الخروج
بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير
إله إسرائيل
بسم الله الرحمن الرحيم
)وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين(
"قرآن كريم"
مقدمة
هذه ثلاث مسرحيات في مسرحية واحدة.
أو مسرحية في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في عهد موسى عليه السلام.
والفصل الثاني: في عهد عيسى عليه السلام.
والفصل الثالث: في العصر الحديث.
استقيت حقائقها من الكتب المقدسة الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن ومن التلمود ومن كتب أخرى كثيرة كتبها اليهود أو كتبت عنهم في مختلف العصور.
وظلت فكرتها مختمرة في ذهني منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ولم يتسنّ لي إنجازها إلا منذ ثلاثة أعوام.
وقد توخيت إجلالاً لمقام الأنبياء عليهم السلام ألا تظهر أشخاصهم على المسرح وإن كانوا حضوراً فيه. ولقد أرهقني ذلك شيئاً ما غير أني كسبت به أن المسرحية أصبح في الإمكان تمثيلها على المسرح دون أن تثير اعتراض المتحرجين من رجال الدين إن شاء الله والله ولي التوفيق.

الخروج
مسرحية في خمسة مشاهد
المشهد الأول
معبد مصري في مدينة رعمسيس، على الجدران نقوش وكتابات. صنم كبير منصوب في الصدر، وبين قدميه المذبح مضاءً بالشموع، وفي الأركان مجامر يسطع منها البخور. الوقت بعد منتصف الليل.
(يرفع الستار عن الكاهن (حابي) راكعاً في خشوع أمام الصنم، يهمهم همهمة منغومة كأنها تراتيل يناجي بها الصنم)
الكاهن: (يقطع الصلاة فجأة ويلتفت خلفه متمتماً):
لم يحضروا بعد.
عجباً ماذا أخرهم؟
(يعود إلى صلاته كما كان)
(يسمع قرعاً خفيفاً على الباب الخارجي).. ها هم أولاء!
(ينطلق خارجاً ثم يعود ومعه سبعة شيوخ يمشون وهم يلتفتون خلفهم كأنهم يخشون أن يراهم أحد).
الكاهن: لا تخافوا. أقفلت باب المعبد.
أحدهم: إن لهذا المعبد لرهبة!
ثانيهم: رهبة عجيبة.
الكاهن: صه.. لا كلام الآن.. صلوا أولاً للإله.
الشيوخ: أي إله؟
الكاهن: (مشيراً إلى الصنم) إلهنا.. اركعوا له!
الشيوخ: لهذا الصنم وليس بيننا أحد من المصريين؟
الكاهن: أنا كاهن هذا المعبد (يركع للصنم).
الشيوخ: أنت إسرائيلي!
الكاهن: هكذا ينبغي أن أصنع وإلا انكشف سري.
الشيوخ: هذا حين تكون أمام المصريين.
الكاهن: بل دائماً. هكذا أوصاني أبي كما أوصاه جدي من قبل.
وهكذا استطعنا أن نأخذ من أموال المعبد ونذوره ما نشاء فنفرقه على بني جنسنا. ويلكم أتظنون أننا كنا نحتفظ بسرنا هذا ثلاثة أجيال لو لم نلتزم سنن المصريين في كل وقت كما لو كنا منهم؟
الشيوخ: لكن...
الكاهن: إن من يخون السر تخونه العلانية (بلهجة جازمة): هيا اركعوا مثلي للإله المعبود!
(يركع الشيوخ)
الكاهن: (يعلن انتهاء الركوع) والآن أديتم ما عليكم.
الأول: يكفي هذا؟ هذا هين.
الثاني: أكنت تريد المزيد؟
الأول: لا بأس إذا لزم.
الثالث: سيان عند هذا الصنم..
الكاهن: (ينهره) قل: المعبود.
الثالث: معذرة.. هذا المعبود سيان عنده الركوع الطويل والركوع القصير.
الرابع: بل يستوي عنده الركوع وعدم الركوع!
الكاهن: (يتصنع الغضب) صه! الاستهزاء بالإله المعبود كفر.
الأول: انظروا إلى وجهه! الغضب باد فيه.
الخامس: يخيل إلي أنك على حق.
السادس: أجل.
السابع: حقاً يا قوم!
الرابع: هكذا نحته المثال ليثير الرهبة قي قلوب عابديه.
الثالث: ولسنا من عابديه.
الأول: كلا.. ما كان هكذا من قبل!
الثاني: بل هو هكذا أمس واليوم وإلى الأبد.
الرابع: (منكراً) إلى الأبد؟ هذا كفر.
الثاني: كفر؟
الثالث: أجل. لا يبقى إلى الأبد غير إله إسرائيل.
الثاني: أنا ما قصدت هذا المعنى.
الرابع: فماذا قصدت؟
الثاني: إلى أن يتاح له من يحطمه!
الكاهن: (كمن يصحو من غفلة كان فيها) يحطمه! من ذا الذي يجرؤ أن يحطمه؟
الرابع: (ساخراً) موسى بن عمران!
(يقهقه الجميع ساخرين)
الكاهن: (يكف عن الضحك فجأة) كفى يا قوم سخرية!
الشيوخ: من أجل موسى تغضب؟
الكاهن: من أجل إلهنا المعبود (يشير إلى الصنم) اركعوا له ثانية (يركع)
الشيوخ: نركع ثانية (يركعون).
الأول: (بعد انتهاء الركوع) ونركع له ثالثة إن شئت.
الكاهن: (مغضباً) قلت لكم كفى سخرية!
الأول: قسماً بإله إسرائيل ما قصدت السخرية بل قلت هذا من صميم قلبي.
الرابع: يا للإلحاد! تقسم بإله إسرائيل إنك لا تسخر من عدو إله إسرائيل!
الأول: دعني من هذا. كلاهما إله.
الآخرون: إلحاد صريح.. كفر صريح!
الأول: أنا وحدي؟ ألم تركعوا أنتم لهذا كما تركعون لذاك؟
الآخرون: في الظاهر فقط.
الأول: وفي الباطن أيضاً. لقد ركعنا له الليلة في السر.
الآخرون: (يتمتمون فيما يشبه الندم) صحيح .. صحيح..
الثالث: يا ويلنا قد أغضبنا إلهنا.. أغضبنا إله إسرائيل.
الرابع: كل هذا منك يا حابي.
الآخرون: أجل.. كل هذا منك.
الكاهن: لا لوم عليكم.. هذا مبلغ إيمانكم بإله إسرائيل.
الشيوخ: ماذا تقول؟ ليس بين قومنا من هم أعلم بالدين.
الكاهن: إنما تعلمون القشور دون اللباب.
الشيوخ: أين اللباب؟
الكاهن: حيث يرتفع عنكم الحجاب فترون إلهكم رأي العين.
الشيوخ: هذا ما يزعمه لنا موسى بن عمران. يزعم أن الإله تجلى له في طور سيناء.
الكاهن: من يدري أي إله ذلك الذي تجلى له؟
الشيوخ: يقول إنه إله إسرائيل.
الكاهن: إن تجلى له مرة واحدة فقد تجلى لي أنا مرات.
الشيوخ: لك أنت؟
الكاهن: ولأبي من قبلي وجدي من قبله.
الشيوخ: أين؟
الكاهن: هنا.
الشيوخ: في هذا المعبد الوثني!
الكاهن: في هذا المحراب.
(ينظر بعضهم إلى بعض)
الشيوخ: حنانك يا حابي لا تشككنا في ديننا. حسبنا ما لقيناه من موسى.. حسبنا موسى واحد.
الكاهن: هل يستطيع موسى أن يريكم ما زعم أنه رأى؟
الشيوخ: لا.
الكاهن: فلا حق لكم أن تقرنوني به.
الشيوخ: (في اهتمام وقلق) وأنت تستطيع؟
الكاهن: لهذا دعوتكم الليلة. لقد أمرني أن أختار سبعة من بني إسرائيل ليتجلى عليهم فاخترتكم أنتم.
الشيوخ: (في ذهول)...؟
الكاهن: ما خطبكم؟ ألا تحبون أن يتجلى عليكم؟
الشيوخ: (ينظر بعضهم إلى بعض)....؟
الكاهن: أجيبوا ألا تحبون أن تروه رأي العين؟
الشيوخ: متى؟
الكاهن: الليلة.
الشيوخ: الليلة؟
الكاهن: الساعة!
الشيوخ: الساعة؟
الكاهن: (يشير إلى الصنم) صلوا للإله!
الشيوخ: أي إله؟
الكاهن: إله إسرائيل.
الشيوخ: لكن هذا..
الكاهن: (في حدة) لا تراجعوني.. سيتجلى لكم فيه. اركعوا معي للإله.
(يركع الكاهن فيركعون معه ويردد فيرددون):
سبوح قدوس هللويا! سبوح قدوس هللويا!
(يظهر شيطانان من خلف المذبح فيومئان إلى الشموع فينطفئن ويظلم المسرح فلا يرى فيه شيء وإنما تسمع أصوات الراكعين):
سبوح قدوس هللويا!
صوت: (من جهة الصنم) قد سمعت لكم يا أبنائي قد سمعت لكم
(يضاء المسرح إذ تنار الشموع مرة أخرى وإذا إبليس قد وقف دون الصنم وعن يمينه شيطانان وعن يساره شيطانان).
ارفعوا رءوسكم يا أبنائي وانظروا إلى وجهي.
(يرفع القوم رءوسهم فينظرون ذاهلين..)
إبليس: لا تخافوا.. أنا إلهكم إله إسرائيل قد تجليت عليكم واصطفيتكم.
الكاهن: سبوح قدوس. المجد لك يا إله إسرائيل والعظمة لكّ!
الشيوخ: سبوح قدوس. المجد لك يا إله إسرائيل والعظمة لك!
إبليس: أحقاً تحبونني؟
الشيوخ: ولا نحب سواك.
إ[ليس: فما بالكم تؤثرون غضبي على رضاي؟
الشيوخ: اغفر لنا ما كان منا الليلة فقد وقع منا دون قصد.
الثالث: حابي هو الذي أوقعنا في هذا الذنب.
الآخرون: أجل حابي هو الذي أوقعنا.
إبليس: (ينظر إلى الكاهن كالمستفسر)!
الكاهن: يا إلهنا إنهم ظنوا أنك غاضب عليهم لأنهم عبدوا هذا الإله المصري.
(يضحك إبليس وشياطينه)
إبليس: يا أبنائي هذا لا يغضبني. إن الإله الحق لا يغضبه أن تعبد الآلهة الباطلة
الكاهن: (ينظر إليهم كأنه يقول لهم ألم أقل لكم..؟)
إبليس: إن ما أغضبني أنكم أنتم وقومكم عصيتموني أنتم وقومكم وأطعتم موسى.
الشيوخ: ما أطعناه يا مولانا إلا لأنه أراد أن ينقذنا من ظلم فرعون واضطهاده.
إبليس: بل أراد أن يخرجكم من مصر ذات الزرع والضرع لتهلكوا في البرية من جوع وعطش.
الشيوخ: لكنه زعم لقومنا أنه سينزلهم بأرض تفيض لبناً وعسلاً.
إبليس: لقد ساء ما مناكم! أو لستم اليوم في أرض تفيض اللبن والعسل وتفيض الفضة والذهب؟
الشيوخ: لكن فرعون انتزع الذهب والفضة من أيدينا وحرم علينا التجارة والمراباة وسخرنا في فلاحة الأرض وبناء الهياكل والمعابد فصرنا عبيداً أو كالعبيد.
إبليس: لولا موسى ما بلع اضطهاد فرعون لكم ما بلغ.
الشيوخ: حقاً زاد اضطهاده لنا منذ ظهر موسى.
إبليس: (يتنهد) شد ما أتعبني موساكم هذا.. يعلم أن فرعون إله في قومه فيدعوه وقومه إلى التوحيد!
الشيوخ: إنه يزعم يا إلهنا أنك أرسلته ليدعو المصريين إلى توحيدك..
إبليس: كلا لا ينبغي أن ينال شرف توحيدي سواكم يا بني إسرائيل فأنتم أبنائي وأحبائي من دون العالمين.
الشيوخ: لقد كانت هذه عقيدتنا حتى جاء موسى فأوقعنا في حيرة وشك..
إبليس: لو كنتم مخلصين لي ما شككتم.
الشيوخ: والمعجزات التي ظهرت على يديه.. ألست أنت الذي أيدته بها؟
إبليس: بلى. من غيري؟ ولكني لم أؤيده بها ليقنع فرعون وقومه بالتوحيد كما زعم.
الشيوخ: ولا ليحمل فرعون على السماح لنا بالخروج من مصر؟
إبليس: ولا لهذا.
الشيوخ: فلأي شيء إذن؟
إبليس: (ينظر إليهم ملياً ثم يلتفت إلى شياطينه) انظروا يا ملائكتي إلى أبنائي هؤلاء كيف يلجون في جدالي.
الشياطين: لا بأس يا مولانا أن تشرح لهم حكمتك.
الشيوخ: (في ذلة وانكسار) إن كان في سؤالنا هذا حرج..
إبليس: كلا لا حرج (تلتمع عيناه كأنه وجد الجواب) أيدت موسى بالمعجزات ليحمل فرعون على رفع الاضطهاد عنكم لتعيشوا في أرضه أحراراً كما كنتم من قبل فتكون لكم السيادة والقوة بما تجمعون في أيديكم من مالها وذهبها حتى تصبح تحت سيطرتكم ويصبح أهلها عبيداً لكم.
الشيوخ: (في نشوة وفرح) سبوح قدوس هللويا!
إبليس: ولكن موسى بدل الرسالة وخان الأمانة، إذ تحدى فرعون ليثير المصريين عليه فيجلس على العرش مكانه، فلما أخفق في ذلك أراد أن يخرج بكم من أرض مصر ليتسلط عليكم في البرية وتكونوا تحت رحمته.
الشيوخ: إذن فابن عمران قد طمحت نفسه إلى الملك.
إبليس: أعطيته الرسالة فعافها وأراد الملك.
الكاهن: أعياه أن يكون ملكاً على مصر فأراد أن يكون ملكاً على إسرائيل.
الشيوخ: هلا نصرته على فرعون يا مولانا.. إذن لجلس على عرش مصر فكان لنا فيها المجد والسلطان.
إبليس: أتظنون أن موسى كان يفضلكم حينئذ على المصريين؟ وعزتي وجلالي ليتخذن له نسباً في آل فرعون وليتبرأن منكم وليذيبنكم في المصريين فلا يبقى لإسرائيل وجود.
الكاهن: لا عجب فقد رُبِّيَ موسى في قصر فرعون.
الرابع: إنا إذن لن نخرج مع موسى أبداً.
الآخرين: أجل لن نتبعه ولن نخرج معه.
الثالث: سنتخلف عنه وإن خرج معه جميع بني إسرائيل.
الآخرون: أجل.. أجل.
إبليس: كلا يا أبنائي.. إن خرجوا معه فاخرجوا معهم.
الشيوخ: نخرج معه وقد عصاك وتحداك؟
إبليس: أنتم شيوخ إسرائيل وقد اصطفيتكم لتقاوموه وتحدوا من طغيانه، ولا ينبغي أن ينفرد موسى ببني إسرائيل.
الشيوخ: لا قبل لنا بموسى فإنه قوي جبار.
إبليس: لا تخافوا. سأكون معكم عليه ولن أتخلى عنكم. سأتجلى لكم في كل حين.
الأول: لو تجليت لقومنا هكذا لانفضوا عن موسى وتركوه.
الآخرون: أجل سينفضون عنه إذا تجليت لهم.
إبليس: ما يكون لي أن أتجلى إلا للمصطفين فقولوا لهم إني تجليت لكم.
الشيوخ: لن يصدقوا دعوانا حتى يروك كما رأيناك.
إبليس: حسبهم أن يروني في الذهب.
الشيوخ: (في اهتمام بالغ) الذهب؟
إبليس: نعم، بلغوهم أني قد جعلت من نعمتي عليهم أن أتجسد لهم في هذا المعدن النفيس فليحرصوا على جمعه لتكون لهم القوة والسلطان.
الأول: أما هذا فسيؤمنون به ويفرحون.
الآخرون: لكن أنى لهم بالذهب؟ لقد انتزعه فرعون من أيديهم.
الرابع: وموسى كان السبب.
الآخرون: أجل.. موسى كان السبب.
إبليس: وأنتم بعد له طائعون ولأمره سامعون؟
الشيوخ: ماذا في وسعنا أن نفعل يا مولانا؟
إبليس: حذروا قومكم منه. خذلوهم عنه حتى يتركوه.
الشيوخ: سيبطشون بنا إن فعلنا ولن يتركوه.
إبليس: (في حقد) فاقتلوه!
الشيوخ: (ينظر بعضهم إلى بعض في حيرة وذعر)...!
الكاهن: (متلطفاً) يا إلهنا إن موسى تحدى فرعون وسحرته فغلبهم جميعاً فمن ذا يجرؤ على قتله وقد أيدته أنت بالمعجزات؟
إبليس: (في زهو) صدقت يا حابي.. صدقت.
الأول: اقتله أنت يا إلهنا وخلصنا منه.
الآخرون: أجل.. لماذا لا تقتله أنت؟ ألا تستطيع يا إلهنا أن تقتله؟
إبليس: (يستشيط غضباً) تباً لكم كيف تشكون في قدرتي؟ ألا تؤمنون أني إله السموات والأرض؟
الشيوخ: بلى يا مولانا (في ضراعة) غفرانك.. غفرانك.
إبليس: إن كان لكم إله غيري فاذهبوا إليه!
الشيوخ: كلا يا مولانا ما لنا إله غيرك.
إبليس: أهذا جزاء اصطفائي لكم؟
الشيوخ: (يبكون) غفرانك.. غفرانك..
إبليس: (للشياطين) ماذا ترون في هؤلاء الذين يشكون في قدرتي؟
الشياطين: أبناؤك يا مولانا وقد ندموا على ما فرط منهم وأنت أرحم الراحمين.
الشيوخ: أنت أرحم الراحمين!
إبليس: لولا العهد الذي كتبته على نفسي أن أجعل بني إسرائيل شعبي المختار لحل عليكم غضبي إلى الأبد..
الشيوخ: غفرانك.. غفرانك:
إبليس: ما هذه الدموع التي تذرفون؟ إنها تحرق قلبي!
الشيوخ: دموع التوبة يا مولانا.. دموع التائبين.
إبليس: امسحوها! امسحوها!
الشيوخ: لن نمسحها حتى تغفر لنا.
إبليس: قد غفرت لكم!
الشيوخ: (يمسحون دموعهم ويرفعون أيديهم إلى السماء) شكرانك.. شكرانك!
إبليس: ويلكم منذا تشكرون؟
الشيوخ: إياك نشكر يا مولانا.
إبليس: أفلا ترونني أمامكم؟
الشيوخ: (يدركون خطأهم فيرتبكون) بلى.. بلى.
إبليس: يا بني آدم ماذا تنتظرون؟ أتريدون أن أسجد لكم؟
الشيوخ: سبحانك.. سبحانك..
إبليس: هيا إذن فقعوا لي ساجدين!
الكاهن: (يسجد) سبوح قدوس هللويا!
الشيوخ: (يسجدون) سبوح قدوس هللويا!
(ينظر إبليس إلى شياطينه في اغتباط)
(ستار)

المشهد الثاني
في برية سيناء حيث نزل موسى ببني إسرائيل رحبة تتوسط المنظر.. وتظهر خلفها بعض الخيام التي ضربوها ليقيموا فيها.
(في أدنى اليمين يرى جانب من خيمة موسى )
(يرفع الستار عن جماعة بني إسرائيل بين رجال ونساء وقوف أمام الخيمة في رهبة ووجوم وبين أيديهم كومة من أكياس مصرورة ويرى بين القوم بعض الشيوخ السبعة وقد وقف هرون في طرف الخيمة بحيث لا يراه المتفرجون)
(الوقت: أول الضحى)
عزرا: (أحد الشيوخ) ألا تخبرنا يا هرون ماذا ينوي أخوك أن يفعل بنا؟
هرون: (في أسى) لا أدري.
رجل: وهذه الأكياس ماذا ينوي أن يفعل بها؟
الرجال حلى نسائنا!
النساء: حلينا وزينتنا!
هرون: (بلطف) صه يا قوم لا ترفعوا أصواتكم. إنه في المحراب يصلي.
(تهدأ الأصوات)
عزوا: (بصوت خافض) يصلي في المحراب ويتركنا وقوفاً في قلق وخوف!
هرون: الآن ينتهي من صلاته ويخرج لكم.
رجل: ألا تستطيع أن تهدئ قلوبنا بكلمة؟
عزرا: الفصيح اللسان الذي حاج فرعون عن أخيه لا يستطيع الآن أن يقول كلمة واحدة!
رجل: إن كان يريد أن يصادر هذه الحلي فإنها لكارثة!
امرأة: لكن علام يصادرها؟ إنها ملكنا ولا نملك غيرها.
عزرا: ربما صار اليوم حراماً على النساء أن يتحلين بالذهب!
هرون: يا عزرا لا ينبغي أن تتكلم كلام الجاهلين.
عزرا: تكلم أنت كلام العارفين وأنا أسكت!
امرأة: حنانك يا هرون خبرنا لماذا أمرك بجمع حلينا؟
هرون: رويدك يا مرتا. ستسمعين ذلك من فمه.
عزرا: يا هرون إن مرتا تتوسل إليك أن تسمع الساعة من فمك.
هرون: لن أتكلم قبل أن يجيء أخي موسى.
عزرا: أنت العارف لا تريد أن تتكلم فدعني أنا الجاهل أتكلم!
هرون: (في ضجر) تكلم ما شئت على ألا ترفع صوتك.
عزرا: لا تخف. إن موسى في شغل عنا بصلاته. تحبين يا مرتا أن أجيب على سؤالك؟
النساء: نعم. أجب يا عزرا.. أجب!
عزرا: أنا لا أدعي علم ما في ضمير موسى ولكني سأخمن وأحدس. لعل موسى رأى أن هذه الحلي الذهب لا تتسق مع هذه العيشة الضنك التي نحياها في هذه البرية القفر!
مرتا: فماذا يريد أن يصنع بالحلي؟
عزرا: سأخمن أيضاً. لعله يريد أن يحفظها وديعة عنده حتى يدخل بنا بلداً يفيض لبناً وعسلاً!
رجل: فيم إذن وقف بنا في هذه الأرض المقفرة وأمرنا أن نعمل فيها ونكدح كما لو كنا سنبقى فيها ونستقر؟
عزرا: سأخمن مرة أخرى. لعله يريد منا أن نحول هذه الأرض إلى بلد عامر تجري فيها الأنهار كمصر!
هرون: تريد يا عزرا أن تثير في قومك فتنة!
عزرا: إنما أريد أن أهدئهم يا هرون حتى لا تثور بينهم الفتنة!
هرون: لا شأن لي إن غضب موسى. قد أنذرتك.
عزرا: أناشدكم الله يا قوم هل ترونني داعي فتنة كما زعم هارون؟
الجميع: كلا يا هرون. إن عزرا يريد بنا الخير!
عزرا: سأوضح لكم حتى لا يلتبس قولي على هارون.. خبروني يا بني إسرائيل هل كان فرعون منكم؟
الجميع: كلاّ ليس منا.
عزرا: ألم تكونوا تطيعونه إذ كنتم تحت حكمه في مصر؟
الجميع: بلى كنا نطيعه.
عزرا: أولم ينتزع الذهب من أيديكم؟
الجميع: بلى انتزعه من أيدينا ولم يبق لنا شيئاً.
عزرا: فموسى اليوم أحق بطاعتكم من فرعون!
هارون: (متمتماً) لو سمعك موسى تقول هذا القول!
عزرا: إني أدعوهم إلى طاعته!
هرون: صه! ها هو ذا موسى قد أقبل.
(يهدأ القوم مستكينين كأنما على رءوسهم الطير)
موسى: (يسمع صوته دون أن يظهر على المسرح)
سلام يا بني إسرائيل!
الجميع: سلام يا موسى.
موسى: (في لهجة يمازحها غضب) وأنى عندكم السلام؟
(صمت)
موسى: هرون!
هرون: لبيك يا كليم الله
موسى: جمعت الذهب؟
هرون: نعم، هو ما ترى في هذه الأكياس.
موسى: كل ما عندهم؟ كل ما عندهن؟
هرون: نعم فيما أعلم.
موسى: يا بني إسرائيل هل أخفى أحدكم شيئاً منه؟
الجميع: لا.
موسى: (يتناول كيساُ من الأكياس حيث لا تظهر غير يده ثم يرمي الكيس بقوة حيث كان.. ويسود الصمت لحظة ثم يقول بصوت رقيق كأنه يناجي نفسه:
إني ذاهب إلى ميقات ربي فاصدقوني القول ولا تؤخروني (يغلظ صوته ويرتفع بغتة) أنى لكم هذا؟
(صمت)
موسى: أصم لا تسمعون؟ أم بكم لا تنطقون؟
هارون: (في لطف) أجيبوا يا قوم!
موسى: أنى لكم هذا الذهب؟
عزرا: خفض عليك يا موسى. اذهب إلى ميقات ربك الساعة حتى إذا عدت من لقائه كان لك مع هؤلاء شأن.
موسى: كلا لا أبرح مكاني هذا حتى أعلم من أين جاء هذا الذهب!
رجل: (متلعثماً من الخوف) هذه حلي..
موسى: أعلم أنها حلى. من أين؟
آخر: حلى نسائنا. خرجن بها من مصر.
موسى: لا تخادعوني.. لم يبق عند نسائكم في مصر من حلى. اصدقوني وإلا فوالذي أنا ذاهب إلى ميقاته لأفعلن بكم الأفاعيل.
رجل: استعارها نساؤنا من جاراتهن المصريات ليلة العيد.. ليلة الخروج..
امرأة: وأعجلنا الخروج فلم نتمكن من إعادتها إليهن.
موسى: (في أسى كأنما يندب نفسه) رجال كذبة ونساء كاذبات! (يعلو صوته غضباً) هلا قلتم.. هلا قلتن: قصدنا السرقة خدعنا المصريين وسرقناهم؟
(صمت)
عزرا: لعلهم استحلوا ذلك من أموال الوثنيين.
أصوات: أجل.. من أموال الوثنيين.
موسى: (غاضباً) يا غلاظ الرقاب أفيسرق الموحّدون؟!
عزرا: ليس علينا في أموال الوثنيين سبيل.
موسى: اخسأ. من قال لكم ذلك؟
عزرا: تناقلنا ذلك عن آبائنا.
موسى: قبح الله آباءكم الذين بدلوا ملة أبينا إبراهيم وأطاعوا الشيطان الرجيم. ورب العزة لأعاقبنكم شر عقاب يا غلاظ الرقاب.
أصوات: اغفر لنا يا موسى اغفر لنا هذه المرة! لن نعود لمثلها أبداً.
موسى: (كأنه يناجي نفسه) السارق موحّد، والمسروق وثني!
أصوات: اغفر لنا يا كليم الله.. اغفر لنا إنا كنا جاهلين.
موسى: (ماضياً في مناجاة نفسه) الوثني مسروق والموحد سارق!
أصوات: نتوسل إليك يا كليم الله..لا تغضب علينا! لا تعاقبنا..اعف عنا يا موسى! اعف عنا يا كليم الله!
موسى: (كأنما يصحو من غمرة كان فيها) قاتلكم الله! لقد أخرتموني عن ميقات ربي! اختر نفراً منهم يا هارون فلينطلقوا بهذه الحلي إلى مصر ليردوها إلى أربابها ثم ليرجعوا إلينا.
النساء: (تتعالى أصواتهن) يا موسى! يا كليم الله! دع لنا حلينا! لا تأخذ حلينا منا! ما عندنا غيرها! هي كل ما نملك!
موسى: (يصيح غاضباَ): صه أيتها الأتن الحرن! لتسكتن أو لأجزن ضفائركن!
(صمت)
عزرا: معذرة يا موسى. ربما يتعذر تنفيذ ما أمرت. من أين لرسلك أن يعرفوا ربات هذه الحلي في مصر؟
موسى: (ينظر إليه ملياً ثم يلتفت إلى هارون) يا هارون خذ من كل واحدة اسم جارتها المصرية التي استعارت منها فاكتبه على كيس حليها (ينظر مرة أخرى إلى عزرا)
عزرا: (يتمتم في ارتباك) طريقة حسنة.
هرون: أليس يخشى على رسلنا أن يبطش بهم المصريون؟
موسى: ليستأمنوا بعض أمرائهم الحاكمين على الأطراف فإذا أمنوهم فلا خوف عليهم. إنهم أحفظ منكم للعهد!
هرون: سمعاً يا كليم الله سأنفذ أمرك.
موسى: يا بني إسرائيل أطيعوا هرون في غيابي فهو خليفتي فيكم! انصرفوا الآن إلى رحالكم!
(ينفض الجميع وينصرفون)
موسى: أوصيك يا هرون بهم خيراً.
(ستار)

المشهد الثالث
داخل كهف واسع عميق يبدو مدخله الضيق كفتحة صغيرة في أقصى المسرح من جهة اليمين.
(برفع الستار فنرى إبليس واقفاً في الركن الأيسر من أدنى المسرح ومعه شياطينه الأربعة عن يمينه وشماله وترى الشيوخ السبعة ساجدين أمامه في خشوع)
إبليس: ارفعوا رؤوسكم يا أبنائي المصطفين!
الشيوخ: (يرفعون رءوسهم بكين) ارحمنا يا مولانا ارحمنا! ارحم شعبك المختار!
إبليس: امسحوا دموعكم فإنها تقطع قلبي شفقة ورحمة!
الشيوخ: (يمسحون دموعهم) ليس لنا غيرك يا إله إسرائيل.
إبليس: قد علمت ما حل بكم اليوم فأسرعت إليكم لأربط على قلوبكم.
الشيوخ: شكرانك يا مولانا قد علمنا أنك لن تتخلى عنا..
إبليس: (يشير إلى أحد شياطينه) هذا جبريل يخبركم كيف تركت كل شيء لأدرككم. حدثهم يا جبريل.
الشيطان: لقد كان المولى يلهو كدأبه مع اللفياثان فقطع لهوه المقدس ليغيث شعبه المختار.
الشيوخ: (متسائلين) اللفياثان!
إبليس: ويح أبنائي لا يعرفون اللفياثان!
الشيطان: حوت كبير من الذهب..
الشيوخ: من الذهب؟!
الشيطان: نعم.. حوت الحيتان، نون النينان.
الشيوخ: من الذهب؟
الشيطان: نعم.. النون الأعظم الذي في وسعه أن يبتلع السموات والأرضين وما بينهما دون أن يشعر أنه ابتلع شيئاً.
الشيوخ: كل هذا من الذهب؟
الشيطان: الذهب الخالص.
الشيوخ: سبوح.. قدوس!
عزرا: وأين كان إلهنا يلعب مع ذلك الحوت؟
الشيطان: أين؟ لا أين!
الشيوخ: لا أين؟
إبليس: قربه إلى أذهانهم يا جبريل.
الشيطان: في البحر الزخار.. في العيلم الهدار.. بحر البحور الذي لا ساحل له!.
الشيوخ: سبوح قدوس!
الشيطان: أبشروا يا شعب إسرائيل.. ما رأيت مولانا منذ خلقني ترك لهوه المقدس هذا يوماً لأحد سواكم.
إبليس: كيف أترك شعبي يعبث به موسى كما يشاء؟
الشيوخ: أغثنا يا مولانا. إنه انتزع الذهب من أيدينا ومن أيدي نسائنا ليرده إلى مصر.
إبليس: إني لن أغيثكم إلا بأيديكم. تحركوا واعملوا وأنا معكم.
الشيوخ: ماذا نفعل يا مولانا؟ ماذا نصنع؟
إبليس: هو غائب عنكم الآن.
الشيوخ: أجل، ذهب إلى الجبل زاعماً أنك واعدته هناك.. أحقاً يا مولانا واعدته هناك؟
إبليس: (يتوقف قليلاً كأنه يفكر في الجواب)
عزرا: لا ريب أنه ادعى ذلك كذباً ليوهمنا أنك لم تزل تتجلى له.
إبليس: كلا.. لقد واعدته حقاً هناك.
الشيوخ: ألم تزل تتجلى له وقد عصاك وتحداك؟
إبليس: لعله يرجع يوماً إلى صوابه فيطيع أمري فيكم. أتدرون متى أتخلى عنه؟
الشيوخ: متى؟
إبليس: يوم تتخلصون أنتم من قبضة يده.
عزرا: لن نتخلص من قبضة يده إلا إذا تخليت عنه فإنه يستمد قوته منك.
الآخرون: أجل يا مولانا.. يستمد قوته منك.
إبليس: هذا حق ولكن حكمتي اقتضت أن تكافحوه بأنفسكم لتكتسبوا من كفاحه قوة تعينكم في كفاح غيره من الجبارين في المستقبل.
الشيوخ: أنكافح جبارين آخرين في المستقبل؟ أما يكفينا ما لقيناه من موسى؟
إبليس: أراكم تجادلونني الآن في حكمة الخلق.
الشيوخ: غفرانك يا إلهنا لا نقصد جدالك.
إبليس: بل جادلوني لا حرج لتزدادوا معرفة بي وبحكمتي. لقد خلقت هذا الكون العظيم وجعلت له سنناً ثابتة لا تتغير لتحفظ نظامه أن يختل أو يضطرب. وقد اخترتكم شعبي يا بني إسرائيل فلا مناص أن تحسدكم شعوب الأرض على مكانتكم عندي وعلى المواهب التي خصصتكم بها من دون العالمين، فستحقد الشعوب عليكم وتضطهدكم جيلاً بعد جيل.
الشيوخ: (في إشفاق) جيلاً بعد جيل!
إبليس: ستضطهدون حيثما تكونوا ولكنكم ستكافحون وتنتصرون.
عزرا: لكن موسى هذا لماذا يضطهدنا وهو منا؟ أيحسدنا هو أيضاً؟
إبليس: موسى لا يحسدكم ولكن لا يريد أن أتخذكم شعبي المختار، يريد أن يسوي بينكم وبين سواكم من الآدميين. اختصصتكم بالتوحيد فأراد أن يدعو المصريين إليه. أبحت لكم ذهب المصريين فانتزعه من أيديكم ليرده إليهم.
الشيوخ: هو يحسب المصريين خيراً منا.
إبليس: بل يخشى أن يربو هذا الذهب في أيديكم حين تتعاملون به مع جيرانكم في المستقبل.
الشيوخ: وماذا يضيره من ذلك!
إبليس: ما أسرع ما نسيتم كلماتي! ألم أقل لكم إن من رحمتي ببني إسرائيل حين اتخذتهم شعبي المختار أن جعلت الذهب مظهري في الأرض يعبدونني فيه، ويدنون مني على قدر ما في أيديهم منه حتى يستعلوا به على الشعوب؟
الشيوخ: بلى قد قلت لنا ذلك وبلغناه لقومنا.
إبليس: فموسى يكره لكم الذهب لأنه لا يريد لكم علواً في الأرض ولا امتيازات على الشعوب.
الشيوخ: يا مولانا إن موسى ليس إلهاً فكيف تركته يتحدى إرادتك إلى هذا الحد؟
إبليس: (محتداً) يا غلاظ الرقاب لأتيح لكم أن تكافحوه!
يا غلاظ الرقاب إن شعبي المختار ستحسده شعوب الأرض وتضطهده فعليه أن يكافح ليخلد ويسود!
يا غلاظ الرقاب متى تفهمون حكمتي؟
الشيوخ: (في ضراعة) غفرانك يا مولانا قد فهمنا حكمتك.
إبليس: فأطيعوا إذن أمري!
الشيوخ: ألا ترشدنا ماذا نصنع؟
إبليس: ماذا تصنعون؟ ثبوا على هارون فانتزعوا الذهب منه قبل أن يرسله إلى مصر.
الشيوخ: سيأخذه موسى كرة أخرى إذا رجع.
إبليس: صبّوا تلك الحلي واجعلوها قطعة واحدة فتضيع معالمها ويتعذر ردها إلى أربابها.
عزرا: وبذلك تبطل حجة موسى.
إبليس: ثم اصنعوا من ذلك الذهب عجلاً فاعبدوه.
الشيوخ: عجلاً يا مولانا؟
إبليس: نعم.
الشيوخ: نعبد العجل كالمصريين ونحن موحدون؟
إبليس: ويلكم إنما تعبدونني أنا فيه.. عجل من خالص الذهب.
الشيوخ: قد يقول قومنا: هذا معبود المصريين فلن نعبده.
إبليس: سأريهم آية من عندي.
الشيوخ: آية من عندك!.
إبليس: سأنفخ فيه من روحي فيكون له حركة.
الشيوخ: حركة؟
إبليس: وخوار.
الشيوخ: خوار؟
إبليس: ليعلم موسى أن معجزاتي لم تعد وقفاً عليه.
الشيوخ: شكرانك يا مولانا شكرانك!.
إبليس: امضوا الآن لتدركوا هارون قبل أن يبعث الرسل.
الشيوخ: سمعاً يا مولانا سمعاً!.
إبليس: وسأمضي أنا لميقات موسى! "يرسل قهقهة عالية" لكأني به الآن يدعوني سدى في كل سفح من سفوح الجبل لأتجلى له! هيا يا ملائكتي إلى الجبل.
"يختفي إبليس وشياطينه"
الشيوخ: "في نشوة" سبوح قدوس هللويا!.
"يتوجهون في نشاط نحو باب الكهف في أقصى المسرح".
(ستار)

المشهد الرابع
نفس المنظر في المشهد الثاني
(يرفع الستار عن الرحبة وقد اكتظت بجموع بني إسرائيل من رجال ونساء وهم عاكفون على عجل مصنوع من الذهب يلمع في ضوء الشمس وهو يتحرك في مكانه ويخور والقوم متوجهون إليه بالعبادة مظهرين الخشوع تارة ومحملقين إليه متعجبين من حركته وخواره تارة أخرى وقد نصب العجل بجوار خيمة موسى (على يمين المسرح بحيث يستدبر الخيمة ويستقبل جمهور العاكفين عليه في الرحبة.
ووقف إلى جانب العجل عزرا وهو ينشد لحناً كالترانيم الدينية ليردده الآخرون).
(الوقت وسط الضحى)
عزرا: (ينشد والآخرون يرددون):
هـذا إلهنا الذي يـشهدنا ونشهـدُهْ
إله إسرائيل من صافي النضار جسده
خيـر إله نعبده يـرفدنا ونرفده
إذا نما نـما به سؤددنا وسؤدده
لا كالذي ينشده موسى وليس يجده
يا ويح موسى إنه غوى وضل رَشده
إله إسرائيل بيننا وهذا موسى يجحده
ينشده بين الجبا ل، ضلة ما ينشده
لعله يرى هناك جملـدا فيعـبده
شتان في شرع الحجى عسجدنا وجلمده!
هرون: (يسمع صوته داخل خيمة موسى)
يا بني إسرائيل ألا ترعوون عن غيّكم هذا؟ كيف تكفرون بإلهكم وتعبدون هذا الوثن؟
أصوات: هذا إلهنا يا هرون! وإلهك! هلم اعبده معنا أو فاتركنا! اذهب إلى موسى في الجبل! اذهب إلى الجبل! إلى الجبل!.
هرون: كيف تعبدون العجل؟ العجل معبود فرعون وقومه!
أصوات: بذلك ساد فرعون وقومه! هذا سر عظمتهم وسر قوتهم! سنكون أعظم منهم.. عجلهم من حيوان يموت ويبلى، وعجلنا من ذهب لا يموت ولا يبلى!.
هرون: يا بني إسرائيل ارجعوا إلى صوابكم وتوبوا إلى ربكم!
أصوات: هذا ربنا معنا فتب أنت إليه.
هرون: يا بني إسرائيل!.
أصوات: كفى يا هرون! هذا يوم عيد لنا. هذا عيد الرب فلا تزعجنا بصياحك. قسماً بربنا هذا لئن لم تنته لنرجمنك! لنرجمنك!
هرون: ارجموني إن شئتم ولا تعبدوه.
أصوات: سنرجمك ونعبده! دعونا يا قوم من هرون!
عودوا بنا إلى العبادة! إلى العبادة! أنشد يا عزرا!.. أنشد ترنيمة المعبود!.
عزرا: "يستأنف الإنشاد وهم يرددون بعده"
هـذا إلهنا الذي يـشهدنا ونشهـدُهْ
إله إسرائيل من صافي النضار جسده
خير إله نعبده يـرفدنا ونرفده
إذا نما نما به سؤددنا وسؤدده
لا كالذي ينشده موسى وليس يجده
هرون: "صائحاً" يا بني إسرائيل! يا بني إسرائيل! هذا موسى قد أقبل من بعيد!.
همهمة: موسى! موسى! موسى!
هرون: أميطوا هذا الوثن من هنا وألقوه بعيداً أو ليفعلن بكم الأفاعيل.
عزرا: ماذا يستطيع موسى أن يفعل! سنقول له: نحن جميعاً صنعناه ونحن جميعاً عبدناه.
أصوات: أجل نحن جميعاً صنعناه ونحن جميعاً عبدناه!.
هرون: قد أنذرتكم فلا تلومُن إلا أنفسكم.
"يتطلع القوم إلى جهة الخيمة"
همهمة: موسى يا قوم! موسى! موسى!
"ينفض الذين كانوا بجوار الخيمة حول العجل فيتقهقرون إلى غمار القوم في الرحبة تاركين العجل قائماً وحده أمامهم".
موسى: "صوته من الخيمة" ويلكم ما هذا الذي تصنعون؟
"صمت"..
"بصوت أشد" ما هذا الذي أنتم عليه عاكفون؟
"صمت"
أين هرون؟
هرون: "صوته" لبيك يا كليم الله.. هات هذه الألواح أحملها عنك.
موسى: "في غضب" ما أنت والألواح؟ دعها معي!
هرون: "في رقة" أردت يا أخي أن أحمل عنك العبء..
موسى: ويلك.. عجزت من حمل وصية واحدة لي أفتحمل وصايا الله العشر؟
هرون: معذرة يا موسى..
موسى: خبرني أين كنت؟
هرون: كنت هنا يا موسى.
موسى: كنت هنا وتركتهم يعبدون هذا الصنم من دون الله؟ "يرمي الألواح فتقع على الأرض بجوار العجل الذهبي فهي ملقاة هناك ظاهرة في المسرح".
ويل لك! لآخذن بلحيتك هذه الكثة!
هرون: "صوته مستغيثاً" مهلاً يا أخي!
موسى: ما أنا بأخيك!
هرون: يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي.
موسى: "مزمجراً" لحيتك لا تكفي لآخذن برأسك!
هرون: ولا برأسي.. اسمع عذري يا كليم الله ثم افعل ما بدا لك.
موسى: أي عذر لك؟
هرون: أرسل شعري من قبضة يديك لأستطيع أن أشرح لك.
موسى: هات ما عندك.
هرون: إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء.
موسى: ضعفت لهم فاستضعفوك!
هرون: يا كليم الله إن الله لم يجعل لي قوتك.
موسى: خبرني من أين جاءوا بهذا؟
هرون: وثبوا عليّ بعدك فانتزعوا حلي المصريين التي جمعتها فصاغوا منها هذا العجل وعبدوه.
موسى: واستطعت أن تعيش بينهم بعد؟ هلا كان بطن الأرض خيراً لك من ظهرها وقد كفر قومك بالله وعبدوا عجلاً من ذهب؟
هرون: وددت والله لو أماتني الله قبل أن أرى ما رأيت.
موسى: ألم يكن معك رجالك فأين كانوا؟
هرون: كانوا قلة في كثرة.
موسى: قلة والله معهم؟
هرون: خشيت يا أخي أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي.
موسى: أفرقبت قولي إذ تركتهم يعبدون العجل؟
هرون: يا ابن أم إنك تعرف ضعفي، وها هو ذا الصنم أمامك وهاهم أولاء عابدوه فحاسبهم أولاً ثم حاسبني.
موسى: يا بني إسرائيل من الذي صنع لكم هذا العجل؟
الجميع: نحن جميعاً صنعناه ونحن جميعاً عبدناه!
موسى: أنتم جميعاً عبدتموه ولكن من الذي صنعه؟.
الجميع: نحن جميعاً صنعناه؟
صوت: كلا يا موسى. أنا الذي صنعته! هذا فني وإبداعي! أنا هرون السامري!
"همهمة استنكار"
موسى: هلم أدن مني!
"يتقدم السامري فيقف إلى جوار العجل أمام موسى"
السامري: نعم يا كليم الله.
موسى: أنت صنعت هذا؟
السامري: نعم.
موسى: كيف صنعته؟.
السامري: أعطوني الحلي فقالوا: أرنا فنك.. اصنع لنا منها عجلاً ففعلت.
هرون: سله يا أخي كيف جعله يتحرك؟
موسى: إنه ليس يتحرك.
هرون: قد كان يتحرك ويخور قبل مجيئك فافتتن به القوم.
السامري: أجل يا كليم الله.
موسى: أساحر أنت؟
السامري: لا والله ما أنا بساحر ولكني بصُرت بما لم يبصروا به من سر الحياة.
موسى: كيف؟
السامري: وددت لو تركتني أحتفظ بهذا السر وحدي!.. سر المهنة يا كليم الله!.
موسى: كلا بل قله لنا!
السامري: رأيتك ذات مرة تناجي ربك، فألهمت أن لو قبضت قبضة من التراب الذي كنت واقفاً عليه، وذررته في صلب أي تمثال أصنعه لدبت فيه الحياة.. وكذلك فعلتُ فصدقني إلهامي!
موسى: ذلك الشيطان يا سامري.
السامري: الشيطان!!.
موسى: هو الذي ألهمك لتضل بني إسرائيل.
السامري: اغفر لي يا كليم الله.. فما كنت أعلم.
موسى: ألم تعلم أن العبادة لله وحده؟
السامري: بلى..
موسى: فكيف دعوتهم إلى عبادة هذا العجل؟
السامري: أنا ما دعوتهم إلى عبادته.. هم الذين عبدوه..
موسى: "بعد سكتة قصيرة" لو قد دعوتهم إلى عبادته لكان جزاؤك القتل ولكن اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس..
السامري: "مستفهماً" لا مساس؟
موسى: اذهب فاعتزلنا.. لا تمس أحداً منا ولا يمسك منا أحد.
السامري: القتل يا موسى أهون عندي من ذلك.
موسى: هذا جزاء ذنبك.
السامري: "يبكي" إني لنادم على ما سولت لي نفسي.. وإني لتائب إلى الله.
موسى: هذا سبيل توبتك اذهب!
السامري: "في بكائه" لا مساس.. لا مساس.. تباً لكم يا بني إسرائيل تباً لكم يا بني إسرائيل!
(يخرج ولكن يبقى صوته مسموعاً وهو يبتعد حتى يتقطع بعد حين)
موسى: "للقوم بعد انقطاع صوت السامري": السامري صنع لكم العجل.. فمن الذي دعاكم إلى عبادته؟
القوم: نحن جميعاً عبدناه!
هرون: "بصوت خافت" عزرا هو الذي كان يرتل الصلاة للصنم.
موسى: مهلاً يا هرون.. أريد أن أسمع منهم لا منك..
(للقوم) يا غلاظ الرقاب من الذي دعاكم؟
القوم: لا أحد.. لا أحد.. نحن جميعاً عبدناه!
(فترة صمت)
موسى: يا هرون أين رجالك؟
هرون: بين يديك.. تقدموا يا رجال!
(يتقدم جماعة من جوانب الخيمة حتى يقفوا أمامها)
موسى: عبدتم العجل أنتم؟
الجماعة: معاذا الله يا كليم الله..
موسى: الحمد لله.. خذوا سيوفكم فقفوا على مدخل خيمة العهد ومخرجها. ثم ليدخل بنو إسرائيل واحداً واحداً فسلوا كل واحد منهم من دعاه أول مرة إلى عبادة هذا الصنم، فمن يجب فأعطوه السيف ليقتل به من دعاه، ومن لم يجب فاقتلوه هو!
القوم: (يتعالى صياحهم) ارحمنا يا كليم الله! لا تجعلنا نقتل أنفسنا!
موسى: هذا قضاء الله فيكم أن تقتلوا أنفسكم!
القوم: لنخبرك إذن! عزرا هو الذي دعانا.. عزرا بن اليعازر! عاقب عزرا! اقتل عزرا!
عزرا: (صائحاً) تباً لكم يا جبناء!
موسى: هلم يا عزرا!. (يتقدم عزرا أمام الخيمة) أنت الذي دعوتهم؟
عزرا: (لا يجيب)..
موسى: (صائحاً) تكلم!
عزرا: لا لست أنا الذي دعاهم..
موسى: فمن؟.
عزرا: إله إسرائيل!
موسى: (يضربه بالسوط). اخسأ عليك اللعنة!
عزرا: (يتقهقر قليلاً) لا تضربني.
موسى: سأقتلك يا كافر.. لقد كفرت بإله إسرائيل!
عزرا: أنت الذي كفرت به!
موسى: أنا رسوله وكليمه!
عزرا: بدلت الرسالة وخنت الأمانة!.
موسى: إذ نهيتكم عن عبادة هذا العجل؟
عزرا: نعم..
موسى: ويلك مازلت تؤمن أنه إلهك؟
عزرا: إلهي وإله إسرائيل.
موسى: (غاضباً) لأحطمن إلهك هذا ولأنسفنه في اليم نسفاً. ايتوني بالصنم.
(يحمل الصنم إلى داخل الخيمة ويسمع صوت تحطيمه)
أيها الكفرة الفجرة! كيف تعبدون هذا الذي لا يملك لكم نفعاً ولا ضراً؟
عزرا: يا بني إسرائيل! موسى يكره لكم الذهب لأنه إلهكم في الأرض! إن إله إسرائيل قد اصطفاكم شعبه المختار وموسى لا يريد لكم ذلك!
موسى: خذوه!
عزرا: افعل بي ما شئت.. فلن تقدر على بني إسرائيل بعد اليوم.
موسى: احفروا له في الأرض فارجموه!
عزرا: (يسوقونه حتى يخرجوا به وهو يصيح):
موسى عدوكم يا بني إسرائيل.. عدوكم وعدو إلهكم. ثوروا عليه!
موسى: يا بني إسرائيل! أتؤمنون لهذا الفاسق؟
القوم: كلا كلا يا كليم الله..أنت رسولنا وهادينا.. لا نؤمن إلا لك!
موسى: إذن فليرجع كل واحد منكم إلى رحله ولا يبرحه حتى يدعى إلى خيمة العهد..
القوم: خيمة العهد؟ ماذا نصنع في خيمة العهد؟
موسى: لتنفذوا قضاء الله فيكم.. لتتوبوا إلى بارئكم.
القوم: قد تبنا إلى بارئنا يا كليم الله!
موسى: هذا سبيل التوبة.
القوم: (باكين) ارحمنا يا كليم الله! اعف عنا يا كليم الله!
موسى: الرحمة عند الله. والعفو عند الله.
القوم: حنانك يا كليم الله!
موسى: (محتداً) يا غلاظ الرقاب.. كلمة واحدة! انصرفوا إلى رحالكم!
(ينفض الجمع وينصرفون في حزن وعويل)
هرون: أرى عينيك تدمعان يا كليم الله!
موسى: (بصوت يمازجه البكاء)
إنهم قومي يا هرون!
هرون: إن شئت رفعت عنهم هذه العقوبة.
موسى: كلا والله لأتبعنها بعقوبة أخرى أشق عليهم واشد!ّ
هرون: ماذا أنت صانع بهم بعد؟
موسى: لأقوضن خيامهم غداً ولأوذننهم بالرحيل!
هرون: إلى أين؟
موسى: إلى حيث يتيهون في الأرض حتى ينقرض هذا الجيل كله؟.
هرون: كيف يا أخي؟.
موسى: لأهيمن بهم في هذه البرية من بقعة إلى بقعة لا أدعهم يذوقون دعة ولا أمنا ولا قراراً حتى ينقرض هذا الجيل الذي استحوذ عليه الشيطان وينشأ مكانه جيل جديد.
هرون: يا ابن أم شد ما تتعب نفسك وقومك!
موسى: مه يا هرون.. هذا أمر الله سبحانه.. وي! أين ألواحي؟ أين ذهبت ألواحي؟
هرون: تلك هي يا كليم الله ألقيتها أنت آنفاً من يدك (لرجاله) ناولوني تلك الألواح!
(يلتقط ثلاثة من رجاله الألواح الملقاة في وسط المسرح ويحملونها داخل الخيمة)
موسى: يا ويلتنا! ألقيتها وفي نسختها كلمات الله ووصاياه! غفرانك ربي أنت الغفور الرحيم.
(ستار)

المشهد الخامس
فوق جبل عباريم بأرض مؤاب. جانب من سفح الجبل يرى من خلفه في أفق المسرح من بعيد معالم باهتة من مدينة أريحا تحوطها الأشجار ولكن تحجبه في الجانب الأيمن من المسرح صخرة كبيرة تشغل هذا الجانب. وخلف هذه الصخرة يجلس موسى (محجوباً عن النظارة بحيث يسمع صوته فقط)
يرفع الستار فنرى شاباً في حدود العشرين (هو ابن هارون) جالساً في أدب واحترام عن شمال الصخرة مستقبلاً بوجهه النظارة دون أن يحول طرفه عن جليسه المتواري خلف الصخرة.
(الوقت بعد العصر عند الأصيل)
موسى: وهذا الأصيل قد أوشك يطوي النهار.. وما من نبأ عن القوم!
ابن هرون: خفض عليك يا عم.. فسيأتيك البشير بما تحب..
موسى: متى يا بني.. متى؟
ابن هرون: عما قريب يا عم..
موسى: عما قريب!.. منذ ثلاثة أيام وأنت تردد هذا القول..
ابن هرن: ماذا عليك لو صبرت قليلاً بعد؟
موسى: يا ليت لي مثل صبرك!
ابن هرون: ما يكون لي يا عم أن أكون أصبر ممن كلمه الله فما لفم.
موسى: يرحم الله هرون أباك!.. ما أشبهك به في حلمه وطول أناته..
ابن هرون: سمعت يا عمي أنه لذلك أحبه بنو إسرائيل..
موسى: أجل.. أحبوه ولم يحبوني!
ابن هرون: بلى يا عم إنهم ليحبونك أيضاً. وإن كانوا يحبون أبي أكثر..
موسى: كلا لا يحبونني ألبتة. وإنما يهابونني ويخشون وجهي..
ابن هرون: سمعتهم يقولون إنك لو لنت لهم قليلاً لأحبوك..
موسى: هيهات.. إن بني إسرائيل غلف القلوب، غلاظ الرقاب.. فلو أني لنت لهم لين أبيك لاستضعفوني كما استضعفوه. ولربما ظلوا يعبدون العجل إلى اليوم فكانوا أمة كسائر هذه الأمم التي تعبد الأوثان من دون الله!
ابن هرون: غير أني أشفق عليك أن تبخع نفسك هماً، فما ضرك يا عم لو خفضت جأشك قليلاً ريثما يأتيك نبا الجيش بما يرضيك..
موسى: ويحك يا بني.. هذا تاسع يوم منذ خرجوا إلى القتال ولم يأتني عنهم أي نبأ..
ابن هرون: أتخشى أن يكونوا أصيبوا بسوء؟ إذن لانتهت إلينا أنباء خطبهم..
موسى: كلا ما الهزيمة أخشى عليهم.. فما يشأه الله يقضه، ولكني أخشى أن يكونوا قد حادوا عن السبيل مذ غاب عنهم وجهي.. كما فعلوا مراراً من قبل..
ابن هرون: ما أحسبهم يعصون أمرك بعدما أطاعوك فخرجوا يجاهدون في سبيل الله.
موسى: ما زال يرن في أذني قديم قولهم لي: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون..
ابن هرون: متى قالوا ذلك يا عم؟
موسى: عندما تحرش بنا العمالقة في أول التيه، قبل أن تولد أنت بعشرين سنة..
ابن هرون: ذلك عهد بعيد يا عم.. لقد تبدل القوم بفضل ما ربيتهم في التيه أربعين سنة.. وما أحسب أنه قد بقي اليوم من أولئك الذين قالوا هذه القولة أحد..
موسى: أجل قد هلك معظم أولئك الشيوخ الخانعين، ولكني لا آمن أن يكونوا قد أورثوا أبناءهم بعض ما فيهم.. وددت والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت. إذن لضربت بينهم وبين أبنائهم برزخاً لا يلتقون.
ابن هرون: لا ينبغي يا عم أن تتوقعن ما لم يقع ولم يأت به برهان..
موسى: لقد رابني يا ابن أخي أني كلما بعثت رسولاً لاستطلاع أمرهم ذهب الرسول ولم يعد..
ابن هرون: إن شئت استطلعت لك أمرهم بالنبأ اليقين..
موسى: كلا لا تفعل.. فعسى أن تذهب مثلهم فلا تعود..
ابن هرون: عليَّ عهد الله لأعودن إليك.
موسى: كلا.. أنت بقية أهلي وفيك أجد ريح هرون أخي، وأحب أن يأتيني قضاء الله وأنت بجواري.
ابن هرون: ستعيش لنا طويلاً بعد يا عم.
موسى: هيهات يا ابن أخي. إني أحس أن الساعة قد دنت.
ابن هرون: لن تموت حتى ترى الأرض المقدسة التي وعدنا الله.
موسى: إنما وعدها الله لعباده الصالحين وما أحسب هؤلاء القوم يستحقون هذا الوعد.
ابن هرون: فيم يا عم؟.. إنهم اليوم لصالحون.
موسى: (يتنهد من أعماق قلبه) آه أنت لا تعرفهم يا بني مثلي! سل لي الآن يا ابن أخي عمن في بطن الوادي من النساء والأطفال هل هم في أمان وخير؟
ابن هرون: قد تفقدتهم آنفاً فوجدتهم في أمان وخير، ووجدت الحراس قائمين عليهم.
موسى: تفقدهم مرة ثانية حتى يطمئن قلبي.
ابن هرون: سمعاً يا كليم الله.
موسى: على ألا تغيب عني طويلاً.
ابن هرون: سأعود حالاً إليك.
(يخرج من جهة اليمين)
(يظهر إبليس من جهة اليسار ومعه اثنان من شيطانيه وهم يتهامسون).
الأول: ها هو ذا الساعة وحده!
الثاني: وقد أضنته العلة وأكلته السن فلا خوف علينا منه.
إبليس: أجل سأواجهه اليوم فأقضي عليه.
الأول: تقضي عليه؟
إبليس: أجعله يموت كمدا!
الثاني: كيف؟
إبليس صه! إنه يدعو!
(يعبر إبليس وشيطاناه المسرح متسللين حتى يقفوا في الموضع الذي كان يجلس فيه ابن هرون).
موسى: (يدعو في ابتهال وخشوع).
اللهم لا يأس من هدايتك ولا قنوط من رحمتك. اللهم إنك استحفظتني على بني إسرائيل فأعني على هدايتهم فإنه لا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت!
اللهم إنك تعلم أني ما خرجت بهم من أرض فرعون إلا ليطهروا من سوء ما كانوا فيه يعملون من أوزار المدن وأدران الشرك، حتى يعبدوك وحدك في هذه البرية لا يفتنهم فيها ذهب ولا يستعبدهم فيها جبار. اللهم فإن هؤلاء الكنعانيين وجيرانهم اعتدوا علينا في هذه الأرض المباركة، فكما أخرجتنا من أرض أولئك الجبارين فانصرن على هؤلاء الجبارين وأورثنا أرضهم ديارهم واجعلنا من الصالحين. اللهم إن قومي ضعاف النفوس فاربط على قلوبهم وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الظالمين! آمين.
إبليس: موسى!
موسى:..؟
إبليس: يا موسى!
موسى: أعود بالله منك!
إبليس: تتعوذ من إلهك!
موسى: منك أيها الشيطان الرجيم!
إبليس: هل تراني؟
موسى: لا ولا أريد.
إبليس: فإنّى تعرف من أكون؟
موسى: أنا رسول الله وكليمه!
إبليس: كنت تدعوني آنفاً.
موسى: كذبت كنت أدعو الله ربي.
إبليس: فهل أجابك؟
موسى: ما شأنك أنت!
إبليس: لو دعوتني أجبتك.
موسى: لعنة الله عليك.. اذهب عني!
إبليس: عز علي يا موسى أن تدعو من لا يسمعك وتترك من يسمعك.
موسى: (غاضباً) يا عدو الله أتريد أن تفتن كليم الله؟ أو لم تعلم أن ليس لك علي سلطان؟
إبليس: ما يضيرني ألا سلطان لي عليك وأنت فرد، بعد ما استحوذت على قومك وهم شعب.
موسى: ذاك فيما مضى.
إبليس: وفي الحاضر والمستقبل!
موسى: كلا.. كلا!
إبليس: لا تتعب نفسك يا موسى. انفض يدك من بني إسرائيل فهم شعبي لا شعبك.
موسى: اخسأ أيها اللعين!
(يقذفه بالحجارة فتتساقط من حوله)
إبليس: عجباً لك تقذفني بحجارتك كأنما تقدر أن تنالني بسوء أو تقدر يا موسى على ما لم يقدر عليه ربك؟!
موسى: قبحك الله ما أجرأك على خالقك العظيم.
إبليس: ذاك فضلي الذي أمتاز به على سائر الخلق منذ خلعت نير العبودية عن عنقي فليس فوق سلطاني سلطان.
موسى: بل سلطان الله فوق سلطانك أيها الطريد اللعين. إنما أنظرك إلى يوم الدين. فليلقينك يومئذ في العذاب المهين إلى أبد الآبدين!
إبليس: ليصنع بي يومئذ ما يشاء فحسبي أني تحديته واستكبرت عليه ونفذت مشيئتي دون مشيئته وغلبت حكمي على حكمه..
موسى: تعالى الله عما تقول لا معقب لحكمه ولا راد لمشيئته.
إبليس: ألم تر إلى آدم كيف أسكنه ربك جنته فأخرجته أنا من جنته؟
موسى: بل قضى الله بذلك في سابق علمه وحكمته.
إبليس: وبنو إسرائيل هؤلاء..
موسى: ما بالهم؟
إبليس: أراد أن يجعلهم عباده فاختطفتهم من يده وجعلتهم عبادي!..
موسى: خسئت يا لعين.. لن يكون الموحدون عبادك يا عدو الموحدين!..
إبليس: رويدك رويدك. أتعد هؤلاء موحدين الذين عبدوا في مصر أوثان المصريين؟
موسى: قد أخرجتهم من أرض الوثنية.
إبليس: فهل استطعت أن تخرج الوثنية من قلوبهم؟ ألم يعبدوا العجل في طور سينين؟
موسى: قد تابوا من ذلك وكانوا من النادمين.
إبليس إنما ندموا على الذهب الذي كانوا له عابدين وسيعبدونه حيثما وجدوه إلى يوم الدين.
موسى: هيهات أين أنت منهم اليوم؟.. إنهم يجاهدون في سبيل الله!
إبليس: بل في سبيلي!
موسى: كذبت. أنا أمرتهم بالخروج لقتال الكنعانيين.
إبليس: ولكني أنا بصرتهم كيف يقاتلون.
موسى: أنا جعلت عليهم فتاي الأمين يوشع بن نون.
إبليس: قد عصوا يوشع كما عصوا هرون من قبل واتبعوا ما أمرتهم به.
موسى: في شك وإشفاق) وي!!
إبليس: لا تبتئس يا موسى فقد هديتهم إلى النصر والكرامة.
موسى: مثلك لا يهدي إلا إلى الخذلان والمهانة!
إبليس: أبشر يا موسى فقد فتحوا أمس إحدى المدينتين الأماميتين واليوم فتحوا الثانية.
موسى: الحمد لله رب العالمين!
إبليس: أحرى بك أن تحمد إله إسرائيل!
موسى: ويلك إله إسرائيل هو رب العالمين.
إبليس: كلا يا ابن عمران ما بلغ بي الغرور وأن أزعم أني إله العالمين وإنما أنا إله إسرائيل، بي يؤمنون ولي يسجدون وبتأييدي على أمم الأرض يعلون غداً وينتصرون!
موسى: كذبت يا لعين وخسئت!
إبليس: إن ساءك انتصارهم فالعني، ولكن إن سرك فاحمدني، فمن عندي كان النصر.
موسى: يا رجيم إنما النصر من عند الله.
إبليس: لو تعلم حقيقة ما صنع قومك ما قلت هذا القول.
موسى: ويلك ماذا تعني؟
إبليس: أنت أمرتهم بقتال المقاتلة من الرجالة، ونهيتهم عن التعرض للنساء والشيوخ والأطفال، زاعماً لهم أن ذلك أمر الله؟.
موسى: ذلك أمر الله حقاً!
إبليس: فاعلم إذن أنهم لم يتعرضوا للرجال، وإنما انقضوا على الشيوخ والنساء والأطفال فأعملوا فيهم التذبيح والتقتيل ومثلوا بهم أفظع تمثيل.
موسى: (في اضطراب عظيم) كلا كلا لا ينبغي أن أصدق قولك أيها الكذاب الأشر.
إبليس: (في رقة) ويحك يا موسى إنك لا تجهل ضعف بني إسرائيل وجبنهم فلو انهم أطاعوا أمرك هذا أو أمر ربك كما تزعم لبادوا جميعاً بسيوف جبابرة كنعان ولكنهم أطاعوا أمري فتم لهم النصر بالرعب الذي نشروه في قلوب أعدائهم.
موسى: هذا كذب وبهتان!
إبليس: عما قريب يأتيك النبأ اليقين.
موسى: حاشا الله أن يفعلوا ذلك.
إبليس: بل حاشا لي أن أدع هؤلاء الكنعانيين يستأصلون شعبي المختار.
موسى: شعبك المختار؟ شعبك؟
إبليس: نعم.. شعبي. لقد آليت لأتخذن بني إسرائيل أبنائي ولأجعلنّهم رسلي وأعواني في العالم، وقد بلغت اليوم بعض ما أريد ولأبلغن غداً كل ما أريد!
موسى: كذبت. لن يكونوا رسلك وأعوانك بعد ما حملوا الوصايا العشر!
إبليس: (يضحك) الوصايا العشر: لا تقتل. لا تزن. لا تسرق. إلى آخرها.. ما أهون هذه الوصايا عندي لأحطمنها كما حطمتها أنت من قبل عندما نزلت من الجبل!
موسى: كذبت. إنما ألقيت الألواح من غضبي فانكسرت. أما الوصايا فباقية إلى الأبد!
إبليس: صدقت يا موسى ولكني سأحطمها في نفوس بني إسرائيل.
موسى: لقد حفظوها فلن تستطيع محوها من قلوبهم!
إبليس: كلا لن أمحوها من قلوبهم يا موسى ولكن سأفسرها لهم تفسيراً جديداً من عندي.
موسى: إنها واضحة كالشمس ولا تقبل التأويل.
إبليس: لأوحين إليهم أنها إنما أنزلت لتكون قيوداً وأغلالاً لغير بني إسرائيل من أمم العالم من حيث يبقى بنو إسرائيل أحراراً مطلقين يفعلون بأمم العالم ما يشاءون.
موسى: كلا لن تقدر على ذلك. لن تسلط عليهم يا رجيم!
إبليس: رويدك يا موسى. قد علمت أني مسلط عليهم من قديم.
موسى: (يستشيط غضباً) أغرب عني عليك اللعنة!
إبليس: لن أبرحك حتى تؤمن بصدق ما رويت لك.
موسى: (يبتهل إلى الله في حرارة) اللهم استعنت بك ياذا العزة والجلال. (يرتاع إبليس وشيطاناه فيتقهقرون جهة اليسار) يا قيوم السماوات والأرضين اصرف عني كيد هذا الشيطان الرجيم!
(يخرج إبليس وصاحباه هاربين وتدوي السماء برعد قاصف وتلمع السنة البرق كالسياط في الأفق)
إبليس: (يسمع صوته في أنين مخيف) آه! آه! أين العهد الذي بيني وبينك؟ آه! آه! هذا ليس عدلاً منك! آه.. آه!
(يبتعد الأنين شيئاً حتى يضمحل في الأفق ولكن الرعد والبرق يستمران)
موسى: حمدك اللهم إذ صرفت عني كيده فاصرف كيده عن قومي اللهم إنه وسوس لي حتى أوشك أن يصدقه قلبي فأرني البرهان على بطلان دعواه. اللهم إني قلق على قومي فاكشف عني ما أنا فيه عجل لي بالنبأ اليقين!
(يدخل ابن هرون من اليمين وخلفه اثنان من الجنود)
ابن هرون: أبشر يا عم فقد انتصرت إسرائيل!
موسى: (في لهف واشتياق) انتصرت.. كيف انتصرت؟!
ابن هرون: هذان بشيران من عند القوم.
موسى: دعهما يدنوا مني.
(يتقدم البشيران حتى يتواريا خلف الصخرة)
البشريان: (صوتهما) سلام عليك يا كليم الله!
موسى: لا سلام حتى تخبراني أبشيران أنتما أم نذيران؟
البشيران: بشيران يا كليم الله لنبشرك بالنصر والفتح.
موسى: يوشع هذا الذي أرسلكما؟
البشيران: (يتلعثمان) يو.. يو... يوشع...
موسى: (في حدة) اصدقاني!
البشيران: لا يا كليم الله. ليس يوشع.
موسى: (في ارتجاف) كيف.. كيف انتصر القوم؟
البشيران: فتحوا المدينتين الأماميتين.
موسى: كيف.. كيف فتحوهما؟
البشيران: (بصوت مرتجف دخلوهما)
موسى كيف دخلوهما؟
البشريان: آمنين..
موسى: يعلو صوته غضباً) يا غليظي الرقبة كيف؟ كيف؟!
ابن هرون: لو أرسلت تلابيبهما يا عم ليستطيعا الإفصاح لك!
موسى: لا والله حتى يصدقاني القول لأخنقهما إن لم يقولا الصدق!
البشيران: (في عسر واختناق) سنفعل يا كليم الله. سنفعل.
موسى: هل قاتلوا رجال كنعان؟
البشيران: (يتلعثمان) رجال كنعان..
موسى: (يهدر صوته غضباً) قسماً برب العزة لئن كذبتماني لأرمين بكما في هذا الحالق!
البشيران: سنصدقك يا كليم الله. سنصدقك!
موسى: هل قاتلتم الرجال؟
البشيران: لا يا كليم الله. رأينا ألا قبل لنا بأولئك الأشداء فبقينا متربصين لهم من بعيد حتى علمنا انهم يقضون الليل خارج المدينتين. يحتفلون بعيد لهم حيث يشربون ويطربون فكسبنا المدينتين.
موسى: وذبحتم الشيوخ والنساء والأطفال؟
البشيران: نعم لنبث الرعب في قلوب المقاتلة.
موسى: (يزمجر غاضباً) لعنة الله عليك يا شعب إبليس!
البشيران: سامحنا يا كليم الله فقد طلبت منا أن نصدقك.
موسى: اغربا عن وجهي!
البشيران: لا تؤاخذنا يا كليم...
موسى: يا بشيري السوء اغربا من وجهي! اذهبا عني!
يظهر البشيران من خلف الصخرة مرتاعين ثم ينسلان خارجين ويبقى ابن هرون واقفاً مكانه لا يدري ما يفعل)
موسى: اللهم إني بريء مما فعل بنو إسرائيل! اللهم اقبضني إليك حتى لا أرى لهم وجهاً ولا أسمع لهم صوتاً!
(يتأوه في ألم) آه.. آه! أين أنت يا ابن أخي؟ أدركني أدركني!
(يخف إليه ابن هرون حيث يتوارى خلف الصخرة)
ابن هرون: لا بأس عليك يا عم.
موسى: أجل لا بأس علي بعد اليوم. عما قليل سألقي الله ربي اسمع وصيتي يا بني.
ابن هرون: نعم يا عم.
موسى: إذا أنا مت الآن فاكتم النبأ حتى تدفنني بالليل في مكان لا يعلمه أحد من قومك.
ابن هرون: فيما يا عم!
موسى: لا أريد أن يقف على قبري منهم أحد!
ابن هرون: قومك يا عم!
موسى: كلا لست منهم وليسوا مني! اشهد يا بني أني منهم بريء اللهم إني بريء من بني إسرائيل وكفر بني إسرائيل وفسوق بني إسرائيل!
اللهم أنزل عليهم صواعق لعنتك وسلط عليهم الجبارين يسومونهم سوء العذاب، واضرب عليهم الذلة والمسكنة والخزي إلى الأبد.. إلى الأبد آمين! آمين!
(ستار الختام)