قبسات من سيرتي

بقلم: حسين أحمد سليم

رافقتني الكتابة منذ ريعان شبابي, تارة كنت أحرّض ذاكرتي على الكتابة بقلم الرّصاص, لأكتب بتحابب الحروف الأبجديّة في صناعة الكلمات و نسجها بحلى خاصّة و رصفها بحذاقة لإبتكار النّصّ و تكوين الخاطرة التي أعالج بها فكرة هائمة تستحضرني على حين ومضة روحيّة, و تارة أخرى كنت أستفزّ ذاتيّتي كي أكتب برؤوس شعيرات الرّيشة إجتهادًا ذاتيّا لأكتب برسم النّقط المتعاشقة المتلاصقة لصناعة الخطّ فالشّكل فاللوحة أو المشهديّة, إمّا باللون الأسود الأحادي مستخدمًا قلم الفحم أو بمنظومة الألوان المتعدّدة...
نشأت بيني و بين الكتابة مودّة و رحمة لتكوين علاقة إقتران لا مناص منها مهما تقلّب الزّمان بي و غرّبني المكان... فكانت كتاباتي على إختلاف أنساقها تعكس حقيقة شخصيّتي النّفسيّة و الرّوحيّة و الفكريّة و تجسّد أبعاد قناعاتي بمفاهيم و معاني الكتابة...
الكتابة التي رافقتني بكيديات لطائفها منذ البدء و ما زلت أرافقها فطنة و كياسة و دهاءً, لا معنى لها حين أحاول فصلها عن معتركاتي و مساراتي الإنسانيّة و همومي و أمانيّ و طموحاتي, معتبرًا أنّ الكتابة التي أمارسها منذ بداياتي ليست بعدسة تصويريّة لاقطة للمشهديّات كما هي, و إنّماأبذل قصارى جهدي الفكريّ على أن تأتي فاعلة و محرّضة في بثّ روح الحياة في المادّة التي أعجن منها مفردات و تفاصيل كائناتي الفنّيّة تشكيلاً و فكرًا...
و في ثنايا فلسفتي التي أحمل قناعة إجتهاديّة أرى وجوب أن تدخل سيّالت روحي فيما أكتب حتّى لكأنّي ما أكتبه جزء من ذاتيّتي المادّيّة و المعنويّة, و خلاصة ما أكتب تولد من رحم المعاناة التي أعيشها منذ البدء في مكان ما يُسمّنه ترميزًا بالوطن... و تتوالد كتاباتي من الإحتكاك الحميم بيني و بين الآخرين الإحتكاك الصعب بالأشياء و الأشخاص, و أنا دائمًا ما أروّض ذاتي ككاتب و فنّان تشكيلي على أن أكون خالص الإيمان في شغاف القلب و النّفس و الرّوح و صادق القول في اللسان و الفعل فيما أكتب ... و في إجتهاداتي المنطقيّة التي تتجلّى لي في البعد اللامتناهي, ترتسم لتفكّري المعقلن أنّه لا فعل إبداع و لا حركة تمييز حيث لا حبّ و لا عسق, و الحبّ و العشق في المخلوقات التي تتجلّى فيها عظمة الخالق و قدرته و وحدانيّته, ليس حالة أو فكرًا مرتبطاً بمدى و سعة الفهم... و من هنا تتراءى للفكر بديهيّته و شفافيّته و أبديّته في نفس الوقت, إنّه ومض روحيّ نورانيّ إشراقيّ يسطع في الذّات المؤمنة بالوجود و الحياة...
كلّ الأشياء المحيطة بنا في كينونة هذه الحياة الدّنيا, تكون جامدة و هامدة في طبيعتها و لكن حركة فعل الحبّ تبعثها و فعل حركة العشق تُجدّدها, و الحبّ الأشفّ يجعل الكلمة تحمل رائحة طيب من دم القلب و العشق الأطهر يجعل البعد الآخر للكلمة كوكب صبح منير لمن شاء... و هذه الحقيقة السّاطعة التي تفسّر سبب كتابتي عن الحقّ و الوطن و الهويّة و الأرض و القرية و الأنبياء و الرّسل و العباد و عن القضيّة الأولى في إنتمائي العربيّ و عن حبيبتي القدريّة الأولى و الأخيرة... حيث أكتب عنهم جميعًا لأنّني أحبّهم, و الحبّ مُنذ كان و العشق منذ نبض به العقل المقلبن, مرتبط بالمكان الجغرافي و بالزّمان التّاريخي , و المكان الجغرافي لا يحمل أيّ معنى له إذا إنفصل عن حياة الإنسان و هكذا الزّمان التّاريخي...
حيث أنا في المكان و الزّمان أشعر بأنّني مندمج مع الأرض الجغرافيا و الزّمان التّاريخ, و على موعد متجدّد دائمًا مع أسرار المكان و الزّمان و الحياة و الوجود, و حيث تحملني الأقدار على صهواتها و ترمي بي في البعد القدريّ بعيدًا عن طمأنينتي النّفسيّة, فإنّني أشعر بالغربة النّفسيّة في فردوس المكان و تنتابني عذابات المنفى في الزّمان, ليس لعدم إكتمال وعيي الباطنيّ و عرفاني الذّاتيّ و إندماجي بالتّجدّد الحضاريّ و المدنيّ, و إنّما لأنّني أحمل في أعماق كينونتي الفكريّة و أسس إيماني و عقيدتي أحمل أصولاً فكريّة و قناعات أخلاقيّة و مناقبيّة رفيعة في تشكيل بنيتي المادّيّة التي وسمتني بشخصيّة قرويّة ريفيّة فلاّحيّة بقاعيّة بعلبكيّة, و لذلك تراني بالفطرة مشدودًا إلى تناول الأطعمة الشّعبيّة المرتبطة بالأرض, و حافظت على شخصيّتي القرويةّ هذه في ظلّ الأمكنة التي حملتني أقداري إليها عنوةً, و كنت أحسّ بإفتراضيات الأشياء من حولي و هي ترمي بكلكلها على كاهلي, فالأرض التي أسير عليها في البعد القدريّ غير الأرض التي ولدت فوقها و ترعرعت فوق ثراها و غير السّماء التي كانت تظلّلني في قريتي الرّيفيّة و نجوم سماء قريتي تختلف عن نجوم السّماوات الأخرى... قبّة السّماء غربي مدينة الشّمس بعلبك تحتضن قريتي من جميع أطرافها, و الشّمس تمنحها الدّفء مع كلّ شروق و الإطمئنان مع كلّ غروب, يحرسها مقام الوليّ الصّالح أحمد الطّائع في قمّة عريض حدث بعلبك, و يُطمئنها مقام النّبي رشادة القائم في ربوعها و الذي منحها إسمه المبارك, فالسّماء قريبة جداً من قريتي, و أستطيع أن ألامسها من مقام المبارك في جبل حدث بعلبك, و السّماء تفتح أبوابها لتسمع تراتيلي و تجاويدي و خشوعيّاتي قبل القرى المجاورة لقريتي, جبعا و كفردان شمالاً و حدث بعلبك غربًا و طاريّا جنوبًا و نهر الليطاني و حزّين و عين السّودا و مقام العبد الصّالح الخضر شرقًا...
كتاباتي شئتها حركة فعل إبداع متنام, مساهمة منّي في ترتيب حضارة وطني و قريتي لتنسجم مع رؤى التّطلّعات التي تتشكّل في البعد ماضيًا و حاضرًا و مستقبلاً, تحقيقًا للآمال المرتجاة التي ترسم مشهدّيات الجمال في إمتدادات المكان و الزّمان... حركة فعل الإبداع وحدها تجعل الماضي أساس الحاضر و تجعل الحاضر إمتداد المستقبل, و وحده الإبداع بكافّة صوره, تجتمع حوله و له الإنسانيّة الشّفيفة, و على ثبات هذه القاعدة يُصبح الماضي بموروثاته حميمًا كما حميميّة الحبيبة نفسها... و بلدتي الرّيفيّة في ماضيها و حاضرها و مستقبلها تحمل كلّ أسباب و جوديّتها التّنمويّة, لأنّ ماضيها مملوء بالنّبل و طافح بالكرم و عنفوانيّ بالمروءة و متفتّق بالفتوّة و متبرعم بالجمال...
بالمفهوم المجرّد تذوب كلّ المفارقات لتتشكّل لوحة أخرى تعكس توصيفًا آخر خارج محدوديّة أصفاد النّفس الأمّارة بكلّ الأشياء, فليس هناك من مكان يعكس القبح و ليس هناك أيضّا من مكان آخر يتّشج بالجمال, فجميع الأشياء متحرّرة من محدوديّة الشّعور المادّي و لها كينونتها و كمالها المرتبط بما حولها خارج الوجدان الإنساني... و جماليّة الأشياء تتجلّى ساطعة الإشراق في مكنون الأنسنة و الفكر الواعي عبر مراحل تجارب الحياة التي يمرّ بها الإنسان...
أنا لست أملك شيئًا في كينونتي لأنّها ملكخالقي, و وجداني ليس ملكي حتّى و لا عقلي أدّعي ملكيّته أو قلبي و ليست مشاعري و أحاسيسي هي طوع ما أصبو إليه... فمجمع البحرين في مطاوي الجغرافيا و التّاريخ هو أجمل ما في هذه الأرض و لقاء النّبيّ صاحب العزم بالعبد الصّالح أقدس و أطهر لقاء من أجل إستيعاب العلم الباطنيّ إضافة للعلم الظّاهريّ, هكذا أرى الأمور من منظور الإيمان و الوعي و العرفان أينما حللت و أينما رحلت, و أينما جرى اللقاء بين الحبّ و العشق...
فعل حركة الخلقِ و حركة فعل الإبداع لا تتحقّق فلسفة في ولوج عالم التّصوّف و إجتراح النّظريّات, خارج قداسة الحبّ و طهارة العشق وعقلنة القلب و قلبنة العقل و ترجمة الحلم الإفتراضيّ بالحقيقة لتتجلّى مسحات الموهبة في الإجتراحات المبدعة...
قرأت و أقرأ و سأقرأ ما شاء لي الله ذلك دون إهمال أو كلل و لا ملل أو تهاون, و تابعت و أتابع و سأتابع ما إستطعت من همروجات التّوقّعات ماضيًا و حاضرًا و مستقبلاً, و لا تفضيل عندي بين المياه العذبة و عذوبة المياه و لست أختلف مع من أحبّ و أعشق في الله, طالما التّنمية المستدامة تشمل كلّ الأشياء و ضفاف الأنهار تتماهى على ضفّتيها بنمو الأشجار... فكم أسعى في غياهب الأسرار لأنقذ ما كتب إنقاذه توكّلاً على الله, فليس المكان بعائق في لقاء الحبّ بالحبّ و لا الزّمان بحائل بين تمازج العشق بالعشق...
فتعالي يا معشوقة الرّوح قبل القلب و يا محبوبة الفكر قبل العاطفة تعالي نُحرّر الأشياء من عقالها و نرود معًا عالم الوعي الباطنيّ و العرفان الذّاتيّ و أرحبة الوجدان الممتلئة بالأسرار التي تكتنفها الأسرار, غربلة للحقائق من الأساطير و الخرافات و المرويات و المحكيات التي نمت و تنامت و قد تتنامى مستقبلاً في مخيّلات الذّكرى بغفلة من الجنان في المكان و الزّمان و المكان يمتدّ و الزّمان مع تقادم الحقب و الأطوار و الأكوار على ذمّة الوعد و العهد و القسم...
تربتي, لحدي, أرضي, مزاري, قريتي, مقامي, بلدتي, مشهدي, وطني, هويّتي... و كلّ ما ساهم في نسج كينونتي و عراك طينتي الصّلصاليّة لتشكيل هيكلي المادّيّ التّرابيّ الفاني و بقاء وجه الله بعد كلّ الفناء... نور السّماوات الذي سُكب قدرًا في أعماقي و كلّ ما فيه من إشراقات الأنوار و إمتدادات الرّحمة و المودّة و الحنين... فشكرًا للجميع دون إستثناءٍ فلو لم تقذف بي الأقدار في نجيع التّجارب و عذابات المرارات, لما أحببت هذا الحبّ الأسطوري و لما عشقت هذا العشق العجائبي, فلقد وجدت نفسي أكثر إقترابًا من نفسي و تلمّست إنحسار المسافات بين نوايا بدء المسارات لنيل العلم من العبد الصّالح الحامل له و بين تحقيق الحلم الذي روادني في البعد... إقتربت أكثر من الحقيقة التي غدت مجلوّة أمام بصيرتي قبل بصري, إقتربت أكثر من ترابي و قريتي و وطني و مجمع البحرين...
الفراق بين الرّوح و الرّوح فجّر طهر الأحاسيس المطمورة في طوايا نفسي الأمّارة بكلّ الأشياء, و جعلني أرى الأشياء بشكل آخر غير الذي إعتدت على رؤياه في عالم البصر... هذا الحبّ و هذا العشق و هذه الأرض و هذا الوطن و طائر الحياة و سفينة الهلال و نجمة الصّبح القدريّة تلك التي تآمرت نفسي الأمّارة بالسّوآت عليها في السّرّ, لها أقمت في روحي مزارت و مقامات و مشاهد و تشريفات تباركني على غرار ما للعباد الصّالحين و الأنبياء و الرّسل في وطني الممتدّ من حدود الماء إلى حدود الماء...
أشجار السّنديان و العرعر و اللزّاب و الشّربين و السّرو و الأرز و أشجار الإجاص البرّيّ و المشمش و الكرز و التّفّاح و دوالي العنب و سقسقات المياه في مجرى نهر الليطاني و نبع العلاّق و نبع المورج و بركة رام الزّينيّة و الآبار القديمة و الورود الجوريّة و ضريح الوليّ أحمد الطّائع و ضريح النّبي رشادة و مقامات العبد الصّالح الخضر أو إلياس أو مار جرجس... جميعها تحرسني حيث أنا كوني أتفاءل بها في كلّ ومضة من ومضات إنتعاش و إرتعاش روحي, و أتحسّسها جميعا تسير في مواكب ناقلة لي همس الحقيقة رافعة النّقاب عن أسرار الحياة ماضيًا و حاضرًا و مستقبلاً...ً
إليكِ يومًا سأعود أيّتها المعالم و الشّواهد في قريتي الرّيفيّة, و الحياة ستتجدّد مع كلّ زيارة لمقامات و مزارات النّبي إسماعيل و النّبي سامي و النّبي يوسف و النّبي أيلا و النّبي نوح و النّبي شيت و النّبي إلياس و النّبي يوشع و مقامات العبد الصّالح الخضر كوكب الصّبح المنير... و كلّما أشرقت شمس الصّباح على قريتي أشعر أنّ كلّ الأشياء و الأحياء ينتعشون بالفرح و السّعادة و الإطمئنان...