فلسفة النّقطة إشراقات الأشياء

بقلم: حسين أحمد سليم
كاتب و فنّان تشكيلي عربي من بلدة النّبي رشادة غربي مدينة بعلبك في بقاع لبنان.

فلسفة قدريّة تسكن وجداني منذ زمن بعيد, أتخاطر دائما بالنّقطة المجرّدة, حركة فعل الخيال المجنّح, المرتحل دائما على صهوات الأنسام الفكريّة في لامتناهيات المدى, حسث أستلهم من تجريديّتها و أستوحي من كنهها رؤى الفنّ الهندسي التّجريدي في تشكيلاته اللامتناهية, و الكامن تشكيلا في جزيئات عناصرها الأحاديّة... بحكم اللعبة الهندسيّة المجرّدة و التي تعوّدت عليها منذ ملهاتي على المقاعد الدّراسيّة المتوسّطة, أحرّض ذات النّقطة على ذاتها, و أرقب مشهديّاتها التّفاعليّة في الحركة السّحريّة, المنبثقة من ذاتيّة طاقتها المتوالدة من عناصرها, و المولودة بها قدرا تكوينيّا منذ خلقها الإعجازي في صميم تكوينات بدائع صنع الله و عظمته في خلقه...

دائما تأخذني فلسفة الأشياء, لترود بي متاهاتها التّكوينيّة, انطلاقا من رحم النّقطة, كأنّني متأثر بفلاسفة اليونان و سجالات الكاهنة "ديوتيما" معلمة سقراط الفيلسوف... أو كأنّني أعيش إفتراضيّا, زمن العبد الصّالح الموسوم بالخضر, و فلسفة اللقاء القدريّ بموسى النّبي, عند مجمع البحرين, كيّ أتعلّم ما ليس لي به علم... لا إراديّا أتحدّى النّقطة, و إن أمضيت في سجالاتي بها حقبا لا حدود لها, أصرخ فيها بأعلى طبقات صوتي, أهدّدها إيجابا و سلبا, أستلّ سيفي من غمده, و قلمي من محبرته و أهجم عليها أبارزها تارة و أشكّلها تارة أخرى, أداعبها و أدغدغها تارة فوق بياض الورق و طورا ضوئيّا و رقميّا فوق مساحة المرقاب...
عبثا أحاول تفكيك عناصرها أو جزيئاتها, أعود إليها حاسر النّفس, أحبو عند أسرارها: أستغيث بها متهجّدا ضارعا لله تعالى... حدّدي لي هويّتك؟!... أرجوها حبّا و عشقا, عرّفيني بك و شكلك؟!... أتودّد لها في تشاغف و إشتياق, أكشفي القناع الذي تتخفّين خلفه؟!... أرجوها بلا كلل و لا ملل, إرفعي الوشاح الذي تتدثّرين به؟!... و هكذا أسئلة كثيرة تخاطرني و تحرّضني و تقلّب مزاجي, و لا تتركني أركن للهدأة و السّكون لحظة؟!... كأنّه كتِب عليّ العذاب الفكريّ و العذاب الفنّيّ و ما أحيلا العذابين عندي... و كأنّني أعيش لحظات إستهجان موسى النّبي و الخضر يخرق السّفينة و يقتل الطّفل و يقوّم الجدار من الإنقضاض...
قدرا ولدت في بيت قرويّ ريفيّ بقاعيّ بعلبكيّ لبنانيّ عربيّ عتيد, منذ البدء التّاريخيّ في المكان الجغرافيّ, يقوم على روحيّة الفنون الأدبيّة و التّشكيليّة و الأدائيّة, فولدت على دين أبائي و أجدادي و السّلف الصالح من نسبي الممتدّ لبني العبّاس, و إستهواني المسار الأدبيّ و الفنّيّ منذ نشأتي الأولى, فنشأت قناعة على هذا الدّرب, و رميت نفسي في رحاب الحروفيّات و الألوان و الموسقات و الدّندنات, و رحت أرود المعالم التّشكيليّة تلو المعالم, أبحث و أنقّب و أحلّل و أجرّب... تعرفت إلى المذاهب و المدارس, و واكبت الإبداعات في المعارض هنا و هناك, و كحّلت عينيّ بمعالم الجمال السّاحر, كما أصقلت فكري بمعالم الثّقافة الأدبيّة و التّشكيليّة و أصول العزف و هارمونيات الإيقاع إضافة للسّباحة بين أمواج بحور الشّعر و عروضه...
وحي آخر أتحسّس به في المدى, يتناهى إليّ عبر الفضاءات, كالرّذاذ المتساقط فوق السّهول العطشى للماء, وحي آخر يهمس في أذني, يدغدغ حناياي لطافة و أثيريّا, يأخذني إلى أبعد ممّا أنا فيه, كأنّه النّور الفضيّ الوضّاء, الممتدّ بين الأرضالسّماء, و الذي يعرج في رؤى البعد الآخر... البوح الجريء هنا في المكان و الزّمان, يتجلّى في همس الأثير النّاعم, يتراءى جليّا في ومضات بارقة, مرموزة بمصطلحات من نوع آخر, لا تدركها إلاّ العقول المكتنزة بالوعي الباطنيّ و العرفان الذّاتيّ...
أنا النّقطة التي تشغل بالك الفنّّيّ و الأدبيّ و الفلسفيّ و التّكوينيّ, أنا السّرّ الكامن في كتابة حروفك و كلماتك و خواطرك و قصائدك و مقالاتك و مؤلفاتك و ألحانك و موسقاتك...
أنا السّرّ المكنون في وجوديّتك منذ النّشأة الأولى, مرورا بكلّ مراحل التّكوين لصيرورتك...
أنا السّرّ الخفيّ في معالم فلسفتك الهندسيّة و تكويناتها في الأشكال و الرّسومات المختلفة...
أنا قوام الوجود في الوجود, مشيئة القادر, يقول للشّيء كن فيكون ...
أنا مجرّدة من إحاطتك البصريّة و رؤيتك النّظريّة للأشكال, لم و لن تدركني قط, إنّما تتلمّس أثر حركتي الرّحويّة على ذاتي, فأنا أرسم الخط و بإمتداده أعرف... أو عند إلتقاء خطّين مثلا, أو عند تقاطعهما... هكذا تستدل عليّ و لا تراني, لا تراودني الأنا, و لا تأخذ منّي و لا أعطيها, هكذا إرتضيت لنفسي, لا همّ عندي أن أعرف أو لا أعرف, فأنا موجودة, هو تقدير تكوينيّ في حسابات دقيقة و معقّدة, لا ناقة لي فيها و لا جمل ...
أنت ترسم و تبدع في الأشكال, و تنسب لنفسك فعل الخلق و الإبداع في التّشكيل, متناسيا أنّني سرّ الحركة في لوحتك و سر ~اللون السّاحر و سرّ الخطوط و الأشكال و المشهديات... أتحرّك طوع بنانك الممسك بالرّيشة أو القلم, أخطّ بإمتداداتي الكهرومغناطيسيّة معالم الخطّ, أسوّي منه الأفقيّ و العاموديّ و المائل و المنعطف و المنكر, أخلق من تعدّديّة الخطوط أشكالا منها المثلّث الحرّ و المتوازي الضلعين و المتوازي الأضلاع و المنتظم في زواياه و خطوطه الثّلاثة... و هكذا أبتكر المربّع و المستطيل و المضلّعات الحرّة و المنتظمة و المتعدّدة الخطوط, مرورا بالدّائرة التي تشبهني مع الفارق في التّوصيف و كذلك الكرة, و صولا إلى المجسّمات المتنوّعة و المختلفة, و ليس إنتهاء بما يحيط بك في الأرض فالكون ...
أنا النّقطة, في كنهي يكمن سرّ الإرتكاز لكلّ الأشياء الملموسة, و بي تكمن الدّقّة المتناهية, و بي كذلك تتجسّد معالم الإتّزانات لكلّ الموجودات, و بي أيضا و أيضا تتكاثف معالم الجزيئات المجرّدة ...
فكّر بهدوء في هجعتك, و تفكّر بعمق في ضجعتك, و تنزّه من كثافة جسدك المادّيّة, و شفّ بنفسك من رميمك, و إلتحم بتموّجات روحك الأثيريّة, كإلتحام الطّبق الطّائر بالطّبق الطّائر, و إسبح في سرّ الخلق, و تعرّف إلى الخالق في أسرار خلقه, تعرف سرّ النّقطة في قوام الخلق ...ربّنا سبحانك ما خلقت هذا باطلا ...
النّقطة هي عناصر كنه السّرّ في خلق آدم و حوّاء و سجود الملائكة و عناد إبليس و إستكباره, و هي فلسفة قوام الحقيقة بين وسوسة قايين في قتل هابيل, و هي البعد الخفيّ في قوامة سفينة نوح النّبي و سرّ الزّوجين في الإختيارات, و هي السّرّ في غصن الزّيتون في منقار حمامة نوح, و هي الرّمز الآخر في لقاء العبد الصّالح الموسوم بالخضر و مقابلته بموسى النّبي, و هي المصطلح الفريد في رسالة إلياس النّبي لآحاب و قرينته, و القربان لله, و هي فلسفة الحياة في كنه ماء الحياة التي بها ظفر الخضر على ذي القرنين, و هي آية أصحاب الكهف و ورقهم للشّراء و كلبهم المتحفّذ للوثوب و هو غارق في غفوته القدريّة, و هي فعل التّرميز في ناقة صالح النّبي, و هي معظمة البشارات في كتاب عيسى النّبي, و هي حكمة لقمان للأجيال, و هي سرّ الأبجديّة لسليمان النّبي, و هي فلسفة الخلق العظيم في رسالة محمّد الرّسول المصطفى, و النّقطة هي النّور الإشرقيّ في آيات القرآن...