى إلى فتنة مبيرة مستطيرة لولا لطف الله ويقظة رسوله.
ثم كانت الطامة الكبرى والخيانة العظمى حين وضع بنو قريظة أيديهم فى أيدى وثنيى مكة لسحق الإسلام والقضاء على أتباعه ونبيه قضاء مبرما، فذهبوا إلى قريش يحرضون رجالها ضد محمد ودينه قائلين لهم فى خساسة ما بعدها خساسة إن الوثنية المنحطة التى يعتنقونها خير من الإسلام. كما أخذ شعراؤهم يذيعون الأشعار التى تستفز أعداء المسلمين إلى ضربهم وتحطيمهم. وزادوا على ذلك بأنْ خرجوا على ما يقتضيه الدستور من التعاون مع المسلمين فى صد جحافل الأحزاب، الذين سبق أن هيجوهم وزينوا لهم الهجوم على المدينة لاستئصال شأفة محمد وأتباعه ودينه من الوجود. فهل محمد هو الذى قال لليهود: خونوا الدولة التى تعيشون فيها، واغدروا برفقائكم فى الوطن، وضعوا أيديكم فى أيدى أعدائهم، وهيِّجوا عليهم مكة والقبائل الأخرى واستفزوهم لغزو المسلمين وقتلهم؟ إن المستشرق، بدلا من تخطئة المجرم الخائن، يستدير إلى الـمَخُون المغدور به يقرِّعه ويجرِّمه، وكأنه هو المجرم الخائن الغدار. أليس ذلك عجبا من العجب؟
ولقد كان عقاب الإسلام لليهود الغدارين المثيرين للقلاقل والفتن فى كل مكان يحلونه هَيِّنًا فى الغدرتين الأُولَيَيْن، أما فى الثالثة، والثالثة ثابتة كما يقال، فلم يكن بد من استعمال آخر الدواء: الكىّ، وإلا فلن ينتهى الأمر إلا بكارثة تنزل بالإسلام والمسلمين، وهو ما لم يكن لتذرف عليه عين مستشرقنا دمعة واحدة، بل كان فاركًا يديه ساعتئذٍ نشوة وحبورا. لقد كان الأمر خيانة عظمى مكتملة الأركان لم يحاول اليهود تبريرها ولا إنكارها بل استسلموا للعقوبة دون أن يفتحوا فمهم بكلمة، فماذا كان يريد هِلْ من النبى والمسلمين أن يصنعوا؟ هل كان ينبغى أن يخلعوا على اليهود الغدارين الخائنين المكافآت والجوائز إعجابا بخيانتهم وتقديرا لغدرهم وتشجيعا لهم على معاودة الغدر والخيانة أم ماذا؟ وكانت العقوبة إعدام المقاتلة منهم دون الصغار والشيوخ والنساء، وهو حكم غاية فى العدل، فلم يتجاوز العقاب مرتكبيه رغم أن معظم الباقين قد اشتركوا فى الجريمة بالرضا والمباركة، أو على أقل تقدير: عدم تبليغها للسلطات حتى تتجنب الكارثة المنتظرة. ثم إنهم هم الذين اختاروا قاضيهم ولا أحد سواهم، وهو سعد بن معاذ، وكان حليفا لهم فى الجاهلية، فكان أن أصدر الحكم المذكور. وهو، كما قلت، حكم عادل تمام العدل. ولو قَارَنَّا بينه وبين حكم العهد القديم فى مثل تلك الحالة لكان ينبغى استئصال جميع القرظيين عن بكرة أبيهم بحيث لا يتبقى منهم بعدها أحد.
يقول الإصحاح العشرين من سفر "التثنية": "1«إِذَا خَرَجْتَ لِلْحَرْبِ عَلَى عَدُوِّكَ وَرَأَيْتَ خَيْلاً وَمَرَاكِبَ، قَوْمًا أَكْثَرَ مِنْكَ، فَلاَ تَخَفْ مِنْهُمْ، لأَنَّ مَعَكَ الرَّبَّ إِلهَكَ الَّذِي أَصْعَدَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. 2وَعِنْدَمَا تَقْرُبُونَ مِنَ الْحَرْبِ يَتَقَدَّمُ الْكَاهِنُ وَيُخَاطِبُ الشَّعْبَ 3وَيَقُولُ لَهُمْ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: أَنْتُمْ قَرُبْتُمُ الْيَوْمَ مِنَ الْحَرْبِ عَلَى أَعْدَائِكُمْ. لاَ تَضْعُفْ قُلُوبُكُمْ. لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَرْتَعِدُوا وَلاَ تَرْهَبُوا وُجُوهَهُمْ، 4لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ سَائِرٌ مَعَكُمْ لِكَيْ يُحَارِبَ عَنْكُمْ أَعْدَاءَكُمْ لِيُخَلِّصَكُمْ. 5ثُمَّ يُخَاطِبُ الْعُرَفَاءُ الشَّعْبَ قَائِلِينَ: مَنْ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي بَنَى بَيْتًا جَدِيدًا وَلَمْ يُدَشِّنْهُ؟ لِيَذْهَبْ وَيَرْجعْ إِلَى بَيْتِهِ لِئَلاَّ يَمُوتَ فِي الْحَرْبِ فَيُدَشِّنَهُ رَجُلٌ آخَرُ. 6وَمَنْ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي غَرَسَ كَرْمًا وَلَمْ يَبْتَكِرْهُ؟ لِيَذْهَبْ وَيَرْجعْ إِلَى بَيْتِهِ لِئَلاَّ يَمُوتَ فِي الْحَرْبِ فَيَبْتَكِرَهُ رَجُلٌ آخَرُ. 7وَمَنْ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي خَطَبَ امْرَأَةً وَلَمْ يَأْخُذْهَا؟ لِيَذْهَبْ وَيَرْجعْ إِلَى بَيْتِهِ لِئَلاَّ يَمُوتَ فِي الْحَرْبِ فَيَأْخُذَهَا رَجُلٌ آخَرُ. 8ثُمَّ يَعُودُ الْعُرَفَاءُ يُخَاطِبُونَ الشَّعْبَ وَيَقُولُونَ: مَنْ هُوَ الرَّجُلُ الْخَائِفُ وَالضَّعِيفُ الْقَلْبِ؟ لِيَذْهَبْ وَيَرْجعْ إِلَى بَيْتِهِ لِئَلاَّ تَذُوبَ قُلُوبُ إِخْوَتِهِ مِثْلَ قَلْبِهِ. 9وَعِنْدَ فَرَاغِ الْعُرَفَاءِ مِنْ مُخَاطَبَةِ الشَّعْبِ يُقِيمُونَ رُؤَسَاءَ جُنُودٍ عَلَى رَأْسِ الشَّعْبِ.
10«حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، 11فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. 12وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا. 13وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. 14وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 15هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا. 16وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا، 17بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، 18لِكَيْ لاَ يُعَلِّمُوكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا حَسَبَ جَمِيعِ أَرْجَاسِهِمِ الَّتِي عَمِلُوا لآلِهَتِهِمْ، فَتُخْطِئُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ...»".
وفى الإصحاح الخامس عشر من سفر "صموئيل الأول": "1وَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: «إِيَّايَ أَرْسَلَ الرَّبُّ لِمَسْحِكَ مَلِكًا عَلَى شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ. وَالآنَ فَاسْمَعْ صَوْتَ كَلاَمِ الرَّبِّ. 2هكَذَا يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُ مَا عَمِلَ عَمَالِيقُ بِإِسْرَائِيلَ حِينَ وَقَفَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ. 3فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا». 4فَاسْتَحْضَرَ شَاوُلُ الشَّعْبَ وَعَدَّهُ فِي طَلاَيِمَ، مِئَتَيْ أَلْفِ رَاجِل، وَعَشَرَةَ آلاَفِ رَجُل مِنْ يَهُوذَا.
5ثُمَّ جَاءَ شَاوُلُ إِلَى مَدِينَةِ عَمَالِيقَ وَكَمَنَ فِي الْوَادِي. 6وَقَالَ شَاوُلُ لِلْقَيْنِيِّينَ: «اذْهَبُوا حِيدُوا انْزِلُوا مِنْ وَسَطِ الْعَمَالِقَةِ لِئَلاَّ أُهْلِكَكُمْ مَعَهُمْ، وَأَنْتُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ مَعْرُوفًا مَعَ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ صُعُودِهِمْ مِنْ مِصْرَ». فَحَادَ الْقَيْنِيُّ مِنْ وَسَطِ عَمَالِيقَ. 7وَضَرَبَ شَاوُلُ عَمَالِيقَ مِنْ حَوِيلَةَ حَتَّى مَجِيئِكَ إِلَى شُورَ الَّتِي مُقَابَِلَ مِصْرَ. 8وَأَمْسَكَ أَجَاجَ مَلِكَ عَمَالِيقَ حَيًّا، وَحَرَّمَ جَمِيعَ الشَّعْبِ بِحَدِّ السَّيْفِ. 9وَعَفَا شَاوُلُ وَالشَّعْبُ عَنْ أَجَاجَ وَعَنْ خِيَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالثُّنْيَانِ وَالْخِرَافِ، وَعَنْ كُلِّ الْجَيِّدِ، وَلَمْ يَرْضَوْا أَنْ يُحَرِّمُوهَا. وَكُلُّ الأَمْلاَكِ الْمُحْتَقَرَةِ وَالْمَهْزُولَةِ حَرَّمُوهَا.
10وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى صَمُوئِيلَ قَائِلاً: 11«نَدِمْتُ عَلَى أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكًا، لأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ وَرَائِي وَلَمْ يُقِمْ كَلاَمِي». فَاغْتَاظَ صَمُوئِيلُ وَصَرَخَ إِلَى الرَّبِّ اللَّيْلَ كُلَّهُ. 12فَبَكَّرَ صَمُوئِيلُ لِلِقَاءِ شَاوُلَ صَبَاحًا. فَأُخْبِرَ صَمُوئِيلُ وَقِيلَ لَهُ: «قَدْ جَاءَ شَاوُلُ إِلَى الْكَرْمَلِ، وَهُوَذَا قَدْ نَصَبَ لِنَفْسِهِ نَصَبًا وَدَارَ وَعَبَرَ وَنَزَلَ إِلَى الْجِلْجَالِ». 13وَلَمَّا جَاءَ صَمُوئِيلُ إِلَى شَاوُلَ قَالَ لَهُ شَاوُلُ: «مُبَارَكٌ أَنْتَ لِلرَّبِّ. قَدْ أَقَمْتُ كَلاَمَ الرَّبِّ». 14فَقَالَ صَمُوئِيلُ: «وَمَا هُوَ صَوْتُ الْغَنَمِ هذَا فِي أُذُنَيَّ، وَصَوْتُ الْبَقَرِ الَّذِي أَنَا سَامِعٌ؟» 15فَقَالَ شَاوُلُ: «مِنَ الْعَمَالِقَةِ، قَدْ أَتَوْا بِهَا، لأَنَّ الشَّعْبَ قَدْ عَفَا عَنْ خِيَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ لأَجْلِ الذَّبْحِ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. وَأَمَّا الْبَاقِي فَقَدْ حَرَّمْنَاهُ». 16فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: «كُفَّ فَأُخْبِرَكَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ إِلَيَّ هذِهِ اللَّيْلَةَ». فَقَالَ لَهُ: «تَكَلَّمْ». 17فَقَالَ صَمُوئِيلُ: «أَلَيْسَ إِذْ كُنْتَ صَغِيرًا فِي عَيْنَيْكَ صِرْتَ رَأْسَ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ وَمَسَحَكَ الرَّبُّ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، 18وَأَرْسَلَكَ الرَّبُّ فِي طَرِيق وَقَالَ: اذْهَبْ وَحَرِّمِ الْخُطَاةَ عَمَالِيقَ وَحَارِبْهُمْ حَتَّى يَفْنَوْا؟ 19فَلِمَاذَا لَمْ تَسْمَعْ لِصَوْتِ الرَّبِّ، بَلْ ثُرْتَ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَعَمِلْتَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ؟». 20فَقَالَ شَاوُلُ لِصَمُوئِيلَ: «إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ لِصَوْتِ الرَّبِّ وَذَهَبْتُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي أَرْسَلَنِي فِيهَا الرَّبُّ وَأَتَيْتُ بِأَجَاجَ مَلِكِ عَمَالِيقَ وَحَرَّمْتُ عَمَالِيقَ. 21فَأَخَذَ الشَّعْبُ مِنَ الْغَنِيمَةِ غَنَمًا وَبَقَرًا، أَوَائِلَ الْحَرَامِ لأَجْلِ الذَّبْحِ لِلرَّبِّ إِلهِكَ فِي الْجِلْجَالِ». 22فَقَالَ صَمُوئِيلُ: «هَلْ مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِالْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ كَمَا بِاسْتِمَاعِ صَوْتِ الرَّبِّ؟ هُوَذَا الاسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ، وَالإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكِبَاشِ. 23لأَنَّ التَّمَرُّدَ كَخَطِيَّةِ الْعِرَافَةِ، وَالْعِنَادُ كَالْوَثَنِ وَالتَّرَافِيمِ. لأَنَّكَ رَفَضْتَ كَلاَمَ الرَّبِّ رَفَضَكَ مِنَ الْمُلْكِ».
24فَقَالَ شَاوُلُ لِصَمُوئِيلَ: «أَخْطَأْتُ لأَنِّي تَعَدَّيْتُ قَوْلَ الرَّبِّ وَكَلاَمَكَ، لأَنِّي خِفْتُ مِنَ الشَّعْبِ وَسَمِعْتُ لِصَوْتِهِمْ. 25وَالآنَ فَاغْفِرْ خَطِيَّتِي وَارْجعْ مَعِي فَأَسْجُدَ لِلرَّبِّ». 26فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: «لاَ أَرْجعُ مَعَكَ لأَنَّكَ رَفَضْتَ كَلاَمَ الرَّبِّ، فَرَفَضَكَ الرَّبُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ». 27وَدَارَ صَمُوئِيلُ لِيَمْضِيَ، فَأَمْسَكَ بِذَيْلِ جُبَّتِهِ فَانْمَزَقَ. 28فَقَالَ لَهُ صَمُوئِيلُ: «يُمَزِّقُ الرَّبُّ مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ عَنْكَ الْيَوْمَ وَيُعْطِيهَا لِصَاحِبِكَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ. 29وَأَيْضًا نَصِيحُ إِسْرَائِيلَ لاَ يَكْذِبُ وَلاَ يَنْدَمُ، لأَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانًا لِيَنْدَمَ». 30فَقَالَ: «قَدْ أَخْطَأْتُ. وَالآنَ فَأَكْرِمْنِي أَمَامَ شُيُوخِ شَعْبِي وَأَمَامَ إِسْرَائِيلَ، وَارْجعْ مَعِي فَأَسْجُدَ لِلرَّبِّ إِلهِكَ». 31فَرَجَعَ صَمُوئِيلُ وَرَاءَ شَاوُلَ، وَسَجَدَ شَاوُلُ لِلرَّبِّ.
32وَقَالَ صَمُوئِيلُ: «قَدِّمُوا إِلَيَّ أَجَاجَ مَلِكَ عَمَالِيقَ». فَذَهَبَ إِلَيْهِ أَجَاجُ فَرِحًا. وَقَالَ أَجَاجُ: «حَقًّا قَدْ زَالَتْ مَرَارَةُ الْمَوْتِ». 33فَقَالَ صَمُوئِيلُ: «كَمَا أَثْكَلَ سَيْفُكَ النِّسَاءَ، كَذلِكَ تُثْكَلُ أُمُّكَ بَيْنَ النِّسَاءِ». فَقَطَعَ صَمُوئِيلُ أَجَاجَ أَمَامَ الرَّبِّ فِي الْجِلْجَالِ. 34وَذَهَبَ صَمُوئِيلُ إِلَى الرَّامَةِ، وَأَمَّا شَاوُلُ فَصَعِدَ إِلَى بَيْتِهِ فِي جِبْعَةِ شَاوُلَ. 35وَلَمْ يَعُدْ صَمُوئِيلُ لِرُؤْيَةِ شَاوُلَ إِلَى يَوْمِ مَوْتِهِ، لأَنَّ صَمُوئِيلَ نَاحَ عَلَى شَاوُلَ. وَالرَّبُّ نَدِمَ لأَنَّهُ مَلَّكَ شَاوُلَ عَلَى إِسْرَائِيلَ"[22].
ومن هذين النصين يتبين لنا أن سعد بن معاذ كان رحيما بهم، إذ لم يوقع بهم العقوبة التى ينص عليها كتابهم فى مثل تلك الحالة، وهى العقوبة الخاصة بشعوب المدن القريبة التى يوجب العهد القديم إبادة كل شىء حى فيها: كبارا وصغارا، ذكورا وإناثا. ذلك أن المسلمين بالنسبة إلى اليهود آنذاك هم من الشعوب القريبة، بل كانوا أقرب إليهم من حبل الوريد. ولو كان اليهود ظفروا بهم لما كان لهم عندهم إلا الإبادة التامة التى لا تُبْقِى ولا تذر. ومن هذا النص أيضا يتبين لنا أن اليهود لم يحاولوا قط أن يكونوا على المستوى الذى يأمرهم به دينهم أن يبلغوه، وهو الشجاعة وعدم الخوف من الأعداء والاستعانة بالله عليهم حتى لو كانوا أكثر منهم عددا وعتادا، فما بالنا، والمسلمون لم يكونوا متفوقين عليهم بل دونهم، على الأقل: فى السلاح والأموال؟ وإن ما حُكِىَ عن اليهود عند حصار المسلمين لحصنهم آنذاك لدليل على جبنهم وعدم إيمانهم بما يقرأونه فى كتابهم المقدس، إذ عرض عليهم مثلا كعب بن أسد القُرَظِىّ، بعد أن انصرفت الأحزاب وبدأ حصار المسلمين لهم، إما أن يدخلوا فى الإسلام وإما أن يخرجوا من حصنهم بغتة ويحاربوا المسلمين محاربة الرجال، فما كان منهم إلا أن رفضوا الخطتين جميعًا، وهو ما أحنقه أشد الـحَنَقٍ فقَرَّعَهم قائلا: "ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلةً واحدةً من الدهر حازمًا". أما عمرو بن سعدى فأبى أن يشاركهم الغدر الدنىء برجل لم يغدر بهم قط، قائلا: "لا أغدر بمحمد أبدا".
إن صنيع هِلْ فى تركيزه على العقوبة التى طبقت على هؤلاء الخائنين ليشبه صنيع من يصور معاناة شخص يتم إعدامه ثم يقول للناس: انظروا إلى القسوة والوحشية التى ينزلها الظالمون المتجنون بهذا المسكين! انظروا إلى تباريح الألم الذى يصطليه! انظروا كيف يصرخ ويستغيث، وما من مغيث! ثم يظل يناشد المشاهدين التعاطف مع المسكين حتى ليظنونه فعلا مظلوما مضطهدا دون وجه حق. لكنهم إذا ما عرفوا الحقيقة تبين لهم أنه إنما يتم عقابه مقابل جرائم لا تحصى ولا تعد حوكم بسببها أمام قضاء عادل أعطاه الفرصة كاملة للدفاع عن نفسه، وانتهت المداولات بإعدامه. ولو كان ممكنا إعدامه عدة مرات ما كان كافيا فى معاقبته. فهل مثل هذا الصنيع برىء؟ وأخيرا، وليس آخرا، لقد كان التآمر اليهودى الغربى على فلسطين والعرب والمسلمين قائما على قدم وساق وقت صدور الكتاب الذى نحن بصدده، فلماذا لم يستفز هذا التآمر المجرم مستشرقنا الهمام ذا القلب الرهيف، فيكتب كلمة يتعاطف فيها مع المساكين الذين لم يكونوا يعرفون حجم المصيبة التى كانت تدبَّر لهم، وزلزلت حياتهم وحياة كل العرب والمسلمين زلزالا شنيعا، ولا نزال نصطلى جحيمها حتى الآن، بدلا من التباكى على خونة غادرين؟
وقد أطلق المؤلف، زورا وبهتانا، مصطلح "الإبادة" (annihilation)[23] على ما أنزله الرسول باليهود من عقوبة مستحقة. وهو مصطلح كاذب، إذ إن بنى النضير وبنى قينقاع لم يُقْتَل منهم أحد، بل كان عقوبتهم مالية ونفيا من الأرض. كذلك لم يُقْتَل يهودُ خيبر، الذين حاربهم الرسول بعد القرظيين. ثم إن الرسول لم يأمر بإبادة بنى قريظة رغم كل ما اجترحوه من خيانات بشعة أرادوا من ورائها إلى استئصال الإسلام ورسوله ومعتنقيه من الوجود[24]، بل شكل لهم محكمة اختاروا هم بأنفسهم قاضيها دون أن يتدخل هو أو أحد من المسلمين فى تعيينه، وإن كان أحد المسلمين ممن تربطه بقريظة مودة سابقة قد أراد التأثير على القاضى لمصلحة الجناة فلم يفلح، فكان الحكم الذى نعرف، والذى بمقتضاه تُرِكَت الذرية وعُفِىَ عن الشيوخ والنساء والعجزة. فماذا يريد هِلْ إذن؟ وأين الإبادة المزعومة؟ والطريف الغريب أن المؤلف يعود بعد هذا كله فيصف العقاب الذى نزل بيهود قريظة "الخونة"، بنص تعبيره، بأنه عقاب فى محله: "He imposed on the treasonable Jews due punishment"[25]، وإن كان قد قال فى موضع آخر:
"When the Jews constituted a danger to his work, he fought them unto destruction; but when they only differed from him in matters religious he was generous and tolerant enough to leave them alone"[26].
وهو ما يدل على أن أفكاره وآراءه متخلخلة غير ثابتة.
وأما بالنسبة إلى فتح مكة فدَعُونا من الويلات البشعة التى أنزلها الكفار بالمسلمين من قتل وضرب وشتم وسخرية ومنع من ممارسة العقيدة وإهانة وحصار وتجويع وتعذيب ومصادرة للبيوت والأموال وإخراج من الوطن وتآمر وشن حروب، وتَعَاَلْوا بنا مباشرة إلى المعاهدة التى عُقِدَتْ بين القرشيين والمسلمين لَدُنْ صلح الحديبية، تلك المعاهدة التى كانت تميل ميلا قويا إلى صف المشركين حتى لقد اعترض عليها بعض المسلمين اعتراضا شديدا، والتى لم تحترمها قريش رغم ذلك كله، فما كان من النبى إلا أن جهز جيشه لتأديب أولئك الخونة الذين لا يحترمون ميثاقا ولا يراعون عهدا، ثم يأتى جوزيف هل فيولول عليهم، وكأنه كان ينبغى أن يَنْظِم المسلمون فيهم شعرا يمدحونهم به لقاء سفالتهم وانعدام مروءتهم. ولن أقف أمام تفصيلات الأحداث، بل سأقفز مباشرة إلى المشهد الأخير فى عملية الفتح. فماذا يقول المشهد الأخير؟ لقد اجتمع القرشيون عند الكعبة منتظرين أن ينفذ فيهم الرسول ما يستحقونه من عقوبة لقاء ما اقترفوه فى حقه وحق أتباعه وحق دينه من جرائم وحشية طوال بضع عشرة سنة، لكنه نظر إليهم قائلا: "ما تظنون أنى فاعلٌ بكم؟". قالوا: "خيرا. أخ كريم، وابن أخ كريم" (يا سلام على الإقرار بالحق والاعتراف بالجميل! ترى أين كان هذا كله من قبل؟). فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن قال لهم: "اذهبوا، فأنتم الطلقاء". وهنا ينبرى صاحبنا الألمانى قائلا: "انظروا كيف كان محمد خاضعا لشهوة الانتقام!".
وإن الإنسان ليحار فى طبع جوزيف هِلْ. ترى ماذا كان ينبغى أن يصنع الرسول حتى يقر له هِلْ بالتسامى على نزعة الثأر عند البشر؟ الواقع أنه لم يكن هناك سوى أن يأمر الرسول بجزر رقابهم ما دام هِلْ لا يعجبه غفران الرسول لهم. فهل هذا هو ما يريده هِلْ؟ وهل هذا هو التسامح فى نظره؟ الواقع أنه لم يكن هناك إلا أمران اثنان لا غير: العفو، وهذا ما فعله الرسول واتهمه مستشرقنا بسببه باللهفة على الانتقام، أو قتل القرشيين، وهو ما لم يفعله الرسول، فلم يعجب تصرفه جوزيف هِلْ. لقد احترنا واحتار دليلنا مع المؤلف وطبعه الغريب! ليس ذلك فقط، بل إنه لم يرض أن يأخذ مفاتح الكعبة من عثمان بن طلحة ويعطيها بنى هاشم بناء على اقتراح علىّ، وقال إن هذا اليوم هو يوم الوفاء والبر. وأبقى المفاتح لدى الرجل الذى كانت معه قبل الفتح. كما أنه لم ينتهز فرصة فتح مكة فيَبْقَى بها ويصنع فيها ما يشاء ردا على ما كان قد صنعه المشركون بالمسلمين وبه هو نفسه قبلا من ويلات، بل عاد من حيث أتى مع الأنصار إلى يثرب. بالله ماذا يريد هِلْ وأشباهُ هِلْ من الرسول الكريم حتى يَكُفّوا غَرْبَ لسانهم عنه وعن دينه؟ على أن الإنصاف يلزمنا أن نشير إلى أن بعض المستشرقين يبدون انبهارهم بالتسامح العالى الذى أبداه الرسول إبان فتح مكة، ويَرَوْن عن حقٍّ أنه نبل وكرم نفس وأريحية لا يوجد مثيلها عند الفاتحين. ومرة أخرى يفاجئنا جوزيف هِلْ بقوله يصف سلوك الرسول تجاه أهل مكة: " Mohamed treated the town with extreme leniency: لقد عامل محمد مكة بغاية اللين"[27]. سبحان الله!
وقبل أن أطوى صفحات هذا الفصل أجد لزاما أن أتريث أمام آخر نقطة مسها المؤلف، وهى قوله تعالى عن المشركين: "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ" (التوبة/ 5)، الذى قال المؤلف إنه يمثل موقف الإسلام من المشركين[28]، ومعناه أن الإسلام قد أصدر أمرا لأتباعه أنه متى انقضت الأشهر الحرم فعلى كل مسلم أن ينقض على أى مشرك يقابله ويقتله. وقد شاهدت على الفيديو منذ عدة سنوات مواجهة حول هذه الآية بين امرأة مسلمة أعلنت تنصرها وبين شيخ أزهرى، وكان رأى المرأة أن القرآن لا يطيق وجود أحد لا يؤمن به، بل يأمر بقتله على الفور، لأنه إما أن تؤمن به وإما لا حق لك فى الحياة. وترجح لدىَّ أنها قد لُقِّنَت هذا الكلام تلقينا، وليس من بُيَنَّات عقلها. ولا أذكر الآن السبب فى غضب الشيخ وتركه الحلقة التلفازية دون أن يرد على السيدة المهاجمة. ولعله كان هناك أيضا قسيس يشارك فى الحلقة. والواقع أن من يقرأ الآيات التى تبدأ بها سورة "التوبة" قد يفهم منها هذا الفهم السطحى رغم أنه لو تمعن فيها قليلا لبان له منها معنى غير ذلك المعنى. ويتضح هذا المعنى أكثر وأكثر إذا ما اطلع على أسباب نزول تلك الآيات. وموجز القول فيها هو أن المسلمين كانت بينهم وبين جماعة من المشركين معاهدة إلى أمد معلوم، ثم حدث أن نقض أولئك المشركون العهد وغدروا بالمسلمين. فهؤلاء هم المشركون الذين قيل عنهم إنه متى انسلخ الأشهر الحرم فاصنعوا بهم كيت وكيت، وليس المشركين بإطلاق.
هذه واحدة، والثانية أن الإسلام لم يأمر أتباعه رغم ذلك بالهجوم على أولئك الخونة فى الحال، بل أعطاهم فترة سماح أربعة أشهر من عنده قبل أن يجوز للمسلمين أن يردوا على غدرهم بتلك الطريقة التى لم يكن هؤلاء المجرمون يفهمون سواها أسلوبا فى التعامل. وهذه الشهور الأربعة، فيما أفهم من السياق، هى الأشهر الحرم التى يقصدها القرآن هنا لا الأشهر الحرم المعروفة الأخرى. وأيا ما يكن الصواب فالمهم أن هناك فترة سماح للغدارين الخونة أربعة أشهر رغم كل ما اقترفته أيديهم. أى أن الإسلام كان كريما غاية الكرم مع الغدارين، فلم يعاملهم بطريقتهم بل ترك لهم أربعة أشهر ينتقلون فيها من مكان إلى مكان على أقل من مهلهم ويعودون إلى مضاربهم قبل بدء فترة الرد. فأى نبل هذا؟ أما الذين حافظوا على عهودهم مع المسلمين فهؤلاء يجب على المسلمين احترام عهودهم فلا يلمسونهم بأى أذى. كذلك لو جاء أحد من المشركين، بما فيهم الغادرون، مستجيرا بالمسلمين فعلى المسلمين إجارته حتى يعطوه الفرصة للتعرف إلى القرآن بملء انتباهه وطمأنينته وسكينة نفسه ودون أدنى إكراه أو ضغط عليه، ثم على المسلمين بعد ذلك أن يوصلوه آمنا معززا مكرما إلى قبيلته. فأى نبل هذا؟ والآيات واضحة لمن يتمعن فيها لا لمن يمتلخ آية منها كالآية التى نحن أمامها الآن ويفصلها عن سياقها ويقول: انظروا قسوة دين محمد، الذى يأمر أتباعه بقتل كل من لا يؤمن به! وكيف، يصح اتهام القرآن بذلك، والقرآن ينهى أتباعه نهيا مشددا عن مبادأة أحد بالعدوان؟ والثالثة هى أن هذا النص رغم ذلك لم يطبق. لقد فعل فعله فى نفوس المشركين وكفى، وعرفوا أنْ ليس كل الطير يؤكل لحمه! وهو ليس دعوة إلى القتل كما يتبادر إلى الفهم المتسرع، بل إعلانا للحرب كى يأخذ الطرف الآخر حيطته، وذلك إعمالا لقوله تعالى: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ" (الأنفال/ 58). وكان المشركون يغدرون بالمسلمين كثيرا، على حين لم يقع غدر من المسلمين بَتَّةً. ويلفت الانتباه أن الآيات قد استخدمت كلمة "القتال" أكثر مما استخدمت كلمة "قَتْل"، التى لم نرها سوى مرة واحدة على حين تكررت الكلمة الأخرى عدة مرات. والقتال محاربة لا مباغتة بالقتل كما هو معروف.
وهذه هى الآيات كتلة واحدة لمن يريد أن يتعرف إلى الحقيقة. ومرة أخرى لست أفهم السبب فى أن الشيخ الأزهرى قام غاضبا وغادر الحلقة دون أن يوضح لتلك المرأة السطحية الملقَّنة كجهاز التسجيل حقيقة موقف الإسلام فى هذه القضية. يقول تعالى: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأََرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة/ 1- 15).


[1] الصواب: "تجنِّيًا" (مفعول به منصوب).

[2] لعلها غلطة طباعية. والصواب: "ضَيِّقى".

[3] هامش ص33 من ترجمته للكتاب.

[4] P. 18

[5] P. 18

[6] ترجمة د. العدوى لكتاب هِلْ/ 34.

[7] ص34 من الترجمة.

[8] P. 18

[9] والملاحظ فى الوقت الذى تكررت فيه كلمة "السبت" فى العهد القديم أكثر من مائة مرة لم تُذْكَركلمة "الجمعة" فى القرآن الكريم عدا مرة واحدة.

[10] P. 19

[11] انظر نص كلام توينبى كاملا بالإنجليزية والعربية فى كتابى: "الترجمة من الإنجليزية- منهج جديد"/ دار الحقوق للطبع والنشر/ القاهرة/ 1984م/ 163- 172.

[12] سير توماس و. آرنولد/ الدعوة إلى الإسلام- بحث فى تاريخ نشر العقيدة الإسلامية/ ترجمة وتعليق د. حسن إبراهيم حسن ود. عبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوى/ مكتبة النهضة المصرية/ 1971م/25- 26، 28- 29، 94- 99.

[13] P. 21. ويستطيع القارئ أن يقارن بين كلام هِلْ وترجمة د. العدوى الموجودة فى الفقرة الموجودة عنده فى نهاية ص35 وبداية ص36.

[14] P. 23

[15] P. 37. وقد كرر المؤلف الكلمة الأخيرة بعد ذلك بثلاث صفحات.

[16] PP. 23- 24

[17] كان فى صلاته بمكة يقف إلى الجنوب من الكعبة موليا وجهه نحو الشمال بحيث يواجه الكعبة وبيت المقدس معا.

[18] P. 25

[19] P. 24

[20] P. 30

[21] ص45 من ترجمة د. العدوى لكتاب هِلْ.

[22] وفى مقال بعنوان "الارهاب والابادة في التوراة بين النظرية والتطبيق" الدكتور محمد عمر الفقيه منشور فى باب "ركن السياسة" بموقع "الركن الأخضر" نقرأ الآتى: "أصدر الحاخام اليهودي يتسحاق شابيرا رئيس المدرسة الدينية اليهودية كتابا باسم "توراة الملك" تضمن فتوى دينية تجيز قتل غير اليهود حتى لو كان طفلا أو رضيعا طالما يشكل خطرا على الكيان الصهيوني ، وقد سُبِقَتْ هذه الفتوى بتصريحات سابقة للحاخامات الصهاينة يستندون فيها إلى أحكام التوراة، وذلك تشجيعا منهم لجنودهم وقادتهم لإبادة الفلسطينيين ومن تطاله أيديهم. وقد سبق ذلك فتوى نشرتها صحيفة "هآرتس" تصرح بجواز شرعية القتل والإبادة، وذلك استنادا على ما نصت عليه التوراة في قوم عملاق. وقد برر الحاخام مردخاي الياهو المجازر التي قام بها أولمرت في قطاع غزة بحكم التوراة حيث ذكَره بسفر المزامير: "سوف أواصل مطاردة أعدائي والقبض عليْهم، ولن أتوقَّف حتَّى القضاء عليْهم". وقد وزع كبير الحاخامات بالجيش الإسرائيلي أفيخاي رونتزكي كتبا على الجنود الذين يقاتلون في غزة تتضمن فتوى دينية تعارض الرحمة بالأعداء.
وبالعودة للتوراة نقرأ فيها أن الرب بزعمهم يخاطب موسى في سفر "التثنية" الإصحاح 25 الفقرة : 10: "فمَتى أراحَكَ الرَّبُّ إلهُكَ من جَميعِ أعْدائِكَ حَوْلَكَ في الأرْضِ الَّتي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلهُكَ نَصِيبًا لكَيْ تَمْتَلِكَها، تَمْحُو ذِكْرَ عَمالِيقَ مِن تَحْتِ السَّماءِ، لا تَنْسَ". والمتتبع لنصوص التوراة يرى بوضوح أنها تحث على القتل والإبادة الممنهجين، بل ما هو أكثر من ذلك حيث يتم التقرب إلى الله تعالى من خلال قتل الأطفال والنساء، وشق بطونهن، وقتل حتى الحيوانات. وسيتم بيان ذلك من خلال عرض النصوص الآتية: 1- قتل الأطفال: فقد جاء في سفر "يوشع بن نون" الذي أمر جنودَه بأن يحرقوا مدينة "أريحا" بمن فيها من الرجال والنساء والأطفال، كما جاء في كُتُبِهم، ولم يقتصر الأمر على حرْق "أريحا" بل عليهم أن يقوموا بذلك في كل مدينة استولوا عليها. جاء في سفر "يشوع": وأخذوا المدينة وحرموا كل ما في المدينة -أي:قتلوهم- من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف.21:6-22.
وجاء في سفر "التثنية": وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا، التي ليست في مدن هؤلاء الأمم هنا، أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا، فلا تستبقِ منهم نسمة، بل تُحرمها تحريمًا:الحثيين، والأموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والحويين، واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك.16:20.
وجاء في نفس سفر "التثنية" 17:13: فضَرْبًا تضربُ سُكان تلك المدينة بحد السيفِ، وتُحرمُها بكلِّ ما فيها مع بهائمها بحدِّ السيفِ، واجْمَع كل أمتعتها إلى وسطِ ساحتها، وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتِها كاملة للرب إلهك، فتكون تلاًّ إلى الأبد لا تُبنى بعدُ.
وجاء في "صموئيل" في سِفره:"إيَّايَ أرْسلَ الرَّبُّ لِمَسْحِك مَلِكًا على شَعْبِه إسْرَائِيل، والآنَ فاسْمَعْ صَوْتَ كَلامِ الرَّبِّ، هكَذا يَقُولُ رَبُّ الجُنُودِ: إنِّي قَدِ افْتَقَدْتُ ما عَمِلَ عَماليقُ بإسْرَائِيلَ حِينَ وَقَفَ لَهُ في الطَّرِيقِ عِنْدَ صُعُودِه مِنْ مِصْر، فالآنَ اذْهَبْ واضْرِبْ عَمَالِيقَ، وحَرِّمُوا كُلَّ ما لَهُ، ولاَ تَعْفُ عَنْهُمْ؛ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وامْرَأَةً، طِفْلاً ورَضِيعًا، بقَرًا وغَنَمًا، جَمَلاً وحِمَارًا" 15:4. ونسبوا إلى النبي حزقيال أنه قال:لا تشفق أعينكم، ولا تعفوا عن الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء، واقتلوا للهلاك. 7:9.
وجاء في سفر "حزقيال" 9 : 5 -7: «اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَرَاءَهُ وَاضْرِبُوا. لاَ تُشْفِقْ أَعْيُنُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا. 6اَلشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ. اقْتُلُوا لِلْهَلاَكِ. وَلاَ تَقْرُبُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ السِّمَةُ, وَابْتَدِئُوا مِنْ مَقْدِسِي». فَابْتَدَأُوا بِالرِّجَالِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَمَامَ الْبَيْتِ. 7وَقَالَ لَهُمْ: «نَجِّسُوا الْبَيْتَ, وَامْلأُوا الدُّورَ قَتْلَى. اخْرُجُوا». فَخَرَجُوا وَقَتَلُوا فِي الْمَدِينَةِ.
وجاء في سفر "صموئيل الأول" 15 : 3 -11: وَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: “أَنَا الَّذِي أَرْسَلَنِي الرَّبُّ لأُنَصِّبَكَ مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَاسْمَعِ الآنَ كَلاَمَ الرَّبِّ. هَذَا مَا يَقُولُهُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي مُزْمِعٌ أَنْ أُعَاقِبَ عَمَالِيقَ جَزَاءَ مَا ارْتَكَبَهُ فِي حَقِّ الإِسْرَائِيلِيِّينَ حِينَ تَصَدَّى لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ. 3فَاذْهَبِ الآنَ وَهَاجِمْ عَمَالِيقَ وَاقْضِ عَلَى كُلِّ مَالَهُ. لاَ تَعْفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَلِ اقْتُلْهُمْ جَمِيعاً رِجَالاً وَنِسَاءً، وَأَطْفَالاً وَرُضَّعاً، بَقَراً وَغَنَماً، جِمَالاً وَحَمِيراً”… 8وَأَمْسَكَ أَجَاجَ مَلِكَ عَمَالِيقَ حَيّاً, وَحَرَّمَ جَمِيعَ الشَّعْبِ بِحَدِّ السَّيْفِ. 9وَعَفَا شَاوُلُ وَالشَّعْبُ عَنْ أَجَاجَ وَعَنْ خِيَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمْلاَنِ وَالْخِرَافِ وَعَنْ كُلِّ الْجَيِّدِ, وَلَمْ يَرْضُوا أَنْ يُحَرِّمُوها. وَكلُّ الأَمْلاَكِ الْمُحْتَقَرَةِ وَالْمَهْزُولةِ حَرَّمُوها. 10وَكانَ كلاَمُ الرَّبِّ إِلى صَمُوئِيلَ: 11″نَدِمْتُ عَلَى أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكاً, لأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ وَرَائِي وَلَمْ يُقِمْ كَلاَمِي”.
وجاء في سفر "إشعياء" 13 : 16 تحطيم الأطفال أمام ذويهم [في نبوءة مخيفة عن بابل (العراق)]: وَتُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ أَمَامَ عُيُونِهِمْ وَتُنْهَبُ بُيُوتُهُمْ وَتُفْضَحُ نِسَاؤُهُمْ.
وجاء في سفر "إشعياء" 13: 18: تكسير عظام الفتيان في نبوءة بحق بابل / العراق يقول يهوه، معبود اليهود الدموي:
فَتُحَطِّمُ الْقِسِيُّ الْفِتْيَانَ ولاَ يَرْحَمُونَ ثَمَرَةَ الْبَطْنِ. لاَ تُشْفِقُ عُيُونُهُمْ عَلَى الأَوْلاَدِ.
وجاء في سفر "هوشع" 13 : 16: تحطيم الأطفال إذ يقول هذا «الرب»: تُجَازَى السَّامِرَةُ لأَنَّهَا قَدْ تَمَرَّدَتْ عَلَى إِلَهِهَا. بِالسَّيْفِ يَسْقُطُونَ. تُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ وَالْحَوَامِلُ تُشَقُّ.
وجاء في سفر "القضاة" 21: 10: فَأَرْسَلَتِ الْجَمَاعَةُ إِلَى هُنَاكَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْبَأْسِ، وَأَوْصَوْهُمْ قَائِلِينَ :((اذْهَبُوا وَاضْرِبُو سُكَّانَ يَابِيشِ جِلْعَادَ بِحَدِّ السَّيْفِ مَعَ النِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ. وَهذَا مَا تَعْمَلُونَهُ: تُحَرِّمُونَ كُلَّ ذَكَرٍ وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتِ اضْطِجَاعَ ذَكَرٍ)).
وجاء في سفر "العدد" 31: 17: فَالآنَ اقْتُلُوا كُل ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُل امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا.
وجاء في سفر "المزامير" 137: 8-9: طوبى لمن يقتل الأطفال! يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُخْرَبَةَ طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا! 9 طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَةَ!
وجاء في سفر "التثنية" 2: 31-35: وَقَال الرَّبُّ لِي [الكلام للنبي موسى]: انْظُرْ! قَدِ ابْتَدَأْتُ أَدْفَعُ أَمَامَكَ سِيحُونَ وَأَرْضَهُ. ابْتَدِئْ تَمَلكْ حَتَّى تَمْتَلِكَ أَرْضَهُ. 32 فَخَرَجَ سِيحُونُ لِلِقَائِنَا هُوَ وَجَمِيعُ قَوْمِهِ لِلحَرْبِ إِلى يَاهَصَ 33 فَدَفَعَهُ الرَّبُّ إِلهُنَا أَمَامَنَا فَضَرَبْنَاهُ وَبَنِيهِ وَجَمِيعَ قَوْمِهِ. 34 وَأَخَذْنَا كُل مُدُنِهِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ وَحَرَّمْنَا مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ الرِّجَال وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَال. لمْ نُبْقِ شَارِداً. 35 لكِنَّ البَهَائِمَ نَهَبْنَاهَا لأَنْفُسِنَا وَغَنِيمَةَ المُدُنِ التِي أَخَذْنَا 36 مِنْ عَرُوعِيرَ التِي عَلى حَافَةِ وَادِي أَرْنُونَ وَالمَدِينَةِ التِي فِي الوَادِي إِلى جِلعَادَ لمْ تَكُنْ قَرْيَةٌ قَدِ امْتَنَعَتْ عَليْنَا. الجَمِيعُ دَفَعَهُ الرَّبُّ إِلهُنَا أَمَامَنَا.
وجاء في سفر "التثنية" 3 : 3-7: فَدَفَعَ الرَّبُّ إِلهُنَا إِلى أَيْدِينَا عُوجَ أَيْضاً مَلِكَ بَاشَانَ وَجَمِيعَ قَوْمِهِ فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى لمْ يَبْقَ لهُ شَارِدٌ. 4 وَأَخَذْنَا كُل مُدُنِهِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ. لمْ تَكُنْ قَرْيَةٌ لمْ نَأْخُذْهَا مِنْهُمْ. سِتُّونَ مَدِينَةً كُلُّ كُورَةِ أَرْجُوبَ مَمْلكَةُ عُوجٍ فِي بَاشَانَ. 5 كُلُّ هَذِهِ كَانَتْ مُدُناً مُحَصَّنَةً بِأَسْوَارٍ شَامِخَةٍ وَأَبْوَابٍ وَمَزَالِيجَ. سِوَى قُرَى الصَّحْرَاءِ الكَثِيرَةِ جِدّاً. 6 فَحَرَّمْنَاهَا كَمَا فَعَلنَا بِسِيحُونَ مَلِكِ حَشْبُونَ مُحَرِّمِينَ كُل مَدِينَةٍ الرِّجَال: وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَال. 7 لكِنَّ كُل البَهَائِمِ وَغَنِيمَةِ المُدُنِ نَهَبْنَاهَا لأَنْفُسِنَا.
وجاء في سفر "صموئيل الأول" 22: 19: وَضَرَبَ نُوبَ مَدِينَةَ الْكَهَنَةِ بِحَدِّ السَّيْفِ: الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ وَالرِّضْعَانَ وَالثِّيرَانَ وَالْحَمِيرَ وَالْغَنَمَ.
وجاء في سفر "أستير" 8: 12: الَّتِي بِهَا أَعْطَى الْمَلِكُ (الفارسي) الْيَهُودَ فِي مَدِينَةٍ فَمَدِينَةٍ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيَقِفُوا لأَجْلِ أَنْفُسِهِم؛ْ وَيُهْلِكُوا وَيَقْتُلُوا وَيُبِيدُوا قُوَّةَ كُلِّ شَعْبٍ وَكُورَةٍ تُضَادُّهُمْ حَتَّى الأَطْفَالَ وَالنِّسَاءَ؛ وَأَنْ يَسْلُبُوا غَنِيمَتَهُمْ
وجاء في سفر يشوع 6: 21 مجزرة أريحا وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ, مِنْ طِفْلٍ وَشَيْخٍ – حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ.
وجاء سفر "حزقيال" 9 : 5 -7: «اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَرَاءَهُ وَاضْرِبُوا. لاَ تُشْفِقْ أَعْيُنُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا. 6اَلشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ. اقْتُلُوا لِلْهَلاَكِ. وَلاَ تَقْرُبُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ السِّمَةُ, وَابْتَدِئُوا مِنْ مَقْدِسِي». فَابْتَدَأُوا بِالرِّجَالِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَمَامَ الْبَيْتِ. 7وَقَالَ لَهُمْ: «نَجِّسُوا الْبَيْتَ, وَامْلأُوا الدُّورَ قَتْلَى. اخْرُجُوا». فَخَرَجُوا وَقَتَلُوا فِي الْمَدِينَةِ.
وجاء سفر "صموئيل الأول" 15 : 3 -11: وَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: “أَنَا الَّذِي أَرْسَلَنِي الرَّبُّ لأُنَصِّبَكَ مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَاسْمَعِ الآنَ كَلاَمَ الرَّبِّ. هَذَا مَا يَقُولُهُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي مُزْمِعٌ أَنْ أُعَاقِبَ عَمَالِيقَ جَزَاءَ مَا ارْتَكَبَهُ فِي حَقِّ الإِسْرَائِيلِيِّينَ حِينَ تَصَدَّى لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ. 3فَاذْهَبِ الآنَ وَهَاجِمْ عَمَالِيقَ وَاقْضِ عَلَى كُلِّ مَالَهُ. لاَ تَعْفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَلِ اقْتُلْهُمْ جَمِيعاً رِجَالاً وَنِسَاءً، وَأَطْفَالاً وَرُضَّعاً، بَقَراً وَغَنَماً، جِمَالاً وَحَمِيراً”… 8وَأَمْسَكَ أَجَاجَ مَلِكَ عَمَالِيقَ حَيّاً, وَحَرَّمَ جَمِيعَ الشَّعْبِ بِحَدِّ السَّيْفِ. 9وَعَفَا شَاوُلُ وَالشَّعْبُ عَنْ أَجَاجَ وَعَنْ خِيَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمْلاَنِ وَالْخِرَافِ وَعَنْ كُلِّ الْجَيِّدِ, وَلَمْ يَرْضُوا أَنْ يُحَرِّمُوها. وَكلُّ الأَمْلاَكِ الْمُحْتَقَرَةِ وَالْمَهْزُولةِ حَرَّمُوها. 10وَكانَ كلاَمُ الرَّبِّ إِلى صَمُوئِيلَ: 11″نَدِمْتُ عَلَى أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكاً, لأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ وَرَائِي وَلَمْ يُقِمْ كَلاَمِي”.
وجاء في سفر "يشوع" 8: مجزرة عاي وَكَانَ لَمَّا انْتَهَى إِسْرَائِيلُ مِنْ قَتْلِ جَمِيعِ سُكَّانِ عَايٍ فِي الْحَقْلِ فِي الْبَرِّيَّةِ حَيْثُ لَحِقُوهُمْ, وَسَقَطُوا جَمِيعاً بِحَدِّ السَّيْفِ حَتَّى فَنُوا أَنَّ جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ رَجَعَ إِلَى عَايٍ وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. (25) فَكَانَ جَمِيعُ الَّذِينَ سَقَطُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً, جَمِيعُ أَهْلِ عَايٍ. (26) وَيَشُوعُ لَمْ يَرُدَّ يَدَهُ الَّتِي مَدَّهَا بِالْحَرْبَةِ حَتَّى حَرَّمَ جَمِيعَ سُكَّانِ عَايٍ. (27) لَكِنِ الْبَهَائِمُ وَغَنِيمَةُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ نَهَبَهَا إِسْرَائِيلُ لأَنْفُسِهِمْ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ يَشُوعَ. (28) وَأَحْرَقَ يَشُوعُ عَايَ وَجَعَلَهَا تَلاًّ أَبَدِيّاً خَرَاباً إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. (29) وَمَلِكُ عَايٍ عَلَّقَهُ عَلَى الْخَشَبَةِ إِلَى وَقْتِ الْمَسَاءِ. وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَمَرَ يَشُوعُ فَأَنْزَلُوا جُثَّتَهُ عَنِ الْخَشَبَةِ وَطَرَحُوهَا عِنْدَ مَدْخَلِ بَابِ الْمَدِينَةِ, وَأَقَامُوا عَلَيْهَا رُجْمَةَ حِجَارَةٍ عَظِيمَةً إِلَى هَذَا الْيَوْمِ.
ولحرق المدن في التوراة قصة أخرى. قسّمت التوراة المدن إلى قسمين: المدن البعيدة عن فلسطين، ويتم التعامل معه حسب سفر "التثنية" (20:10-15): "حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها وإذا دفعها الرب إلهك إلى يديك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا". التوراة جزءا من الأرض الموعودة، فيتم التعامل معها حسب سفر التثنية (20:16-20): "وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريما الحثيين والآموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمرك إلهك لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتكم فتخطئوا إلى الرب إلهكم".
وفي سفر "التثنية" (13:13-16): أيضا نجد فكرة الإبادة مكرسة من خلال القول: "قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك وطوحوا سكان مدينتهم قائلين نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفوها، وفحصت وفتشت وسألت جيدا، وإذا الأمر صحيح أكيد قد عمل ذلك الرجس في وسطك، فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرمها بكل ما فيها مع البهائم بحد السيف، تجمع أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد".
وفي سفر "يشوع" (10:40-42) ذكر واضح للإبادة التي قام بها يشوع: "فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها، لم يبقِ شاردا بل حرم كل نسمة كما أمر الرب إله "إسرائيل"، فضربهم يشوع من قادش يدنبع إلى غزة وجميع أرض جوشن إلى جبعون، وأخذ يشوع جميع أولئك الملوك أرضهم دفعة واحدة لأن الرب إله "إسرائيل" حارب عن "إسرائيل"".
وفي السفر ذاته (11:10-12) تقول التوراة: "ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ صور وضرب ملكها بالسيف، لأن صور كانت قبلا رأس جميع تلك الممالك، وضربوا كل نفس بحد السيف حرموهم ولم تبق نسمة وأحرق صور بالنار، فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكهم وضربهم بحد السيف، حرمهم كما أمر موسى عبد الرب".
عمليات الإبادة الجماعية التي جاءت التوراة على ذكرها لم تكن الوحيدة في تاريخ اليهود، بل أضيفت إليها العشرات من العمليات، ونذكر منها في القرن الأخير مجازر دير ياسين وكفر قاسم وقبية في فلسطين وحولا وصبرا وشاتيلا وقانا في لبنان، وعمليات القصف بقنابل النابالم في الأردن وقتل الأسرى المصريين في حربي 1957 و 1967 والقائمة تطول وربما لن تكون أخرها ما يجري في فلسطين هذه الأيام.
وضمن هذا السياق التوراتي يكمن لنا فهم دوافع قيام الصهاينة بقتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، وتدمير المدن، والإبادة البشرية في غزة، واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا ومجازر قتل الأطفال في مدرسة "بحر البقر" المصرية في نيسان (إبريل) 1970، وإصرارهم على قتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة وهو في حضن والده، كتنفيذ لقول التوراة "وتحطم أطفالهم أمام عيونهم"، إنه القتل والإبادة المنطلقة من تعاليم توراتية، لم يضف إليها القادة الصهاينة جديدا عندما قالوا "أن العربي الجيد هو العربي الميت".
أما آن للعرب أن يستفيقوا؟ أما آن للعرب أن يفهموا عدوهم؟ أما آن للعرب أن ينقذوا أنفسهم؟".

[23] P. 30. والملاحظ أن المؤلف بارع أحيانا فى استخدام الألفاظ التى توحى بأسوإ المعانى بالنسبة إلى النبى والإسلام. ومن ذلك قوله، يريد التعبير عن طاعة أهل المدينة له ، إن "المدينة قد أصبحت كلها عند قدميه:Medina was now entirely at his feet " (P. 32). وهذه عبارة لا تليق بالنبى الذى كان مثالا للرحمة والتواضع والكرم والحنان والمروءة والإنسانية واحترام الآخرين وحب الشورى والخشية من الله وكراهية الاستبداد والغطرسة والكبر. وفى نفس الوقت نجده، عند مجيئه إلى سياسة الاستئصال والحرق والنهب التى اقتفتها أسبانيا مع المسلمين هناك حتى قضت عليهم تماما، يسكت فلا يفتح سيرة الموضع بتاتا.

[24] وهذا ليس كلامى وحدى، بل كلام المؤلف ذاته: " Thus Medina was saved from a danger which would have meant utter annihilation particularly so as the Jews, still there, were co-operating with the Mekkans to that end" (P. 32). فلم التباكى إذن على مثل هؤلاء المتآمرين الأنذال؟

[25] P. 32

[26] P. 34

[27] P. 33

[28] P. 35