مالي ولسعيد بن جبير ؟
هذه صفحة دامية من صفحات المجازر التاريخية التي ظلت تقبح وجه التاريخ حتى يومنا هذا
نتناول فيها الأيام الأخيرة التي عاشها الحجاج قلقا خائفا من حساب اليوم المحتوم
كان عبد الرحمن بن محمد الأشعث من القادة الشجعان الدهاة ، وكان قائداً لجيش الحجاج بن يوسف الثقفي ( عامل عبد الملك بن مروان ).. ثم تمرد ابن الاشعث وخرج عن طاعة عبد الملك والحجاج فقاتلهما بجيشه قتالاً شديداً ، واكثر في جنودهما القتل ، وكان التابعي الجليل سعد بن جبير مع ابن الاشعث حين خرج على عبد الملك بن مروان ، إلى أن قُتل ابن الاشعث غدراً سنة 85 للهجرة ، فذهب سعيد إلى مكة فقبض عليه واليها خالد القسري وأرسله في أغلاله مُقيداً إلى الحجاج بواسط ( من أعمال العراق) سنة 95 للهجرة .
ولما أُدخل سعيد بن جبير رضي الله عنه على الحجاج بن يوسف الثقفي قال له الحجاج : ما اسمك ؟
فقال سعيد : سعيد بن جبير .
فقال الحجاج : بل أنت الشقي بن كسير .
قال سعيد: بل كانت أمي أعلم باسْمي منك .
قال الحجاج : شقيت أنت ، وشقيت أمك .
قال سعيد : الغيب يعلمه غيرك .
قال الحجاج : لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى .
قال سعيد : لو أني أعلم أن ذلك بيدك لأتخدتك إلهاً.
فقال : فما قولك في محمد ؟
قال سعيد: نبي الرحمة ، إمام الهدى ، عليه الصلاة والسلام ، ورسول رب العالمين إلى الناس كافة بالموعظة الحسنة .
فقال الحجاج : فما قولك في علي بن أبي طالب في الجنة هو ؟ أو في النار ؟
فقال سعيد : لو دخلتها فرأيت أهلها عرفت من فيها ، فما سؤالك عن غيب حفظ بالحجاب .
قال : فما قولك في الخلفاء ؟
قال سعيد : لست عليهم بوكيل ، كل امرئ بما كسب رهين .
قال الحجاج : أشتمهم أم أمدحهم ؟.
قال سعيد : لا أقول مالا أعلم ، إنما استحفظت أمر نفسي .
قال الحجاج : فأيهم أعجب إليك ؟.
قال سعيد : أرضاهم لخالقي .
قال الحجاج : فأيهم أرضى للخالق ؟.
قال سعيد : عِلمُ ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم .
قال الحجاج : أبيت أن تصدقني ؟.
قال سعيد : بل لم أرد أن أكذبك .
قال الحجاج : دع عنك هذا كله ...، وأخبرني مالك لم تضحك قط ؟!.
قال : لم أر شيئاً يضحكني ، وكيف يضحك مخلوق خُلق من الطين ، والطين تأكله النار .
قال الحجاج : فما بالنا نضحك ؟.
قال سعيد : لم تستوي القلوب ، كذلك خَلَقَنا الله أطواراً.
قال الحجاج : هل رأيت شيئاً من اللهو ؟.
قال سعيد : لا أعلمه ... فدعا الحجاج بالعود والناي ،فلما ضُرب العود ونُفخ في الناي بكى سعيد !
فقال الحجاج : ما يبكيك؟!
قال : يا حجاج ذكَّرتنِي أمراً عظيماً ، و الله لا شبعت ولا رويت ولا اكتسيت ولازلت حزيناً لما رأيت .
قال الحجاج : وماكنت رأيت هذا اللهو؟.
فقال سعيد : بل هذا والله الحزن يا حجاج ، أما هذه النفخة فذكرتني يوماً عظيماً ، يوم يُنفخ في الصور ، وأما العود فشجرة قُطعت في غير حق ، وأما الأوتار فإنه أمعاء الشاء يُبعث بها معك يوم القيامة .
قال الحجاج : أنا أَحَبُّ إلى الله منك ؟.
قال سعيد : لا يقدم أحد على ربه حتى يعرف منزلته منه ،والله بالغيب عليم .
قال الحجاج :كيف لا اقدم على ربي في مقامي هذا وأنا مع إمام الجماعة وأنت مع إمام الفرقة والفتنة ؟.
قال سعيد : ما أنا بخارج عن الجماعة ، ولا أنا براض عن الفتنة ، ولكن قضاء الرب نافذ لا مرد له .
قال الحجاج : كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين ؟.
قال : لم أره .
فدعا الحجاج بالذهب والفضة واللؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يدي سعيد ابن جبير .
فقال سعيد بن جبير : هذا حسن إن قمت بشرطه .
قال الحجاج : وما شرطه ؟.
قال سعيد : أن تشتري بما تجمع الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة فصالح ، وإلا ففزعة واحدة ) تَذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها( ، ولا خير في شيء جُمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
قال الحجاج :فترى جَمعنا طيباً ؟.
قال : برأيك جمعته، وأنت أعلم بطيبه .
قال الحجاج : أتُحب أن لك شيئاً منه ؟.
قال : سعيد لا أحب ما لا يحب الله .
قال الحجاج : ويلك .
قال سعيد : الويل لمن زُحزح عن الجنة وأُدخل النار .
قال الحجاج : اختر يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك .
قال سعيد : اختر لنفسك يا حجاج فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة .
قال : أفتريد أن أعفو عنك ؟.
قال سعيد :إن كان العفو فمن الله ، وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر.
قال الحجاج : اذهبوا به فاقتلوه...، فلما خرج سعيد من الباب ضَحِك فأُخبرَ الحجاج بذلك فأمر برده ،فقال : ما يضحكك يا سعيد ؟.
قال سعيد : عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك !.
فأمر الحجاج بالنطع فَبُسطَ ، ثم قال : اقتلوه .
فقال سعيد : حتى أصلى ركعتين ...، فاستقبل القبلة وهو يقول : ) وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين .
قال الحجاج : اصرفوه عن القبلة ...، فصرفوه عنها .
فقال سعيد : فأينما تولوا فثم وجه الله
قال الحجاج : كُـــبُّوه لوجه .
فقال سعيد : (مًنها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
فقال الحجاج : اذبحوه .
قال سعيد : إني أشهدك يا حجاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، أستحفظكهن يا حجاج حتى تلقاني يوم القيامة .،ثم دعا سعيد الله فقال : اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي ..فَذُبح - رحمه الله تعالى-.
قالوا : إن الحجاج عاش بعده خمس عشرة ليلة ، وكان ينادي بقية حياته : مالي ولسعيد بن جبير ؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي !.
وقيل : لم يلبث الحجاج بعده إلا أربعين يوماً ، وكان إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول : يا عدو الله ! فيم قتلتني ؟ فيقول الحجاج :مالي ولسعيد بن جبير ، مالي ولسعيد بن جبير ؟
وقالوا أيضا : إن الحجاج عاش بعده أياماً قلائل فسلط الله على الحجاج البرودة حتى كان والنار حوله يضع يده على الكانون فيحترق الجلد ولا يحس بالحرارة ، ووقعت الأكلة في دخله والدود ، فبعث إلى الحسن البصري ،فقال له : أما قلت لك : لا تتعرض للعلماء ؟ قتلت سعيداً!!... ، قال الحجاج : أما أني ما طلبتك لتدعو لي ، ولكن ليريحني الله مما أنا فيه ،فهلك .. وكان ينادي بقية حياته : مالي ولسعيد بن جبير ؟! مالي ولسعيد بن جبير ؟
المفضلات