من الأمهات المثاليات في البصرة

أم الأطباء وأم الخطباء
الراحلة زهرة عمران عيسى الأوسي


كاظم فنجان الحمامي

لهذه المرأة الخارقة إنجازات باهرة لا يصدقها العقل، ولا يعلمها معظم سكان البصرة، فما بالك بالعراقيين الذين لم يسمعوا بذكرها من قبل. لذا وجدنا أن أبسط التكريم والثناء الذي ينبغي أن نقدمه إلى هذه الأم المثالية هو أن نترحم عليها ونقتفي الأثر الطيب الذي تركته هذه الإنسانة المؤمنة الصابرة المجاهدة، والتي كانت وراء نجاح بناتها السبع وأبنها الوحيد. وكيف أصبح أبناؤها من أشهر الأطباء والمهندسين، وكيف كانت هي الحافز الفاعل والعنصر المؤثر في ارتقاء أحفادها سلم المجد والتفوق في عالم الطب والهندسة.
وقفت هذه المهرة الأصيلة وحدها تذود عن بناتها في مواجهة التحديات الصعبة. كانت تعيش في مجتمع رجالي ضيق، مجتمع يبتسم للأولاد ويعبس بوجه البنات. كانوا يسمونها (أم البنات). يعيبون عليها إنجابها للبنات، لكنها قفزت ببناتها نحو المجد، وارتقت بهن قمة العلياء، فأسكتت ألسن الشامتين والشامتات.

إرادة فولاذية فجرت المواهب
أصبحت ابنتها الأولى (مواهب) من الطبيبات المرموقات بمواهبها العلمية الفذة، وابنتها الثانية (سهاد) من المهندسات المبدعات، وابنتها الثالثة (نهلة) من الطبيبات اللواتي نهلن من علوم الطب وتخصصن بالسونار، وابنتها الرابعة (أمل) من المهندسات الواعدات، وابنتها الخامسة (فيحاء) من الطبيبات النسائيات المتميزات، وابنتها السادسة (إخلاص) من الطبيبات المخلصات في عملهن، وابنتها السابعة (إنعام) من البيولوجيات المتخصصات في التحليلات الطبية. وأصبح ابنها (محمد) طبيباً ماهراً في مضمار طب الأسرة. فصاروا يسمونها منذ ولادته بأم محمد.
كانت تقول لبناتها: أريدكن أن تتطلعن إلى المستقبل بعين الرضا والتفاؤل والإيجابية. فتصنعن مستقبلكن بإرادتكن باعتباركن ثروتي الغالية، وكتيبتي التي أحارب بها الجهل والتخلف، فلا تدعن فرص النجاح تفوتكن، لأن الفرصة تأتي مرة واحدة فقط، فاقتنصنها ولا تضيعنها حتى تكونن ركيزة قوية في ترصين بنيان هذا البلد، وشجرة مثمرة تفيء بظلالها الوارفة على الناس.
كانت الراحلة زهرة عمران عيسى الأوسي (أم محمد) حريصة أشد الحرص على النهوض بتربية بناتها والسعي في صلاحهن. كانت ترى أن التركيز على تربيتهن وتنشئتهن هو العمل الحقيقي المنوط بها كإنسانة عاقلة ناضجة متحضرة. حرمت نفسها من أشياء وأشياء لأجلهن، فكانت لا تسافر إلا بصحبة بناتهن، ولا يغمض لها جفن إلا بعد اطمئنانها عليهن. لم تكن همومها مثل هموم الكثيرات اللواتي يفكرن باللبس والزينة. بل كان همها الأعظم كيف توفر الرعاية الكاملة لبناتها.

الأم مدرسة إذا أعددتها
من الخير الذي خص الله به هذه المرأة أن جعل القرآن يسكن قلبها في حياتها الدنيا. فاشغلها عن الناس ومجالسهم الفارغة. كانت تتلوه في صبحها ومسائها على الرغم من أنها ربة بيت وأم لسبع بنات وولد واحد. كانت سيدة نساء العالمين مثلها الأعلى في التهجد والعبادة. بلغت سناً قلما يحفظ المرء فيه القرآن. إلا أنها عزمت على ختمه فأعطاها الله ما أرادت لصدق نيتها وقوة عزيمتها.
لم تكن (أم محمد) تسمح لبناتهن بمساعدتها في التسوق والغسيل والتنظيف وإعداد الطعام والنهوض بالأعباء المنزلية الثقيلة. فهي وحدها التي تتصدى لشؤون البيت، وتهتم بأمور زوجها الراحل (عبد سلمان علي البياتي).
من المفارقات العجيبة أن بناتها حصلن على أعلى المعدلات التأهيلية في الامتحانات المركزية الثانوية، وتأهلن إلى كليات الطب والهندسة بتفوق ملحوظ، من دون أن تكون لهن دروس خصوصية، ومن دون أن يلتحقن بمعاهد التقوية. كانت هي المعلمة المتشددة المتخصصة بجميع المواد الدراسية ولكافة المناهج. ولسنا مبالغين إذا قلنا أنها حفظت المناهج الدراسية لطلاب المراحل الثانوية بفرعها العلمي على ظهر القلب. بل كانت تحفظ كتيبات التقوية على ظهر القلب. نذكر منها كتيبات الأستاذ عبد الهادي العمار في الرياضيات، والأستاذ إبراهيم الشيخ في الفيزياء، والأستاذ محمد القيسي في الكيمياء.
كانت تتابع الجداول الدراسية اليومية، وتستعد للمواعيد الامتحانية. ترصد وتراقب وتشرف وتسأل وتستفسر وتفحص، وتتحرى عن كل شاردة وواردة تتعلق بمستوى التقدم والتفوق الذي أحرزته بناتها في مسيرتهن العلمية المرهقة. حتى صارت الأمثال تضرب ببنات (عبد سلمان) في أرجاء المدارس الثانوية لعموم ضواحي البصرة، وصرن علامة فارقة من علامات الفطنة والعبقرية والذكاء، والتفوق الذي صار ملازماً لهن منذ خطواتهن الأولى في المراحل الابتدائية وحتى نهاية المراحل الجامعية والدراسات العليا. ثم صار النجاح والتألق قريناً لهن في مشوارهن المهني والميداني.

أجمل أزاهير الزهرة العامرة (زهرة عمران)
ابنتها الكبرى الدكتورة (مواهب عبد سلمان) من مواليد 1957. هي الآن أستاذة في كلية الطب، ورئيسة قسم الأمراض النسائية في كلية الخليج في (عجمان)، وهي حاصلة على شهادة الدكتوراه بالطب وكانت مقررة فرع النسائية في كلية طب البصرة، وأولادها (محمد وأحمد) كانوا يدرسون أيضاً في كلية الخليج الطبية، لكنهما هاجرا إلى كندا ولم يكملا دراستهما، واختارا دراسة الهندسة. الدكتورة مواهب متزوجة من الدكتور المهندس (حمود عبد الله) الذي عمل معي في عرض البحر في حقبة السبعينيات على ظهر السفينة (المربد).
ابنتها الثانية (سهاد عبد سلمان) من مواليد 1958. حصلت على البكالوريوس في هندسة الكهرباء من جامعة البصرة، وعملت في شعبة الاتصالات البحرية في الموانئ العراقية، وكانت لها آفاقها التطبيقية الواسعة في عالم الاتصالات البحرية الحديثة، وهي متزوجة من الدكتور (سلام عبد الله) جراح اختصاصي. وولداها (علي ومصطفى) أطباء.
ابنتها الثالثة الدكتورة (نهلة عبد سلمان) من مواليد 1960. من خيرة أطباء البصرة بمعاملتها الإنسانية الطيبة للمرضى، وتوجهها نحو العلاج المجاني للعوائل الفقيرة المعدمة. تزوجت في بداية حياتها من الدكتور (عبد الحسن هادي)، ولها منه بناتها المهندسات المعماريات (إسراء وغفران). الأولى متزوجة من الدكتور ماجد غازي، والثانية متزوجة من المهندس المعماري زيد عادل. الاثنتان كانتا من المتفوقات والمتميزات. جاءت (إسراء) الأولى على العراق في امتحانات التسريع عام 1995، وجاءت (غفران) في المرتبة الثانية بعد شقيقتها في اختبارات القدرات العقلية التي سبقت امتحانات التسريع. تجدر الإشارة أن امتحانات التسريع تعني اختزال سنتين دراسيتين في عام دراسي واحد.
تزوجت الدكتورة (نهلة) بعد وفاة زوجها الأول من الدكتور خليل إبراهيم، لكنها انفصلت عنه بسبب تمسكها بالبقاء في البصرة.
وابنتها الرابعة هي المهندسة (أمل) من مهندسات شركة نفط الجنوب، وزوجها رئيس المهندسين (عبد الستار المالكي). أما أولادها فهم (محمد وعلي وزينب) من طلاب كلية الطب في البصرة.
وابنتها الخامسة الدكتورة النسائية (فيحاء) من مواليد 1964، وزوجها الدكتور نجم عبد حاتم، وابنها (مصطفى) طالب في كلية طب الأسنان.
وابنتها السادسة الدكتورة (إخلاص) متخصصة بطب الأسرة، وهي من مواليد 1967. زوجها الدكتور سرمد مانع المياح، وابنتها (سارة) طالبة في كلية طب البصرة.
وابنتها السابعة (إنعام) من مواليد 1970. سميت بهذا الاسم لأنها نعمة من نعم الله. كانت من طالبات كلية الهندسة، لكنها تحولت إلى فرع البيولوجي، وحصلت على الدبلوم العالي في التحليلات المختبرية من جامعة بغداد. وهي متزوجة من الأستاذ وليد (أبو حيدر).
أما أبنها الوحيد فهو الدكتور (محمد) من مواليد 1961 متخصص بطب الأسرة، ومتزوج من الدكتورة حذام كاظم ناصر شقيقة الكابتن سمير كاظم.

صورة ملونة من حياة أم الأطباء
كوكبة من الأطباء الأبناء، وباقة جميلة من الأطباء الأحفاد. يشكلون اليوم عناوين النجاح الباهر، الذي حققته هذه الأم الواعية والمربية الفاضلة بجهودها الذاتية المضنية. كانت بناتها في طليعة المشاركات في النشاطات الخطابية بما عرف عنهن من مواهب أدبية أثرت الفعاليات المدرسية، وأغنت المشهد الثقافي في المناسبات المدرسية والاحتفالات الوطنية.
ولدت هذه الأم المثالية عام 1935 في الحي الذي كان يسكنه زوجها (مواليد 1930) وفي الشارع نفسه، وعلى وجه التحديد في (عقد النصارى) في الكرادة ببغداد. كان والدها تاجرا متوسط الحال، ومن الأصدقاء المقربين لعلماء الدين في البصرة (من أولاد عامر)، وله علاقات مباشرة بأشرافهم. وكانت أمها ربة بيت، أما خال والدها (عمران) فهو السيد باقر الحسني المعروف باسم (باقر بلاط) لارتباطه بالبلاط الملكي باعتباره مديراً لقسم التشريفات. وابنه الدكتور (نزار باقر الحسني) من المشرفين على دراسات البورد بالباطنية، وشقيقته الأستاذة (نزهة باقر) من أوائل العراقيات المتخرجات في كلية القانون، وشقيقته الأخرى الدكتورة (منى باقر الحسني) من الاختصاصيات المعروفات في الأمراض النسائية.
كانت (أم محمد) رحمها الله من المتفوقات في دراستها الأولية، لكنها لم تستطع أكمال دراستها بسبب اعتراض شقيقها (رئيس المهندسين مهدي عمران عيسى)، الذي أكمل دراسته في لندن، وانيطت به إدارة قسم الهندسة المدنية في الموانئ العراقية. لكنه ما أن عاد من لندن حتى تغيرت أفكاره المتزمتة، وسمح لشقيقته الصغرى (فوزية) بإكمال دراسته في معهد المعلمات.
كان زوجها (الراحل عبد سلمان البياتي) طالباً جامعياً ببغداد، ومسؤولا في الوقت نفسه عن شقيقاته (سبع شقيقات)، لكنه ترك الدراسة الجامعية، والتحق بمعهد السكك ليصبح بعد تدرجه في الخدمة مديراً لمحطة قطار (المحاويل) في بابل، ثم مديراً لمحطة قطار (كربلاء)، وانتهى به المطاف في محطة قطار المعقل (توفاه الله عام 1993). كانت زوجته رحمها الله تتنقل معه من محطة إلى أخرى، من دون أن تتذمر من كثرة الترحال والتنقل. حتى استقر بها النوى في البصرة في السبعينيات.

نم مظلوماً ولا تنم ظالماً
تعد هذه المرأة المجاهدة من صالحات زماننا. إنسانة راغبة في الخير. محبة للطاعة. معظمة لكتاب الله تعالى، فهو جليسها في كل وقت وآن. البر عندها من أرجى أعمالها. محسنة للقريب والبعيد. زاهدة في الدنيا. مترفعة عن ملذاتها الزائلة. صابرة على البلاء. محتسبة أجرها عند ربها وخالقها. قوامة لليل. صائمة للنهار. لا يُعرف عنها أنها تركت قيام الليل إلا لعارض. كانت كثيراً ما تحث بناتها على صلة الرحم، وتوصيهن بإدامة التواصل الدائم بينهن.
عُرفت (أم محمد) بفضائلها المتعددة. ولما سألنا أهلها عن برها قالوا لا تسل، وماذا عسانا أن نقول لك ؟, هل نحدثك عن رعايتها لزوجها وعدم تخليها عنه ؟ أم نحدثك عن إحسانها له بعد وفاته؟ أو نذكر لك خدمتها لبناتها بكل صور الخدمة ؟.
على الرغم من أن الله قد وسع عليها بالمال في خريف العمر. إلا أن الزهد كان ظاهراً عليها، لأنها كانت على يقين من زوال الدنيا وانتقال أهلها منها إلى دار الجزاء والحساب، فكانت تجعل مالها في أحوج ما تكون إليه يوم لقاء الله تعالى. كان قلبها الكبير يشعر بمآسي الضعفاء والمحتاجين فتحنوا عليهم وترأف بهم. كانت توصي بناتها، فتردد دائماً مجموعة من الوصايا، نذكر منها: (إذا دعت قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك)، و(نام مظلوم ولا تنام ظالم).
بلغ الناس خبر وفاتها في الشهر الخامس من عام 2007 فبكاها القريب والبعيد، وكيف لا يُبكى على مثلها وهي قامة شامخة من قامات المجتمع، ومثال للخير والعطاء في جوانبه كله، ومن أعظم الصور الدالة على صدقها وصلاحها أن بكاها جيرانها كلهم. وفي هذا بشارة لها عظيمة فقد جاء في الحديث الصحيح (ما من مسلم يموت فتشهد له أهل أربعة أبيات من جيرانه الأدنين إلا قال الله: قبلت علمكم فيه وغفرت له ما لا تعلمون). اللهم اغفر لهذه الأم الفاضلة، وارفع درجتها في عليين، وأخلفها في عقبها في الغابرين. يا رب.