فلسفة تشكيل فنّي

بقلم: حسين أحمد سليم

تتراءى, تخاطرا أثيريا لطيفا, لوجداني في البعد اللامحدود, مشهديات و لوحات تتجلّى في أسرارها عظمة الله في صنعه و خلقه, فتتشكّل لخيالي شفافيات من الخلق و الإبتكار و الإبداع, فتحرّضني طاقتي المكنونة في طواياي, تجاوبا لموسقة وعيي الباطني و عرفاني الذّاتيّ, فأستلّ قلمي من غمده و أمسك به بين أطراف أناملي, فتفترّ بالدّفء بصماتي و يدي ترتجف قدرا آخر, لا ألتمس له تفسيرا في خفايا أبجديّة فلسفتي التي وهبها الله لي رحمة و مودّة لنفسي لتطمئنّ بذكر الله و تمارس حركة فعل التّرتيل و التّجويد لآيات و بشارات الحقائق...
أستلّ الرّيشة من مشكاتها, تفترّ أطراف أناملي أكثر و ترتجف يدي أكثر فأكثر و لا أكتشف لما يجتاحني من سبب, أرى في بصري الثّاقب, تهرب الأشياء عنوة قدر, و ترتحل قهرا في المكان و الزّمان, تتقلّب في غمار متاهات عصر حضارة العولمة...
أحرّض حركة الفعل من حيث لا أدري في أطراف الأنامل, تسري الدّماء حرّى تتموسق في دقائق العروق... تمسّد أصابعي الدّافئة, ملامس أطراف شعيرات الرّيشة بحنوٍ, فترفل العين خاشعة, باحثة عن خلجة من هالة اللون, تستجلي خفقات قلبي إرتعاشة الإحساس, تتناهى لأوتار تفكّري من رؤى البعد الآخر...
تتسلّل في ومضة من طيف إلى الأنامل, بوادر لامعة السّيّالات من طلائع البوح الأولى, تتهادى لاهثة على صهوات تموّجات الأثير الخيالي... تنفرد معها في إرتعاشات نفسي, معالم تقاسيم الوجد و التّشاغف, تحمل قداسة الحبّ و طهارة العشق إلى بحر الأمل في رؤى المستقبل, ليطفو الأمل المرتجى, متألّقا على وجه اللوحة السّحرية ذات القماشة البيضاء, يشق الصّمت المفتعل شكيرة ناصعة في كنه الهنيهة الزّمنية, يفتح العقل المقلبن صدر اللحظة الوامضة في الرّؤى, يتغلغل القلب المعقلن في أغوار النّفس الهائمة, يمجّه العطش القدريّ لفعل الإرتواء, يغوص ومض التّفكّر الفنّيّ في متاهات الفكر الحالم, يُسافر في المدى عروجا للفراديس الإلهيّة الموشّاة باللينوفار المقدّس بلا إستئذان, يمارس حركة الخلق و الإبداع, فعل إبتكار روحيّ أثيريّ, يستنزف من حزم هالات الألوان, رحيق عبق طيّبٍ من سلاف شفافيّة الألوان...
تنتابني شفافيّة الأحاسيس الأنبل في غفلة قدريّة التّوقيت, تجحظ العين السّاكنة فجأة, تزرف دمعة رذاذ دافئة تقطر من طرفها, و هي ترسم في شبكيّتها لوحة فنّيّة ساحرة, تمتدّ مساحتها أوسع مساحة إفتراضيّة من محدوديّة الحدقة, تتكوكب ضوءًا مستنيرا في حركة الرّفض الطّوعيّة, فترتفع العين فوق الحاجب حلما تجريديّا, أملا مأمولا في محاكاة فنّيّة سورياليّة مغايرة للأشكال المرئيّة...
قدرا إعجازيّا غير متوقّع, يُمسك الفرح الذّاتي, و يتمسّك حُبّا و عشقا بجناح الغفلة المفتعلة, يصلب الأشياء الأخرى في عالم الخيال, يُنظّمها إحتسابا على باب الإنتظار الفنّي... يتشاغف شوق الإنتظار في صميم الفلسفة لذّة العطاء, فتتفاعل حركة الفعل الفنّيّ التّشكيليّ, المنشور ومض ضوء على جبين شفّاف, الآتي قدر خصوصيّة إليّ, كوشاح قُدّ من النّاصع الأبيض, أو قُدّ هالة شكيرة من حزمة طيفٍ لونيّ...
ريادة حركة الولوج الفلسفيّ في أساسيّات اللعبة الفنّيّة التّشكيليّة, يتجلّى اللون الأصفر منبثقا من رحم النّور, نور السّماوات و الأرض, رحمة و مودّة و إنتعاش حياة في مسارات العيش... و يتماهى اللون الأحمر في حركة دفق الدّماء من القلب ترتحل في متاهات العروق و الشّرايين تُسبّح بإسم الله... و يشفُّ اللون الأزرق يُحيط بنا في السّماء و بعض الأرض, منسيّ قدرا حسابيّا في الإمتدادات اللامحدودة في لامتناهيات الأكوان, تتزايد خارج ظلّ الزّمان المقدّر, بعيدا عن ضوء المكان المحدود...
و أنا كاتب, ناثر و شاعر و فنّان تشكيلي, عربيّ الهوى, لبنانيّ الهويّة, مزروع في تربة شرقيّة المشارب و المناهل, أعيش في كينونتي الإنسانيّة صقيع كلّ الذّكريات, ماضيا و حاضرا و مستقبلا, كما صقيع الثّلج يُكلّل هامات الشّمّ لجبال لبنان, تحمله على صهواتها موجات الرّياح و العواصف, مُكحّلة ثنايا الليل بين الغسق حتّى السّحر و الفجر... و كأنّني العاشق المتيّم في خلق الله, التّائه الهائم الحيران في عظمة الإبداع الإلهيّ, الهائم الوله الباحث في أسرار بدائع الخالق, أمسك الميل الرّفيع الدّقيق النّاعم, أمسّده دفئا و أنا أدخله لطافة إلى قلب المكحلة الفنّيّة, و الكحل الفنّيّ في إقتحام عالم التّشكيل, ففي تشكيله, يكمن سرّ الأسرار...
ولدني أبوايا في رضى الله من رحم الفنون, فكان قدري في الحياة, أن أرث حركات أفعال الخلق و الإبداع و الإبتكار, و أقترن بقداسة الحبّ و طهارة العشق مودّة و رحمة من الله, و أحمل طوع قناعة ميل المكحلة العربيّة الشّرقيّة و القرويّة الرّيفيّة اللبنانيّة بين أناملي, أحرّض ذاتيّتي بما أكرمني الخالق من وعي باطنيّ و عرفانٍ ذاتيّ, فأعقلن قلبي العاشق و أقلبن عقلي في الحبّ, و أسلك مسارات التّجارب الفنّيّة في المكان و الزّمان, أرتقي جاهدا ما إستطعت عروجا علويّا رأسيّا في رحاب الله, أسمو قناعة, صدقة جارية في سلّم العطاء...
أمتطي صهوة حركة فعل الفلسفة في ولادات مدارس و أساليب الفنون, تنبثق قدرا من ثنايا بصمات أناملي تشكيلة الأمل المأمول في كوكب أمل بنمط خطوطيّ معماريّ... أركب مسارات القسطاس المستقيم في المدار النّسبيّ الفلكيّ, أعكف طوعا قدريّا, أجمع النّقاط من رؤوس الشّعيرات الحانيات, أقطف عناصر الخطوط من أطراف الأقلام في رسم النّقطة الإشراقيّة إقتباسا من نور السّماوت و الأرض, أرسم الجمال في عينيّ حبيبتي الوضحويّة من منظومة الأشكال... أملأ بصمات أناملي حبّا مُقدّسًا و عشقا مُطهّرا, من عجائن لوحة الألوان, أضمّخها بخّور الزّمان في جغرافيّة المكان من سلاف أرز لبنان, أعيدها فعل عشق و حبّ في رحاب قريتي الرّيفيّة البقاعيّة البعلبكيّة, نجمة هلال بلدات غربي مدينة الشّمس بعلبك, أمارس كلّ الجنون الفنّيّ و التّشكيليّ في لحظة الهذيان الحميم, و أنا أرتحل إلى نسيجٍ وجدانيّ دافئ...
أمارس إرتشاف السّلاف من كلّ الأشياء حولي, أثمل حُبّا و عشقا في تلك الحالة, أستيقظ من سكرتي الفكريّة و الفنّيّة مع و من تحرّر الأشياء و إنفلاتها من ربقة التّكاثف المادّيّ الرّميم... أمارس الغفوة كما غفوة أهل الكهف, و أستيقظ عند مجمع البحرين, أفتقد الحوت سربا عند الصّخرة القدريّة إفتراضا, تنتظر العين الباحثة عن العبد الصّالح كما حركة بحث العقل عن الحقيقة المجلوّة, حيث إنفلاق السّرّ من كنه الرّؤى, يتجلّى في عجائب المعجزات الخضرويّة, لتسقط الألوان في محدوديّاتها في تشكيل جمالي سحريّ, فتزدان حركة الخلق و الإبداع نجمة نجمة, تخشى ومضة العين إن رفلت للحبّ و العشق, تمارس الهروب إلى الأعمق الأعمق, حركة إنسياب أثيريّ, تتسلّل عنوة كوض الحبّ في النّفس و خفق العشق في الرّوح و إرتعاش المودّة و الرّحمة في القلب النّابض بالتّشاغف... تتسلّل الأطياف العاشقة من تحت الأهداب, لتطمئنّ نفسا بالذّكر الأقدس, القاصد الحجّ إلى الخافق المعذّب...
فلسفة التّشكيل الفنّيّ في الوجدان العاشق, لعبة الأشكال و الألوان في نسائج الحبّ, حيث في المطاوي الكامنة في الأعماق, تتبدّد فيها الطّمأنينة الفنّيّة, تتقلّب ثورة في جوارح الفنّان, تحبل قدرا بأجنّة الغد, تتطلّع إلى هواجس الشّكل, تتخاطر في وعيها الرّوحيّ, إستنارة في محاكاة أخرى للإبداع و الخلق...
رذاذات سحب الرّؤية التّعبيرية, تهبط من صومعة الأمل المرتجى, ومضات تتكوكب في جبل الرغبة الإنسانيّة, تسافر على متن الأنسام اللطيفة إلى وادي الأحلام الورديّة, تتوغّل رغبة في مكنون الذّات المقهورة, تعتصم قناعة أمام باب الدّهشة, تتربّص حركة الأشياء...
فعل إنطباق الجفنين في حركة الإرتياح للعينين, فعل تحريض آخر للخلق و الإبداع و الإبتكار, فتتحرّك شعيرات الرّيشة, تنتهز كلّ الفرص, و تنطلق تشكيلة حروفيّة البصر, و تتشكّل أبجديّة النّطق, في لوحة فنّيّة منظومتها الهجائيّة, فلسفة الألوان و الخطوط المتوالدة من رحم النّقطة الإشراقيّة...
الغد المأمول الذي أتطلّع إليه من رحم الأمس في ولادة الحاضر, جميل الرؤى, بهيّ الآمال, من واقع وحي الماضي في الحاضر لبناء المستقبل, يُطلّ الأمل المأمول من نافذة مفتوحة على الماضي, يُبحر في قراءة معرفيّة, تتمحور في سمت عيون الأسرار...
تسري الذّكريات ناشطة من موروثات الأمس نديّة الوقع على الذّات, تتراقص نشوانة على أقواس رومانسيّة, تُسترجع من أخيلة الزّمن الجميل الغابر, تطلّ على وجوديّة الفنّ, تتهالل من بين معارج الآه و مباسم الآخ, ترتشف الإحساس الصّادق من رحم النّفس, قطرة تتدحرج خلف قطرة من دفق النّبل في الأحاسيس, لتنسحب هانئة هنيئة في تفاعلها, وصولا إلى خدر الماضي السّعيد, قبل غرقها في كأس الثّمالة...
الأبيض سرّ الألوان, و ألوان الطّيف أسرار, سيّالات في حزم من نور, تتراءى للبصيرة قبل البصر... أمواج تمتطي صهوة الأثير, تتماهى في خيوط تعرج في اللامتناهيات, تبحر في إرتحال دائم, تقفز في رحلاتها إلى الذّهن, تبرز في محاكاة نفسيّة, قبل أن تُكحّل أطراف البصر...
الألوان في إهتزازاتها الكهرومغناطيسيّة, تستسلم للعين الرّافلة بالحبّ و العشق, ينتفض ناعما فيها الميل, نديّا بالكحل في المدمع, شفّافا إلى درجة النّور, يحكي قصّة الفنّ, يكمن في لعبة الثّرثرة من تحت الماء... تنبعث في العمليّة التّشكيليّة, العناصر في تفصيلاتها طروبة على أكتاف الأزمنة المخمليّة, شعيرات ريشة الفنّان, تحدث إهتزازات العين, تروي سيرة الأجيال, تسرد رواية الأشياء, تشكّل كلّ الأسرار في المعالم الإنسانيّة... تلامس بحنوٍ, جدار الأمل في عمر الزّمن...
و يبقى في المسارات الفنّيّة التّشكيليّة, يلعب البوح على تناقضات الخيال, لتنهمر الرّؤى, إنهمار المطر الرّذاذ, فتستدرج الرّيشة البصر طائعا إلى عوالم ضفاف الأحلام, تتبلور ورديّة, تحت الشّمس في أخيلة حسّيّة, و أشكال جسديّة إنسيابيّة الخطوط, متناغمة في عناصرها, و كأنّها قُدّت من حجارة الأزمنة الغابرة, لتنسج من رؤى الإيمان, صلاة عابد ولهان, ينشد للتّوبة و التّسامح و الغفران...
فلسفة ما ورائيّة, أتحسّس قدرا, ريشة الفنّان, تعاني الشّكوى, من الهجر و الفراق, فترة الإنعطاف بينها و بينه... في البعد المرتقب, تفرش على بساط الرّغبة, نهرا مدرارا من العطاءات... تنفلت من قيودها المفتعلة أكّاديميّا, تتحرّر من ضوابط الشّكل, لا تحدّدها, و لا تكبّلها, هندسة الرّسم, فتتحرّر من كلّ الطّقوس و التّقاليد, حتّى تصبح الألوان معها, رؤى أمال, محمولة على طبق من اللهفة المتشوّقة, الهاربة من أشباح جليد الأمر الواقع...
الرّيشة الفنّيّة في يد الفنّان, تؤرّخ للمستقبل, صورا من معالم الحاضر, المبنيّ على دعائم الأمس, و في التّأريخ الفنّيّ, تفكّ حصار الزّمن, عن كينونة الرّؤى, الفعل الموصود, بين تقاسيم الرّغبات و التّجارب, تعود طوعا قدريّا في المكان, لزمن جديد, هائمة بالوعد الصّادق و العهد الواعد و القسم العظيم, لحبّ مُقدّسٍ و عشقٍ مُطهّر ...