سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الخامس عشر


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)غافر

يؤكد القرآن القاعدة الثابتة في نصرة الدعوة والدعاة في سورة غافر حين يورد قصة مؤمن آل فرعون الذي بذل جهده في نصرة موسى عليه السلام وفي دعوة قومه إلى الإسلام – وكان ابنَ عمِّ فرعون- فهدده فرعونُ بالعقاب الشديد يُنزله به حين يعود من متابعة موسى وقومه الذين انطلقوا هاربين إلى بلاد الشام ، فتبعهم فرعون بجنوده، فأغرقهم الله تعالى جميعاً في البحر، وكان الداعية (مؤمن آل فرعون) ممن نجا مع موسى عليه السلام وقومه { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)}.

يصوّرُ القرآن عذاب فرعون وجنودِه في نار البرزخ قبل نار الآخرة : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} ، ويقول العلماء بناء على هذا : إن هناك عذاباً شديداً للكفار قبل يوم القيامة.وعذاب ُ القبر ثابت في الأحاديث الشريفة ولعله جزءٌ من العذاب الذي يلقاه الكفرة والمخطئون قبل يوم القيامة .

واسمعْ وانظرِ الحوارَ بين المستكبرين وأشياعهم في النار وهم يتعذَبون فيقول الضعفاء الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم فخسروا الدنيا والآخرة { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (47)} ، يطلبون إليهم أن يتحمّلوا عنهم بعض العذاب ، وهم مثلهم في العذاب وأشدّ.فيردُّ المستكبرون الطغاة وقد ذلّوا وانكسروا معترفين مقرّين بما صاروا إليه من الذلِّ والهوان: { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} ،

وحين يرى أهلُ النار أنها مأواهم وقد طال عذابهم المستمر يلتفتون إلى زبانية النار الموكّلين بعذابهم يرجونهم أن يستعطفوا ربهم ليخفف عنهم يوماً من العذاب ،- نعم يوماً واحداً -بعد أن أيقنوا بالخلود في النار- وما أشدّ بؤسهم وهم يرجون مَنْ يعذّبهم أن يشفع لهم – { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (49)} ، فيقرّعونهم بسؤال يعلمُ المجرمون جوابَه ولا ينكرونه، يسألونهم ، { قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ } فلا يملكون سوى الإقرار بالذنب والاعتراف أنهم ضيّعوا الفرصة فباءوا بالخسران الدائم المبين{ قَالُوا بَلَى } فتُسمعُهم الزبانية ما أنكروه في الدنيا وأقرّوا به في النار أنِ ادعوا أنتم ربّكم ، ولن يُجيبكم إلى ما تريدون ، فقد عشتم ومتُّم كفاراً { ققَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)}(غافر) والضلالُ هنا :الإهمال والنبذُ والاحتقار.ولن ينفعهم اعتذارُهم { يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}.

ونصْرُ الله لعباده المؤمنين في الدنيا – حين يلتزمون غرزَه ويعملون بشريعته.وفي الآخرة حين يعفو الله تعالى عنهم ويقبل اجتهادهم في القربى منه والمنافسة في إرضائه : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)}،ثم نجد الآيتين الكريمتين :

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)} ، توضِّحان أن المولى سبحانه يبعث الرسُل بالبينات والهدى والنور، ومثالهم في هاتين الآيتين موسى عليه السلامُ ،إذ بعثه الله سبحانه داعياً إلى توحيده والعمل بهديِه وجعل العاقبة لهم وأورثهم بلادَ فرعون وأمواله وكنوزه حين صبروا على طاعة الله واتباعِ رسوله موسى عليه السلام ، فمن عمل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كان من اصحاب العقول السليمة والإدراك الواعي ولا شكَّ أن ورثة الأنبياء من ساروا بعدهم على منوالهم وحملوا ثابتين راغبين في الأجر رسالاتهم،

وما أروع الوصية التي وصّى الحقُّ بها نبيّه في الآية التالية إذ كانت تلخيصاً للفكرة وتتويجاً للمعنى، يقول الله تعالى :
1- { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
2- وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ
3- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}.

إنه الصبر والثباتُ والاستغفار واللجوء إلى الله وتسبيحه وتنزيهه عُدّةُ المسلم المجاهد في سبيله سبحانه ...ولعلنا نكون منهم إن شاء الله .

يتبع القسم الأخير