تحسن أحوال البصرة في الحقبة التحسينية



كاظم فنجان الحمامي

شهدت البصرة انتعاشاً ملحوظاً على يد متصرفها (تحسين علي)، فتحسنت أحوالها للمدة من 27/11/1933 إلى 4/10/1938، على مدى خمس سنوات أمضاها هذا الرجل المصلح في تحسين صورتها العمرانية والزراعية والتجارية، وحرص فيها على ضمان أمنها واستقرارها.
طلبوا منه يوم وصوله البصرة إلغاء خطة المتصرف السابق، التي كانت تقضي بإزالة مقبرة (أم البروم)، فلم يلبي طلبهم، لأنه كان على قناعة بضرورة إزالتها باعتبارها تتوسط المركز التجاري لمدينة (العشّار)، وتتقاطع مع جمالية المدينة. فذهب إلى بيت المظفر ليتباحث مع (الشيخ مهدي) حول هذا الأمر، باعتباره يمثل الواجهة الدينية للمنطقة، فوجده متوافقا معه في الرأي. وهكذا تحولت المقبرة القديمة إلى حديقة جميلة مزدانة بالأشجار.
كان (تحسين علي) يدرك أهمية الدور التربوي والتعليمي الذي ينبغي أن تنهض به المدارس من أجل تحقيق أهدافها السامية نحو القضاء على بؤر الجهل والتخلف، ونحو تثقيف الناس وتوعيتهم، فكرس وقته لرعاية دور العلم وتطويرها، وكانت له مواقف مشرفة في احتضان مدرسة النجاة الأهلية في مدينة الزبير، التي كانت مهددة وقتذاك بقطع المنحة المالية، التي تدفعها لها وزارة المعارف، وهكذا انتعشت المدرسة وتوسعت وكثر عدد طلابها، فعلقوا صورته في أروقتها، وكتبوا تحتها قصيدة رائعة، نذكر منها هذه الأبيات:-
قد تداركت النجاةَ بعدما أوشكت تلفُظُ أنْفاسَ الحياةِ
وتفضَّلْتَ عليها بالبقا إذ تَفضَّلْتَ عليها بالهباتِ
ومِنَ آلافلاسِ قد أَنْجَيْـتَها وكذا كنت نجاةً للنجاةِ
وهو أول من فكر عام 1934 بإنشاء بناية جديدة وواسعة تضم دوائر الجمارك والمكوس، بدلاً من بنايتها القديمة، التي كانت في حالة بائسة. ثم توجه نحو إنشاء بناية كبيرة تضم دوائر الحكومة المحلية (السراي)، والتي كانت مبعثرة في منزل خشبي كبير. يعود لأحد أعيان البصرة هو الحاج عبد اللطيف المنديل. كان ذلك المنزل لا يليق من كافة الوجوه بمكانة البصرة، فبذل جهوداً حثيثة لإقناع الحكومة بإنشاء (سراي) يليق بهذه المدينة العريقة، فنجح في مسعاه، واكتملت البناية عام 1935، وأصبحت هي المقر الرئيس لمحافظة البصرة، لكنها الآن شبه مهجورة في مكانها المجاور لمركز شرطة العشار. في ذلك العام أيضاً شهدت البصرة افتتاح مطارها الجديد، الذي كان من أجمل مطارات الشرق الأوسط.
أما محاكم البصرة فكانت قبل مجيئه تشغل ثلاثة بيوت مؤجرة، فشد رحاله نحو بغداد لإقناع وزير العدلية بتخصيص مبلغ مناسب لإنشاء بناية لائقة تضم تلك المحاكم. استجاب الوزير لطلبه، ووافق على تخصيص خمسة آلاف دينار، وما أن عاد إلى البصرة حتى وقع اختياره على موقع مناسب عند مدخل المدينة من جهة الغرب، وعلى وجه التحديد في منطقة (التحسينية)، التي حملت اسمه منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا، وهكذا اكتمل المبنى الفخم المؤلف من (36) غرفة و(3) صالات، وما أن حصل على تخصيص إضافي بمبلغ ألف دينار، حتى أضاف للطابق الثاني جناحين. خصص الأول للمحكمة الشرعية السنية، والثاني للمحكمة الشرعية الجعفرية، ثم شيد جسراً على نهر العشار لربط بناية المحاكم بالضفة الأخرى للمدينة، (أي بين محلة التحسينية ومحلة الفرسي)
ولسنا مغالين إذا قلنا أن هذا الرجل كان أول من فكر بتحسين مياه الشرب لمركز البصرة وضواحيها، فقد اكتشف أن أهالي مدينة الزبير يجلبون مياههم من آبار (الدريهمية)، وينقلونها بواسطة البغال والحمير، وهي مياه غير صالحة للشرب، وكانوا يدفعون (12) فلساً للسقاة عن كل ثلاث قرب. وما أن علم بهذه المشكلة حتى بادر إلى استدعاء الأستاذ (نجيب نورس) المهندس المسؤول عن مشروع تصفية المياه، فاكتشف بعد التحاور معه أن مضخات وأحواض وأنابيب مركز المدينة فقدت صلاحيتها بسبب التقادم، وأنها كانت في الأصل من القطع المستهلكة المجلوبة من مدينة (عبادان)، ففكر أولاً بتحسين أداء محطات المركز، وتطويرها وتوسيع قدراتها الإنتاجية، ثم التوجه نحو الضواحي البعيدة. لكنه اصطدم بالعوائق المالية، التي كانت تحول دون إحراز أي تقدم في هذا الاتجاه، فالمبالغ التخمينية للمشروع تقدر بحوالي خمسة آلاف دينار، وهو مبلغ كبير وقتذاك، ولا يمكن تغطيته من ميزانية مديرية الإسالة، لذا قرر الاستعانة بجهود الإدارة البريطانية المشرفة على تشغيل الموانئ العراقية، فالتقى الكولونيل (جي. سي. وورد)، وعرض عليه فكرة المشروع، طالباً منه تقديم الدعم والمساعدة، فتكفلت الموانئ باستيراد الأنابيب الفولاذية، ولم تمض بضعة أشهر حتى بدأت الأنابيب والمضخات تصل تباعاً إلى البصرة، فباشروا باستبدال الشبكة القديمة، ونصب وتشغيل المضخات الجديد، وتوسيع الأحواض والخزانات، فأكتمل المشروع في غضون عامين، وأصبحت مدن الزبير والفاو و(صبخة العرب) ترتوي من مياه شط العرب. وقد أثنى رئيس صحة البصرة (الدكتور عبد الحميد الطوخي) على هذا المشروع، الذي وصفه بالمنقذ، على اعتبار أن مياه الضواحي البعيدة كانت ملوثة، وغير صالحة للشرب.
ربما يطول بنا المقام في سرد انجازات هذا الرجل الوطني الغيور، لكننا نختصرها فنقول: أنه أسهم في تشييد المدارس الابتدائية، وفي تطوير وتوسيع ثانويتها، وبناء دائرة البريد والبرق، وإنشاء مديريتين للبلدية. إحداهما في العشار، والأخرى في البصرة، وكانت كل مديرية مستقلة ومنفصلة إدارياً عن الأخرى، وذلك من أجل تقديم أفضل الخدمات للمواطنين، وكانت له إسهامات كبيرة في تطوير أداء مديرية صحة البصرة، وفي بناء مستشفى للحجر الصحي، وتشييد عشرات المراكز الصحية في المناطق النائية، وإقامة الجسور والقناطر، وتشييد الأسواق العصرية، وكري أنهار الكباسي والدعيجي وكتيبان، وتطهيرها من الترسبات الطينية، وأسهم أيضا في حفر الآبار الارتوازية في المناطق الصحراوية، وكانت له إصلاحات كبيرة في مدينة (القرنة) تمثلت ببناء مستشفى ومدرسة متوسطة للبنات، وإقامة جسر كبير فوق أكبر أنهارها، وتبليط الطريق الذي يربطها بالبصرة، وبناء محطات جديدة للماء والكهرباء.
ثم توجه لمدينة أبي الخصيب فأنشأ مقر القائمقامية، وقام بتبليط شوارعها، وبناء مدرسة متوسطة، وإيصال الكهرباء إلى مركزها، وإقامة جسرين على الطريق الذي يربطها بمدينة الفاو، على نهري أبي الخصيب وأبي فلوس، مع إنشاء سداد ترابية على جانب شط العرب لمنع تسرب الماء إليها، وذلك بعد إنجاز تبليط الشارع الموصل إلى البصرة.
كان (تحسين علي) أول من فكر بتبليط شارع (دينار)، وما أن انتقل للعمل في وزارة الأشغال حتى بادر إلى رصد المبالغ اللازمة للتنفيذ. أما مواقفه المينائية فقد تجلت في مطالباته الحثيثة لإعادة تشغيل ميناء (أم قصر) بعدما هجرته القوات البريطانية في الثلاثينيات، وذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ووجد أنه يمثل الإطلالة المينائية المباشرة على حوض الخليج العربي، فارتأى لفت انتباه الحكومة، التي لم تعر اهتماماً للموضوع، فأهملته ولم تنتبه إليه حتى جاء اليوم الذي تصدى فيه الراحل (مزهر الشاوي) لهذه المهمة في بداية الستينيات، وكان أول المبادرين لإحياء المشاريع المينائية التي فكر بها (تحسين علي) رحمه الله.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي