الكابتن مثنى معن العجلي
سار على طريق الاستقامة فنال شرف الشهادة


كاظم فنجان الحمامي

كانوا يحدثونني عنه وعن نبله وشهامته ومواقفه الشجاعة كلما جمعتني الظروف بزملائه الذين عملوا معه في عرض البحر. قالوا: كان رافضاً للممارسات الظالمة. متحرراً من القيود الاجتماعية المتحجرة، متجرداً من التراكمات القديمة الموروثة، متميزاً على أقرانه في أداء عمله في سلك الإرشاد البحري. لم تكن لدية ميول سياسية ولا طائفية. كان متسامحاً ودوداً منفتحاً محبوباً من الجميع. قالوا أيضاً: أنه غادر العراق ليعمل بدرجة ربان مرفأ في الموانئ الليبية، لكنني سمعت أنه كان يعمل طياراُ في (بنغازي) على الطائرات الصغيرة (ثابتة الجناح)، وأنه يجيد اللغات الانجليزية والفرنسية والإيطالية قراءة وكتابة، ويتقن التحاور باللغة الإسبانية والفارسية.
فجأة عاد هذا الرجل المتعدد المواهب إلى البصرة ليعمل بوظيفة ربان مرفأ في ميناء أم قصر. كنت في حينها مُكَلفاً بإرشاد السفينة الإيطالية (باتريشا)، فشاءت الأقدار أن تناط به مهمة الإقلاع بها من الرصيف فالتقيته على ظهرها. كانت فرصة للتعرف عليه وسبر أغوار مواهبه المتعددة. لكن المثير للدهشة أنه سلّم عليّ بحرارة وكأنه يعرفني منذ سنوات. قال لي: هل تناولت طعامك يا أخي ؟. قلت له: كلا. فالتفت إلى الربان الإيطالي وتحدث معه بلغة إيطالية مبسطة. بدا وكأنه يجيدها بأصولها وقواعدها وفنونها.
أذكر أنني تشاجرت في يوم من الأيام مع أحد الربابنة المتعجرفين، فانحاز إلى جانبي وانتصر لي بعدما تأكد من سلامة موقفي. تعمقت علاقتي به شيئا فشيئا حتى أصبحت من أقرب أصدقائه. لكنه سرعان ما ترك العمل في الموانئ من دون أن نعلم الأسباب. كان رحمه الله مشحوناً بطاقات إبداعية متجددة، لا يحب الركون إلى الروتين ولا يميل إلى الرتابة في عمله الوظيفي. يحلق دائما بأجنحته فوق سحب التحرر والإنعتاق.
طلب مني عام 2005 أن أزوده بالكتب والمؤلفات العلمية الانجليزية، التي تتحدث عن موضوع الأرض المجوفة (Hollow Earth). وهو من المواضيع الغامضة التي لم يتطرق لها العلماء العرب، ولم يجرئوا على الكتابة عنها.
ولد الكابتن مثنى معن شناع الحـﭼـامي العجلي عام 1948 من أب عراقي وأم لبنانية الأصل من جبل عامل. كان هو الابن الثاني بعد شقيقه (المهلب)، وهو أكبر من شقيقته (الخنساء) وشقيقه الدكتور (عمر). كانت ولادته في مدينة (سوق الشيوخ) من أشهر مدن محافظة (ذي قار) وأقدمها، وكان والده (العلامة والشيخ الجليل معن العجلي). علمٌ من أعلام الفكر العربي وفنار من فنارات النهضة الثقافية في منتصف القرن الماضي. عرفه الناس بمؤلفاته الغزيرة، التي أغنت المكتبة العربية بدراساته القومية المعمقة. نذكر من كتبه: (هكذا كنت في سيلان)، و(دروس في القومية العربية)، و(الخميسية وما حولها)، و(بلوجستان بلاد العرب)، و(خطوة خطوة مع الجيوش العربية).
ينتسب الشهيد (مثنى) إلى قبيلة (بني عجل) من قبائل (حـﭼـام)، وهي قبيلة بكرية ربيعية نزارية عدنانية. خاضت أعنف معاركها ضد الجيش الانكشاري في واقعة (النيبة)، التي استشهد فيها (يوسف بن عثمان) خال الشيخ فالح باشا شيخ مشايخ المنتفك.
التحق (مثنى) بسلك الإرشاد البحري مع زملائه: فهمي حمود السعدون، وجاسم محمد عبد المحسن، ورياض الإدريسي، وباسل عبد القادر، وصلاح خطاب، ونعمة محمد بريس، وهاشم عدلان، وحنظل حميد، وأياد سليم الهادي.
كان الشهيد (مثنى أبو عبد الرحمن العجلي) يسكن محلة (الأُبلّة) بالبصرة. قرب جامع السيد عبد الحكيم الصافي، كان رحمه الله يرفض التكلم بلغتنا الدارجة ويصر على التحدث باللغة العربية الفصحى بلباقة الأدباء وفصاحة البلغاء.
رحل إلى الأردن في أيام الحصار الجائر، ثم انتقل إلى السويد ليستقر هناك ويحصل على الجنسية السويدية، إلا أن لوعة الفراق وحنينه إلى العراق ومشاعره الوطنية الصادقة هي التي حملته للعودة إلى مسقط رأسه في (سوق الشيوخ)، فشيَّد فيها مسجداً ومكتبة، وخصص حصة كبيرة من موارده لإطعام الفقراء والمساكين، وكرس وقته لأبناء عمومته وجيرانه. لم يتسبب في حياته بإيذاء نملة. لم يكن طرفاً في أي شجار. يمضي وقته كله في القراءة والعبادة. لم يكن عضواً في أي تنظيم سياسي، ولا عنصراُ من عناصر الكيانات السياسية. حملت طلعته البهية ملامح البراءة والحياء والوجاهة، وتزينت أخلاقه بالعفة والنزاهة والاستقامة. وتكللت أعماله بشهامة الرجال ومكارم أخلاقهم.
كانت صدمة عنيفة لنا جميعاً عندما علمنا باستشهاده نهار يوم السادس من شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 2006. في ذلك اليوم المشئوم امتدت خناجر الغدر لتغتاله وهو في سيارته الشخصية، التي كانت متوقفة قبالة بوابة المدرسة الثانوية التي تدرس فيها ابنته في (سوق الشيوخ). كان ينتظر خروجها من المدرسة ليعيدها إلى البيت. فخرجت مذعورة على صوت العيارات النارية المدوية لترى والدها مضرجاً بالدماء وقد فارق الحياة في رحلة أبدية إلى جوار ربه. هكذا نحن في العراق نخسر أحبائنا وأهلنا وأصدقائنا كل يوم من دون أن نعرف من الذي يقتلنا، ولماذا يقتلنا ؟.
ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين