تنّور قريتنا

بقلم: حسين أحمد سليم

تحملني ذاكرتي الشّعبيّة على شفيف صهوات أجنحتها و على حين ومضة من سكينة هدأتي التي أمارسها و إعتدت عليها دون ملل أو كلل أو تبرّم أو إحراج... ذاكرتي هذه تُصرّ على حركة الفعل لترتحل بي في المدى الزّمنيّ البعيد, لترود بي ما تبقّى من خفايا حافظتي بعد أن إجتاحتني جحافل النّسيان و فاجأتني بإقامة سكنها الذي حسُن لها في طوايا ذاتيّتي...
ذاكرتي هذه التي شاخت مواكبة لشيخوختي أصرّت على أن تلفتني كعادتها و كما يحلو لها إلى تنّورنا في قريتنا الرّيفيّة الرّابضة إلى الغرب من مدينة الشّمس لتُشكّل النّجمة الوامضة في قلب شريط هلال بلدات و قرى غربي مدينة الشّمس...
تنّورنا الذي بناه جدّي لصناعة الخبز كصدقة جارية عند مدخل أوّل الدار بجانب الطّريق العام لقريتنا, ليستفيد منه جميع نساء سكّان قريتنا في تلك الحقبة الزّمنيّة, و لم يكن تنّورنا للخبز فقط, بل كان أيضًا مدفأة لغالبيّة سكّان القرية و خاصّة الحارة الجنوبيّة التي نقيم فيها كلها...
كان النّساء سيّما العجائز منهنّ يأوين إليه طمعًا بالدّفء, و كان تنّورنا يزدحم بزوّاره الذين يمدّون أكفّهم عند فتحة التّنّور كي تستدفيء, و بعض النّسوة من الجيران كنَّ يستغللن تشغيل تنّورنا ليجفّفن غسيلهنّ عليه, و كان تنّورنا القرويّ في تلك الحقبة الزّمنيّة المنصرمة يلعب دورًا هامّا في حركة فعل تدبيج و تركيب و تشكيل و صياغة الأخبار و توزيعها و نشرها و تعميمها على سكّان القرية و القرى المجاورة... بحيث أنّ تنّورنا له الرّحمة و لكم البقاء و طول العمر بعده, تنّورنا هذا في قريتنا الرّيفيّة و قبل هدمه لتوسعة بيتنا و غرفه كان أشبه بمقرّ وكالة الأنباء اليوم, منه و من التّنانير الأخرى كانت تتوزّع أخبار القرية... تحت ظلّ ذلك المثل المشهور في قريتنا الرّيفيّة "حَكِي تنـّور"...
تروي جدّتي على ذِمّتها أنّ في تلك الآونة من الحياة القرويّة القديمة و السّالفة, كانت الأخبار الصّادقة و الكاذبة و المدبّجة و المفتعلة و الإشاعات و فنون الغمز و اللمز تخرج من غرفة التّنّور في قريتنا, تماماً كما الكثير من صحف اليوم السّائدة أو تلك البائدة و التي هي ليست أصدق من تنّورنا أبداً... و أجزم قولاً و على رأي جدّتي أنّ غرفة تنّورنا كانت أصدق من الكثير من صحافة اليوم و وسائل الإعلام الصّفراء, من أخبار الزّواج و الطّلاق و صور الحبّ الخفي و العشق, و اللقاءات على درب العين و الآبار, و أخبـار الرّجال و اللغو في أسرارهم, و أخبـار المواسم و الحصاد و البيادر, و أخبـار المحتاجين و الفقراء و أحوال الميسورين و الأغنياء, إضافة لأخبار فلانـة و فـلان و فضح العلاقات, و الغمز مـن بيت فلان, و قهقهات عـالية على فضيحة بيت فلان, و تفسير المنامات بكل أصنافها, و كثيراً من صفقات الزّواج كانت تتمّ على التّنّور أوّلاً, و ما تبقّى ليس أكثر من أداء إجتماعي مطلوب لحفظ ماء الوجه...
و تروي جدّتي أيضًا أنّه على التّنّور كانت تُحدَّد قيمة المهر, و يتمّ الإتّفاق على القطع الذّهبيّة التي يجب شراءها للعروس إضافة للملابس العرائسيّة المميّزة و اللافتة... و كذلك يتمّ التّوافق على ما يجب فرشه في البيت الزّوجي مـن مساند و بسـط, و صندوق العروس المرصّع بالأحجار الكريمة, و نوعيّة "الأواعي" المحجر, و عـدد الفـرش الصّوفيّة التي ستكتب بإسـم العروس, "و الشكـّة" و عدد "الغوازي" التي ستعلّق بها, و تكاليف العرس و الحلوى و الأكل و "كتبة الكتاب" و "المتقدّم و المتأخّر", و قد تعلو الأصوات رغم حرارة التّنّور و العلاقات حين يصل الموضوع إلى"المصاري"...
و تروي جدّتي أيضًا أنّ أمّ البنت تقول: "الغالي حقّو غالي" و تصرّ أمّ العريس على تخفيض المهر "لأنّو الحالي مش كلّ هالقدّ و الموسم السّني متل مل بتعرفي" و تتدخّل أخريات لحسم الموضوع, هذا قبل أن يعلم الرّجال أيّ شيء عن الموضوع, و أحياناً قبل أن يعلم العريس و العروس...
و أنا أصغي لحديث جدّتي عن فلكلور قريتنا و عاداتنا و العلاقات الإجتماعيّة و السّياسيّة... يتراءى لوجداني تلك الهمروجات الدّوليّة التي تُسمّى بالمؤتمرات, متمنّيًا لو أنّ لقاءات عصبة الأمم المتّحدة و أقطاب مجلس الأمن الدّولي و هيئات المحاكم الدّوليّة و مؤتمرات القمم العربيّة تكون في مستوى تنّورنا في إتّخاذ القرارات اللازمة و حسمها و إتّخاذ الإجراءات التّنفيذيّة...
المارّ على الدّرب في قريتنا و من أمام تنّورنا بالأخصّ كان يشمّ رائحة الخبز الطّازج, فيركض ليطلب "طلميّة" من جدّتي و رائحة الخبز لها مذاق خاصّ, و من رائحة الخبز ينبعث ما يشبه الأكل تماماً, و الذي تنّوره على الدّرب عليه أن يكـون ذا صدر رحب, لأنّ بعض المارة من القرية "بأمليّتهم" يطلبون الطّلامي...
كانت جدّتي تقعد في "الجيـّازي" أمام بئر التّنّور المليء بالجمار اللاهبة و تفرش قطعة سميكة من القماش الخاصّ تُسمّى "الميزر" على يسارها, و بعد تقطيعها للعجين المختمر في الوعاء المعدني من النّحاس أو الألمنيوم, تقوم بـ "تقريص" العجين على شكل كرويّ كما الطّابة و تدعكه بالطّحين حتّى لا يلتصق ببعضه البعض, و تضع التّقريصة على "الطّبليّة" ثـمّ ترقّـقها بكفّيها و أصابعها بشكل فنّي حتّى تستدير و ترقّ, ثمّ ترفعها في الهواء و تلوح الرّغيف العجين و برشاقة إعتادت عليها تضعه على "الكارة" القماشيّة الدّائريّة ثمّ تنحني بخفّة و تلصق الرّغيف بجدار التّنّور اللاهب من الجمر في قعره كما هو معروف... و تتصبّب جدّتي عرقاً حتّى لـو كان الثّلج ينزل في الخارج, لأنّ وهج التّنّور لا يطاق أذا قاربته كثيراً, و حين يبرد التّنّور قليلاً "تحكش" جدّتي النّار بقضيب من خشب السّنديان و يُسمّى "بالمحكاش" ليحمى وهج التّنّور أكثر, و أحياناً تزيده حطباً من خشب السّنديان إذا إقتضى الأمر...
كان التّنّور يأكل لحم النّاس ميّتين و أحياء لافرق... و في غمار الليل كان التّنّور يصبح أحياناً مكاناً آمنًا للقاء العشّاق, و لا يخرج العاشقان من غرفة التّنّور إلاّ و ثيابهما مبقّعة بالرّماد و غبار التّنّور الأسود الذي لا يكنس مرّة في العمر...
و للتّنّور قصص خلاّبة في قريتنا و القرى الأخرى المجاورة, و هناك تنانير مشهورة بقصصها, و لكلّ تنّور سمته و أصحابه يعرف بها, "تنور بيت فلان"...
و التّنّور هو بيت النّار, يُبنى في غرفة صغيرة من التّراب و الحجارة, و يستخدم لصناعة الخبز القروي, و رغم وقف صلاحيّة التّنّور القروي في قريتنا و الإنتقال للأفران الحديثة فإنّ للتّنّور القروي حضوره و لو بالذّاكرة الشّعبيّة و الذي لم و لن و لا يُنسى أبدًا لأنّه من موروثاتنا في حضارة قريتنا و يُجسّد جانبًا فلكلوريّا نفخر به على مرّ الزّمن...