الخضر في لبنان

بقلم:حسين أحمد سليم

العبد الصّالح الذي أتى ذكره في بعض الآيات المباركات من سورة الكهف بالقرآن الكريم من الآية 60 و حتّى الآية 82, أو ما يُسمّى ترميزًا: الخضر عند كافّة فرق المسلمين وفق ما ورد عن النّبي الأكرم محمّد (ص), و ما يُسمّى مار جرجس عند النّصارى أو أيلا أو إلياس, و إليّا أو إلياهو عند الموسويين, هو من أكثر الأنبياء أو الأولياء أو العباد الصّالحين أو القدّيسين حضورًا في مختلف القرى و البلدات و المناطق و البلدان و الأقطار العربيّة و الإسلاميّة حتّى و في القارّات الأرضيّة... فهو أكثر القدّيسين الأكثر شعبيّة بين جموع المسلمين و المسيحيين و قد ذاع صيته و إنتشر مذهبه في جميع أصقاع أوروبّا... و النّصارى الذين هم على دين عيسى المسيح (ع) لا يعتقدون بموته و عندما إستشهد في فلسطين في زمن الرّومان, على ذمّة المرويات التّاريخيّة, لم يُصدّقوا ذلك... و هكذا للفرق المذهبيّة من المسلمين أراء و مواقف و إجتهادات شتّى حول إستمرار حياته أو موته...
و للعبد الصّالح الخضر (ع) ميزة عن غيره من الأنبياء و الأولياء و ذلك لكثرة المزارات و المقامات و الكنائس و التّشريفات التي تُنسب إليه في أنحاء كثيرة و خاصّة في لبنان... هذا و لم تتّفق الدّيانات السّماويّة على نبيّ أو وليّ أو عبد صالح أو عالم و لا المجتمعات أو الطّوائف أو المذاهب أو الإجتهادات التّفسيريّة أو المرويات أو المعتقدات الشّعبيّة أو حتّى الأساطير القديمة, كما إجتمعت على تكريم و تشريف و تقديس العبد الصّالح, الخضر (ع)...
و كما تكثر المرويات حول سيرة و حياة العبد الصّالح, الخضر و الذي يُكنّى عند النّصارى بالقدّيس جاورجيوس... تكثر الحكايات الأسطوريّة عن هذا القدّيس المُسمّى جاورجيوس في مصادر متنوّعة, و غالبًا حول بلدان حوض البحر المتوسّط, كذلك نجد له إرثًا في مختلف النّصوص القديمة و الحضارات البشريّة التي سادت ردحًا من الزّمن... و لم تغفل ذكر العبد الصّالح الخضر (ع) المدوّنات اليونانيّة و اللاتينيّة و السّريانيّة و القبطيّة و الأرمنيّة و الأثيوبيّة و حتّى الهنديّة...
و نظرًا لشمول قدسيّته و شيوع معجزاته و شهرة آياته التي أكرمه بها الله تعالى, جعل البعض يعتقدون أنّ لكلّ زمان عبد صالح و خضر عالم...
فإنّنا أنّى توجّهنا في الأقطار العربيّة و البلدان الإسلاميّة و حوض البحر الأبيض المتوسّط و البلاد الأروبّيّة و بلدان الشّرق الأقصى, و في لبنان و سوريّا و فلسطين و الأردن و العراق و إيران... نجد له مزارات و مقامات و تشريفات و معالم إفتراضيّة, ممّا يدلّ على مكانته و تبجيله عند الكثير من الشّعوب المؤمنة برسالات السّماء...
و على سبيل المثال لا الحصر, للعبد الصّالح الخضر (ع) يوجد في فلسطين ما يربو على العشرين موقعًا, و في العراق له ما يزيد على العشرة مواقع, و في سوريّا له العديد من المزارات و المقامات و التّشريفات, و هكذا في الأردن و إيران و غيرها, و في قرى لبنان و بلداته و مدنه و سهوله و جباله, تكثر المعالم المرمّزة و المقامات و المزارات و الأضرحة و المساجد و الكنائس و المصلّيات و الأنصاب و اللوحات التّشكيليّة و الفنّيّة بإسم العبد الصّالح الخضر (ع) حيث تبرز في العديد من المدن و القرى و البلدات على مختلف إنتماءات أهلها الدّينيّة... بالرّغم من الإختلاف في إسم العبد الصّالح الخضر (ع) و نسبه و نشأته و نبوّته و معاجزه و حضوره و عمره و حياته و موته و المكان الجغرافي الذي إلتقى به النّبي موسى (ع) و كذلك مدى مصداقيّة المرويات و الرّؤى و الحكايات و الأساطير و المترائيات و الأحلام المتناقلة على ألسنة العامّة...
و لقد أفرد العلماء القدامى المؤلّفات حول العبد الصّالح الخضر (ع), و قد يكون كتاب "الزّهر النّضر في نبأ الخضر" للحافظ بن حجر العسقلاني, المتوفّي سنة 852 للهجرة, خير هذه الكتب, لما تضمّنه للكثير من المراجع و المصادر و التّحقيقات العلميّة التي تُسلّط الضّوء على معظم حياة العبد الصّالح الخضر (ع)... و هناك العديد من الأبحاث و الدّراسات و الكتب و المؤلّفات التي تُسلّط الأضواء الإجتهاديّة على العبد الصّالح الخضر (ع) في محاولة حثيثة لرسم و تشكيل شخصيّته القرآنيّة التي أتى الله على ذكرها في بعض آيات سورة الكهف في القرآن الكريم...
هذا و يمكننا الإحاطة بتتبّع آثاره من خلال الإحاطة بالمقامات و المزارات و التّشريفات المنسوبة له في الدّول العربيّة و لبنان خصوصًا...
و عندما نتتبّع سيرة القدّيس جاورجيوس عند النّصارى, نجدها تتطابق على سيرة العبد الصّالح الخضر (ع) عند المسلمين, و العبد الصّالح الخضر (ع) ينطبق على القدّيس إلياس الحيّ أبدًا, و الذي هو إليّا في التّوراة... و إلياس كمعناه إيلي الخضر الحيّ أو الأخضر, و قيل إسمه خضرون, و لقبه الخضر, و كنيته أبو العبّاس, و أبو إبراهيم و كوكب الصّبح المنير و أبو محمّد...
هذا التّطابق في تقارب شخصيّته غير المسمّاة, جعل العديد ممّن لا يعرفون خاصّيّة كلّ واحد من بعض الأنبياء و الأولياء الأوائل, أن يعتبروا مقام الخضر في بعلبك الواقع ضمن المدينة, هو المكان الذي سُجن فيه النّبي إلياس (ع) و زعموا أنّ فيه قبره, دون أن ينتبهوا إلى وجود دير إلياس, الذي أشار إليه القزويني عند حجر الحبلى جنوبي المدينة, حيث يُعتقد أنّ قبر النّبي إلياس موجود فيه, و يقع على تلّة تحيط به القبور و بجانبه قبّة حجريّة قديمة, يتمّ الصّعود للكنيسة المسمّاة على إسم مار إلياس بدرج و صولا لشجرة معمّرة عند مدخل الكنيسة...
و مهما يكن من علوّ شأنه و ثبوت قدسيّته, فإنّ له مزارًا في حارة المسيحيين الغربيّة في مدينة بعلبك, خلف فندق بالميرا, حيث يحوطه الأهالي بالمهابة و الإجلال و التّقدير و التّبجيل, و هو عبارة عن سقيفة صغيرة من الإسمنت الحديث فوق مصطبة حجريّة من الرّخام الأبيض و قد تصدّرها لوحة كبيرة للقدّيس جرجس الحيّ و هو يُصارع التّنّين, و يُحيط بالمزار سور من جهاته الثّلاثة و تشير لوحة مثبّتة عند الجدار الشّمالي إلى تحديد سنة بنائه و إشادته...
و المعتقد منذ القِدم أنّ الهدف من زيارة المقامات المقدّسة العديدة للأنبياء و الأولياء سيّما النّبي إلياس (ع) و الخضر (ع) و جرجيوس (ع) في الشّرق و في اليونان و في أجزاء أخرى من أراضي حوض البحر الأبيض المتوسّط, خصوصًا أيّام القحط و الجفاف من أجل الدّعاء و التّضرّع لقوى القدّيس من أجل إستنزال المطر, لما لهم من مكانة مكرّمة عند الله تعالى...
و أحيانًا أخرى للقسم عندهم إذ أنّ اليمين بإسمائهم هو أكثر إلزامًا بالوفاء من أيّ قسمٍ آخر... و فضلاً عمّا تقدّم فإنّ للعبد الصّالح الخضر (ع) الذي يمتلك قدرة الأنعام بالذّرّيّة على العواقر, و لعلّ وجود مزاراته في البراري يعود إلى مدى قوّة و ثبات إعتقاد الرّعاة به و الإيمان بأنّه الرّاعي للأغنام و القطعان و الخيول و النّبات و المطر, لكونه يفتح مغاليق الأرض الرّطبة بمفاتيحه الذّهبيّة, وفق ما أتى في مرويات أساطير الخصب القديمة...
هذا و نجد علاقة متينة و دعوى خصوصيّة للصّلة الحميمة بين الخضر و المتصوّفة الذي يحضر دائمًا لإرشادهم و إلهامهم و توجيههم, لذلك نجد بالقرب من المزارات العائدة للخضر (ع) مزارات و مقامات للعديد من الأولياء حتّى إعتبر نقيب الأولياء, و لعلّ مكان هذا المزار في مدينة بعلبك هو المحلّ الذي دعا فيه الخضر (ع) ربّه لإستنزال المطر بعدما أخفق كهنة البعل من إرسال المطر إلى الأرض اليابسة...
هذا و للعبد الصّالح الخضر (ع) أو ما يُسمّى بمار جرجيس عند النّصارى أو أيليّا أو أيلا أو إلياس... له العديد من المقامات و المزارات و المساجد و الكنائس في غالبيّة القرى و البلدات و المدن اللبنانيّة... نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
مقام في كل من بلدات: الخضر, حورتعلا, حربتا, كفردبش, مجدلون, الصويري, بمهرين, عيتا الفخّار, عين عرب, الصّرفند, يارون, كفركلا... و له العديد من المزارات في بعلبك و دكوة و غيرها... كما و له العديد من الساجد و خاصّة في محلّة الخضر بمدينة بيروت... و له العديد من الكنائس تحت إسم مار جرجس الخضر في زحلة و أبلح و تربل و جديتا و دير الغزال و ريّاق و الفرزل و قاع الرّيم و قوسايا و كفرزبد و المريجات و أصيا و البترون و أميون و شكّا و الفاكهة و غيرها ... و يحتفل النّصارى بعيد مار جرجس الخضر في 23 نيسان و 6 أيّار من كلّ سنة... فيما يحتفل الموحدّين الدّروز بعيد الخضر في 25 كانون الثّاني من كلّ سنة... و هكذا الحال بالنّسبة للعلويين في لبنان و سوريّا حيث له الكثير من التّشريفات... كما له العديد من المقامات في العراق و الأردن و فلسطين و إيران...