مؤتمر باندونج عام 1955 وأثره على مكانة إسرائيل في آسيا
كتب/ عمرو زكريا

انتهت في مدينة باندونج الاندونيسية، مراسم الاحتفال بإحياء الذكرى الستين لمؤتمر القمة الأفروآسيوية، بباندونج. ويعتبر مؤتمر باندونج الذي عقد لأول مرة عام ,1955, نقطة تحول كبيرة بالنسبة لمكانة إسرائيل في آسيا.

بدأ تكتل الدول الأفروآسيوية في عام 1950 -بعد سنوات قليلة من تأسيس الأمم المتحدة-؛ حيث بدأ مندوبو 12 دولة من إجمالي 20 دولة –آسيوية وأفريقية عضو في الأمم المتحدة- في إجراء مقابلات جماعية بصفة مستمرة. وفي عام 1953 انضم إلى هذه المجموعة دولتان أفريقيتان، هما: ليبريا وأثيوبيا. أرادت إسرائيل الانضمام إلى لقاءات هذه المجموعة، لكن الدول العربية عارضت ذلك. وفي عام 1956 ضمت المجموعة 28 دولة؛ حيث أصبحت أكبر تكتل إقليمي في الأمم المتحدة.

في عام 1953, بادرت إندونيسيا بالدعوة إلى عقد مؤتمر لشعوب آسيا وأفريقيا؛ حيث أراد الرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو استضافة هذا المؤتمر لعدة أسباب: أيديولوجية؛ واقتصادية؛ وسياسية؛ والتطلع إلى إقامة "تكتل ثالث" حيادي. بذل رئيس الحكومة الإندونيسي علي ساستروميدجوج (Ali Sastroamidjojo) جهدًا كبيرًا من أجل إقناع رئيس الحكومة الهندية جواهرلال نهرو ليوافق على عقد هذا المؤتمر الأفروآسيوي. تقرر عقد مؤتمر تمهيدي لرؤساء حكومات "دول كولومبو" (الهند، وإندونيسيا، وباكستان، وبورما، وسيلان) لمناقشة أهداف المؤتمر، وجدول أعماله، وقائمة الدول التي سيتم توجيه الدعوة إليها. أما رؤساء الحكومات الثلاثة الآخرين فكانوا: رئيس حكومة بورما أو نو (U Nu)، ورئيس حكومة سيلان سير جون كوتيلاوالا (John Kotelawala)، ورئيس حكومة باكستان محمد علي (Mohammad Ali).

التقى رؤساء الحكومات الخمس في كولومبو -عاصمة سيلان- في 28 من أبريل حتى 2 من مايو عام 1954، من أجل الإعداد للمؤتمر الكبير. نشر رؤساء الحكومات الخمس -بعد اللقاء في كولومبو- بيانًا مشتركًا. ولقد تطرق البندان 10 و11 من البيان إلى الشرق الأوسط، بالقول: بدراسة الوضع في الشرق الأوسط؛ أعرب رؤساء الحكومات عن قلقهم الحقيقي بشأن معاناة اللاجئين الفلسطينيين. وحثُّوا الأمم المتحدة على العمل من أجل حل هذه المشكلة والتعجيل من توطين هؤلاء اللاجئين في بيوتهم الأصلية". كما أعرب رؤساء الحكومات عن تأييدهم العميق للفلسطينيين في معاناتهم، وأكدوا على تطلعهم لرؤية حل سريع لهذه المشكلة".

طالب أو نو، في المناقشات السابقة حول قائمة البلدان التي سيتم دعوتها إلى المؤتمر- بتوجيه الدعوة إلى إسرائيل ، بل هدد أنه في حال عدم توجيه الدعوة لإسرائيل فإن بورما (ميانمار) لن تشارك هي أيضًا. كما طلب من نهرو المساعدة في هذا الأمر وألاَّ يترك بورما وحيدة في علاقاتها مع إسرائيل. وافق نهرو على توجيه الدعوة لإسرائيل, فقط في حال موافقة الدول العربية.

جرى اللقاء التمهيدي الثاني بين رؤساء الحكومات في 28 من ديسمبر عام 1954، في بوجور (Bogor) القريبة من جاكرتا. وتقرر أن يُعقد المؤتمر في مدينة باندونج الإندونيسية في أبريل عام 1955. وفي 29 من ديسمبر نُشِـر بيان مشترك تم فيه تحديد أهداف المؤتمر، ونشرت رسميًا قائمة الدول الآسيوية والأفريقية التي تمت دعوتها للمشاركة فيه. ولقد ضمت قائمة الدول المدعوة 29 دولة. ولم يتم دعوة كل من: كوريا الجنوبية والشمالية، وجنوب أفريقيا، وأستراليا، ونيوزلندا، وجمهورية منغوليا الشعبية، وكذلك الصين القومية (تايوان)، وإسرائيل. وكان عدم توجيه الدعوة إلى إسرائيل نتيجة دعوة الدول العربية، وكتعويض لرئيس حكومة باكستان محمد علي، الذي وافق على الحضور في مقابل أن تُضم الصين الشعبية إلى قائمة الدول المدعوة.

بدأ دافيد هاكوهين، ممثل إسرائيل في رانجون (عاصمة بورما)، بالعمل على توجيه الدعوة لإسرائيل لحضور المؤتمر في مراحل الإعداد الأولى للمؤتمر في كولومبو. التقى كوهين مع أو نو في 24 من أبريل عام 1954 -عشية توجهه إلى كولومبو- وأجرى حوارًا معه حول وضع إسرائيل. وقال كوهين إنه يدرك أنه من غير المريح لبورما أن تكون الدولة الوحيدة التي لها علاقات مع إسرائيل في هذا المؤتمر، وطلب منه التأثير على نهرو.

سببت بنود القرار الذي اتخذ في مؤتمر كولومبو وناقشت قضية اللاجئين الفلسطينيين؛ خيبة أمل كبيرة لـدافيد هاكوهين. وكان رئيس حكومة باكستان محمد علي قد طرح القضية العربية للمناقشة، وعرض صيغة قرار يستنكر العدوان الإسرائيلي وقسوته، وأعرب عن تأييده للقضايا العادلة للعرب ووعد بتقديم المعونة لهم لمنع النوايا العدوانية الإسرائيلية. ورد أو نو بأنه لن يستطيع تأييد مشروع قرار يتهم إسرائيل ويسيء إليها. أيد نهرو أقوال أو نو وكذلك رئيس حكومة سيلان، كوتلاوالا. أراد أو نو التأكيد على ألَّا يرد اسم إسرائيل نهائيًا في القرار، وأن يُوجه كل ما يقال عن الفلسطينيين إلى اللاجئين فقط.

نشرت وزارة الخارجية الإسرائيلية في 11 من مايو عام 1954 بيانًا، أعربت فيه عن نوع من الرضا عن نتائج مؤتمر كولومبو. ذلك لرفض رؤساء حكومتي الهند وبورما مطالب رئيس حكومة باكستان الإدانة الشديدة لإسرائيل، والتي لم يؤيدها رئيسا حكومتي إندونيسيا وسيلان.

بعد تشاور رؤساء الحكومات الخمس للهند، وباكستان، وبورما، وسيلان، وإندونيسيا، الذي جرى في بوجور، تقرر عدم دعوة إسرائيل لمؤتمر الشعوب الأفروآسيوية؛ ذلك لأن العرب أنذروا بأن كل الدول الإسلامية -وعددها 13 (من بينها 9 دول عربية)- سوف تقاطع المؤتمر لو شاركت إسرائيل فيه. أصرَّ أو نو على موقفه في البداية بأنه يجب دعوة إسرائيل، وأيده نهرو في ذلك. غير أن رئيسي حكومتي إندونيسيا وباكستان عارضا بشدة خشية المقاطعة العربية الأكيدة. أما رئيس حكومة سيلان فقد كان محايدًا. وكان نهرو هو الذي رجح الكفة في النهاية ضد إسرائيل؛ حيث انـحاز ضد عدم تقديم الدعوة لإسرائيل. لم يرغب أو نو تحمل مسئولية عدم انعقاد المؤتمر بسبب إسرائيل؛ فوافق على التراجع عن موقفه حول دعوة إسرائيل، بشرط ألا تُطرح مشكلة إسرائيل بأي شكل في مناقشات المؤتمر. أصبح هذا الاستسلام للتهديد بالمقاطعة من جانب العرب سابقة في المؤتمرات الأفروآسيوية التالية؛ حيث لم تتم دعوة إسرائيل منذ ذلك الوقت لأي مؤتمر للدول الأفروآسيوية أو مؤتمرات دول عدم الانـحياز.

بعد أسبوعين وفي 16 من يناير، سمع هاكوهين من أو نو بنفسه حول ما يدور. ووفقًا لروايات أو نو فإن نهرو لم يكن أقل حماسة منه وطالب بإشراك إسرائيل في المؤتمر. ولقد قاما بتوزيع المهام فيما بينهما. تحدث نهرو على انفراد مع رئيس حكومة إندونيسيا، وتحدث أو نو مع رئيس حكومة باكستان، لكنهما تلقيا نفس الردود السلبية. لقد زعم الباكستاني والإندونيسي أن "موافقتنا على دعوة إسرائيل مثلها مثل الانهيار الأكيد لحكومتي إندونيسيا وباكستان". فلو تمت دعوة إسرائيل فإنه سيتم إبعاد رئيسي الحكومتين عن منصبيهما وبذلك يكون هناك شك في إمكانية عقد المؤتمر.

تجاهلت وزارة الخارجية في القدس -على مدى أسابيع طويلة- مقترحات دافيد هاكوهين في رانجون؛ بأن يكتب رئيس الحكومة شاريت إلى أو نو وإلى كوتيلاولا وأن يُحمّلهم المسئولية الأخلاقية وضرورة منع النقاشات عن إسرائيل في المؤتمر المرتقب، ورفْض أي قرار عدائي ضدها إذا لم ينجحوا في منع العرب من مهاجمتها.

الأمر الوحيد الذي سُمع في ذلك الوقت هو بيان موشِه شاريت في الكنيست، في 16 من مارس عام 1955، في رد على استجوابين؛ حيث ذكر أن الحكومة الإسرائيلية تعتبر عدم دعوة إسرائيل "قرارًا خاسرًا". وكان هناك شعور بأن أي عمل دبلوماسي لن يساعد على تغيير موقف باكستان وإندونيسيا العدائي، وإن الدول غير الإسلامية -الهند، وبورما، وسيلان- لم تكن لتقبل أن يفشل المؤتمر بسبب عدم دعوة إسرائيل.

قررت وزارة الخارجية الإسرائيلية -في بداية شهر أبريل، قبل أيام فقط من انعقاد مؤتمر باندونج، اتخاذ بعض الإجراءات لدى الدول التي تمت دعوتها إلى المؤتمر؛ بهدف إثنائها عن تقديم يد العون للمحاولات العربية المحتملة بطرح بند يخص إسرائيل على جدول أعمال المؤتمر. ولقد قامت ممثليات إسرائيل في الدول الآسيوية والأفريقية -التي تمت دعوتها لباندونج والتي كان لإسرائيل علاقات معها؛ وكذلك لدى بعض العواصم الأخرى- بإرسال مذكرات تطلب فيها الامتناع عن مناقشة القضية الفلسطينية طالما لم تتم دعوة إسرائيل للمشاركة في المؤتمر. ولقد أعلن الوفد الفلبيني المشارك في المؤتمر أنه سوف يطلب الامتناع عن إصدار أي قرار معادٍ لإسرائيل في المؤتمر.

في 24 من مارس عام 1955 تمت دعوة دافيد هاكوهين إلى منزل أو نو الذي أكد على وعده بأنه لن ينساق بأي شكل وراء قرارات معادية لإسرائيل، حتى لو "بقي وحيدًا في المعركة". وهو لم يعرف ماذا سيكون موقف نهرو، لكنه نوى استيضاح ذلك عند زيارته لنيودلهي، التي من المرتقب أن يقوم بها بعد حواره مع هاكوهين.

أبدى دافيد هاكوهين تشككًا حول سلوك نهرو المرتقب. وفي طريقه إلى مؤتمر باندونج مر الرئيس جمال عبد الناصر على كراتشي، ليحصل هناك على تأييد رئيس حكومة باكستان محمد علي حول مشروع قرار مصري سيتم طرحه في المؤتمر يدين "الإمبريالية الإسرائيلية"، وواصل من هناك إلى نيودلهي. كان على نهرو في البداية أن يحاول استمالة عبد الناصر كي يحضر المؤتمر. وفي نهاية فبراير عام 1955 سافر إلى القاهرة لمدة يومين لهذا الغرض. كان قرار عبد الناصر بالمشاركة في مؤتمر باندونج نقطة تحول كبيرة في حياته. وتحفظ نهرو في حديثهما من موقف عبد الناصر الذي طالب فيه بطرح "قضية الإمبريالية الإسرائيلية" في المؤتمر، كما طلب منه أن يُثني بقية الدول العربية عن طرح قضية فلسطين في المؤتمر. بل اقترح على عبد الناصر أن يتوسط شخصيًا بين مصر وإسرائيل. في النهاية خضع نهرو لطلب عبد الناصر. كان هاكوهين مقتنعًا منذ البداية أن نهرو لن يفي بتعهداته بعدم طرح موضوع إسرائيل في المؤتمر. فقد كان واثقًا أن نهرو سوف يخضع للضغوط التي سيمارسها عليه عبد الناصر ذلك لتطلعه إلى كسب ود العرب، وأن يشكل معهم جبهة موحدة في قضايا أخرى.

أعد مندوبو الدول العربية لمؤتمر باندونج جيدًا ؛ فقد عقد عبد الخالق حسونة -الأمين العام للجامعة العربية- مؤتمرًا للدبلوماسيين العرب في كراتشي، في 11 من أبريل، ؛ ليحددوا موقفًا موحدًا بالنسبة لقضية فلسطين (الإمبريالية الإسرائيلية) ومشكلة شمال أفريقيا، في مؤتمر باندونج المنتظر افتتاحه بعد حوالي أسبوع. كما بكَّر وزراء الخارجية العرب في الحضور إلى جاكرتا من أجل التنسيق فيما بينهم، والضغط على المشاركين في المؤتمر من أجل طرح القضية الفلسطينية على جدول أعمال المؤتمر.

افتتح رئيس إندونيسيا أحمد سوكارنو ورئيس حكومتها علي ساسطرواميد جوجو -الذي شغل كذلك منصب رئيس المؤتمر- مؤتمر باندونج في 18 من أبريل الذي استمر حتى 24 من نفس الشهر. شارك في المؤتمر 29 دولة، منها 14 دولة إسلامية. كما حضره مفتي القدس الحاج أمين الحسيني كعضو في وفد اليمن، أما أحمد الشقيري -الذي أصبح فيما بعد أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية- فقد شارك كعضو في الوفد السوري. قسّم المؤتمر نفسه إلى ثلاث لجان: سياسية، واقتصادية، وثقافية. ولقد اشتمل جدول أعمال المؤتمر البنود التالية: التعاون الاقتصادي، والتعاون الثقافي، وتقرير المصير، وحقوق الإنسان، ومشاكل الشعوب المستعبدة، والتعاون والسلام العالمي.

بدأ الهجوم العربي على إسرائيل في خطابات الجلسة الافتتاحية، وعلى رأسها خطاب الرئيس جمال عبد الناصر. كما حاول رئيس حكومة باكستان وضع قضية فلسطين كبند منفصل في جدول الأعمال، لكنه وافق في النهاية على ضمه في بند "تقرير المصير وحقوق الإنسان". لم تكن باكستان ولا الصين أقل من العرب في جهودهما لإدانة إسرائيل حول فلسطين. وكان موقف بورما الودود تجاه إسرائيل محل انتقاد عربي شديد. واقترح نهرو -بضغط من العرب- تشكيل اللجنة السياسية، لجنة فرعية لصياغة مقترح بشأن فلسطين في إطار بند "حقوق الإنسان". وكان أعضاء اللجنة الفرعية هم: أفغانستان وبورما، والصين، وباكستان، وإيران، والفلبين، وسوريا، وتايلاند. كما أعرب نهرو في خطابه عن تأييده التام للاجئين العرب، لكنه أشار أيضًا إلى معاناة اليهود أيام الحكم النازي. وذكر أن الهند ساندت الدول العربية أثناء النقاش الذي دار في الأمم المتحدة حول فلسطين. ودعا إلى تسوية الصراع بين العرب وإسرائيل عبر المفاوضات المباشرة ومباحثات السلام، وربما حتى عبر الوساطة.

كما أظهر رئيس حكومة الصين جو أن-لاي موقفًا مؤيدًا للعرب، وأعلن عن تأييده لمشروع القانون الذي تقدمت به أفغانستان، الذي دعا إلى تنفيذ قرار الأمم المتحدة الصادر في شهر ديسمبر عام 1948، والذي يقضي بضرورة السماح للاجئين بالعودة إلى منازلهم في أقرب وقت ممكن. كما أعلن عن مساندته التامة للاجئين العرب،

دعا رئيس حكومة بورما أو نو الدول العربية إلى عدم محاولة فرض إصدار القرار على مؤتمر باندونج. وأعرب عن كامل تأييده للاجئين العرب. لكنه تساءل كيف سينجح مؤتمر شعوب آسيا وأفريقيا في حل مشكلة فلسطين إن كانت الأمم المتحدة قد فشلت في ذلك. ويرى أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا كانوا قادرين على حل مشكلة اللاجئين، لكنهم امتنعوا عن القيام بذلك. وأكد أو نو في خطابه على العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الوطيدة بين بورما وإسرائيل، وعاد وأعرب عن معارضته مناقشة قضية فلسطين في المؤتمر نظرًا لأن إسرائيل غير ممثلة فيه.

لم تؤت جهود أو نو من أجل إسرائيل ثمارها، ففي 21 أبريل صدرت توصية في اللجنة السياسية -صدق عليها المؤتمر كقرار بعد ذلك بثلاثة أيام- في الجلسة الختامية للمؤتمر. ولقد حدد القرار:

"في ظل التوتر القائم في الشرق الأوسط على خلفية الوضع في فلسطين، وفي ظل الخطر المرتقب من هذا التوتر على السلام العالمي- أعلن المؤتمر الآسيوي-الأفريقي مساندته لحقوق الفلسطينيين، ودعا إلى تنفيذ قرار الأمم المتحدة حول فلسطين، وتسوية مشكلة فلسطين بالطرق السلمية."

وتم إقحام العبارة الأخيرة – "تسوية مشكلة فلسطين بالطرق السلمية" – بضغط من نهرو وأو نو اللذان لم يرغبا في إصدار هذا القرار منذ البداية ووافقا عليه في النهاية، خاصة أو نو- بعد تردد طويل. زعم أو نو بعدها أنه كان توافقًا ضروريًا للحفاظ على الوحدة الآسيوية الأفريقية، في الوقت الذي كان فيه مشروع القرار الذي تقدم به العرب ومؤيدوهم في الأساس أكثر شدة؛ حيث دعا مشروع القرار العربي -الذي أعدته مصر- إلى فرض شعوب آسيا وأفريقيا مقاطعة تامة على إسرائيل. أيَّد مندوبو إندونيسيا وأفريقيا المشروع، لكن عارضه مندوبو بورما والهند بشدة ونجحوا في التخفيف من حدته، كما لم يذكر اسم إسرائيل في القرار. ومن الصعوبات الأخرى التي واجهاها نهرو وأو نو فيما يخص هذا القرار؛ حقيقة أن قرار عودة اللاجئين كان قد صدر في حينه بواسطة رؤساء حكومات دول كولومبو الخمسة، وذلك في المؤتمر التحضيري في كولومبو. ولقد وافقوا عليه جميعًا في حينه، ولم يستطعا نهرو وأو نو الاعتراض عليه لأنهما قد وقعا عليه بأيديهما.

في 23 أبريل التقى جو أن-لاي بالمفتي الحاج أمين الحسيني وقال له إن الصين تؤيد كل التطلعات العربية، خاصة فيما يخص قضية فلسطين. وقال في خطابه في الجلسة الختامية للمؤتمر إن الشعب الصيني يُكِنُّ تأييدًا كبيرًا للفلسطينيين وكذلك لشعبي الجزائر وتونس، في نضالهما من أجل الاستقلال، كما يُساند نضالهما من أجل "حقوق الإنسان", وتحفظ فقط من الاعتماد على قرار الأمم المتحدة. كما جرت في المؤتمر اتصالات بين مصر والصين، كان لها أثر كبير على العلاقات الإسرائيلية الصينية، في السنوات التالية.

أما الوفود الأفريقية ووفود بلدان آسيا الأخرى -اليابان، والفلبين وتايلاند، وسيلان- فلم تشارك تقريبًا في الجدل حول فلسطين. وكانت الفلبين قد وعدت إسرائيل بالفعل إنها ستساند موقفها بعدم إجراء أي نقاش في المؤتمر بدون مشاركة إسرائيل، لكنها لم تتصرف في هذا الخصوص. وأعرب نائب رئيس الوفد الياباني في المؤتمر عن أسفه الشديد للقرار الذي صدر حول فلسطين، وزعم أن وفده لم يستطع فعل شيء؛ لأن العرب أصرُّوا بقوة على مطالبهم.

كان رد فعل وزارة الخارجية الإسرائيلية على قرارات مؤتمر باندونج بخصوص فلسطين قاسيًا؛ فقد وصفه شاريت بـ"الانهيار". وتقرر بعد مشاورات أن يرسل رئيس الحكومة ووزير الخارجية موشِه شاريت برقية إلى رئيس المؤتمر. لم يتم صياغة البرقية على أنها احتجاج صريح، بل استنكار لعدم النزاهة التي ظهرت في المؤتمر، كُتب فيها:

"أنا مضطر للتعبير عن دهشة حكومة إسرائيل وأسفها الشديدين من المؤتمر الأفروآسيوي، الذي -على الرغم من مبادئه العامة والمساواة الدولية التامة- قد أوصد أبوابه صراحة أمام إسرائيل، واعتبر أنه من المنطقي والمفيد -في ظل غياب إسرائيل- مناقشة واتخاذ قرارات حول قضايا ذات أهمية كبيرة بالنسبة لمستقبل إسرائيل وعلاقاتها مع دول الجوار. سأكون ممتناً لو أنك عرضت صيغة هذه البرقية على المؤتمر."

كما شعر شاريت بالخزي والضرر الشديدين بسبب نتائج مؤتمر باندونج، وبحث عن وسيلة مناسبة للرد. ولقد رفض مقترحًا طُرح في وزارة الخارجية بكتابة رسالة إلى نهرو، لكنه وافق على إرسال رسالة إلى أو نو عَبْر دافيد هاكوهين.

جسد مؤتمر باندونج عملية يقظة شعور آسيا وأفريقيا وانضمامهم إلى معتركات نشاط الحياة الدولية. ولقد سُمح بهذه العملية فقط مع انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية -بعد الحرب العالمية الثانية- والتوجه التدريجي لشعوب آسيا وأفريقيا نـحو الاستقلال. فقد تطلع ممثلو هذه الشعوب الذين اجتمعوا في باندونج إلى التخلص من ورطة الصراع الذي دار بين الدول الغربية برئاسة الولايات المتحدة من جانب، وبين العالم الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفيتي والصين -قبل الانفصال بينهما- من جانب آخر. وتطلع كل من نهرو وسوكارنو وآخرون إلى بناء تكتل دولي مستقل محايد، عُرف فيما بعد بـ"العالم الثالث".

حاول منظمو مؤتمر باندونج تقييد مناقشات المؤتمر بالقضايا العامة التي يستطيع الجميع من خلالها اتخاذ موقفًا موحدًا. لذلك حددوا أيضًا أن على كل القرارات أن تُتخذ بالإجماع فقط. وكان في مقدور المشاركين في المؤتمر العثور على صيغ متفق عليها لختام نقاشاتهم للقضايا الأساسية. ولقد صيغت هذه المبادئ الأساسية في حوالي "عشرة مبادئ من أجل تحقيق السلام العالمي"، وهي التي صدرت بالإجماع في إحدى الجلسات الختامية للمؤتمر، والتي شكلت توافقًا بين الدول المؤيدة للغرب وبين الصين الشعبية. والنقاط العشرة هي:

احترام حقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة.
احترام السيادة والحدود الإقليمية لكل أمة وأمة.
الاعتراف بالمساواة بين كل الأعراق والقوميات.
عدم التدخل في شؤون أي دولة.
حق كل دولة في الدفاع عن نفسها، بمفردها أو بشكل جماعي، بما يوفق ميثاق الأمم المتحدة.
الامتناع عن المشاركة في أي حلف دفاعي -مرتبط بتكتل دولي- والامتناع عن ممارسة ضغط على الدول الأخرى.
الامتناع عن وسائل التهديد والعدوان أو استخدام القوة ضد أي دولة.
تسوية كل الصراعات الدولية بالوسائل السلمية.
التعاون الاقتصادي والثقافي.
احترام التزامات العدل الدولي.


تطلع رئيس حكومة الهند إلى الامتناع عن مناقشة المسائل السياسية المثيرة للخلاف لدى دولة أو أخرى. وكان لـ أو نو نفس الرأي؛ لكنهما لم يستطعا ذلك وصدرت قرارات حول موضوعات ترتبط بدول لم تشارك في المؤتمر، مثل: تأييد حق شعوب الجزائر وتونس والمغرب في تقرير المصير والتحرر من الحكم الفرنسي. وتأييد مطالب إندونيسيا بضم غرب غينيا الجديدة (إيريان جايا – من الجزر الإندونيسية)، التي كانت لا تزال تحت السيطرة الهولندية. والاحتجاج على التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا. وتأييد موقف اليمن في مسألة عدن ومناطق أخرى وغيرها تحت الحماية البريطانية. وقبل كل ذلك قضية فلسطين. والأمر الذي له أهمية حقيقية في كل هذا الأمر هو انعقاد المؤتمر نفسه. فقد تأسست فيه حركة دول عدم الانـحياز التي أصبحت ذات أهمية كبيرة في الحياة الدولية حتى انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات.

ومن ناحية إسرائيل، من المهم التأكيد على أن العرب تمتعوا في مؤتمر باندونج بمكانة قوية على وجه الخصوص وبالأولوية العددية. وهناك شك في إن كان في حضور الوفد الإسرائيلي للمؤتمر -حتى لو تمت دعوتها- ما سيغير هذه الحقيقة الأولية. ويظهر ذلك في تاريخ مكانة إسرائيل في الأمم المتحدة, وفي كل المنظمات الدولية الأخرى بشكل مستمر.

وكانت الدول العربية منقسمة فيما بينها في العديد من القضايا التي تمت مناقشتها في المؤتمر، لكن ليس حول قضية فلسطين التي منـحتهم الفرصة في أن يظهروا كجبهة موحدة، استمتعت بالتأييد التلقائي للدول الإسلامية الأخرى. فقد حقق العرب في مؤتمر باندونج نصرًا سهلًا؛ لأن نهرو وجو أن لاي والزعماء الآسيويين الآخرين احتاجوا إلى مساندة العرب في قضايا مختلفة أخرى. ومنذ ذلك الوقت أصبح العرب هم العنصر المسيطر في تكتل الدول الأفروآسيوية في الأمم المتحدة وعلى الساحات الأخرى، وأصبح عبد الناصر إحدى الشخصيات المركزية في هذا التكتل.

منـح مؤتمر باندونج الدول العربية ميزتين مهمتين عن إسرائيل. الأولى: كان صفعة لمكانة إسرائيل في آسيا أدت إلى تأخير عملية إقامة علاقات بينها وبين دول آسيا لعشرات السنين. الثانية: أقامت مصر ودول عربية أخرى، خلال عام من المؤتمر، علاقات دبلوماسية مع كل من إندونيسيا، وبورما، والهند، واليابان، والأهم مع الصين الشعبية.

لقد كان مؤتمر باندونج الخط الفاصل أو الضربة القاسمة بين إسرائيل ودول العالم الثالث. ولقد اعتبره موشِه شاريت "مظاهرة جديدة لعزل إسرائيل وتكوين جبهة طويلة ضدنا تضم معظم الجنس البشري". وذكر أن جهود أو نو أو لم تساعد في المؤتمر. ولقد خشي "من تزايد مشاعر عزلة إسرائيل وتنكر العالم كله لها".

نجح شاريت في أعقاب الإحساس بالسقوط في باندونج في الحصول على موافقة الحكومة على إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، بحجة أن إقامة مثل هذه العلاقات سيكون "تعويضًا عن أضرار مؤتمر باندونج" .

في النهاية، لم يمس مؤتمر باندونج، مع مرور الوقت، العلاقات الثنائية التي كانت قائمة بين إسرائيل وبين بعض الدول الآسيوية، وبإقامة علاقات مع دول أخرى؛ لكنه وضع مبدأ أن إسرائيل غير مقبولة في أي منتدى للعالم الثالث ودول عدم الانـحياز.

من هنا يعتبر مؤتمر باندونج نقطة فارقة في تاريخ الدبلوماسية الإسرائيلية حيث زاد من عزلة إسرائيل دبلوماسيًا, وكان له كبير الأثر في تشكيل سياسة إسرائيل الخارجية للسنوات التالية له.

https://www.ehtelalnews.com/%D9%85%D...5%D8%B3%D8%B1/