ذكريات من سيرة طفولتي

بقلم: حسين أحمد سليم

كنت صغيرًا في بدايات نطق لساني ببعض الكلمات السّهلة و بدايات المشي وحيدًا دون المساعدة من أحد, و دائمًا كانت أميّ لا تتركني وحيدًا في البيت بل تأخذني معها أين ذهبت, حتّ بعد أن تجاوزت الثّالثة من عمري, و سيّما إلى بئر القرية عند حدود القرية الشّمالي أو البئر الذي عند حدودها الغربيّة أو البئر الواقع عند نهايات بيادر القرية شمالاً أو بئر مرج أبو صالح عند نهايات القرية الجنوبيّة شرقي محلّة التّليلة و بلدة طاريّا إحدى بلدات هلال غربي مدينة الشّمس بعلبك...
عند بئر القرية تلتقي نساء القرية لملء جرارها بالماء, و حول البئر تجد غالبيّتهنّ وقتًا مديدًا للثّرثرة عن كلّ شيء و خاصّة اللقلقة عن أزواجهنّ الذين ينامون باكرًا و هم يتوسّدون أذرعهم من رهق النّهارات و تعب الفلاحة و حرث الأرض و زراعتها و رعي المواشي و الأبقار و الجمال و الماعز...
تلك اللحظات من اللقاءات النّسويّة حول البئر القرويّة كانت أوّل ما وعيته في ذاكرتي البكر, في تلك اللحظات عرفت أنّ لي إسمًا يُنادونني به كما بقيّة الأشخاص, قطعت أمّي نذرًا على نفسها أنّ تُسمّيني به, و أنّ لقريتي إسمًا كما للبشر أسماء, إنّما على إسم نبيّ حملت إسمه تبريكًا, و أذكر أنّني كثيرًا ما كنت أسأل أمّي عن جغرافيّة و إسم قريتنا, و تردّ أمّي دائمًا بما يُشبه الإستغراب, قريتنا تقع في أرض الوليّ الصّالح أحمد الطّائع حارس قبر جدّنا آية الله العظمى إبراهيم الحشائشي, الذي يمتدّ بنسبه لعقب عبد الله بن عبّاس إبن عمّ النّبي محمّد (ص), و هو أيضًا حارس نهر الليطاني إلى الشّرق و إسم قريتنا على إسم شفيعها النّبي رشادة, و هي نجمة هلال بلدات غربي مدينة الشّمس بعلبك...
لم أستوعب ما قالت لي أمّي و أُشكِلت عليّ ما شرحت لي أمّي كما أُشكِلت عليّ التّسمية أيضًا. و مضت الأيّام تلو الأيّام و أنا أزداد وعيًا و نضوجًا... بعدها بحين من الزّمن سألت أمّي: ما معنى إسم قريتنا؟!. فقالت لي بما يُشبه الإيمان باليقين الموروث، يا ولدي، إنّ إسم قريتنا مبارك بإسم شفيعها و هي مكان ولادة الإبداع و الفنون...
أيضًا لم أعرف ما معنى الإبداع و الفنون ممّا زاد في أمر فهمي تعقيدًا... ف تطوّعت أمّي و راحت تشرح لي ما خفي على وعيي و إستيعابي, يا ولدي قريتنا الرّيفيّة تقع بين قرى تسطع أنوارها من منارات قبب أنبيائها, حيث الكواكب تنبثق منها في جيئة و ذهاب إلى منارة مقام النّبي رشادة, حيث إلتقاء الأنوار المكوكبة من مقام النّبي يوسف في بلدة كفردان شمالاً و عريض الوليّ الصّالح أحمد الطّائع في حدث بعلبك و مقام النّبي إسماعيل في بلدة طاريّا و مقام النّبي سامي في بلدة شمسطار و مقام النّبي الخضر في عين السّوداء...
هذه الأنوار لا يراها إلاّ من آمن بكرامات النّبي رشادة حيث مقامه الشّريف في بلدته... فمن شاهد هذه الأنوار كُتِب له الخلق و الإبداع و برز في ناحية من نواحي الفنون الأدبيّة أو الفنون التّشكيليّة أو الفنون الأدائيّة. و منذ ذلك الحين, رغم صغر سنّي, بنيت الأمل المرتجى و عقدت النّيّة أن أصبح كاتبًا و فنّانًا تشكيليّا... و كنت في كلّ مساء أرجو أبي أن يأخذني معه إلى رحاب مقام النّبي رشادة للصّلاة و الدّعاء و الإبتهال, علّني أظفر بما قالت لي أمّي و تظهر لي كوكبات الأنوار السّاطعة في زياراتها و مساراتها بين منارات مقامات الأنبياء المحيطة و بمقام النّبي رشادة...
إرتسمت على محيّا أبي إبتسامة الدّهشة و أعجب بأنّي أريد أن أرود مجالات الفنون الأدبيّة و التّشكيليّة. تبسّم أبي لي بلطافة القبول و ربّت على كتفيّ و ضمّني إلى صدره بحنان الأبوّة، و نمت على أمل أن أصبح كاتبًا و فنّانًا...
إحتضنتني جدّتي لأبي و أصقلت موهبتي بالحكايات و الرّوايات و الأساطير التي وجدتها منجمًا لا ينضب عندها. و منذ تلك اللحظة عرفت ما معنى إسم قريتي و ما معنى إسمي و عرفت نكهة صباحات و مساءات و سهرات القرية بمعنى آخر، فقد وجدت في حكايات جدّتي قرية أخرى تختلف عن القرية التي عند أمّي أو حتّى عند أبي...
شعرت في قريتي الرّيفيّة أنّني أحبّ جدّتي أكثر، و أحبّ حكايات جدّتي أكثر. و كانت جدّتي غالبًا ما تتوسّد عتبة الباب في بيتنا التّرابيّ, ترقب المارّة و هم غادون إلى أعمالهم و أشغالهم و غاياتهم. أمّا أنا، كنت ما زلت دون السّنّ الذي يُخوّلني دخول المدرسة. فكنت أتوسّد ركبة جدّتي صاغيًا لحكاياتها و رواياتها و أساطيرها... و أنا لم أكن أستوعب غالبيّة حكاياتها ولم أكن في الغالب بحاجة إلى طلب حكاية جدّتي, بقدر ما كانت هي تبحث عن مستمع لرواياتها و أساطيرها و خرافاتها, يًشاركها عالمها الإفتراضيّ الذي تعيشه. لم أكن أدري و لم و لن أكن سأدري ما الذي كان يجذبني إلى جدّتي العجوز, غير أنّني كنت أجد في عالمها الأسطوريّ بريقًا يُدغدغ ما هو قابع في أعماقي و أكثر رومانسيّة في الحبّ الذي عقلن فكري و العشق الذي قلبن شغافي...
حدّثتني جدّتي عن شموخ تلّة عريض حدث بعلبك و مقام الوليّ الصّالح أحمد الطّائع و أسطورة وجود بقايا حجارة مزاره و ما يرافق ذكره من خشوع و رهبة و ما له من كرامات... و حدّثتني عن سيرة جدّنا آية الله العظمى العالم الطّبيب إبراهيم الحشائشي المدفون في مقابر بلدة حدث بعلبك و ما له من مواقف تاريخيّة في زمانه كونه كان مرجعً للإفتاء في الأزمان السّالفة... و حدّثتني عن مقام النّبي رشادة و كراماته وسبب وجوده في هذا المكان دون أن تذكر لي زمن وجوده إلاّ ما ذكره بعض الرّحّالة الذين مرّوا في المكان و ذكروه, و أفاضت جدّتي في حكاياتها عن الأراضي التي كان يملكها النّبي رشادة كوقف له و كيف إغتصبها البعض بمكائد و مؤمرات في زمن أصحاب السّلطات القاهرة و كيف حاق العذاب بمن إغتصب أرض النّبي رشادة... و حدّثتني طويلاً عن قريتنا و عاداتنا و أعرافنا و تقاليدنا و عباداتنا و أعيانا و مناسباتنا و ضرورة إقامة شعئرها... و حدّثتني بإلحاح عن الأخلاق العظيمة و المناقب الرّفيعة و القيم الإنسانيّة و العنفوان القروي و الشّرف الإنساني...
و غالبًا ما كانت طيور الصّيف ما تُحلّق في سماء قريتنا سابحة مع النّسائم ترسل أغانيها في الفضاءات الممتدّة, فكنت أسأل جدّتي بشغف عنها؟! و كانت تنظر إلى السّماء و تسبح بعينيها الضّيّقتين في سماء القرية, حيث تتجمّع سحب الصّيف و هي تُربّت على كتفي قائلة: هي طيور الله راحاة للحجّ في ديار الله المقدّسة. و كنت لا أفهم من كلامها شيئًا... غير أنّني بعد أن كبرت عرفت ما كانت ترويه لي جدّتي و ما كانت تخشاه عليّ...
و ربّما أنّ التّعبير الذي مارسته جدّتي معي كان مجرّد رموز و مصطلحات و إشارات تكتنز بالأسرار التي تفوق قدر عمري, تخفي وراءها غرابة التحول الذي سيصيب قريتنا بعد ذلك... حدّثتني جدّتي عن حكايات و روايات دياب زنطورة الذي كان يتعامل بالماورائيات و شقيقته ضعون في بلدة كفردان... و حدّثتني عن أساطير الجنّ و الليل و حدّثتني أكثر عن النّبيّ الخضر عليه السّلام و كيف بنى له النّاس مقامات و مزارات حيث صلّى و إرتاح لفنرة ما, و حدّثتني أيضًا عن حكاية لقاء الخضر بالنّبي موسى عند مجمع البحرين مؤكّدة أنّ مجمع البحرين هو في قرية النّبي رشادة غربي بعلبك و أصرّت على أنّ الخضر صلّى في المقام المنسوب للنّبي رشادة و صلّى في بلدة الخضر و بلدة مورتعلا و بلدة حربتا و في بلدة كفردبش بعد أن ترك بعلبك الذي أرسل هاديًا لها في زمن البعل...
و حدّثتني جدّتي عن رجال عبروا القرية و تركوا تاريخا خلف ظهورهم مملوءً بالأسرار و رحلوا. حدّثتني عن الحرافشة و زمن حكمهم للقرية و عن أجدادي الذين رحلوا عن القرية تحت الظّلم و الجور و لجأوا إلى قرى و بلدات أخرى في شحور بجبل عامل و كترمايا بالشّوف و في الصّرفند و في مشغرة و في بريتال و في حمص و في دمشق و في مصر و في أميركا... حدّثتني عن الجنّ و السّعالي، حدّثتني حديثًا لم أجده في السّير الشّعبيّة، و لا في ألف ليلة و ليلة، حيث كان لجدّتي حكاياتها، و هو ما جعلني أعتقد أنّها لم تكن مجرّد راوية، بل منتجة للحكايات أيضًا. حدّثتني كثيرا و كثيرا حتّى أصبحت مدمنًا على حكاياتها و رواياتها و أساطيرها...
و بدأت خطواتي الأولى في مدرسة قريتنا حيث وجدت صعوبة في التّأقلم. فقد كانت حكايات جدّتي مخبّأة في ذاكرتي، كنت أحسّها تتماهى فو ق صفحات دفاتري و كانت طموحاتي تتألّق فوق ضفحات كتبي, وكنت أرى أحلامي و آمالي تتسابق و تتقافز أمام قلمي... و كثيرًا ما كنت أهرب من مدرستي القرويّة و أنسلّ من الصّفّ دون علم أستاذي علي عدلان عمر و كنت أهرب بين الحصّة الأولى و الحصّة التي بعدها و أذهب إلى جدّتي حيث كانت تجلس، و هو ما جعل عصا أستاذي تتلوّى على ظهري. لأتعلّم بعدها كيف أوفّق بين حكايات جدّتي و عالمي المرسيّ الجديد...
كبرت و ظلّت رؤى آمالي تتشارق في بعد فضاءاتي الممتدّة تتقاطع مع حكايات جدّتي التي خبأتها في ذاكرتي تشدّني للطّفولة و القرية و إبتسامة أبي و حنان أمّي و البئر و مقام النّبي رشادة... و كان ولعي بالكتابة و الرّسم بعد ذلك بسنوات يعود لرغبة دفينة في إعادة القرية التي عشتها عندما كنت طفلا. كنت أرى القرية تهرب من حكايات جدّتي نحو عالم آخر عالم الخلق و الإبداع عالم كنت أسعى كي أعيشه بحبّ و عشق و عطاء...
قريتي اليوم لم تعد كما كانت في الأمس فقد مات الأوائل و هجر الأبناء أرضهم و هاجروا وراء وهم الوظيفة، كما تقاعد الكبار و أسلموا كفاحهم للنّسيان. أمّا النّساء الأوائل فقد غدوا تحت الثّرى و الباقيات فقد سقطن سهوًا خلف ظلمة الجدران المعتمة...
أشعر أنّ قريتي التي كانت في يوم ما واقعًا أصبحت خيالا. فحاضر القرية لم يولد من ماضيها، بل جاء وافدًا بكلّ ما له و ما عليه. و القرية التي كانت آمنة مطمئنّة لم تعد كذلك. عندما بدأت كتابة القصّة كنت مدفوعًا بفطرة الكتابة نحو القرية التي تشكّلت عبر واقع عشت طرفًا منه فيما مضى، كنت مدفوعًا للتّعبير عن القرية التي وجدتها مختبئة في حكايات جدّتي. كانت مهمّتي و ما زالت و ستبقى البحث عن هذه القرية، ثمّ إعادة إنتاجها ممّا جعلها تبدو خياليّة غير ممكنة الحدوث، رغم أنّها كانت حاضرة بقوة...
تجربتي ما هي إلاّ تجربة تسعى إلى توظيف الأسطورة الشّعبيّة و توكيدها من عالم الإفتراض إلى عالم الواقع... و إنّ ما يراه البعض أسطورة كان بالأمس القريب و البعيد واقعًا معاشًا، و أنّ ما يبدو شكله عالمًا غرائبيّا أو عجائبيّا هو حالة الإنفصام الجذري و القهري عن عالم عشناه و ليس ببعيد في النّاحية المكانيّة من النّاحية الزّمنية، لكنّه بعيد من النّاحية الإنسانيّة و المعنويّة... فقريتي الموسومة بقرية النّبي رشادة عليه السّلام هي كلّ القرى في بلاد بعلبك و الهرمل و البقاع الغربي و الجنوب و جبل لبنان و عكّار و راشيّا و حاصبيّا، و كما في قريتي للنّبيّ الخضر عليه السّلام مقام في صدور و قلوب المؤمنين ففي كلّ القرى و البلدات الرّيفيّة للخضر مكانته الإيمانيّة في الصّويري و عين عرب و الدّكوة و أبو قمحة و كفركلا و العديسة و يارون و الصّرفند و رأس أسطا و طرابلس و بيروت... و مأساة قريتي هي مأساة غيرها، تنمية أسقطت القرى سهوًا فضاع منّا ما لا يعوّض... فهل من أذن صاغية للمعاناة و القهر و الحرمان؟!...