تونس من جديد
كما انطلقت ثورة الياسمين من تونس الخضراء منذ ما يقارب الأربع سنوات ( 17 كانون الأول / ديسمبر 2010 ) لتكون محركاً للشعب العربي في أقطاره المختلفة للمطالبة بالحرية والديمقراطية ، ها هي تونس تخرج علينا ثانية بعرسها الانتخابي لتقول ... ليس بالإجتثاث ولا بالحظر تتحقق الديمقراطية ، بل تتحقق بكلمة الشعب وإرادته فمن الشعب وبالشعب فقط يتحقق الإنجاز، وعلى الرغم من المرونة النسبية التي تحلى بها حزب النهضة خلال فترة تصدره للمشهد السياسي التونسي ورئاسته للترويكا الحاكمة مخالفاً بذلك ما استقرت عليه طريقة تعامل التيارات الاسلامية مع الآراء ووجهات النظر المعارضة لها ، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لاستقطاب ورضا الشارع التونسي كما كانت غير كافية لمنحه الثقة ، ففقدت الترويكاالحالكمة برئاسته أغلبيتها في البرلمان القادم ، آخذين بعين الاعتبار ان المرونة التي تحلى بها حزب النهضه والأحزاب المتحالفة معه لم تكن هبة أو منحة للشعب التونسي كما لم تكن نابعة من مبادئه وأفكاره ، فهو كغيره من أحزاب الإسلام السياسي حزب سلطوي إقصائي بكل ما تحمل الكلمة من معنى ، ولكن قادته كانوا أكثر مرونه من غيرهم من قادة الأحزاب الاسلاموية حين خرجوا بذلك عن نهج تلك الأحزاب ، وهذا يعود بالأصل لما تتميز به الحركات والاحزاب والتيارات السياسية المعارضة في تونس ، تلك الحركات والأحزاب التي لم تثنها كل وسائل القمع التي مارسها عليها الظلاميون والاسلامويون بما في ذلك عمليات الاغتيال السياسي التي استهدفت أقطاب المعارضة فكانت تلك الوسائل الهمجية مشعلاً للحرية وطريقاً لتحقيق المطالب فكان الدستور التوافقي وكانت الانتخابات التشريعية.
لقد وصلت نسبة المشاركة في الانتخابات التونسية 62 % ممن يحق لهم التصويت حيث تشير نتائج هذه الانتخابات التي جرت بتاريخ 26/10/2014 إلى تفوق حركة نداء تونس بحصولها على أكثر المقاعد من بين الأحزاب والتكتلات التي خاضت هذه الانتخابات ، حيث حصلت هذ الحركة على ما يزيد على ( 80 ) مقعداً ، في الوقت الذي تعتبر فيه حركة نداء تونس حركة علمانية المنهج وهي حركة وليدة العهد نسبيا إذ تم تأسيسها خلال عام 2012 مقارنة بحركة النهضة الحاكمة إسلامية الطرح والتوجه والمتجذرة في المجتمع التونسي منذ فترة طويلة التي حلت في المركز الثاني حيث حصلت حركة النهضة على ما يقارب ( 70 ) مقعداً من أصل عدد مقاعد البرلمان المقبل الذي يطلق عليه "مجلس نواب الشعب" التي تبلغ ( 217 ) نائبا، كما فاز بعدد من المقاعد الجبهة الشعبية المعارضة والتي كانت محط استهداف من قبل أصحاب التوجه الاسلامي كونها حركة يسارية معارضة بامتياز ، كما بينت النتائج إلى دخول حزب الاتحاد الوطني الحر إلى البرلمان وهو حزب تم تأسيسه على أحد رجال الأعمال ، وفي حال تأكدت تلك النتائج فإنّ ذلك يعني هزيمة كل من حزبي التكتل (الذي يتزعمه رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر) والمؤتمر (الذي أسسه الرئيس المؤقت منصف المرزوقي) اللذان سيتراجعان إلى فئة الأحزاب ضئيلة التمثيلية والتي لن تظهر في المشهد التي كانت عليه، مقابل صعود أحزاب أخرى قد تشارك في الائتلاف الحاكم المقبل ومن ضمنها الجبهة الشعبية اليسارية والاتحاد الوطني الحر و"آفاق" الليبيراليين.
وقد تميزت انتخابات تونس بخلوها من الأحداث أمنية ، وأثبتت تونس بشعبها العظيم انها تسير قدما نحو الديمقراطية الحقيقة ، وقد يكون ذلك مؤشراً على إمكانية تجذر الديمقراطية ليس في تونس وحدها بل وفي كافة أقطار الوطن العربي ، إذا ما تم التخلي عن سياسة الاجتثاث والحظر ، وإذا ما آمن الجميع بحق الشعب في التعبير عن رأيه واختيار ممثليه دون فرض الوصاية عليه من أحد ، فقد أثبتت الأيام أن سياسة الاجتثاث التي استحضرها الاحتلال الأمريكي للعراق قد فشلت فشلت ذريعاً بل وكانت سبباً مباشراً في عدم استقرار العراق خلال مدة تجاوزت العشر سنوات وحتى الآن ، حيث قام الأمريكي بإخراج قانون ينص على اجتثاث البعث بعد أن قاموا بحل الجيش العراقي العظيم ضمن خطوات أثبتت الأحداث انها كانت وبالاً لا على العراق فحسب بل وعلى المنطقة برمتها ، كما ويتكرر المشهد ولو بصورة اقل عنفاً في أرض الكنانة من خلال قانون حظر حركة الإخوان المسلمين باعتبارها حركة إرهابية ، ومع رفضي لأسلوب الإخوان المسلمين في الحكم وأقف مبدئياً في صف المعارضين لهم إلا أن أساليب الحظر المتبعة ومنع الرأي الآخر ما هي إلا اساليب وطرق تتعارض مع مفهوم الديمقراطية فتلك الطرق والوسائل تعمل على تكميم الأفواه وتحظر رأي الشعب في تحديد خياراته ، وهي أساليب تجعل ممن يشملهم الحظر كالخفافيش التي تعمل في الظلام وتسبب الكثير من الأذى والدمار مع ما يصاحب ذلك من عدم الاستقرار، ولعل ما نراه من عمليات إرهابية في مصر إلا أصدق دليل على ذلك .
أعود وأقول لقد أثبت الشعب التونسي بأن الديمقراطية يمكن أن تتجذر في العالم العربي إذا ما آمن القادة السياسيون بذلك ، وإذا ما تخلوا عن الأفكار الإقصائية والمزايدة باسم الوطن والوطنية الجوفاء ، وإذا ما أدركوا أن كل مواطن شريك في تحديد مستقبل وطنه ، لقد جاءت نتيجة الانتخابات التونسية في وقت تاه به أي أمل للإصلاح السياسي في العديد من أقطار المنطقة العربية ، وكما كانت تونس بياسمينها شعلة للحرية ، فقد أثبتت ثانيةً أنها الدولة الوحيدة القادرة على تلبية الآمال في نهضة العرب في المستقبل القريب ، وحتى لو تم تجاهل الإنجاز التونسي في المدى المنظور من قبل البعض أو فيما لو استخف البعض الآخر بهذا الانجاز العظيم للشعب التونسي في محاولة من معارضي الديمقراطية لمنع نقل تلك التجربة إلى الأقطار العربية الأخرى مثلما كانت التجربة التونسية ملهمةً للعرب في المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة ، فإن نجاح الديمقراطية وتجذيرها في تونس سيكون دافعا قويا لبقية البلدان ودلالة واضحة وقوية على أن الإصلاح والتعددية السياسية هي الخيار الأوحد لترسيخ الديمقراطية في العالم العربي .
ابراهيم ابوعتيله
عمان – الأردن
27/10/2014