عفوية تراثنا الشفاهي في كتاب


كاظم فنجان الحمامي

اشعر بمتعة كبيرة وأنا أتصفح آخر إبداعات الكاتب والشاعر (علي أبو عراق)، وأقف مشدوهاً منبهراً أمام مشاريعه التراثية المتواصلة في الإمساك بخيوط النصوص الشفاهية البسيطة، بكل ما تحمله من لمسات عراقية خالصة، وبكل ألوان ثقافاتنا الشعبية الجنوبية ونكهاتها النادرة.
في كتابه الجديد (شفاهيات - مرويات عراقية جرت على الشفاه) الصادر هذا العام في دمشق عن دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع. يغوص الكاتب في بحار نصوصنا ومروياتنا الفطرية البدائية باعتبارها أكثر نفاذا للوجدان، وأكثر رسوخا في الذاكرة من خلال قدراتها الجمالية الساحرة المتمردة على المعايير اللغوية والقوالب الأدبية القياسية، ومن خلال براءتها في التعبير عن مشاعر أبناء الجنوب، وأحاسيسهم السومرية بالحياة بصورتها الشاملة، وأحاسيسهم العفوية بالقيم الجمالية والأخلاقية بصورتها الجنوبية الخالصة.
يحمل الكتاب رسالة أدبية جادة تدعو لإدامة الصلة بتراثنا الشفاهي بأغانيه وحكاياته وترنيماته وأهازيجه، وتدعو للحفاظ على تراثنا من النسيان والاندثار، ويرى أن تلك المرويات القديمة، المعروفة بعذوبتها وسلاستها، أكثر قرباً لنا من تلك النصوص الروائية الحديثة الجافة، فهي - وفي كل الأحوال والمناسبات - تحمل كميات هائلة من شحنات الوجدان والعاطفة والجمال والقيم النبيلة.
ربما يرى بعض الأدباء أن النصوص التراثية والمرويات الشعبية المتميزة بعفويتها وتلقائيتها لا ترقى إلى المستويات الأدبية الرفيعة، على الرغم من علاقتها الحميمة بعامة الناس، وعلى الرغم من قربها من قلوبهم، وملامستها لمشاعرهم. لكن التحولات التاريخية المرتبطة بحياة الشعوب والأمم أثبتت بما لا يقبل الشك والتأويل، أن تلك المرويات هي العلامة الإنسانية الفارقة في هوية الناس قديماً وحديثاً ومستقبلاً، وعلى اختلاف أصولهم ولهجاتهم. فالحكايات التي ترويها الجدات حول مواقد الشتاء تمثل أرقى درجات أدب الشعوب. الأمر الذي يؤهلها لانتزاع الاعتراف على شفاه الصغار والكبار، ويرشحها للتفوق على أكداس الكتب والمؤلفات المتراكمة في المكتبات، والتي ظلت محدودة التداول بين شريحة النخبة الأدبية المتفاخرة بإيقاعاتها السلحفاتية الرتيبة. ليس هذا هجوماً على القواعد الأكاديمية، ولا تمرداً على قوالبها الأدبية الصارمة، وإنما حق مشروع من حقوق الشعوب والأمم في التباهي بتراثها، والتغني بترنيماتها وأمثالها الشعبية الحميمة.
قدم لنا الأستاذ (أبو عراق) في مرحلة سابقة مجموعة من كتبه ومؤلفاته، التي حملت أسماء (مقامات الماء)، ثم (مقامات النخيل)، وكانت تضم باقة مختارة من المرويات والشفاهيات، ثم خرج علينا بجرأته المعهودة ليعلن عن رغبته في تدوين باقة أخرى منها في كتاب نادر يحمل اسم (الشفاهيات) كعنوان صريح يذود فيه بالدفاع عن هويتنا الوطنية، وخصوصيتها المشبعة بالنكهات الجنوبية (السومرية) الجميلة.
يشتمل الكتاب على (27) حكاية شفاهية، ويتألف من (202) صفحة من القطع الصغير، والغلاف من تصميم الفنان العراقي المغترب (كاظم شمهود)، وقد تم إيداعه في دار الكتب والوثائق ببغداد برقم (54) لسنة 2015. وهو معروض الآن بحلته الأنيقة في مكتبات البصرة.