هل كان عبد الناصر طائفياَ ؟؟


كاظم فنجان الحمامي

لم تقع حادثة طائفية واحدة في عهد عبد الناصر على عكس ما نراه اليوم في ظل أبطال القومية الطائفية. لم يكن عبد الناصر معادياً للدين، ولم يكن ملحداً، بل كان أقرب حكام مصر فهماً لروح الدين، ولم تكن في بلده أي قاعدة للأمريكان كالقواعد المنتشرة هذه الأيام في أرجاء الخليج العربي، من دون أن يعترض عليها وعاظ السلاطين، الذين ماانفكوا يمارسون هواياتهم القديمة في إشاعة الفتن وفي التضليل الفوضوي. تارة باسم الإسلام، وتارة بالنيابة عن الدوائر الاستعمارية، التي تسعى لتفكيكنا وتجزئتنا وتقسيمنا إلى فئات وطوائف متناحرة.
كانت زوجته السيدة (تحية محمد إبراهيم كاظم). مسلمة (شيعية). إيرانية الأصل من مواليد مدينة (الكاظمية) في العراق عام 1920. عاش معها أسعد أيامه، قبل وبعد توليه الحكم. أنجبت له: منى وهدى وخالد وعبد الحكيم وعبد الحميد. عندما تنظر إلى ملامحها تدرك للوهلة الأولى أنك أمام أم عظيمة وزوجة متفانية. لم تتدخل في شؤون الدولة. بل عاشت حياة طبيعية كزوجة وربة بيت. وكان يكفيها فخراً أنها زوجة لهذا الرجل، فلم يكرهها أحد لأسباب طائفية، بل كانت محل تقدير واعتزاز الشعب العربي كله.
كتبت في وصيتها: (لقد عشت ثمانية عشر عاما. لم تهزني رئاسة الجمهورية، ولا زوجة رئيس الجمهورية، ولن أطلب منكم أي شيء أبدا.. كل ما أطلبه أن تجهزوا لي مكانا بعد مماتي. أرقد فيه بسلام بجوار زوجي الراحل)، وهكذا ظلت حزينة تبكى زوجها حتى وافتها المنية، فرقدت بجواره. أوصت أولادها بتسليم منزلها للدولة بعد وفاتها حتى لا يكون للمصريين دين في رقبة زعيمهم رغم أن المنزل كان من حقها هي وزوجها وأبنائها.
عاش الأقباط في زمنه عصرهم الذهبي. تعامل معهم بمنطق الانتماء الوطني، فعاشوا أبان حكمه بسلام ووئام ورخاء. لم يتعرضوا في زمنه لأي اعتداء، فقد فرض سيطرة أمنية مشددة، وتعامل مع الجماعات المتطرفة بحزم، ولم يسمح لهم بالتلويح بورقة الفتنة الطائفية. وهكذا نجح في بناء دولة قوية تنبذ الطائفية، فكان المسيحيون والمسلمون يقفون على خط واحد، ولم يكن طرفاً في أي حرب طائفية، وهكذا شهد عهده أفضل السنوات التي عاشها الأقباط في مصر.
لم يكن معادياً للأسقف القبرصي (مكاريوس) بل كان من أصدقائه المقربين. ليس لأنه كان أكبر أساقفة الكنيسة القبرصية الأرثوذكسية، بل لكونه الصديق الحميم للعرب، ولمواقفه المؤيدة لقضايانا العادلة ضد العدو الصهيوني، في الوقت الذي كانت فيه تركيا من أقرب أصدقاء إسرائيل، وأكثرهم تعلقا بحكومة تل أبيب، وما أن تفجرت الأزمة القبرصية حتى هب عبد الناصر للوقوف في صف مكاريوس (المسيحي)، ولم ينحاز للحكومة التركية المتظاهرة بالإسلام. ذلك لأنه كان يدرك أن (مكاريوس) على حق، وحكومة أنقرة على باطل.
كان عبد الناصر يردد على رؤوس الأشهاد أنه تعلم الكثير من الزعيم الهندوسي (جواهر لال نهرو). قال عنه بالحرف الواحد: (كان زعيما عظيما، تعلمت منه الكثير واستفدت من رؤاه بعيدة النظر، ولن أنسى موقفه أثناء زيارته لمصر قبل عدوان 1956)، وما أن سمعته (أنديرا غاندي) وهو يتحدث عن والدها بهذه الكلمة الصادقة حتى أجهشت بالبكاء ولم تتمالك نفسها.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

لذا كان من الطبيعي أن يقف عبد الناصر مع الهند في الحرب الهندية الباكستانية. لأن الهند كانت وقتذاك على حق، وكانت الباكستان تدور حيثما تدور البوصلة الأمريكية المعادية للعرب، فلم ينجرف وراء عواطفه، ولم ينساق وراء الأهواء الطائفية.
من المفارقات العجيبة أن المفترين والمتطرفين والطائفيين ارتفعت أصواتهم هذه الأيام في الطعن بسيرة هذا الإنسان العادل، فاتهموه بمعاداة الإسلام والمسلمين، ومناصرة المسيحيين والهندوس، متجاهلين دوره الريادي في زيادة عدد المساجد في مصر من أحد عشر ألف مسجد قبل الثورة إلى واحد وعشرين ألف مسجد عام 1970، أي أنه في فترة حكمه تم بناء (10000) مسجداً، بما يعادل عدد المساجد التي بنيت في مصر منذ الفتح الإسلامي وحتى عهد عبد الناصر. وفي زمنه جعل مادة التربية الدينية مادة إجبارية يتوقف عليها النجاح أو الرسوب كباقي المواد لأول مرة في تاريخ مصر بينما كانت اختيارية في النظام الملكي، وفى زمنه تم تطوير الأزهر الشريف وتحويله لجامعة عصرية تدرس فيها العلوم الطبيعية بجانب العلوم الدينية، وأنشأ مدينة البعوث الإسلامية على مساحة ثلاثين فداناً. تضم طلاباً قادمين منسبعين دولة إسلامية. يتعلمون في الأزهر مجانا، ويقيمون في مصر إقامة كاملة مجانا أيضاً، وقد زودت الدولة المصرية بأوامر من الرئيس عبد الناصر المدينة بكل الإمكانيات الحديثة، وقفز عدد الطلاب المسلمين في الأزهر منخارج مصر إلى عشرات الأضعاف. وذلك بسبب اهتمامه بالأزهر الذي قام بتطويره، وتحويله إلى جامعة حديثة عملاقة تدرس فيها العلوم الطبيعية مع العلوم الدينية.
لقد أنشأ عبد الناصر منظمة المؤتمر الإسلامي التي جمعت كل الشعوب الإسلامية، وترجم القرآن الكريم إلى كل لغات العالم، وفتح إذاعة القرآن الكريم التي تذيع القرآن على مدار اليوم . وأمر بتسجيل القرآن كاملا على أسطوانات وشرائط للمرةالأولى في التاريخ وتم توزيع القرآن مسجلا في كل أنحاء العالم .وفي عهد عبد الناصرتم وضعموسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي، والتي ضمت كل علوم وفقه الدين الحنيف في عشرات المجلدات وتم توزيعها في العالم كله. وفي عهده تم بناء آلاف المعاهد الأزهرية والدينية في مصر، وتم افتتاح فروع لجامعة الأزهر في العديد من الدول الإسلامية .لقد كان هذا الرجل أكثر الحكام العرب حرصاً على الإسلام وحافظ على نشر روح الدين الحنيف في العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، وعلى اختلاف ألوانهم وسحناتهم.
لم يكن طائفياً بالطريقة التي يتبجح بها اليوم أصحاب الضمائر المعطوبة من الذين تلوثت عقولهم بالأفكار الطائفية المريضة، ولم يكن عنصريا ولا مذهبيا، ولا متحيزا إلى فئة دينية بعينها. كان عربياً نقياً يعتز بعروبته وبقوميته.