من كُتَّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد
محطات على مسيرتى الروحية
د. إبراهيم عوض


وُلِدْتُ عام 1948م فى اليوم السادس من الشهر الأول، ودخلتُ مبكرا الكُتَّاب وجمعية المحافظة على القرآن الكريم بقريتنا كتامة الغابة التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية. وفى البداية كنا نستعمل لوح الإردواز الأسود نكتب عليه الألفباء والكلمات الأولية بقطعة طباشير. وبعد أن نكبر قليلا نغادر اللوح الإردوازى إلى الدفتر وقلم الرصاص. أما حفظ القرآن فكان يتم سماعا، إذ كنا نظل نردد وراء المعلم ما ينطقه أمامنا من السور القصيرة جدا حتى نحفظها، ثم فى مرحلة لاحقة، حين تعلمنا القراءة والكتابة، كنا نستعمل اللوح الخشبى المدهون بالطلاء الزيتى الأبيض دون أن يفسره لنا أحد. وكنا نكتب على اللوح بالريشة التى نغمسها فى دواة الحبر الأسود ذات اللِّيقَة. وكلما حفظنا شيئا مسحناه بالماء وقطعة قماش، ثم كتبنا عليه لوحا جديدا. أما ما نكون قد حفظناه من قبل فنقرؤه فى المصحف ذاته. وأذكر أننى، حين كنت أتعلم الألفباء بالجمعية المذكورة، كنت أجد عسرا شديد فى رسم الحروف، وبالذات حرف "اللام ألف: لا"، فكنت أجتهد فى رسم صورة جوزة المعسّل على هيئة كرة مرشوقا قصبة فى كل من جانبيها. وبهذه الطريقة أنجح فى كتابة "اللام ألف" فأشعر بالرضا والحبور لهذا الإنجاز الخارق.
والطريف أن خطى صار جميلا إلى حد معقول فيما بعد حينما تعلمت الكتابة، تأثرا أغلب الظن بخط والدى رحمه الله. ولو كنت دخلت مدرسة تحسين الخطوط لكنت من الموفقين ولأصبحت الآن من الخطاطين المعروفين. أو هذا ما أتصوره على الأقل، وكل إنسان يظن نفسه موهوبا عبقريا، ولست فى تلك الحماقة بالذى يشذ عما تسوله الطبيعة البشرية لأصحابها. بل لقد انضممت إلى الدارسين بتلك المدرسة بشارع الألفى بطنطا فى أواخر عام 1959م وأنا ولد صغير بالسنة الأولى بالمعهد الابتدائى الأزهرى قبل أن تتغير تسميته إلى "المعهد الإعدادى" عندما انتقلت إلى الفرقة الثالثة، وكنت أتردد عليها ليلا مع الطلاب الكبار، ولكن بطريقة غير رسمية بفضل الشيخ عيد عطا صاحب الفضل العظيم فى تحميس جدتى وخالى لإرسالى إلى طنطا للتعلم كما سيأتى بيانه، رحمهم الله جميعا رحمة لا تغادر شيئا لهم إلا محته محوا وصيّرته حسنات.
ولو كان لى أن أعتمد على ذاكرتى فى موضوع تحسين الخطوط لقلت إن الشيخ عيد عطا، وكان فى ذلك الوقت طالبا فى السنة الرابعة بمعهد طنطا الأحمدى، أراد أن ألتحق بالمدرسة المذكورة وأنا أنقل أول خطوة لى فى طريق التعليم فى طنطا، إذ كنت فى السنة الأولى الابتدائية الأزهرية (الإعدادية الآن) فى ذلك الوقت، إلا أن ميعاد التقديم كان قد فات، فأقنع المسؤولين، ببراعته المعهودة، أن يتركونى أحضر الحصص دون أن أكون مسجلا عندهم، وظللت أتردد على المدرسة نحو أسبوعين ثم توقفت. وما زلت أذكر ما كان يلجأ إليه المدرسون لتعليمنا قواعد الخطوط من نسخ وثلث ورقعة وفارسى وديوانى، إذ كانوا يعمتدون على عدد النقط التى يقاس بها طول الحرف أو جزؤه أو الفراغ الذى بين أجزائه... إلخ. وقد أضحكنى ذات مرة ما قاله مدرس الخط الفارسى حين أراد أن يلفتنا إلى شكل الهاء فى أول الكلمة، إذ شبهها بقط ينظر إلى الخلف. وكلما خطر هذا التشبيه على بالى انتفض المنظر كله فى خيالى كأنه ابن البارحة، والمدرس واقف أمام السبورة، وقد انتهى لِتَوِّه من كتابة الهاء، وهو ينظر إليها ويقلد شكل القط فى التفاته إلى الوراء.
وكنت قد ذهبت إلى طنطا قبل ذلك بسنتين ومكثت مع أخى أياما لا أدرى عددها فى شارع القاضى، الذى كان يقوم فيه وحوله عدد من دكاكين الخطاطين: منهم حسان، وكان شابا له دراجة يأتى بها من منطقة سيجر فى الجنوب، وأبو العلا كبير الخطاطين وأفخمهم، وفريد، الذى كان يتعامل مع الخط بطريقته الخاصة فينهى مثلا حروف الواو والراء والزاى نهاية مفلطحة على هيئة ذيل سمكة متجه إلى الأسفل، وأحمد ومظهر اللذان كانا يكتبان لوحاتهما عادة بالرقعة والفارسى وبخط غليظ، ثم خطاط آخر لا يحضرنى اسمه الآن افتخر أخى أمامه بأننى خطاط مع أننى لا كنت خطاطا ولا حاجة، بل كل ما هنالك أنه كان من الممكن تدريبى لأكون خطاطا، فرد الخطاط المخضرم متسائلا فى دعابة: خطاط أم خطاف؟ فضحكنا جميعا.
وقد تذكرت هذا الرجل حين قرأت لأول مرة رائعة نجيب محفوظ: "خان الخليلى"، وقابلت فيها المعلم نونو الخطاط. والسبب أن كلا الخطاطين كان فكها ساخرا. وبالمناسبة فقد قرأت للأستاذ حامد العويضى الخطاط، فى مقال بديع له بجريدة "القاهرة" فى أغسطس 2001م بعنوان "حسنى البابا أبوها" (أى أبو سعاد حسنى)، أنه من المحتمل جدا أن يكون أديبنا العملاق قد استوحى شخصية نونو الخطاط من شخصية الأستاذ محمد حسنى والد نجاة الصغيرة وسعاد حسنى وعز الدين حسنى، وكان أيضا خطاطا كبيرا كما هو معلوم للجميع، وفيه مشابه من نونو لا تخفى على أحد. وقد أوضح المقال بعض الأشياء التى كانت خافية عنى من حياة حسنى وشخصيته وعلاقته ببناته وأبنائه. كما قابلت فى أواسط ثمانينات القرن الماضى خطاطا دارت بينى وبينه فى طريق العودة من الإسماعيلية حيث بتنا ليلتنا فى شقة دُعِينا لحضور عرس فيها، وكانت أول وآخر مرة نبيت بها، ويملكها شاب زميل لذلك الخطاط الكهل عرفته عن طريق أخيه المحامى، الذى كنت أنوى أن أسند إليه قضية لى، فتقابلت أنا والخطاط فى الشقة المذكورة، وفى طريق الرجوع حدثنى بإكبار عن محمد حسنى وافتخر بأنه تتلمذ على يديه.
ومما لا يزال ملتصقا بالذاكرة من طفولتى الأولى رغم مضى كل هاتيك الأعوام أننى كنت لا أحب الذهاب إلى الكتاب أو جمعية المحافظة على القرآن الكريم كسائر الأطفال فى ذلك الوقت على عكس أطفال هذه الأيام الذين يتعلقون بحَضَاناتهم الجذابة، مفضلا البقاء فى المنزل بجوار والدتى، وكانت سيدة هادئة وطيبة، وكانت تدللنى كثيرا. وكنت، ككل طفل فى مثل سنى وظروفى فى ذلك الحين، لا أريد مفارقة البيت وحنان الأم. إلا أنها حملتنى ذات يوم على كتفها بعد أن ارتدت طرحتها، موهمة إياى أننا ذاهبان إلى الجمعية لنحضر السلم الخشبى الذى كان النجار المشغول فى إعداد بعض التُّخَت والمقاعد فى المدرسة يصنعه لنا هناك. والعجيب أننى كنت أبصر تحت طرحتها اللوح الإردوازى الذى نتعلم فيه الكتابة، وهو ما يعنى، لو كنت ولدا ذكيا فطنا (هذا لو كنت!)، أن النية مبيتة على تركى هناك والعودة بدونى. إلا أننى لم ألق بالا إلى ذلك مفضلا إيهام نفسى بأن الأمور لن تصل إلى هذا الحد، فنحن ذاهبان لإحضار السلم، فماذا فى ذلك من خطر يتهددنى؟ ولنفترض أننى كنت ولدا ذكيا فطنا، وهو ما لم أكنه، فهل كنت لأغامر بالقفز من فوق كتف والدتى والنزول على جذور رقبتى؟ وما إن وصلتْ أمى، طيب الله ثراها، إلى الفصل حتى أنزلتنى من فوق كتفها، بعد أن كانت تدللنى طوال الطريق لتخديرى، ووضعتنى على الأرض وقد صُوِّبَتْ عيون التلاميذ كلهم نحوى، وتركتنى ومضت وأنا أبكى. ولكن كما يقول المثل: اضحك تضحك لك الدنيا. ابك تبك وحدك. وقد بكيت فى ذلك الضحى وحدى، ولكنه بكاء أفضل مليار مرة من الضحك، الذى كان معناه البقاء فى المنزل بجوار والدتى مع استمرارى جاهلا لا أتعلم.
وكانت أمى، حسبما بقى فى خيالى من صورها وكلامها ومواقفها، سيدة طيبة هادئة كما قلت، وكانت تحكى لنا الحواديت والحكايات الفكاهية، وكانت أمية لا تقرأ ولا تكتب ككل نساء القرى تقريبا. ولا أزال أحتفظ لها بمنظر لا أدرى مدى مبلغه من الصحة والدقة يضمها هى وبعض نسوة الشارع، وقد حملن على رؤوسهن قُفَف القمح فى طريقهن إلى الترعة التى فى طرف القرية المؤدى إلى عزبة حسام الدين ليغسلنها ثم ينشرنها فى الشمس على الحصر لتجف قبل أن يذهبن بها إلى مكنة الطحين، وهن يغنين أغنية أم كلثوم: "على بلد المحبوب وَدِّينِى"، وكنت كالعادة أتبعها ممسكا بذيل جلبابها مستمتعا بوجودى معها، وهو ما ألاحظه فى حفيدىَّ الكبيرين ابْنَىْ علاء الدين: لالة وخالد، فهما دائما ما يعبران عن رغبتهما فى الذهاب إلى "ماما"، فأتذكرنى وأنا صغير مثلهما أحب أن أكون مع "أمى" دائما. بيد أن أمى قد رحلت عنا مبكرة جدا، إذ ماتت وأنا فى الخامسة أو السادسة من عمرى، ثم تبعها أبى بعد عدة سنين ولما أبلغ التاسعة، وقبلهما مات خال لى شاب ميتة مأساوية هو أيضا، فانطبعت حياتنا بحزن ثقيل أحاول بطبعى الفَكِه، دون وعى منى، أن أعادله حتى لا يؤودنى حمله. ومن الذكريات العالقة بذهنى لا تفارقه: الليلةُ التى ماتت فيها أمى، إذ أذكر أنهم أيقظونا ليلا ونقلونا إلى بيت جيراننا حيث كان أولادهم مستيقظين يلعبون معنا، وربما قدموا لنا طعاما ريفيا بسيطا بغية شغلنا عن الحزن الذى كان يملأ الأجواء آنذاك. ودائما أتصور أن ذلك كان قبيل الفجر، وأننا كنا فى ذلك الحين نعرف أن أمنا قد ماتت، ولكن دون أن نفهم أبعاد الأمر أو ندرك معناه نظرا لصغر سننا آنذاك.
ورغم اتساع ثقافتى مع الأيام وقراءاتى المتعمقة فى القرآن الكريم وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام أرانى عاجزا تماما عن تخيل الظروف التى يعيش فيها الموتى فى العالم الآخر، وبخاصة من أحبهم وأنشغل بمصيرهم كوالدتى ووالدى... أما بالنسبة لنفسى فقد كنت، وأنا طفل صغير، أفزع من الموت وأتخيلنى وقد جاء "الوحش" أو "الغول" بعد دفنى، ونَبَش قبرى واستخرج جثتى والتهمها، وضِعْتُ أنا فى جوف الغول بعد أن أكون قد تألمت آلاما فظيعة أثناء تكسيره لعظامى ونهشه للحمى. لكنى الآن أعرف أن جسدى سوف يتحلل إلى عناصره الأولية ويرجع كما كان ترابا وهواء ليدخل فى تكوين موجودات جديدة، ولا أتخيل عناصر جسدى بعد الموت إلا هائمة فى أرجاء الحقول مع الرياح والشجر والفراشات والطيور والنباتات والمياه، ولا أتصورها أبدا هائمة فى المدن حيث الضجيج وعادم السيارات وكل مظاهر القبح والتشوه والتلوث وانعدام شعور كل واحد بالآخرين. أما روحى فيقوم بينى وبين تصور ظروف حياتها فى عالم الغيب قبل البعث جدار صلب سميك لا يمكن اختراقه.
وكنت، إلى ما قبل سنوات، أتألم أشد الألم حين أفكر أننى سوف أموت، إلا أننى رُضْتُ نفسى على التسليم بحقائق الحياة وأوضاعها التى لا يمكن أن يفلت من الخضوع لها أى إنسان أو مخلوق حتى صرت أتقبل فكرة الموت تقبلا تاما. المهم ألا يكون موتا فيه معاناة وألم. وإنى أدعو الله أن يتم موتى كما يتم انطفاء المصباح الكهربى حيث يسود الظلام فى التو واللحظة بمجرد الضغط على مفتاح النور. ثم إن أملى الشديد فى رحمة الله وفضولى العاتى إلى معرفة ما ينتظرنا هناك فى الضفة الأخرى من الكون قد انتهيا بى إلى عدم الفزع من الموت، الذى دائما ما أذكره فى حديثى مع نفسى أو فى حديثى مع الآخرين، خصوصا إذا كنت أريد أن أحمّس باحثا إلى الانتهاء من رسالته التى أشرف عليها فأقول له مثلا: أرجو زيادة نشاطك حتى تنتهى من رسالتك وتحصل على الدرجة العلمية، فنحن لا نعرف الظروف يا بُنَىّ، وقد أموت فتجد نفسك فى حيص بيص. فيأتينى الجواب دائما: بعد الشر يا دكتور. ربنا يعطيك طول العمر. فأقول: إننى أتحدث عن احتمال قائم، فأرجو سرعة الإنجاز! ولست أشعر آنذاك بتشاؤم ولا يخطر ببالى أبدا أن سيرة الموت قد توقظ الموت من مرقده وتُذَكِّره بى بعد أن كان غافلا عنى كما يعتقد كثير من الناس.
وكنا نتعلم أحيانا فى جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وأحيانا فى كتاب سيدنا الشيخ مرسى كما كنا نسميه من باب الاحترام والخوف، رحمه الله وبوأه جنة الفردوس كفاء ما عَلَّم من أجيال وحَفِظ كتاب الله تعالى وحفَّظه وعوَّدنا الجِدّ المر والصلابة الخشنة التى لولا هى لانهرنا عند أول منعطف من منعطفات التعليم رغم أننا لم نكن ندرك قيمة ذلك الرجل الكفيف الذى فتّح أبصارنا وبصائرنا وأرشدنا إلى الطريق السوى المستقيم. وكنا فى الكتاب نجلس على حصير متهرئ قديم فى العادة مفروش على مساطب ملتصقة بالجدران أو قائمة فى وسط الكتاب، أو نجلس على الأرض دون فراش لأن المصاطب لا تتسع لكل التلاميذ. وكان الدجاج كثيرا ما يتقافز حولنا لأن الكتاب كان يقوم أمام منزل سيدنا الشيخ مرسى، فكان زيتهم فى دقيقهم. كما كانت هناك البراغيث بطبيعة الحال، بيد أننا لم نكن نحس بها لأن عددنا كان كبيرا بحيث كان قسط كل تلميذ من البراغيث لا يكاد يذكر. وكنا نرى بنت سيدنا الشيخ مرسى، عمتى محضية، وبناتها حفيدات سيدنا، وأخاهم قطب، الذى كان يلقب فى ذلك الوقت بـ"حنكوش"، وصار الآن شيخا محترما يمشى فى وقار وتحفظ، وكلما رأيته تذكرت جده ووالدته، وكانت سيدة طيبة تهرع للتشفع لنا عند أبيها فى بعض الأحيان، فلم نكن ننسى لها هذا الجميل. كما أحب أن أداعبه كلما قابلته عند دكان محمد العزلة ابن خالى بالقرية. وللشيخ قطب صوت جميل، وكثيرا ما نسمعه فى المآتم يجلجل صوته فى مكبر الصوت حين يكون هناك مَعْزَى فى مسجد سيدى أبو الريش.
وكنا نشرب من الخابية التى تملأها لنا العمة محضية، أما إذا أردنا قضاء الحاجة فأغلب الظن أننا كنا نذهب إلى مراحيض مسجد سيدى شهوان على بعد بضع عشرات من الأمتار. وكنتَ إذا أقبلتَ على الكتاب راعك صخب وضجيج وتداخل فى الأصوات وبكاء صادر عمن يكون سيدنا قد انهال عليه من الأولاد بعصاه، التى لا ترحم ولا تبصر طريقها ولا تبالى أن تبصره، فهى عصا الفقيه، وعصا الفقيه من الجنة، فمن حقه أن يضرب بها دون حساب للعواقب ولا احتراس أو حذر. فكان المكان أشبه ما يكون بعشة فراخ. لكن العجيب أن عشة الفراخ هذه هى التى تربينا فيها وصرنا ما صرناه. فاللهم ارحم سيدنا الشيخ مرسى ووسع له فى نزله وأسكنه الفردوس فى أعلى عليين، وارحم كل من علمنا مع الشيخ مرسى شيئا من القرآن أو الإملاء والحساب والخط، وهو كل ما تعلمناه فى الكتاب وجمعية المحافظة، ومنه كانت البداية لكل شىء فى حياتنا العلمية والفكرية.
وكنا فى طفولتنا نؤمن بالعفاريت والجن والأشباح، ونعتقد أن أختنا من الجن يمكن أن تخطفنا وتأخذنا إلى تحت الأرض إذا حل المغرب وظللنا نلعب فى الشارع، ولم نعد إلى البيت. كما كنا نعتقد أيضا أن كل من مات قتيلا لا بد أن يظهر له عفريت. ويرجع ذلك إلى الظلام الذى كان يحط على القرى منذ المغرب، ثم ينشر أطنابه تماما عقب صلاة العشاء. أضف إلى ذلك الأمية والجهل والفهم الخاطئ لمعنى الجن، الذين ورد ذكرهم فى القرآن والحديث. لقد كنا نرتعب من الليل والظلام، ونخاف من الوحدة، ونحرص على أن نكون موجودين فى جماعة. وحين ننام كنا نتصور أن العفريت سوف يأتى ويخطفنا ويأكلنا، فلا نجد حلا سوى أن نبقى المصباح الكئيب الواهن مضاء، مع تغطية وجوهنا وأعيننا حتى لا يرانا العفريت عندما يحضر. ذلك أننا ما دمنا لا نراه فإنه لن يرانا. وهناك أيضا النداهة، التى تأتى فتندهك قبيل الفجر سابقةً زميلك الفلاح الذى اتَّفَقْتَ معه فى صلاة العشاء أن يمر بك ويوقظك حتى تذهبا إلى الغيط فترويا الأرض قبل انتهاء دورة السقاية. لقد سمعتكما النداهة، وها هى ذى قد أتت إليك وأخذت تنادى عليك من تحت الشباك مقلدة صوت زميلك بالضبط، وقد اتخذت سَمْتَه وشكله وملابسه، حتى إذا ما تركتما القرية واستقبلتما الحقول ولم يعد هناك من يسمعك أو يغيثك إن صرختَ طالبا المساعدة كشفتْ لك عن حقيقتها واغتالتك. لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم! ضاع الرجل يا ولداه! أما أولاد الفلاحين فقد كنا ننظر إليهم على أنهم كائنات أسطورية حين نسمع أنهم لا يبالون بالمقابر الموجودة على أطراف القرية ويجتازونها إلى الحقول كى يشتركوا مع أهليهم فى سقاية الأرض ليلا. وكنا نتصور أن جرأتهم العجيبة هذه راجعة إلى أنهم أكلوا كبد ذئب من الذئاب اصطادوه من الغيط، واستخرجوها وشَوَوْها والتهموها.
وكانت حكايات العفاريت والأشباح أكثر من الهم على القلب. صحيح أنها كانت تسلينا، لكنها كانت تسلية مرعبة نستمتع بها أثناء سماعنا لها، لكن سرعان ما تنقلب رعبا هائلا بعد ذلك حين يَجِنّ الظلام، إذ تتجسم الأوهام لتحاصرنا بالأشباح من كل اتجاه. وكان كل ركن أو زُقْر أو مكانٍ خَرِبٍ يختص بعفريته: فالمعصرة ("المحصرة" بلغة القرية) موضع العفريت الخاص بالخواجة الذى كان يمتلكها. فإذا ما قدر لك أن تمر ليلا من هناك وحدك سمعت صوت الأوتوبيس ("الكافورى" كما كان أهل القرية يسمونه)، وهو يتكتك بقيادة الخواجة. وقبل ذلك بقليل، وتحت نخلة العسال فى الركن المعتم وسط الحارة الضيقة والبيوت الصغيرة المتلاصقة حيث يذبح المعلم محمد العسال بقره وجاموسه فى المواسم والأعياد بعيدا عن السلخانة، سوف تجد الأرانب وتملأ منها حجر جلبابك بالكوم، ولكنك ما إن تصل إلى بيتك وتفتح حجرك حتى تفاجأ بأنه لم يعد هناك أرانب ولا يحزنون. ترى أين ذهبت؟ ألا تفهم؟ يا لك من غبى! (آسف، لا أقصد أن أشتمك، بل كل ما هنالك أن الحكاية قد حُبِكَتْ، فكان لا بد أن أقولها هكذا!). وبعد المعصرة فى اتجاه بيت خالى، وقبله ببيت واحد هناك زُقْر بَكْر. وإياك أن تمر وحدك به ليلا، فضلا عن أن تُقِلّ عقلك وتدخله. ذلك أن هناك القربة التى تزحف على الأرض وهى تئن أنينا. لقد رَبَّتْ هذه القربة لى الخفيف وأنا ولد صغير حتى لأذكر أننى وأطفال الحارة اجتمعنا ذات ليلة على مصطبة عم حسينى أبو صيرة وأخذنا نتبادل حكاية الحواديت قريبا من ضوء دكان خالى المنعكس على جدار بيت أبو صيرة، ثم لحظى الأسود المطين بستين نيلة احتجت أن أتبول. لكن ما العمل، وهناك على مبعدة بضعة أمتار زُقْر بكر والقربة؟ لقد تسمرت فى مكانى تقريبا وأنا أنظر ناحية زملائى وتبولت، ولم أجرؤ على الابتعاد عنهم ولو مترا واحدا. وهل أنا مجنون إلى هذا الحد حتى أغامر بحياتى فتخطفنى القربة؟
فإذا ما انحدرتَ ببصرك (ببصرك فقط!) ناحية بيت الشيخ أحمد زيد صانع القفف والغلقان مرورا بمسجد أبو الريش، فيا ويلك ويا سواد ليلك إن فقدت رشدك وفكرت فى العبور من هناك بعد أن تنقطع الرجل. لسوف تجد حمارا هائما فى الحارة ليس له صاحب، ولسوف تتصرف بحماقة ما بعدها حماقة فتركبه تريد أن تأخذه إلى بيتكم ليكون لك حمارٌ مُلْكٌ دون أن تدفع مليما واحد (هذا طبعا أيام الملاليم!). ولكن حذار! إياك أن تفعل! أووووووووه! يا خيبتك القوية! لقد ركبت الحمار؟ إذن فتحمَّلْ ما يقع لك، وذنبك على جنبك. هأنتذا قد طار الحمار بك فى الجو، وأنت ذاهل قد تبدد عقلك شَعَاعًا من الرعب خوفا أن تنقلب عن ظهره وتسقط من حالق فتندق عنقك. ولكن أليس معك فى سَيَّالتك مِسَلَّة كالتى يستعملها صانعو الققف والغلقان؟ إذن فأخرجها من سيالتك سريعا، واغرزها فى جنب الحمار. نعم هكذا بالضبط. والآن ها هو ذا الحمار يئن، ويرجوك أن ترحمه ويشرع فى التطامن والنزول رويدا رويدا حتى يلامس الأرض فتقفز من فوق ظهره، وأنت لا تصدق بالنجاة. وها هو ذا الحمار يبرطع مبتعدا عنك وهو يصدر من مؤخرته ضراطا مزعجا يحييك ويقول لك: "باى باى"! طبعا ليس "باى باى" بالضبط، ولكن شيئا بمعناها. فالحمير، كما تعرف، لا ترطن بالإنجليزية، كما أن أهل القرية فى ذلك الوقت المبكر من خمسينات القرن الماضى لم يكونوا يفهمون لغة جونبول، ولا الآن وحياتك! على كل حال عليك أن تحمد الله أنْ نزلت بالسلامة، وإياك أن تفعلها مرة أخرى.
وهناك العفريت الذى كنا نتبادل قصته وما فعله برجل من أهل القرية كان سهران ذات ليلة فى الغيط لسبب من الأسباب التى تدعو الفلاحين إلى السهر فى غيطانهم، وبدا للرجل أن يأكل بعض كيزان الذرة الخضراء، فخلع بعض الكيزان من الحقل المجاور وبدأ ينزع أغلفتها استعدادا لشيها على النار، التى كان قد جمع لها بعض الحطب، وشرع يشعل النار ويضع عليها الكيزان، إلا أنه احتاج مزيدا من الحطب. وهنا وجد أمامه رجلا فلاحا مثله يجلس أمامه، وإن كان لم يسبق له أن رآه، ويريد أن يأكل معه من الذرة، فالتمس منه أن يحضر بعض الحطب الإضافى، فقام الرجل الضيف وغاب قليلا ثم عاد وتحت إبطه حمل بعير (حمل بعير حقيقى لا مجازى طبقا للحكاية) من الحطب، وهو ما أثار دهشة صاحب النار، لكنه انصرف رغم ذلك إلى شَىّ كيزان الذرة، فلاحظ أن النار كلما شَبَّتْ وطَيَّرها الهواء ناحية الضيف فزع وابتعد بطريقة غير طبيعية، فحانت منه نظرة إلى قدميه فرأى بدلا منهما حافرين كحافرى الحمار، وعندئذ عرف أنه أمام عفريت من الجن لا رجل من الإنس.
لكنه لم يُظْهِر شيئا مما يدور فى نفسه، وحرص طوال الوقت على أن يطيِّر شعل النار ناحية العفريت كأن الأمر يحدث عفوا، فيبتعد العفريت فى فزع. بيد أنه لم يجد مناصا من مغادرة المكان فى آخر المطاف حين أوشكت النار أن تنطفئ ولن يعود هناك ما يستطيع إفزاع العفريت به، ثم عدا بأقصى ما يستطيع ناحية القرية، وهو يصيح بأعلى صوته دون أن يسمعه أحد بطبيعة الحال فى أرجاء الحقول. وحينما كان يجتاز المقابر قابله أحد رجال القرية، فسأله عما به، فحكى له الحكاية من طَقْطَقْ لسلامٌ عليكم منهيا حكايته بأن الرجل الذى كان يجالسه له حافران لا قدمان. وهنا كشف له الرجل عن قدميه متسائلا: مثل هذين الحافرين؟ وهنا طَبَّ ساكتا ميتا فى الحال، رحمه الله. بالله عليكم أليست قصة رائعة رغم ما فيها من رعب ولا رعب أفلام هيتشكوك؟ والمضحك أننا جميعا كنا ننسى السؤال البسيط الذى لا يد أن يثور فى ذهن أى إنسان عنده عقل، وهو: إذا كان صاحب القصة وبطلها قد طَبَّ ساكتا، فمن يا ترى نقلها إلينا؟ لكن هل كان عندنا فى ذلك الوقت عقل نفكر فيه فى مثل تلك الأسئلة البسيطة، والمنطقية رغم ذلك؟ وهل لو كان عندنا عقل يطرح مثل ذلك السؤال أكنا نعتقد أصلا فى العفاريت؟ ثم لما كبرتُ سمعتُ نفس القصة فى قرى أخرى، وإن كان بطلها ينتمى فى كل مرة إلى تلك القرية. فعرفت، ولكن بعد قوات الأوان، أنها حكاية مصنوعة ليس لها ظل من الحقيقة.
ومما له صلة بما نحن فيه هنا أننى، بعدما كبرت وصرت مدرسا مساعدا بالجامعة، كتبت قصة قصيرة اسمها: "زُقْر جاد" صورتُ من خلالها صورة ذلك الزقر المرعب فى خيالنا ونحن صغار. وقد قرأتها على صديقى ابن الإسكندرية الأستاذ صلاح أبو النجا (صديق أيام الجامعة) حين كان يزورنى قى شقتى فلاحظت أنه كان صامتا لا يظهر عليه أى انفعال أو رد فعل، فشعرت بشىء من الإحباط لأن القصة لم تعجبه ولم تحرك فى مشاعره أو خيالاته ساكنا، لكنْ ما إن انتهيتُ من القراءة حتى رأيته يأخذ نفسا عميقا ويستعيد وعيه الذى كانت القصة قد استولت عليه أثناء قراءتى لها، وشرع يصف وقع القصة العجيب عليه. وكنت، بعد سفرى إلى أكسفورد، أرسل إليه بعض الأشياء التى أكلفه توصيلها إلى أقاربى فى القرية، فانتهز أول زورة له هناك وطلب منهم أن يرى زقر جاد هذا الذى استولى وصفى له على كل كيانه ذات ليلة فى شقتى بحدائق القبة بالقاهرة. إلا أنه فوجئ بأنه زقر غير مخيف رغم ضيقه والتوائه. فكان تعليقى له أنه يرى الزقر بعين الرجل الإسكندرانى الذى لا يؤمن بالعفاريت أو على الأقل: لم يعد يؤمن بالعفاريت بعدما تخرج من الجامعة ودرس العلوم السياسية فى كلية السياسة والاقتصاد، فضلا عن أنه رأى الزقر نهارا والشمس فى كبد السماء تنيره إنارة ساطعة لا ليلا. وحتى لو كان زاره ليلا لقد كانت الكهرباء قد دخلت القرية، ولم يعد هناك زقر مظلم تسرح فيه العفاريت براحتها. ثم هناك التراث العفاريتى الذى كان يملأ علينا حياتنا والقصص المرعبة التى كان الجميع يتداولونها على أنها حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فوافقنى على تحليلى. ثم أضفت وأنا أضحك متهكما على نفسى: ثم لا تنس براعة صديقك الفنية فى صوغ القصة وإبداعها. وهنا لم يكن أمامه مفر من الإقرار بوجاهة ذلك الاعتبار، وإلا أحضرت له العفريت أبا حوافر، وهو غير مستعد للاستغناء عن حياته الغالية، فهو رجل عاقل!
وتصادف أن بدأت، بعدما كتبت هذا الكلام هنا بأيام، أقرأ رواية "عالم على قضبان" للسعيد أحمد نجم (ابن إحدى القرى بالمنصورة)، وهى سادس رواية أقرؤها له، فهو روائى موهوب، ولو كان للأسلوب عنده اعتبار أكبر من هذا لكان ممن يشار إليهم بالبنان. وكان أخو زوجته د. مصطفى السعيد قد أرسلها لى بالبريد منذ عدة أيام، ففتحتها البارحة، وما إن شرعت أقرأ حتى اعترانى ضحك لاإرادى من براعة وصف المؤلف للقطار المتهدم الذى يمر بقريتهم وما يقع فيه من حوادثَ مضحكةٍ لا يمكن أن تخطر لأحد خارج مصر ببال. ومما قرأته فيها أيضا السطور التالية التى أنقلها لكم بقليل جدا من التصرف، وهى عن العفاريت واعتقاد أهل القرى المصرية فيهم. يقول نجم عن محطة القطار بالمنصورة: "المحطة الرئيسية بها نهايات الخطوط. تنتهي بها أيضًا حياة أشخاص. يتصادف أن يرجع القطار فجأة للخلف، وقد يشاء الحظ العاثر أن يمر أحد الركاب أمام الصدادة في ذات الوقت، فيطحنه القطار طحنًا بينه وبين صدادته. تغطَّى الضحية بورق الجرائد إلى أن تتم الإجراءات الرسمية، وعلى أهل الضحية تحمل أقدارهم! وتهتز جنبات القرية الرئيسة، ويسكن الخوف قلوب الصغار ويتمكن، ويغزو قلوب الكبار، وتنتقل الحكايات المرعبة عبر المصاطب المنتشرة في جوف القرية وفي الليالي القمرية. فإذا ما انتهت جلسات المصاطب كان طريق معظم الرواد إلى بيوتهم طريق أشباح مرعبة، فتهتز القلوب بعنف تكاد تكف عن خفقانها.
مات أحد سكان القرية الكبيرة، دهسته عجلات القطار، فرمته فرمًا. منظر جثته خلد في ذاكرة من رأوها رعبًا مجسمًا. تنقل المصاطب أن قرينه الأرضي يتقمص شخصية القطار، يصدر أصواتًا كصوت محركه وجلبة عجلاته، ويطلق صفاراته يجوب حارة القتيل بعد منتصف الليل جيئةً وذهابًا، وأن أهل حارته يعرفون موعده، يسمعونه، فينكمشون رعبًا داخل بيوتهم، بل داخل ذواتهم لا تصدر من أحد منهم حركة، فقد جمدهم الخوف. بعضهم رأى القرين رؤية العين فلاذوا بالفرار لا يصدقون نجاتهم. تحمل أحاديث المصاطب أن لكل قتيل عفريتًا يسكن حيثما كان القتيل يسكن، يمثل كيف دار القتل إلى أجل غير مسمى. كثر من سمعوا قرين ضحية القطار، فاحتل الرعب معظم ساكني القرية، لكن قلائل لا يوقنون بمسألة العفاريت، يشككون في صحتها ويحيلونها إلى مجرد خيالات سقيمة.
تصادف أن رأى أحدهم هذا "القرين"، فداخله الخوف، لكنه قاومه وقلبه يهتز. القرين يصدر نفس أصوات القطار، ويطلق صفارة كصفارته، والرجل يراقبه من بعيد، والقرين يذهب في الحارة ويجيء، والحارة في سكون القبور ووجومها. انتهى القرين من جولته الليلية. أطفأ شعلته الزيتية، وكف عن إصدار جلبته ثم مشى كما يمشي الناس، والرجل يراقبه، يساعده ضوء خافت للقمر. تتبعه الرجل إلى حارة أخرى لا تفوته لحظة. وقف القرين أمام بيت. دق الباب ونطق بصوت يميزه الرجل تمامًا:
- افتحي. أنا جوزك.
- "يا بن الـ...": صاح الرجل.
وانقض على الذي أيقنت القرية أنه القرين، وأمسك بخناقه. الرجل قوي فارع الطول بينما كان منذ دقائق قرينًا ضعيفًا قصيرًا لا حول له ولا قوة. الصوت الجهوري للرجل أيقظ البعض فهرعوا إلى حيث الرجلين. والرجل قابض على ملابس عجيبة كان يرتديها القرين في جولته الليلية يخلعها قبيل بيته".
وهناك حديث منسوب الرواية إلى أبى هريرة يقول فيه الصحابى الجليل (إن كان هو صاحب الرواية فعلا): "وَكَّلَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذتُه وقلتُ: لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني محتاج، وعليَّ عيال، ولي حاجة شديدة! قال: فخليتُ عنه. فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً شديدةً وعيالاً، فرحمتُه وخليتُ سبيله. قال: أما إنه قد كَذَبَك وسيعود. فعرفتُ أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود. فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني، فإني محتاج، وعليَّ عيال. لا أعود! فرحمتُه وخليتُ سبيله. فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود. فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود، ثم تعود. فقال: دَعْنِي أُعَلِّمْْك كلماتٍ ينفعك الله بها. قلت: ما هُنَّ؟ قال: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليتُ سبيله، فأصبحتُ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله. قال: وما هي؟ قال: قال لي: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم". وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح (وكانوا أحرص شيء على الخير). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَمَا إنه صَدَقَكَ، وهو كذوب. تَعْلَمْ من تخاطب ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قلت: لا. قال: ذاك شيطان".
والآن هل فى هذا الحديث، إن كان حديثا صحيحا، ما يدل على وجود العفاريت بالمعنى الذى يفهمه الناس، والعوامّ منهم على وجه الخصوص؟ ذلك أن الرسول يخبر أبا هريرة بأن الشخص الذى أمسك به ثلاث مرات ثم أطلقه عطفا عليه وتقديرا لحاجته وحاجة أولاده إلى الطعام إنما هو شيطان. وسوف يقول أصحاب العفاريت: ها هو ذا الرسول يقول إنه شيطان. وردى على هذا أنه لا يحل الإشكال. ذلك أن الشيطان قد يكون شيطانا من شياطين الإنس، وما أكثرهم! وفى القرآن أن هناك شياطين الإنس مثلما هناك شياطين الجن. وهذا ما يتبادر إلى ذهنى للوهلة الأولى. إلا أن ثمة عدة أسئلة مهمة هى: هل يعقل أن يكون بين سكان المدينة المنورة فى ذلك الوقت حين كانت قرية صغيرة محدودة، وكل شخص يعرف كل شخص هناك، من يجهله أبو هريرة؟ فكيف لم يعرف رضى الله عنه اللص الذى ضبطه وهو يعبئ القمح فى غرارته أو فى حجر ثوبه؟ وكيف صدقه وهو يعرف جيدا أن الرسول لم يكن يترك محتاجا دون أن يعطيه ما يحتاجه هو وبيته من مال الصدقة؟ بل كيف تكتم الخبر وستر على اللص وهو ليس صاحب المال المسروق؟ بل هل كان يمكن أن يدور فى خاطر أحد آنذاك أن يسرق من مال الصدقة؟ وكيف تركه دون أن يسأله: من أنت؟ وكيف وصلت إلى هنا؟ بل كيف سكت عليه ثلاث مرات دون أن يبلغ رسول الله بما وقع حتى إن الرسول هو الذى كان يفاتحه فى ذلك الموضوع؟ بل كيف لم يقل للص إنه سوف يشرح للرسول أحواله هو وأسرته حتى يجعلهم على قائمة مستحقى الزكاة؟ ولماذا لم يأت الرجل بعد ذلك فى الليالى التالية؟ أم لعله كان من أصحاب نظرية "التالتة تابتة"؟ وأخيرا، وليس آخرا، هذه أول وآخر مرة يحدث فيها شىء مثل ذلك. أليس ذلك غريبا؟
هذه هى الأسئلة التى تثور فى الذهن حال قراءة ذلك الحديث إذا وضعنا فى أذهاننا أن يكون اللص شيطانا من شياطين الإنس؟ لكن لا يحسب المعتقدون فى وجود العفاريت بالمعنى العام أن ليس أمامنا من مفر إذن إلا بالأخذ بالتفسير الآخر، وهو أن اللص شيطان من شياطين الجن من إخوة العفاريت أو على الأقل: من أبناء عمومتهم أو خؤولتهم. ذلك أن توجيه الحديث إلى هذه الناحية يثير من المشاكل أكثر وأعقد مما يثيره التفسير السابق. كيف؟ أولا هل الشياطين تحتاج إلى الأكل من طعامنا نحن البشر؟ ذلك أن هناك أحاديث تقول إن الجن، الجنس الذى ينتمى إليه الشياطين، يأكلون العَظْم والرَّوْث. فما القول فى هذا؟ يروى أبو هريرة أن النبى عليه السلام قد حدث المسلمين ذات يوم قائلا: "إذا ذَهبَ أحدُكم إلى الغائطِ فلا يستقبِلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها لغائطٍ ولا لبولٍ، ولْيَسْتَنْجِ بثلاثةِ أحجارٍ. ونَهَى عنِ الرَّوْثِ والرِّمَّةِ وأن يستَنجيَ الرَّجلُ بيمينِهِ". وفى حديث آخر، وعن أبى هريرة أيضا: "قلتُ: ما بالُ الرَّوثِ والعظمِ؟ قال: هما طعامُ الجنِّ".
وإذا قلنا، رغم ذلك، إنها تأكل مثلنا، فهل تأكل يا ترى نفس الطعام وبنفس الطريقة بحيث يحتاج شيطاننا هذا إلى سرقة القمح؟ وماذا يفعل الشياطين بالقمح؟ هل لديهم رحى أو ماكينة طحين يطحنون فيها القمح ويحولوه دقيقا يخبزونه ويصنعون منه الخبز؟ فأين تلك الرحى أو تلك الماكينة؟ ولماذا لم يفكر شيطاننا فى سرقة خبز جاهز ما دام أولاده يتضورون جوعا إلى هذا الحد بدل أن يضيع الوقت فى الطحين والعجن والخبز فيكون أولئك الشياطين الصغار قد ماتوا؟ ولكن هل يكتفى الشياطين بالخبز الحافى؟ فلماذا إذن لم يحاول اللص الشيطان سرقة بعض اللحوم أو حتى اللبن والجبن والتمر لزوم التغميس؟ بل هل كان ذلك الشيطان يحتاج إلى السرقة من مال الصدقة الذى فى المسجد والذى يحرسه أبو هريرة، وعنده جميع الحقول والأهراء التى حول المدينة ويمكنه أن يأخذ منها ما يحتاجه هو وكل الشياطين من القمح وغير القمح دون أن يبصره أبو هريرة أو غير أبى هريرة؟ وإذا قلنا إنه شيطان مبتدئ لم يتشرب صنعة الشيطنة على أصولها، وعوضا عن ذلك أصر على سرقة المال الذى فى المسجد، فلماذا لم ينتظر حتى يذهب أبو هريرة فى سابع نومة فيعمل عملته وقتذاك ويحمل ما يشاء من قمح دون أن يحس به أحد أو يتعرض له أحد؟ بل هل الشياطين تحتاج إلى أن تظهر للناس، وبخاصة حين تريد أن تسرقهم؟ يا له من شيطان غبى! لكن هل هناك شيطان غبى؟ لو كنت أنا رئيسه لرفتُّه من زمرة الشياطين ليبحث له عن صنعة أخرى تناسب غباءه وحمقه ولخمته.
أما تصرفه هذا فهو مثل تصرف لص يترك سائر الشقق التى خَلَّفَها أصحابها وسافروا بحيث يمكنه أن يسرقها ويجردها من جميع محتوياتها دون أن يتعرض لأى خطر، ويذهب عِوَضَ هذا إلى شقة وزير الداخلية، ثم بدلا من أن ينتظر حتى نوم أصحابها فيتسلق المواسير من خلف المنزل ويدخل إلى المطبخ على "طراطيف" رجليه، ومنه إلى غرف الشقة الأخرى غير تلك التى ينام فيها الوزير وزوجته، نراه يختار عز الظهرية ويصر على دخول الشقة من الباب الأمامى بعد أن يدقه حتى يفتحوا له، فيستأذن الوزير أن يتركه يسرق شقته ويخرج فى سلامة الله دون أن يحاول اعتراضه أو تعويقه لأن أولاده الجائعين ينتظرونه بمصارينهم تتلوى. ترى هل هذا أمر يدخل العقل؟ وإذا كان شيطانا من شياطين الجن، أكان ينصح أبا هريرة تلك النصيحة الخيرة؟ ترى متى كانت الشياطين تفكر فى الخير، فضلا عن أن تنصح به، فضلا عن أن تكون النصيحة ضارة بهم هم أنفسهم بحيث لا يستطيعون بعدها أن يمارسوا صنعة الشيطنة معنا نحن البشر؟ وهكذا يرى أصحاب اعتقاد العفاريت بالمعنى العامى أن الأبواب مسدودة فى وجوههم. ثم ألم يقرأوا قول الله تعالى عن الشيطان: "إنه يراكم هو وقَبِيلُه من حيث لا تَرَوْنَهم"؟ وأنا لا أتهم الصحابى الجليل الذى أحبه حبا يفوق الحد ودافعت عنه دفاعا ملتهبا فى دراسة لى طويلة على المشباك، بل الخطأ من غيره. وهذا إذا لم أكن أنا المخطئ فى كل ما قلته. فأنا، فى نهاية المطاف، بشر أصيب وأخطئ، وليس لى من العصمة قليل ولا كثير.
ومن الأحاديث التى تتصل بهذا الموضوع وكنا نعرفها ونحن أطفال صغار، ولكن نفهمها بطريقتنا وبالطريقة التى كان يفهمها الناس من حولنا، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا كانَ رمضانُ فتِّحَتْ أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقتْ أبوابُ جَهنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّياطينُ"، وهو حديث صحيح، ويعنى حسبما أفهمه أن رمضان هو فرصة طيبة للاستكثار من عمل الخيرات، والإقلال ما أمكن من اجتراح الشرور والآثام. وهذا معنى أن أبواب الجة تُفْتَح فيه، وتسلسل الشياطين. فالكلام على المجاز، وإلا أفليس هناك شياطين تتحرك براحتها بين الناس فى رمضان؟ أقصد شياطين الإغراء بالشر والخطيئة؟ إن غرائز الإنسان لا تختفى مع رمضان لأنها جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية لا يمكن أن تفارقها، لكن تخف وطأتها، أو المفروض أن يكون الأمر كذلك بسبب الجو الروحانى والجوع الذى من شأنه إضعاف الجسد وشهواته، فضلا عن تيقظ الحس الإيمانى والأخلاقى فى الشهر الفضيل. ولكن على الناحية المقابلة كثيرا ما يكون رمضان سببا فى ارتكاب الأخطاء والخطايا كما هو الحال مع مدمنى التدخين مثلا، إذ تسوء أخلاق كثير منهم وينفعلون لأقل ملامسة ويشتمون ويضربون ويسارعون إلى الاصطدام بالآخرين، بل قد يقتل بعض الناس بعضا بسبب العصبية جراء الحرمان والطعام. كما أن من المسلمين من يتظاهر بالصلاح فيه نفاقا ورياء، وبعضهم يوهم الآخرين أنه صائم، وهو ليس بصائم... وهكذا. ودعونا من "بدعة" هذه الأيام المتمثلة فى بكاء بعض الأئمة أثناء صلاة التهجد. بل إن بعضهم ليبكى أثناء صلاة التراويح نفسها، مع أننا طول عمرنا نصلى التراويح وغير التراويح فى رمضان دون أن نسمع أحدا يبكى أثناءها. فما الذى جد فى الأعوام الأخيرة؟ لقد ذكر الرسول عليه السلام، بين من يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله، رجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ولم يقل عليه السلام: "ورجل كان يؤم الناس فى الميكروفون فتصنَّع النهنهة وتشنَّج وأطال البكاء حتى يسمعه القاصى والدانى عَمَّاًلا على بَطَّال".
لكن ما علاقة هذا بما نحن فيه من الكلام عن العفاريت؟ لقد كنا نفهم الحديث الشريف على أن الشياطين المذكورة فيه هى العفاريت، فكنا نطمئن إلى أن العفاريت لن تظهر لنا ليلا فى رمضان. وكان هذا يساعدنا على السهر خارج البيت دون خوف من الظلام. ألم يسلسل الله سبحانه وتعالى العفاريت والأشباح طول ليالى ذلك الشهر؟ بلى. إذن فما المشكلة؟ خذوا راحتكم إذن أيها الأطفال وامرحوا واسهروا كما تحبون، فلن تنغِّص العفاريت عليكم بهجتكم. وطبعا هناك فارق بين العفاريت بالمعنى الشعبى الذى كنا نفهمه آنذاك وبين الشياطين الوارد ذكرها فى الحديث المشار إليه. بل إن الشياطين، بالمعنى الأخلاقى الذى شرحته فى بداية كلامى هنا، لا تُسَلْسَل حسبما نفهم السَّلْسَلَة فى دنيا البشر، فهى ليست أجساما مادية حتى يسلسلوها بجنازير من الحديد كما نعرف السلاسل والجنازير. كذلك ليس المقصود أنها تُمْنَع من إغراء الناس بالذنوب والآثام، بل المراد استفزاز حاسة المسلمين الإيمانية والأخلاقية كى يهتبلوا فرصة الشهر الكريم فيُقَلِّلوا عمل الشر ويُكَثِّروا عمل الخير ليس إلا، إذ الشياطين للأسف لا تأخذ إجازة، لأنها لو أخذت إجازة ما كانت شياطين، فالشياطين لا تتعب ولا تمرض ولا تملّ ولا تقوم بتظاهرات للحصول على راحة ولا تعرف شيئا اسمه: "حقوق الشيطان" قياسا على ما نعرفه عندنا بـ"حقوق الإنسان" بما تقتضيه تلك الحقوق من تخفيض ساعات العمل والحصول على إجازة مدفوعة الأجر وما إلى ذلك. وكم فى النصوص الدينية من مظاليم!
ولكن ألم تكن لى تجربة مع العفاريت؟ بلى كانت لى واحدة، إذ كنت قد سهرت على حدود القرية الشرقية ذات ليلة صيفية جالسا مع بعض الزملاء فوق كومة من الرمال بفناء مدرسة كانت تشيَّد فى ذلك الحين. وكان الجو سجسجا، ونزل الطل كالعادة رطبا منعشا فنسينا أنفسنا، إلى أن حان أوان العودة للإخلاد إلى النوم إل أن يؤذن الفجر فأصليه ثم أعود ثانية إلى الفراش حتى الضحى كالمعتاد. وأغلب الظن أننى كنت معيدا فى تلك الأيام. ولما عدت إلى المنزل صعدت إلى الطابق الثانى وبدأت أخلع جلباب خالى البلدى الواسع المريح الذى كنت أرتديه تلك الليلة كما كان يحدث فى بعض الأحيان. وكنت واقفا فى شبه ظلام على السرير ذى الناموسية والعساكر فى المقعد القبلى الذى ينفتح بابه وشباكه خلف رأسى على الناحية البحرية فيمدنى بهواء لا أبدع ولا أروع. بيد أننى توقفت بغتة وأنا أخلع الجلباب من رأسى، إذ سمعت وَشِيشًا أشلَّنى فى موضعى فتوقفت، وتوقف هو بتوقفى، فلما استأنفت الخلع عاد الوشيش. وتكرر هذا مرات، فوجدتنى أقول فى نفسى: جاءك الموت يا تارك الصلاة! أو بالأحرى: جاءك الشبح يا منكر العفاريت! لقد كنتَ تنكر وجودها، فماذا أنت قائل الآن؟ ثم عدت إلى محاولة تخليص الجلباب من رأسى فعاد الوشيش من جديد. كل هذا وأنا أحاول التركيز فيما أفعله وفيما أسمعه... وفجأة أضاء عقلى دفعة واحدة. إنه الرمل الذى تسلل إلى السَّيّالة ونحن جالسون فوق كوم الرمال فى المدرسة، فكلما حاولت خلع الجلباب سقط الرمل الموجود فى السيالة، وحين أتوقف يتوقف سقوطه. ثم لما تحققت من صحة هذا الفرض شرعت أضحك كالمخبول فى الظلام الذى كنت واقفا فيه فوق السرير.
ورغم أنى كنت أخاف العفاريت وأنا صغير فقد تغلبت مع الأيام واتساع ثقافتى وتحكيم عقلى على هذا الخوف، وإن ظل هناك دائما توجس ما فى أعماقى البعيدة حين أدخل مقابر القرية ليلا لأقرأ الفاتحة أو لأثبت لنفسى أننى لم أعد أومن بهذه الخرافات أو لأى سبب آخر، إذ كنت رغم اقتناعى أنه لا توجد عفاريت بالمعنى العامى الشائع بين جماهير المصريين أظل أشعر أن من الممكن أن يفاجئنى شىء مزعج رغم كل ذلك، وبخاصة أن الجبَّان فى الأعوام الأخيرة قد اكتظت المقابر اكتظاظا شديدا، وضاقت طرقاتها، ولم تعد هناك البراحات التى كانت فيها من قبل. ترى هل هو بقية من الاعتقاد القديم لم يَزُلْ بعد؟ ترى هل هو الخوف من أن يكون هناك إنسان مختبئ بين المقابر لسبب أو لآخر يمكن أن يفكر فى التعرض لى وإيذائى كى يقطع الرِّجْل من هناك فلا ينفضح؟ قد يكون هذا، وقد يكون ذاك. كما لا ينبغى أن ننسى المقامات الموجودة فى الجبان، وهى عبارة عن غرفات واسعة مظلمة تحوى بعض المقابر والنعوش وما أشبه، وتعشش فيها الوطاويط والبوم، وقد يأوى إليها ليلا بعض المجانين أو الصبيان الجامدى القلب الذين يهربون من أسرهم خوفا من العقاب وما إلى هذا. ولعلى قرأت للشيخ مصطفى عبد الرازق أنه، رغم تخلصه من الخوف من العفاريت بعدما كبر، كان لا يزال يشعر أن هناك رواسب قديمة من هذا الخوف لم تَزُلْ بعد من أعماقه.
وقد ظللت أقضى الليل وحدى لمدة أعوام فى بيتنا الأصلى المجاور لمسجد أبو الريش دون الإحساس بأى خوف، وكان بعض الجيران يزعمون أنهم يسمعون أبى ليلا وهو راكب الموتوسيكل. يقصدون أنهم كانوا يسمعون دمدمة الموتوسيكل الذى كان يركبه حين صدمته سيارة فأردته قتيلا. وكثيرا ما كنت أصلى العشاء وحدى فى المسجد المذكور آخر الليل فى الظلام دون أن أخاف شيئا. والقارئ لا يعرف أن أبو الريش كان فيه وطاويط ونعش وأشجار معمرة، دعك من جوف المسجد ومحرابه والتجويف الذى تحت المنبر حيث يسود الظلام وحيث لا يدخل أحد هناك ليلا فى العادة، اللهم إلا شابا من جيراننا ميت القلب كان يلجأ إلى ذلك التجويف لينام داخله حين تطرده أمه من الدار.
وعلى ذكر الخوف من العفاريت من جانب الأطفال كنت أقرأ اليوم، بعد أن كتبت هذا الكلام بأيام، مقالا لأخت زوجة تونى بلير الصحفية والمذيعة والناشطة السياسية المناصرة لحقوق الفلسطينيين لورين بوث، التى أسلمت فى الفترة الأخيرة، تحكى فيه علاقتها السيئة بأمها، وكانت الأم يهودية، والأب ممثلا، فتذكر أن أمها كانت شديدة الخشونة فى تربيتها دون داع حتى إنها لم تكن لتسمح لها بإضاءة المصباح الليلى الصغير التى اشترته لها جدتها كى تشعله فى الظلام وهى نائمة فلا ترى فى منامها الكوابيس. وسبب رفض الوالدة هو توفير الكهربا مع أن الجدة كانت تعطى الحفيدة بعض البنسات كى تضعها فى عداد الكهربا البيتى، وتصر على إطفائه بقسوة غير مفهومة دون أن تلقى بالا إلى استعطافاتها، مُعَيِّرَةً إياها بأنها طفلة زنانة مزعجة! بل كانت كثيرا ما تصارحها فى قسوة مفرطة بأنهم لا يريدونها معهم فى البيت، فلم لا تذهب لتعيش مع جدتها، التى تريدها؟ وكانت الطفلة الصغيرة ترى فى كوابيسها قواطير (تماسيح أمريكية) وقراصنة يختبئون تحت السرير على عكس العفاريت التى كانت تفزعنا ونحن صغار، إذ لم تكن تختبئ تحت السرير لأننا كنا كثيرا ما ننام على الحصير، ومن ثم لم يكن هناك موضع لاختبائها تحتنا إلا إذا كانت عفاريت فى نحافة الورق، بل كان عليها أن تطل علينا من فوق وهى تكشف عنا الملاءة أو البطانية التى نخفى بها عنها وجوهنا. علاوة على أننا لم نكن نفكر فى قراصنة أو تماسيح.
إذن هناك فرق حتى بين نوعية الرعب الإنجليزى والرعب المصرى مع أن التماسيح كانت تسبح فى النيل منذ قديم الزمان إلى ما بعد مرور قرن من العصر الحديث، على حين لا تعرف بريطانيا التماسيح، فكان ينبغى أن يحلم أطفالنا بالتماسيح. وقد ذكر العقاد طيب الله ثراه، فى مقال له عن طفولته موجود فى كتابه: "أنا"، أن الآباء والأمهات الأسوانيين، ومنهم أبواه، كانوا يخشَوْن على أولادهم من التماسيح إذا نزلوا يعومون فى النيل. أما القراصنة فهم إنتاج إنجليزى بامتياز! لكن جاء علىَّ وقت، وأنا ولد صغير، كنت أرتعب فيه غاية الارتعاب من الرجل الذى يخطف الأطفال ويذبحهم ليدشّن ماكينة الطحين بدمهم، إذ كانت مكنات الطحين الجديدة لا تدور إلا إذا سَقَوْها دم طفل حسبما كان يقال لنا حتى لا نبتعد عن البيت حين تنتشر فى البلاد أخبار اختفاء بعض الأطفال.
وأذكر أن ولدا صغيرا قريبا لنا فى القرية اختفى من الدار ذات عصرية بعدما كبرتُ وصرتُ معيدا، فأخذ أهله يبحثون عنه "سَلْقَط فى مَلْقَط"، لكنهم لم يعثروا له على أثر، فأرسلوا المنادى فى كل أرجاء القرية يناشد من يجده أن يسلمه لأهله، وله الثواب والأجر من الله، ولكن لا حياة لمن تنادى. وهنا لم يجدوا مفرا من اتهام صاحب مكنة طحين القرية بأنه أخذ الولد وذبحه، مع أن الرجل كان لطيفا، وكانت مكنته تشتغل "صاغ سليم" منذ عدة سنين، ولم يقع ما يجعلها تغير رأيها وتحرن عن العمل طلبا لجَرْع دم طفل. ولما أسلمت الأسرة أمرها لله فى نهاية المطاف، وذهبوا ينامون، حملوا الحصيرة التى تقف مبرومة بجوار الحائط فى غرفة النوم كى يبسطوها ويناموا، فإذا بالولد الضائع نائم خلفها كالقتيل لا يدرى من أمر الدنيا من حوله شيئا بسبب ما أصابه طوال اليوم من إرهاق جراء اللعب. آه يا ابن الفرطوس!
وما دمنا فى الكلام عن العفاريت والخرافات فمن المناسب التحدث عن الاعتقاد فى الأولياء بصفته خرافة من الخرافات التى تشيع فى المجتمعات المتخلفة. لقد كان المسلمون الأوائل لا يؤمنون إلا بالله والأنبياء، أما فى العصور المتأخرة التى تخلفوا فيها فقد صاروا يعتقدون فيمن يُسَمَّوْن: "الأولياء" اعتقادا راسخا، متصورين أن وساطتهم بين العبد وبين الله أحرى أن تقبل، مع أن أحدا لا يعرف هل فلان أو علان هذا هو فعلا من أولياء الله أو لا. وفى القرآن الكريم: "قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ" (الأنعام/ 50)، "قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ" (الأحقاف/ 9). ومع هذا نرى كثيرا من المسلمين يؤمنون بما يعلو بهؤلاء "الأولياء" على الرسل ذاتهم. ولقد أُسْنِدَ إلىَّ فى الأعوام الثلاثة الأخيرة تدريس مادة "التصوف الإسلامى"، فهالنى بل أرعبنى ما يتناقله المتصوفة من كرامات أولئك الأولياء مما لا يجوز إلا فى عقول البلهاء والمعاتيه، مع أنهم يتحدثون بكل يقين عن تلك الأوهام والسخافات التى تخرج تماما عن العقل والمنطق. وهو يقين زائف لا أساس له غير الضحك على الذقون وأكل السحت.
ولا شك أننى كنت، فى طفولتى، أعتقد فى الأولياء، وكان منهم فى قريتنا سِيدِى أبو جميل وسيدى على المغربى وسيدى صالح وسيدى أبو الجِبَب وسيدى على مِسْعِيد وسيدى أبو الريش. ولكن من هم هؤلاء الناس؟ ومن أين أَتَوْا؟ وما دليل ولايتهم؟ لا شىء يُعْرَف عنهم سوى أن الناس تعتقد أنهم أولياء بدليل أن لهم أضرحة يتبركون بها، ولهم موالد يُحْتَفَل بها كل عام فتتجمع الجماهير من القرية والقرى المجاورة قريبا من الضريح حول صارٍ يثبتونه ويفرشون الحى كله بالقش، ويأتى الصييت فينشد بعض المدائح طوال الليل. ورغم هذا فلا مانع من وجود التحشيش وألعاب القمار والبخت والثلاث ورقات وما إلى هذا، وهو ما يوجد على نحو أشنع وأبشع فى الموالد الكبرى كمولد أحمد البدوى وإبراهيم الدسوقى والسيدة زينب. وكان أهل القرية والقرى المجاورة يحجون زَرَافَاتٍ ضخمةً بعد عيد الفطر إلى قرية سديمة حيث يقوم مرقد أبو اليزيد البسطامى، أو ما يعتقد العامة أنه أبو اليزيد البسطامى. وكان قسط كبير من سحر الاحتفال بمولده يكمن فى أن النهر الذى تمتد على شاطئه سديمة تجرى فيه المراكب الشراعية. فكنا، متى اقتربنا من هناك آتين من قريتنا على ظهر الحمار الذى تكون جدتى رحمها الله قد استعارته لأولاد ابنتها اليتامى من بعض أقاربنا الفلاحين، وكانت سديمة تبعد عن قريتنا نحو ثمانية كيلومترات، كنا متى اقتربنا من هناك ورأيناها بقلاعها العالية هتفنا فرحين كأننا طرنا إلى السماء. ومن سديمة كنا نركب المعدية إلى سيدى عبد السلام الأسمر فى النحارية بلدة أول رئيس مصرى: اللواء محمد نجيب.
والآن أرانى أضحك وأتعجب على القسمة، التى لم تقدر لى أن تغرق بى وبأمثالى المعدية المذكورة كما يحدث كثيرا فى مصر أم العجائب والإهمال القاتل. ومن ثم فهأنذا حَىٌّ أُرْزَق وأكتب هذا الكلام الذى لا معنى له، وإلا لكنت الآن ترابا وهواء، ولصرت نسيا منسيا لا يأبه بى ولا بذكراى أحد. وكثيرا ما كانت تنشب المعارك الطاحنة فى مولد أبو اليزيد البسطامى بين البَسَايْنَة (شبان بسيون) والطنطاوية (شبان طنطا)، شأن المصريين حين يقلبون بعبقرية نادرة لا تبارَى كل فرحة إلى مصيبة وكارثة، فتسيل الدماء جَرَّاءَ تبادل ضرب الشُّوم والبُنَيَّات الحديدية وغيرها من أدوات القتال. وكانت إقامة الموالد قد خَفَّتْ فى قريتنا بل تلاشت منذ بضعة عقود، إلا أنها قد عادت إلى حد ما مؤخرا. بل لقد نقل بعض الشبان رفات بعض أولئك الأولياء المزعومين إلى المقابر بعيدا عن المساجد وهدموا الأضرحة منذ ثمانينات القرن الماضى. وهو اتجاه حميد، وإن كنا لا نريد أن يكون سببا فى وقوع التصادم بين فئات الشعب المختلفة.
أذكر أننا، يوم علمنا أن أبى صدمته سيارة وأنه نقل إلى المستشفى لعلاجه، تضرعنا أنا وأخى الأكبر الذى يزيد عمره عنى بثلاثة أعوام إلى سيدى أبو جميل ناذرين ثلاث شمعات إذا أعاد أبى سالما إلينا. ولم نكن نعلم أنه كان قد قضى نحبه، وانتهى الأمر. ومع هذا فقد أرجعنا سبب عدم الاستجابة إلى أننا لم نذهب فنشعل الشموع مباشرة دون أن ننتظر به إلى حين نجاته. كما كنا نعتقد أن الماء الذى نتوضأ به فى جامع أبو الريش المجاور لبيتنا والذى كان يُسْتَمَدّ من بثر خاص بالمسجد هو ماء مبارك يشفى عيون من يتوضأ به ويغسل عينيه منه، مع أنه ماء ملوث يختلط بالطحالب والأتربة نظرا إلى عدم تنظيف الأحواض (المغطاة) والمغطس المكشوف بانتظام. والغريب أن النساء فى ذلك الوقت بالقرية لم يكنَّ يصلِّين إلا القليلات النادرات من العجائز، فى الوقت الذى كن يشعلن الشموع للمشايخ والأولياء الذين لا نعرف عنهم شيئا، وقد يكونون حشاشين أو زناة فسقة أو لصوصا مجرمين، استجلابا لبركتهم الموهومة.
وأظن أن ذهابى إلى الأزهر ودراستى مادة التوحيد، أى علم الكلام، قد خلصنى من كثير من هذه الخزعبلات، إذ أذكر أننى لم أَلُذْ، وأنا فى طنطا، بالسيد البدوى ولا بضريحه، الذى كثيرا ما لجأت إليه رغم هذا أستذكر فيه نظرا لما يتمتع به من هدوء ورائحة طيبة بسبب البَخُور والعطر الذى كان يطيَّب به. وكنت أرى بعض الزوار الذين يطوفون بضريحه يمدون يدهم إلى الضريح من خلال فتحات شبابيك الحديد التى تحيط به، فيكبشون الهواء ويضعونه فى جيوبهم استجلابا للمال والغنى. ومع هذا لم يتصادف أن اغتنى أى من هؤلاء المساكين الملتاثين قط. كذلك لم أكن أحب غِشْيَان مولد أحمد البدوى كراهية للزحام ولِمَا كنت أسمع به من انتشار التحرش الجنسى بالنساء اللاتى يذهبن إلى المَلْقَى حيث تحتشد الجماهير هناك الليلةَ الكبيرةَ، فضلا عن تدخين الحشيش وما يشبهه. وكان هناك السيرك والراقصات أشباه العرايا وبريلّو الذى يسوق الموتوسيكل على الجدران الكروية من الداخل، وقارئو الغيب البكاشون القراريون.
وهنا لا بد لى من الإشارة إلى أننى، بعدما كبرت، كتبتُ عن الأولياء مشيرا إلى ما أعتقد جازما أنه هو الرأى الصحيح فيهم. لقد وضعت كتابين عن التصوف وعن د.عبد الحليم محمود، وقلت فى الكتاب الأخير، وعنوانه: "عبد الحليم محمود- صوفى من زماننا"، ما نصه: "يقول الشعرانى عن نفسه: "كانت القناعة من الدنيا باليسير سَدَاىَ ولُحْمَتى، فأغنتنى بحمد الله عن وقوعى فى الذل لأحد من أبناء الدنيا. ولم يقع لى أننى باشرت حرفة ولا وظيفة لها معلوم دنيوى من منذ بلغت، ولم يزل الحق تبارك وتعالى يرزقنى من حيث لا أحتسب إلى وقتى هذا. وعرضوا علىّ الألف دينار فرددتها، ولم أقبل منها شيئا. وكان المباشرون والتجار يأتون بالذهب والفضة فأنثرهما فى صحن جامع الغمرى فيلتقطهما المجاورون. وتركت أكل لذيذ الطعام ولبست الخيش والمرقَّعات من شراميط الكيمان نحو سنتين، وأكلت التراب لـمّا فقدت الحلال نحو شهرين، ثم أغاثنى الله تبارك وتعالى بالحلال المناسب لمقامى إذ ذاك. وكنت لا آكل طعامَ أمينٍ ولا مباشِرٍ ولا تاجرٍ يبيع على الظَّلَمة ولا فقيهٍ لا يسد فى وظيفته ويأكل معلومها ولا غيرهم من جميع المتهورين فى كسبهم. وضاقت علىَّ الأرض كلها ونَفَرْتُ من جميع الناس ونفروا منى، فكنت أقيم فى المساجد المهجورة والأبراج الخراب مدة طويلة، وأقمت فى البرج الذى فوق السور من خرابة الأحمدى مدة سنة. وما رأيت أصفى من تلك الأيام. وكنت أطوى الثلاثة أيام وأكثر ثم أفطر على نحو أوقية من الخبز من غير زيادة، وضعفت بشريتى وقويت روحانيتى حتى كنت أصعد بالهمة فى الهواء إلى الصارى المنصوب على حصن جامع الغمرى فأجلس عليه فى الليل والناس نائمون، ثم إذا نزلت من السلم إلى الجامع أنزل بجهد وتعب لغلبة روحانيتى وطلبها الصعود إلى عالمها، فإنه لا يُثَقِّل الإنسانَ فى الأرض إلا كثرةُ الشهوات...
ولما غلب علىّ طلبُ العزلة عن الناس تنكرتْ منى جميع قلوب أصحابى ونفروا منى حتى كأنهم لا يعرفونى من ضيق وقتى عن مباسطتهم بالكلام واللغو وعدم المجالسة. وكنت كثيرا ما أخرج إلى موارد البِرَك التى يغسل الناس فيها الفُجْل والخسّ والجزر والبَقْل فألتقط منها ما يكفينى ذلك اليوم مما أعرضوا عنه، وأشرب عليه من ذلك الماء، وأشكر الله تعالى على ذلك. وكنت لا آكل طعام فقير لا كَسْبَ له من المتعبدين فى الزوايا من غير كبير اشتغالٍ خشيةَ أن يكون ممن يأكل بدينه وهو لا يشعر. وكذلك كنت لا آكل طعام قاضٍ ولو كان من أهل الدين لـِمَا عساه أن يقع فيه عند الحاجة من قبول هدايا الناس. ثم إنى تركت أكل طعام كل من يمسك الميزان والكيل والذراع. ثم طويت عن طعام جميع الناس فلا آكل إلا عند أوائل درجة الاضطرار، وذلك حين لا تجد أمعائى شيئا تشتغل به، فيلذع بعضها بعضا. وكنت إذا افتتحت مجلس الذكر بعد العشاء لا أختمه إلا عند طلوع الفجر، ثم أصلى الصبح وأذكر إلى ضحوة النهار، ثم أصلى الضحى وأذكر حتى يدخل وقت الظهر، فأصلى الظهر ثم أذكر إلى العصر، ومن صلاة العصر إلى المغرب، ومن صلاة المغرب إلى العشاء... وهكذا. فمكثت على ذلك نحو سنة. وكنت كثيرا ما أصلى بربع القرآن بين المغرب والعشاء، ثم أتهجّد بباقيه فأختمه قبل الفجر. وربما صليت بالقرآن كله فى ركعة. وربما نزلت بثيابى فى الماء البارد فى الشتاء حتى لا يأخذنى نوم". وهذا كله كلام فارغ لا يمكن أن يقنع قطة، اللهم إلا إذا خلعنا عقولنا من رؤوسنا ورمينا بها فى أقرب مقلب زبالة. والحمد لله أن مقالب الزبالة فى بلادنا كثيرة هذه الأيام وموجودة فى كل مكان على قفا من يشيل.
ثم إذا كانت الآيات الخارقة بهذه السهولة فلماذا يا إلهى ينفرد المسلمون بالتخلف الحضارى منذ وقت طويل دون أن ينفعهم وجود هؤلاء المتصوفة ذوى الكرامات بين ظَهْرانَيْهِمْ؟ لماذا مثلا لا يطير واحد من متصوفة عصرنا عبر حدودنا مع الأرض المحتلة ويفتح الأبواب والخزائن والصناديق فى وزارة الدفاع اليهودية، ويأتينا بأسرار العدو العسكرية ويستولى على كَمْ مدفع عَلَى كَمْ صاروخ طويل المدى على كم قنبلة نووية على كم طائرة يدسها فى جيبه أو يضعها فى مخلاته التى على ظهره حتى نستطيع ضرب دولة العدو فى مقتل؟ ويا حبذا لو عرّج فى طريقه على البنك الوطنى لآل صهيون وسحب لنا عدة مليارات تنفعنا فى زنقتنا الراهنة وتفك عن الشعب ضيقته، فيشمّ نفسه قليلا. وإذا كان هذا كله هو عمل متصوف واحد فما بالكم لو قامت به عدة جماعات؟ لا ريب أنهم سوف يخربون بيت إسرائيل، وبيت أمريكا والذين خلفوا أمريكا أيضا فوق البيعة، ويضعون حدا للمعاناة التى يقاسيها إخواننا الفلسطينيون المظلومون. أم إن كرامات الصوفية تنحصر فقط فى الطيران المحلى لا الدولى؟ واضح أن إخواننا المتصوفة ينامون دائما وهم عرايا ملط! ولكن ينبغى أن ينصحهم الناصحون بأن يتغطَّوْا جيدا حتى لا يصابوا بالبرد وتكثر عندهم الهلاوس.
وخذ عندك أيضا هذه الكرامة الظريفة التى نحن الآن فى أشد الحاجة إليها، إذ نحن خارجون من ثورة، والجماهير ساخطة فاقدة للصبر لا تريد أن تنتظر حتى تدور عجلات الإنتاج ويفيض الخير، وفى ذات الوقت لا تريد أن تشتغل، ثم هى مع ذلك تريد زيادة المرتبات وتوفير اللحوم والفواكه بأسعار رخيصة. ففى كتاب "اللُّمَع" للسراج الطوسى يزعم أحد الهلاسين ببجاحة عين أنه كلما توضأ سال الماء منه قضبانا من الذهب. تاهت إذن والتقيناها! تعال يا سيدى يا صاحب الكرامة الذهبية وحول لنا أنهارنا وترعنا ومصارفنا إلى قضبان وسلاسل وحلقان وغوايش وماشاءاللاهات وبروشات وعقود ذهبية بدلا من الماء الملوث المنتن فى تلك القنوات والترع والأنهار، وخَلِّ الغَلاَبَى يفرحوا قليلا بدنياهم وتتزين نساؤهم وبناتهم بذهب حقيقى بدلا من الذهب القشرة والذهب الصينى الذى هَلَّ علينا فى السنوات الأخيرة. نعم خَلِّهم يقبّوا على وجه الدنيا من نفسهم مرة، فيكتب الله لك أجرا عظيما، فإنما تُرْزَقون بضعفائكم.
كما أن هذه الكرامة سوف تحل المشكلة الأزلية المتمثلة فى أن شعوبنا لا تحب أن تعمل شيئا، وإذا عملت لا تتقن ما تعمله، لأن الناس كلهم سوف يكون عندهم من الذهب ما يمكِّنهم من العيش الرخىّ الكسول من هنا حتى يوم الدين دون أى عمل متقن أو غير متقن. والطريف الذى يُبْكِى من الغيظ ويفقع المرارة أن صوفيًّا زميلا لصاحب الكرامة لم يشأ أن يفوِّت له هذه "الـمَعْرَة"، فحقّر من شأن القضبان الذهبية قائلا إنها لعب عيال لا يساوى شيئا. خلاص يا سيدى! اتركوا لنا لعب العيال هذا، وانصرفوا أنتم إلى جِدّ الرجال! نحن متواضعون فى تطلعاتنا وأحلامنا ومطالبنا، ويكفينا أن تتحول مياهنا إلى ذهب، وبخاصة أننا، كما تعلم، شعوب لا تحب العمل وتعب القلب والـخَوْتَة الكذابة التى تشغل أنفسها بها الشعوب المتحضرة.
وما دمنا فى أوكازيون الخوارق والعجائب فلنأخذ هذه أيضا، فلن تضرّ: يُرْوَى عن أبى يزيد البسطامى أن أستاذه أبا على السندى دخل عليه مرة بجراب فى يده صَبَّ محتوياته بين يديه، فإذا جواهر من كل نوع، فسأله أبو يزيد: من أين لك هذا؟ فقال: وافيتُ واديا قريبا من هنا، فإذا به يفيض بالجواهر التى تضىء كالسراج، فقلت: أحمل منها قليلا. فعاد أبو يزيد يسأله كى يغيظنى أنا وأمثالى: كيف كان وقتك؟ (أى كيف كانت حالتك الروحية آنذاك؟)، فأجابه بتواضع عظيم لا يتواضعه إلا الصوفيون أصحاب الكرامات: كان وقتى وقت فترة (أى خمول) عن الحال الذى كنت فيه قبل ذلك. يريد أن يقول إن هذه الجواهر التافهة إنما هى ثمرة خموله الروحى، ولو كان نشيطا لكان له وضع آخر. وهو، كما ترى، كلام جميل، لكنه ليس أكثر من كلام. وهل على الكلام جمرك كما تقول العامة؟
ومن المضحك الذى يعكر المزاج الرائق أن بعض الكتاب فى عصرنا يرددون ما يقوله المتصوفة عن الكرامات التى تقع لهم، كعبد الحفيظ فرغلى على القرنى، الذى كرر فى كتابه عن الشعرانى تكريرَ المصدِّق أن الشعرانى، لما ترقى فى معراج الروحانية، كان يطير من سطح مسجد الغمرى بالقاهرة إلى سطح بيته. الله أكبر! هل هذا معقول؟ لكن الأستاذ القرنى يؤكد أن الكرامات قد أيدها العقل والنقل. وفى كتاب "اللُّمَع" للسراج الطوسى باب لهذه النقطة يقول فيه إن "أهل الظاهر" من علماء المسلمين ينكرون وقوع مثل تلك الأشياء لغير الأنبياء، ثم يقوم هو بالدفاع عن الرأى المضاد، رأى المتصوفة، وملخصه أن هذا جائز للأولياء أيضا مع بعض الفروق بينه حين يقع على أيديهم وبينه حين يقع على أيدى النبيين.
وأنا لا أحب الجدال فيما يمكن أن نحسمه على أرض الواقع، التى هى أفضل من ملايين المجادلات، وأقول دائما لمن يزعم وقوع الكرامات منه أو من غيره: لماذا لا يستخدم أصحاب الكرامات كراماتهم فيما يفيد الأمة بدلا من تلك الأشياء التى لا تقدم ولا تؤخر؟ هاكم إسرائيل مثلا، فأرونا كراماتكم فى هزيمتها وإزالتها مراغمةً للكفار الذين أَرَوْنا عجائب قدرتهم العلمية والسياسية والعسكرية فى إقامتها والحفاظ عليها حتى يوم الناس هذا وسط مئات الملايين من المسلمين، والمسلمون بحمد الله فيهم من أهل الطريق أصحاب الكرامات هذه الأيام ما يكفى لأداء هذه المهمة الجليلة وزيادة! ونترك لهم تدبير الوسيلة التى يزيلونها بها: دعاءً ضدها، أو نفثًا تجاهها، أو تَفْلاً عليها، أو ترابًا يحثونه فى وجوه أهلها، أو أى شىء آخر مما يَرَوْن أنه كفيل بأداء تلك المهمة المهمة! ثم إن للصوفيين عند أمريكا لمنزلةً، وأى منزلة! فلِمَ لا يستغلونها لتنفيذ هذا الأمر الذى عَىَّ به العرب والمسلمون أجمعون، وحاق بهم من جرائه الكوارث التى لم تكن تخطر لهم على بال؟ وقد تستجيب أمريكا لهم فتكفيهم الدعاء والنفث والتفل وحثو التراب، وكفى الله المتصوفين القتال!
أما الكرامات التى من شاكلة الكرامتين التاليتين المنسوبيتن للسراج صاحب "اللُّمَع" فلا حاجة لنا بها، وليبلها من يصدقون بها ويشربون ماءها، فلعلها أن تشفيهم من الاعتقاد فى هذه الخرافات المضحكة: تقول الكرامة الأولى إن السراج وفد فى رمضان إلى بغداد، وسكن فى غرفة خاصة به فى أحد المساجد هناك، وأَعْطَوْه رئاسة الدراويش، فكان الخادم يأتيه كل ليلة برغيف ويتركه له فى غرفته، ليفاجأ الناس يوم العيد بعد رحيله بأن الثلاثين رغيفا باقية كما هى لم تمس. أى أن الرجل لم يأكل طوال ثلاثين يوما، وأنه قد صلى وقرأ القرآن خمس مرات فى صلاته بالناس فى التراويح، وكان يذهب هنا وهناك ويتحرك طوال الشهر، دون أن تدخل معدته لقمة واحدة. يا للجبروت! فهكذا تكون التقوى، وإلا فلا. ويريد المتصوفة أن نصدق هذه الترهات! أنا أميل، إن صحت الرواية، وأنا لا أصححها أبدا، أن السراج قد عاف الرغيف القرداحى الذى كانوا يتعطفون به عليه وكأنه وليمة فيها ما لذ وطاب، فلم يقربه، وكان هناك من يمده فى السر بشهى الطعام بدلا من هذا الطعام الجَشِب.
أما الكرامة التالية فخذ حذرك حتى لا تسقط من الرعب، إذ يحكى السذج أو الخبثاء (لا فرق!) أن السراج أيضا، خلال محادثاته فى التصوف ذات مرة، أخذه الحال فقذف بنفسه فى نار موقدة وهو يدعو الله، فلم تلفح له وجها، ولم تحرق له ثوبا. يحكى القصة من حكاها بكل برود وجمود وجه. لكن هل يظن أننا يمكن أن نصدق قصة كهذه ونعتقد أن الله نجى السراج من الحريق، وهو سبحانه وتعالى قد حذرنا من رمى أنفسنا بأيدينا إلى التهلكة؟ هل يريد هؤلاء الملتاثون أن نصدق أن عواطف السراج الدينية أقوى من عواطف النبى وصحابته؟ وإلا فلماذا لم يقدم أى منهم على مثل ذلك التصرف المخبول، الذى كنت أود أن يحترق فيه السراج حتى يريح ويستريح بدلا من هذا التخلف الأزلى؟
حتى الغيب ادَّعَوْا أن بمستطاعتهم الاطلاع عليه. يقول د. عبد الحليم محمود فى كتابه: "قضية التصوف- المدرسة الشاذلية" عن الشيخ عبد الفتاح القاضى محفظ القرآن فى قرية شِبْلِنْجَة الواقعة بين بنها ومنيا القمح، الذى يعده من العارفين بالله: "سأله مرةً سائلٌ فى قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" قائلا: كيف يتفق أن النفس لا تدرى ما تكسب غدا مع ما يختص الله به أولياءه من أسرارِ ومغيَّباتِ المستقبل؟ فكان جوابه فى إيجاز بليغ: لقد قال سبحانه: "وما تدرى نفس"، ولم يقل: "روح". وإيضاح ذلك كما سمعناه ونرويه بالمعنى لا باللفظ أن النفس، بما غطى الله عليها من ران الطباع وما غشاها به من كثافة ذميم الخصال، لا يمكن أبدا أن تدرك شيئا من أسرار الله. وهذه هى النفس المرادة فى الآية. فإذا ما ارتقت من نفس أمارة بالسوء إلى نفس لوامة، ومن لوامة إلى مُلْهَمَة، ومن مُلْهَمَة إلى مطمئنّة، ومن مطمئنّة إلى راضية، ومن راضية إلى مَرْضِيّة دخلت فى حيز النفس الكاملة. وحينئذ تكون قد تخلصت من ران الطباع وكثافة ذميم الخصال، ولا يتحكم الجسد فيها، ويكون صاحبها روحانيا. وهذه المرتبة هى التى تسمى فيها النفس: روحا. والروح سر من أسرار الله، ولأنها سر الله فهى درّاكة عالمة بما كان وما يكون. فإذا وصل صاحبها إلى هذه المرتبة انكشف الغطاء ورأى أمامه غرائب الماضى وخفايا الحاضر وعجائب المستقبل. وكل روح فى أصلها كذلك. فإذا ما غيبت فى الجسد سيطر عليها بكثافته، وغطى ما تحويه من أسرار. فمن جاهد وأخرجها من هذه الكثافة عاد بها إلى أصلها، واستحقت أن تنادَى: "يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى ربك راضية مرضيّة * فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى". وأولياء الله الذين اختصهم بأسراره منهم من وصل إلى هذه المرتبة، ومنهم من تجازوها. وبذلك تنجلى الشبهة فى السؤال، ولا تعارض الآية ما يختص الله به أحبابه من أسرار. فهم علماء الله بحق، الذين عناهم بقوله: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم". وهم بعينهم الذين تناولتهم الآية الكريمة: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"...".
والحق أننى لا أدرى كيف يمكن تفسير الآية بهذا الكلام الغريب! إن كلمة "نفس" فى الآية وفى جميع السياقات المشابهة إنما تعنى "الإنسان"، وإلا فمعنى ذلك أن أصحاب النفوس التى غطى عليها الران وغَشِيَتْها كثافةُ الخصال الذميمة هم وحدهم الذين يجهلون الغيب ولا يعرفون ماذا يكسبون غدا ولا بأى أرض يموتون، أما غيرهم فيعرفون الغيب ولا يجهلون شيئا مما يقع لهم فى المستقبل. أليس كذلك؟ فأين يا ترى نضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى لا يصل الشيخ القاضى ولا كل الشيوخ القضاة فى العالم إلى موطئ قدمه فى الروحانية والتجرد؟ لقد أكد القرآن أنه، عليه الصلاة والسلام، لا يعلم الغيب ولا يدرى ما يُفْعَل به ولا بأى واحد من المسلمين حسبما تقول الآية 50 من سورة "الأنعام" والآية 188 من سورة "الأعراف" والآية 9 من سورة "الأحقاف" وغيرها من الآيات. أم إن الشيخ القاضى يظن أنه أرفع درجة من الرسول الكريم؟ كذلك نسمعه يقول إن من أولياء الله الذين اختصهم بأسراره منهم من وصل إلى هذه المرتبة، ومنهم من تجازوها. ومعنى ذلك أن هناك درجة أخرى وراء علم الغيب قد وصل إليه من تجاوز هذه المرتبة. فما تلك الدرجة يا ترى؟ الحق أن هذا كلام متفلت خارج أسوار العقل.
كما أنه يخلط بين قوله تعالى فى الآية السابعة من سورة "آل عمران": "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم" وبين علم الغيب مع أن الأمرين مختلفان: فالآية تشير إلى أن فى القرآن آيات متشابهات لا يعلم تأويلها سوى الله والعلماء الراسخين فى العلم لأن هؤلاء العلماء يتميزون باستفاضة المعرفة ولطف الفهم ودقة التفسير، ولا علاقة لها بعلم الغيب. إلا أن الشيخ القاضى يخلط بين الأمرين، اللذين لا توجد بينهما أية صلة، فيفسد الأمر إفسادا شنيعا ما كان أغناه عنه لو لزم حدوده ولم يُفْتِ فيما لا علم له به. بل إن بعض المفسرين يقولون إن تلك الآيات التى تشير إليها الآية لا يعلم تأويلها إلا الله وحده. أما جملة "والراسخون فى العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا" فهى جملة مستأنفة لا علاقة لها بما مضى. أى أن الواو التى فى أولها ليست واو عطف بل واو استئناف. إلا أن الشيخ طبعا لا يعرف شيئا من هذا، فيفتى على مزاجه ظنا منه أنه أتى بما لم تأت به الأوائل ولا الأواخر.
ومن ذكرياتى الدينية المتعلقة بالمساجد تلك الليالى القمراء الصيفية الرائعة التى كنا نقضيها أحيانا بعد وفاة والدى نائمين على المشّاية (أى الترسينة التى تصل بين الطرفين العلويين لدارنا بالقرية، والتى لم يكن تحتها إلا الفراغ بين البيت والدكان)، إذ كنت أنام فوق الشلتة التى كنت أرى جدى رحمه الله متمددا عليها فى مرضه الأخير صامتا لا يتكلم، وكان الطل يهبط فى آخر الليل علينا ونحن نيام بدلا من القيظ الخانق الصاهر داخل الغرف فنشعر أننا فى الجنة. ثم تتم السعادة بصوت المؤذن على سطح المسجد المجاور، مسجد سيدى أبو الريش. وكان المؤذن هو الحاج محمد الرِّبَّة، صاحب الصوت الندى الحنون، فكان صوته ينزل على قلبى سلاما وابتهاجا رغم أننى لم أكن أنهض من مرقدى للصلاة، بل كنت أبقى فى فراشى أتنعم بالصوت والجو الروحانى الشفيف، ثم أعود للنوم دون أن أشعر. لقد كنت فى نحو التاسعة من عمرى آنذاك.
كما كنت مغرما ككل أولاد الريف فى ذلك الوقت بصوت طبل المسحراتى والبازة التى تسبق بها أم عوض طبل المسحراتى بقليل، فكأنها تمهيد له. وكانت أم عوض تكتفى بأن تنادى الناس فى البيوت قائلة فى بساطة محببة: "أنا ام عوض يا ولاد". وفى ليلة من الليالى، وكان أبى قد مات، عزمت على أن أبقى فى الشارع حتى أرى، وجها لوجه، المسحراتى وهو يقرع طبله أمامى لا مجرد سماع من داخل البيوت خلف الأبواب المغلقة، فنمت على التراب فوق مصطبة بيت الشيخ أحمد زيد صانع القفف والغلقان بعيدا بضعة أمتار عن بيتنا، إلى أن استيقظت على صوت طبل المسحراتى، فكنت كمن بُعِث من القبور إلى الحياة مرة أخرى من شدة الفرحة. وبطبيعة الحال لم أخف من العفاريت، إذ كنا نؤمن أن العفاريت تُسَلْسَل فى ليالى رمضان، كما كان الوقت صيفا فلا ينام الناس مبكرين كما يفعلون فى فصل الشتاء والأمطار والبرد، فضلا عن أن الناس فى رمضان يسهرون ولا يخلدون إلى الفراش سريعا على عكس الحال فى ليالى الشهور الأخرى، وبعض الدكاكين لا تزال مفتوحة، وأنوار مصابيحها تزيح ظلمة الشوارع.
والآن نعود إلى مسيرة حياتى فأقول: لقد كان التعليم فى طفولتى جادا لا يعرف الهزل ولا التدليل، وكان أهلونا يرددون أن "عصا الفقيه من الجنة". وهو معنى عجيب، إذ ينظرون إلى العصا لا على أنها أداة للضرب المؤلم، بل على أنها وسيلة تربوية ناجعة تأخذ بيد الطفل إلى مراقى العلم والفلاح. ولهذا لم يحدث تقريبا أَنِ اعترض أحد من أهلينا على ضرب الفقيه للتلاميذ. وكان سيدنا الشيخ مرسى رضوان، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، كفيفا فكان يضربنا بالخيزرانة التى فى يده لا يبالى أين تقع من أجسادنا. كما كانت هناك الفلقة، التى كانوا يضعون أرجل التلاميذ المهملين أو المتمردين فيها حيث يُلَفّ عليها الحبل المربوط فى طرفى عصا غليظة من قِبَل ولدين من أولاد الكتاب الأشداء، فلا يستطيع التلميذ، ولو كان أجعص جعيص، أن يتفلفص منها قيد شعرة، ثم ينهال الفقيه بالخيزرانة الرفيعة اللدنة على باطن قدميه حتى يلهبهما، ويبكى الولد ويصرخ لعنان السماء، وما من مجير. وأنا، وإن كنت غير راضٍ تماما عن تلك الطريقة القاسية، أرى أن تدليل الأولاد الآن قد بلغ الغاية من السخف والبلاهة بحجة التربية الصحيحة، وأرى أن المنهج السليم فى التربية يقع فى نقطة وسط بين تلك القسوة وهذا التدليل الأحمق المفسد. وإلا فلو كان العقاب أمرا سيئا فلم جعل الله، إلى جانب الجنة، نارا محرقة تشوى الجلود وتصهر ما فى البطون؟ إن الحياة ليست نعيما ورُفَهْنِيَة، بل هى عمل شاق وجِدٌّ صارم، وفيها بجوار هذا بعض السعادة والابتهاج. فلماذا يا ترى يريد بعض الناس الذين يزعمون أنهم يفهمون التربية أفضل من غيرهم أن يُعْفُوا الطفل والتلميذ والطالب من العقاب إذا أخطأوا أو أهملوا؟ لقد انهار التعليم فى مصر والعالم العربى، ضمن أسباب انهياره، بسبب سياسة التدليل والتربيت على الأكتاف المتبعة مع التلاميذ والطلبة رغم كل ما نشاهده من أفعالهم السيئة التى لا تطاق حتى لقد صار الكثير منهم لا يحضرون الحصص والمحاضرات، ويظنون أن مجرد الاستذكار هو تكليف لهم بما لا يطيقون، ومن ثم لا ينبغى أن يُطَالَبُوا به.
وقد اشترك فى تعليمنا بجمعية المحافظة على القرآن الكريم، حيث كنا نجلس على مقاعدَ أو دِكَكٍ خشبيةٍ نظيفةٍ وأمام كل منا قِمَطْره الخاص، عدد من المشايخ والأساتذة منهم، بل على رأسهم، سيدنا الشيخ مرسى رضوان (وهو فعلا سيدنا وتاج رؤوسنا جميعا. ألم يعلمنا القرآن المجيد؟). وهناك ابنه الشيخ نبيه، والشيخ إبراهيم حجاج، والشيخ محمود أبو الخير، والأستاذ عبد الفتاح غازى، الذى ذهب إلى المدرسة فى طنطا، إلا أنه لم يكمل المشوار، وكان يلبس جلاليب أفرنجية أنيقة، ويضع فوق الجلباب الأفرنجى الجميل فى الشتاء جاكتة آنق وأجمل، وكان لطيف المعشر مريح ملامح الوجه، لا أذكر أنه ضرب أحدا منا، ومع ذلك كانت له هيبة. وكان يعلمنا الإملاء والحساب، أما القرآن فيعلمناه المشايخ السابقة أسماؤهم، وإن كان الشيخ نبيه ينفرد عنهم بتعليمنا القرآن والإملاء والحساب جميعا. وكان أحيانا ما يستقل هو وأبوه بقسم من التلاميذ فى كتابهما، ثم تدور الأيام فيعودان إلى الالتحام بجمعية المحافظة مرة أخرى.
وكان هناك قبل كثير من هؤلاء الأستاذ، أى الأستاذ أحمد تَنْوَة، وابنه الأستاذ محمد تنوة، الذى ترك الجمعية مبكرا والتحق بالمدرسة الإلزامية، ثم أصبح ناظرا لها يوم كنا نهتف فى فنائها الصغير بالناحية البحرية مرددين فى طابور الصباح نشيد "مصر، مصر، مصر أُمُّنا" حين التحقتُ بها قبيل وفاة والدى، إذ كان يُعِدّنى للمدرسة الإعدادية فى طنطا، وأخى الأكبر للأزهر الشريف. وكان الأستاذ تنوة من أصدقاء أبى، ويأتى إلى الدكان فيجلس على الكرسى، ويدخن السجائر، ولكنه لا يأخذ من كل سيجارة إلا عدة أنفاس قليلة ثم يلقيها على مد ذراعه بأناقة بل بتأنق، فكان هذا التصرف منه يعجبنى جدا. لا أقصد أننى كنت أعرف مضارّ التدخين فأنا سعيد بأنه لا يكمل تدخين السيجارة كلها، بل لأن هذا كان فى نظرى دليل رفاهية واستغناء، فهو يحرق الفلوس ثم يلقيها على الأرض لا يبالى.
وكان هناك أيضا الشيخ أحمد الشيخ، والشيخ محمد الدعلوب، الذى التحق قبيل وفاته بفترة بالإذاعة والتلفاز مُوَشِّحًا دينيًّا ذا صوت جميل، والذى ما زالت صورته فى خيالى حتى الآن رغم انصرام كل هاتيك العقود الطويلة وهو يعلمنا فى الفصل الجديد فى آخر الفناء بجوار مكتب الناظر كيفية الوضوء والصلاة، وما فتئت عبارة "حذاء أذنى" ترن فى مسمعى حتى الآن حين كان يطلب منا أن نردد وراءه ما ينبغى أن نعمله حين نكبِّر أو نركع أو نقوم من الركوع أو نهوى للسجود: "وأرفع يدى حذاء أذنى". ومن الطريف أننى ظللت فترة طويلة أظن أن إطار الأذن يُدْعَى: "جزمة". أليست كلمة "حذاء" تعنى "حزمة"؟ أرأيتم عبقرية كهذه العبقرية التى خصنى المولى بها؟ رحم الله الجميع. ترى لو لم يقيض الله لنا هؤلاء المشايخ والأساتيذ فماذا كنا نصير؟ أدعو الله لهؤلاء الرجال الكرام بالجنة والرحمة والرضوان، فقد أَدَّوْا دورا حضاريا عجيبا رغم أننا لم نكن نقدر ما صنعوه معنا حين كنا تحت أيديهم.
قلت: "رحم الله الجميع" لأنى كنت أظن أنه، بموت الشيخ إبراهيم حجاج منذ شهور، يكون جميع هؤلاء الأساتذة والمشايخ قد تُوُفُّوا. إلا أننى، من جواب على سؤال عابر وجهته للأستاذ بسيونى صيرة جارنا المحامى الخبير بكل شىء وكل شخص فى القرية، عن الشيخ محمود أبو الخير، الذى كان قد أخبرنى ابن خالى قبلا أنه مات، علمت أنه لا يزال حيا يرزق، فعاودت السؤال للتحقق من صحة ما أسمعه عنه، فأكد لى صديقنا المحامى أنه ما برح على قيد الحياة، فاتفقت معه على أن نذهب نزوره لأقضى بعض ما له من حق عندى بوصفه أحد من علمونى فى صغرى ممن لولا هم ما صرت إلى ما أنا عليه الآن، إن كنت شيئا فعلا. وفعلا ذهبت أنا والمحامى المذكور وزرته فى زُقْرِه، الذى لم أدخله فى حياتى قرب الجامع الكبير بوسط القرية سوى مرتين تقريبا، فجددت العهد بذكريات الطفولة هناك، وإن كان كل شىء قد تغير، ووجدت الشيخ محمود لم تتغير ملامحه تغيرا يذكر، وكان سعيدا بالزيارة، وقبلت يديه مرتين معلنا أن له فى رقبتى دينا لا يمكننى قضاؤه، وقدمت له هدية على سبيل التعبير عن تقديرى له. وكان هناك بنتان وولدان من أبناء الجيران يحفظون على يديه القرآن، فأخذت أداعبهم وأشجعهم، واشتريت لهم بعض الحلوى، وأعطيتهم بعض الجنيهات القليلة. ولا شك أنهم قد استغربوا تصرف ذلك الرجل العجوز الخارج عن نطاق ما ألفوه. وعدت من الزيارة، وأنا سعيد أن الشيخ محمود أبو الخير لا يزال حيا، وأننى قد عبرت له قبل أن أموت عن إحساسى العميق بالدين الذى يديننى به والذى لم أكن أقدره حق قدره من قبل، راجيا من الله أن أتمكن فى الزيارة التالية لى إلى القرية من زيارة الشيخ مرة أخرى وحمل بعض الألطاف مرة أخرى إليه، وهو ما فعلته بعد الزيارة الأولى بنحو أسبوعين حين زرت القرية مرة أخرى فى طريقى لحضور عقد القران الخاص بحفيد أخى الأكبر بالإسكندرية، وأنوى أن أكرره كلما استطعت، تعويضا لهذا الأستاذ الذى علَّمنا هو وأمثاله القرآن المجيد لقاء قروش زهيدة لا تسمن ولا تغنى من جوع فى ذاتها، إلا أن الله سبحانه وتعالى "طرح فيها البركة" بتعبير أهل القرية.
ومن الذكريات الطريفة التى لا أزال أذكرها عن الشيخ محمود أبو الخير أنه كان يسمِّع لوحا أو حصة لأحد الأولاد الكبار العفاريت، فغلبه النوم من كثرة الإرهاق والصخب والزعيق فى الأولاد والاستماع إليهم، علاوة على حرارة الظهيرة الصيفية، فما كان من التلميذ الكبير المخضرم إلا أن أخذ يردد على أذن الشيخ محمود محاولا أن يوقظه قائلا: "شِيخْ محمودُ، يا داودُ!"، ولما لم يرد عليه الشيخ محمود المستغرق فى النوم من شدة الإرهاق أحذ يردد هذه الجملة المسجوعة عفو الساعة: "شِيخْ محمودُ، يا داودُ!". يريد أن يقول: إننى، يا شيخ محمود، قد انتهيت من تسميع لوحى (أو حصتى)، ووصلت إلى قوله تعالى من سورة "سبأ": "يا داود، إنا جعلناك خليفة فى الأرض...". أى لقد وصلت إلى نهاية الشوط، وأريدك أن تطلق سراحى.
ومن هذه الذكريات أيضا أن والدة الشيخ محمود أبو الخير كانت ترسل إليه من حيهم البعيد نسبيا عن حى كتاب سينا الشيخ مرسى رغيف عيش مرقرق من أرغفة الريف المبططة ومعه بيضتان مشويتان، فيلف البيضتين فى الرغيف، ويمسكه بيديه الاثنتين ويأكله بهذه الطريقة الغريبة الظريفة التى وصفها د. طه حسين فى كتابه: "الأيام" وقال إنه طبقها فى طفولته ذات مرة فأثارت ضحك إخوته وأخواته واستغراب أبيه وبكاء أمه. وبالمناسبة فالشيخ محمود كفيف مثله. وكانت عيوننا تتابعه، وهو يأكل البيض، بشىء من الحسد لأننا نكون ساعتئذ جائعين مرهقين، ولأن البيض لم يكن طعاما عاديا فى تلك الأيام، أيام الفقر الذَّكَر، كما كانت رائحة صفار البيض بلونه الفاقع الجميل تفغم أنوفنا، فلا نملك ريقنا من التحلب "داخل أفواهنا"، ولا داعى للفضائح أكثر من هذا.
كذلك أخذنى والدى مرة معه إلى طنطا فى صغرى واصطحبنى إلى محل حلوانى فى شارع البورصة وأطعمنى هريسة، فأحضر الجرسون لى شوكة آكل بها الحلوى. وكانت أول مرة أرى فيها الشوكة، دَعْكَ من استعمالها، فنحن لم نكن نعرف الهريسة فى القرية، كما كنا نستخدم أيدينا غالبا فى تناول الطعام، أما إن اردنا تحبيك المسألة فعندنا الملعقة. ولما عدت إلى القرية أخذت أحكى لجيراننا ما وقع، وجاءت سيرة الشوكة، فلم أعرف ماذا أسميها. وهنا تفتقت عبقريتى (ألم أخبركم من قبل أننى عبقرى، فلم تصدقوا؟)، فقلت لهم إن الحلوانى قد أعطانى "مِذْاَرة صغيرة" آكل بها الحلوى. فضحك الجميع، وتبرع أحدهم فأفهمنى أنها تسمى: "شوكة"، وهو ما أثار دهشتى، إذ إنى أعرف الشوكة، وهى تشبه الإبرة، فما علاقة هذه بتلك؟ وبهذه الطريقة المزعجة دخلت كلمة جديدة قاموسى اللغوى لم تكن فيه من قبل.
وبما أننا بصدد تنامى معجمى اللغوى أذكر أننى، وأنا فى المدرسة الابتدائية بالقرية بعد ذلك ببضع سنين، وكان والدى قبل أن يموت بقليل قد أخرجنى من الكتاب وجمعية المحافظة وأدخلنى تلك المدرسة إعدادا لى لدخول التعليم المدنى، فى الوقت الذى كان يعد أخى الأكبر للالتحاق بالأزهر، كنت أقرأ أمام مدرس العربى نصا من كتاب قراءة الفرقة الرابعة، ومرت بى فى النص كلمة "مهذَّب"، فظننت أنها تعنى الرجل "المهزَّأ"، أى غير المحترم، للتقارب الشديد بين حروف الكلمتين. ورغم أن الأستاذ قد شرحها بأن معناها الشخص المحترم فقد ظللت فترة لا أستطيع هضم هذا الشرح الذى بدا غريبا جدا فى نظرى آنذاك.
كما أذكر أننى فى حصة القواعد قد طلبتنى المدرِّسة (أبله نجاة) من فصلى (رابعة 1) إلى الفصل الآخر (رابعة 2) لإجابة سؤال عن أسماء الاستفهام لم يستطع التلامذة هناك أن يجيبوا عليه، ولما أفلحتُ فى الإجابة المرادة طلبتْ منى أن أدور على الصفوف وأصفع كل تلميذ ممن عجزوا عن الجواب. ولا أذكر الآن تفاصيل ما وقع، إلا أن هناك أمرين مهمين: أن التلاميذ المصفوعين فى هذه الحالة لن يسكتوا غالبا على من صفعهم، بل المنتظر أن يؤذوه بعد الانتهاء من الحصة، كما أن هذا المنهج مسىء تربويا كما هو واضح لا يحتاج إلى تبيان. والغريب أننى كنت قد انتقلت مباشرة من الكتاب وجمعية المحافظة على القرآن الكريم إلى السنة الرابعة على عكس بقية التلاميذ، الذين وصلوا إلى فرقتهم بالتدرج الطبيعى بدءا من السنة الأولى الابتدائية، فكان المتوقع أن يكونوا أفضل منى ويعرفوا الجواب ولا أعرفه أنا. ولكن هكذا سار الأمر. وأرجو ألا أكون قد تعرضت إلى الانتقام بعد خروجنا من الفصل، فأنا لا أستطيع أن أذكر ماذا حدث بعد ذلك.
وفى المدرسة الابتدائية كنت، فى حصة العلوم، أرسم صور الطيور والحيوانات التى أراها أمامى فى الكتاب رسما متقنا، لا لأننى كنت بارعا فى الرسم ذاته، بل لأننى كنت بارعا فى تقليد ما هو مرسوم أمامى. وكان الأستاذ يُسَرّ من صورى. ثم إننى وزميلا لى أخبرْنا مدرس الرسم، وكان اسمه فيما أذكر مصطفى القرش، وهو من قرية مشال، التى منها د. زغلول النجار والتى لا تبعد عن قريتنا سوى ثلاثة كيلومترات، أننا نحب الرسم، فطلب منا أن نقابله العصر فى غرفة النشاط، فأتيناه فى الميعاد، فكَلَّفََنا رسم بعض الأشياء عن طريق التنقيط باستعمال سن القلم الرصاص فى الضغط على ورقة اللزق الملونة بحيث تلتصق النقط التى تنفصل من الورقة على صفحة كراسة الرسم مكونة الصورة المرادة، وهو ما فشلنا فيه على النحو الذى أراده الأستاذ القرش وتوقعه منا. وشعرنا، كما شعر هو من قبلنا، بخيبة الأمل، وخرجنا ولم نعاود مثل هذا الادعاء مرة أخرى. كما كان هناك طين الصلصال، الذى كنت أصنع منه صورة ثعبان أو وجه إنسان، ثم لا شىء آخر عدا هذا، إذ لم أكن موهوبا فى مجال الفن التشكيلى البتة على عكس ابنتى الصغرى سلوى، التى تتقن الرسم إتقانا مدهشا، وحاولتُ إغراءها بالالتحاق بكلية الفنون الجميلة عبثا، فرفضتْ وفضلتِ الهندسة عليها.
ونعود إلى الكتاب وجمعية المحافظة فأقول: كانت الطريقة التى تعلمنا بها فى طفولتنا القراءة والكتابة طريقة ممتازة. وإنى لأؤكد أننا، منذ أتقنّا القراءة والكتابة، لم نعد نخطئ فى الإملاء أخطاء تذكر. ولا أظننى قد أضفت إلى ما تعلمته فى القرية شيئا فى الإملاء ذا قيمة. لقد كانوا فى كثير من الأحيان يستفزّون قدراتنا بأن يطلبوا منا مثلا كتابة كلمات وجمل من نوع "توت عنخ آمون" أو "اللؤلؤ يتلألأ" أو "ما لكم تكأكأتم علىَّ كتكأكئكم على ذى جِنَّة؟ اِفْرَنْقِعُوا" وما إلى ذلك، كما علمونا اللام القمرية واللام الشمسية، وكذلك الفرق بين التاء والهاء المربوطتين، وبين الحروف المعطَّشة وغير المعطَّشة، وبين واو الجماعة وواو الفعل المضارع، وبين التاء المفتوحة والتاء المربوطة، وبين هذه والهاء المربوطة، والفرق بين كتابة العين والغين فى بداية الكلمة وبينها فى وسطها وفى آخرها بحيث لم نعد نخطئ فى شىء من ذلك البتة على عكس كثير من طلاب الجامعة الآن حتى المتخصصين منهم فى اللغة العربية. وكانت الطريقة التى تَعَلَّمْنا بها الكتابة والقراءة تقوم على تدرج أساتذتنا بنا خطوة خطوة بحيث يعلموننا أولا الحروف المفردة وطريقة نطقها وكتابتها، ثم ينتقلون بنا إلى الكلمات الثنائية المفتوحة الحرفين، ثم الكلمات الثنائية المفتوحة الحرف الأول والمكسورة الحرف الثانى... إلخ، ثم الكلمات الثلاثية المفتوحة الأحرف الثلاثة... إلخ. وكانوا يكتبون لنا على السبورة مثلا كلمة "ضُرِبَ"، ثم يقولون ونحن نردد وراءهم: "ضُرِبَ: ضاد، راء، باء. ضُرِبَ: ضاد، ضمة: ضُ. وراء، كسرة: رِ- ضُرِ. وباء، فتحة: بَ- ضُرِبَ", وبهذه الطريقة نأخذ بالنا من كل شىء فى الكلمة نطقا وإملاء وضبطا.
أما الآن فطلاب الجامعة أنفسهم، إلا فى الشاذ النادر، لا يعرفون كيف يضبطون الكلمة ولا يستطيعون نطقها نطقا صحيحا رغم ضبطها. كما أن الغالبية منهم لا تستطيع كتابة معظم الكلمات على نحو سليم. والسبب، فى جانب منه على الأقل، هو هجر المدارس لتلك الطريقة التى ينظر التربويون الحاليون إليها بوصفها طريقة بائدة، على حين أنهم هم البائدون الفاشلون، إذ ينقلون الطرق الأجنبية إلى مدارسنا رغم اختلاف لغتنا إملاء ونطقا عن لغاتهم. ولكن ماذا تقول فى الأمخاخ الضيقة التى تظن أن كل شىء يأتينا من الغرب المتقدم لا بد أن يكون متقدما أولا، ومناسبا لنا بل لا يصلح لنا سواه ثانيا، مع أن تقدم الغرب، الذى لا ننكره، لا يعنى أن كل شىء هناك متقدم بالضرورة، ولا أن ما هو متقدم بالنسبة لهم لا بد أن يكون متقدما بالنسبة لنا أيضا؟ ولا أظن إلا أن هناك تآمرا فى الموضوع، إذ إن كثيرا من رجال تربيتنا يأتمرون بما يقوله الأجانب لغاية فى نفس يعقوب، ويطيرون إلى الامتثال لكل ما يطلبونه منهم ومن سياسيينا، الذين لا يصلح كثير منهم لأكثر من أن يكون سائسا فى إسطبل. وما زلت أذكر طريقة "شرشر" و"فلفل"، التى أُدْخِلَتْ إلى مدارسنا فى أواسط خمسينات القرن البائد، وثبت فشلها تماما، إذ كانت تقوم على حفظ شكل الكلمة كلها مرة واحدة، فكان الأولاد والبنات يعرفون جيدا الكلمات التى حفظوها، أما ما لم يسبق لهم حفظه فكانوا يعجزون عن التعرف إليه، ويقفون مبلِّطين كحمار فى مطلع.
وكان المنهج المتبع فى حفظ القرآن هو تعيين بضع آيات يقرؤها التلميذ على الشيخ من المصحف، ثم يقوم بكتابتها على اللوح الخشبى المدهون بطبقة طلاء زيتى أبيض، ثم يُصِحّه على الشيخ، ثم يحفظه، ثم يعود إلى الشيخ لتسميعه. فإذا نجح فى تسميعه دون خطإ انطلق فراجع ما سبق له حفظه من القرآن ليقف بين يدى الفقيه لتسميع حصة من المحفوظ القديم. وفى الغد يتكرر الأمر على نفس النحو... وهكذا دواليك. ومن يفشل فى أداء واجبه يضرب بالعصا، وقد يضرب بالفلقة إذا كان من الكسالى المتخلفين النائمين فى الخط أو من المتمردين أو ممن شكاههم أهلوهم إلى الفقيه. فإذا هرب خوفا من الضرب أرسل الفقيه وراءه بضعة تلاميذ من ذوى الجثث الضخمة والأَيْد الشديد، فيظلون يبحثون عنه حتى يأتوا به حتى لو كان لائذا بالبروج المشيدة أو كان مختبئا تحت طقاطيق الأرض. وهنا لا مفر من الفلقة. ومن ثم ترَوْنَنِى أصف التعليم فى الكتاب والجمعية بأنه كان جِدًّا كله، ومرارةً كله، ولا موضع فيه للهزل أو العبث. وكنا، ونحن نُسَمِّع اللوح أو الحصة، نقف أمام الفقيه متباعدى الرجلين نميل مرة إلى اليمين ثم إلى الشمال كبندول الساعة مع الاعتماد على الرجل الموجودة فى الناحية التى نميل إليها ورفع الرجل الأخرى. وكان بعضنا يضيف إلى تلك الحركات العامة حركات أخرى تخصه هو وتميزه عن باقى التلاميذ.
وقد تعرضت لضرب الفلقة مرة رغم أنى كنت ممن لا يُضْرَبون عادة لاجتهادى فى حفظ القرآن وانتقالى من مستوى إلى مستوى أعلى منه قبل زملائى الذين فى سنى وظروفى، بل قبل من يسبقوننى سنا وتعليما، إذ كان قد ضاع مبلغ صغير من المال من البيت، وظن والدى أننى أنا الذى أخذته، وكان لا يطيق أن ينحرف أحد من أولاده حتى إنه، على ندرة ما ضربنى، رآنى ذات مرة أمد إصبعى لأنفض الرماد من سيجارة أحد الزبائن فى الدكان، وكان قد وضعها فوق البنك، فما كان منه إلا أن صفعنى فى الحال على وجهى خشية أن يكون لمسى رماد السيجارة مقدمة للتدخين. وهو بالمناسبة لم يكن يدخن، كما لا أظنه كان مدمنا للشاى أو القهوة. وكان، على كل حال، حريصا ألا نتعود على أى من هذين المشروبين، ولهذا كان يصنع لنا العصائر المختلفة والسحلب والقرفة والزنجبيل والينسون وخلطة شِدِيد، التى كان بعضهم يسميها: "الوَرْد"، وكانت رائعة المذاق. وقد فكرت فى ثمانينات القرن الماضى أيام كنت آخذ زوجتى القاهرية إلى القرية، التى صارت بسببى تحبها على نحو غير اعتيادى أثار استغراب أهل القرية أنفسهم متعلمين وغير متعلمين، أن أشترى من شارع درب الأثر بطنطا خلطة شديد، فأعطانا البائع ما طلبناه، لكن الخلطة كانت داكنة لا وردية، كما كان طعمها حريفا أكثر من اللازم، وتفتقر إلى نكهة الورد المنعشة اللذيذة.
ما علينا. نعود إلى حكاية الفلقة. لقد أحضرنى أبى وحاول أن يقررنى بما لم أفعل، ظنا منه أننى أكذب، فأؤكد له صادقا أننى لم أر تلك الفلوس التى ضاعت. إلا أنه ظل ورائى يقنعنى أنه لا بأس علىَّ إذا ما أقررت بالحقيقة، فكان أن انخدعت بالكلام المعسول، واعترفت، كذبا والله العظيم، أننى أخذت المال تصورا منى أن المسألة ستنتهى عند ذلك الحد، بيد أننى كنت واهما كبيرا، فقد شرع يسألنى ماذا فعلت به، فأخذت أقول إننى اشتريت حمصية وسمسمية، وحمصية وسمسمية، وحمصية وسمسمية، ثم حمصية وسمسمية لا أدرى للمرة الكم، ثم لم أستطع المضى فى شراء الحمصية والسمسمية مع أنه كان عندنا فى الدكان حمصية وسمسمية تكفى الأطفال المفاجيع فى الدنيا كلها وتفيض، فقلت له إن باقى الفلوس قد وقع منى وأنا ألعب فى السوق.
وهنا، وبعد أن ظننتُ أننى قد عبرت الامتحان بسلاسة وسلام، أخذنى أبى إلى سيدنا الشيخ مرسى فى جمعية المحافظة (فقد كان أحيانا ما يستقل بكُتَّابه هو وابنه الشيخ نبيه، وأحيانا ما كانا يدمجانه مع تلاميذ الجمعية ويصير زيت المشايخ كلهم فى دقيقهم)، وإذا بالشيخ مرسى ينادى: إلىَّ بالفلقة، فتأتيه الفلقة فى الحال، وتُشَدّ قدمامى فيها، وهات يا ضَرْب، فتستحيل قدماى كتلة من النيران الملتهبة حتى إننى لم أستطع بعد انتهاء العلقة أن ألبس حذائى ولا كان بإمكانى لمس الأرض دون مقاساة الآلام الفظيعة التى لا تطاق. وكانت هذه هى العلقة الفلقية الوحيدة التى نلتها فى المدرسة، وكانت علقة ظالمة. ولكن هل فى نفسى الآن أية غضاضة تجاه أبى أو سيدنا الشيخ مرسى؟ أبدا والله. لقد كانا يربياننى، وإن كانا قد أخطآ الطريق. ولكن النية كانت طيبة. ثم إن هذا الكلام قد وقع منذ ما يقرب من ستين عاما، ولا شك أننى لو كنت ظللت أنقم عليهما طوال تلك الأعوام لكنت صخرى القلب لا ألين. إلا أن هذه ليست طبيعتى، كما كان أبى ذا فضائل كثيرة، وكنت أحظى منه أنا بالذات بالتدليل والتشجيع، فكيف أنسى هذا كله ولا أتذكر إلا تلك الشدة التى أخذنى بها مرة وحيدة يتيمة بنية سليمة تبغى تقويمى، وتخشى انحرافى؟
وقد أتممتُ حفظ القرآن المجيد قبل الثامنة حسبما أذكر مما كان يردده على مسامعى المشايخ الذين حفَّظُونِيه، وكانت والدتى قد تُوُفِّيَتْ قبل ذلك بعامين أو أكثر، فأهدى والدى سيدنا الشيخ مرسى، الذى حَفِظْنا القرآن على يديه المباركتين، باكو شاى كبيرا وتلفيعة ضخمة مما كان يبيعه فى الدكان تدفئه فى الشتاء حلاوةَ إتمامى حفظ القرآن، وربما شيئا آخر أو أكثر. وكان يقع فى يدى، بين الحين والحين فى ذلك الوقت، كتاب من كتب الأطفال كنا نتصفحه ونحاول القراءة فيه. ومما أذكره من هذه الكتب كتاب عن سيدنا نوح. ويبدو، اعتمادا على ما لا يزال منقوشا فى الذاكرة، أنه قصة من قصص الأنبياء التى ألفها للأطفال عبد الحميد جودة السحار أو محمد أحمد برانق، وكان قد أحضرها تلميذ اسمه محمد المسيرى معه إلى كتاب سيدنا الشيخ مرسى. كما عثرت فى بيتنا على نسخة من "ألف ليلة وليلة" ممزقة الصفحات الأولى والأخيرة حاولت أن أطابق بينها وبين حلقات المسلسل الذى كان يبدعه المرحوم طاهر أبو فاشا، وفشلت أن أجد ذلك التطابق الذى كنت أبحث عنه، إذ لم أكن أعرف أن أبو فاشا كان يكتفى باستيحاء الجو الألفليلى فقط غير ملتصق بما جاء فى "الليالى العربية" كما يسميها المستشرقون.
كذلك كان فى أحد الأدراج بدكان أبى رحمه الله بعض الكتب مثل "فقه السنة" وبعض أعداد من "كتاب الهلال" ومن مجلة "الدكتور". وكان الوالد أيضا يشترى بانتظام مجلتى "المصور" و"الإذاعة" وكل الصحف تقريبا بما فيها "البعكوكة". وبالمثل كنت ألاحظ اهتمامه بالمذياع، الذى كان يتاجر فى أجهزته، فكنت أستمع معه إلى القرآن الكريم وإلى الأغانى وأحاديث السهرة والتمثيليات، وتتكرر على مسامعى أسماء العقاد وطه حسين وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم وأحاديثهم وأخبارهم، فنشأت وأنا أسمع تلك الأسماء الكبيرة وأصوات القارئين والمطربين والمطربات المبدعين، وكانت تشجينى وأحب أن أقلد أصحابها. وما زلت أذكر كيف كنت، وأنا ولد صغير بالكتاب، أقلد صوت الشيخ الشعشاعى، الذى كنت أجده فى ذلك الحين منفرا قبيحا، فكنت أقلده متهكما، فيضحك أبى رحمه الله. إلا أننى، بعدما كبرت، صرت أستمتع بصوت الشيخ نَوَّر اللهُ رَمْسَه، وأجد لما فيه من رسوخ وفخامة وجلال نداوةً وحلاوةً فى قلبى، على عكس صوت ابنه الشيخ إبراهيم، الذى لم أستطع قط ابتلاعه ولا حتى قبول منظره وقد ارتسمت على ملامح وجهه علامات المعاناة الشديدة لَدُنْ قراءته للقرآن.
لقد كنا نحب صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لحلاوته الحادة، وصوت الشيخ مصطفى إسماعيل لفخامته وشموخه، وصوت الشيخ رفعت لما فيه من حنان متدفق كأنه آت من الفردوس، وكان ولا يزال مرتبطا فى أذهاننا بأذان مغرب رمضان والاستعداد للإفطار بعد صوم يوم طويل، وصوت الشيخ الشعشاعى المختنق الجميل (غريبة! أليس كذلك؟)، وصوت الشيخ محمد صديق المنشاوى الحنون الرقراق، وصوت الشيخ طه الفشنى، وصوت الشيخ عبد العظيم زاهر العريض القوى الذى يستولى على الأذن تماما فى سخاء وثقة، وصوت الشيخ الدروى، الذى كنا نسمعه صباحا، ونحن لا نزال فى الفراش، فأربط بينه وبين اللبن الحليب، الذى كنا نأكله عادة فى الصباح يأتينا من عند جيراننا فى تلك الأيام حيث كنا نستمتع بكل ما لدى جيراننا الفلاحين من لبن حليب ولبن رائب وجبن قريش وأذرة مشوية بكل سهولة، وربما دون مقابل أو بمقابل طفيف على عكس الأمور الآن تماما. وكنا ننتظر قرآن السهرة فى الثامنة على إذاعة القاهرة كل ليلة فى دكان أبى رحمه الله. وكان دور الشيخ عبد الباسط فى أول الأسبوع مساء السبت، يليه يوم الأحد الشيخ الحصرى الهادئ الوقور الرتيب الذى لا يعرف صوته أى نتوء، والجميل مع ذلك جماله الخاص. كما أذكر أن الشيخ الشعشاعى كان يقرأ مساء الخميس، ليكون مسك الختام الأسبوعى هو صوت الشيخ مصطفى إسماعيل مساء الجمعة.
كذلك كنا نستمتع بالأغانى التى تغنيها ليلى مراد وصباح ونجاة على ورجاء عبده ومحمد قنديل وفايزة أحمد وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الغنى السيد ومحمد عبد المطلب وفايدة كامل ونور الهدى ولوردكاش وعائشة حسن وأحلام وسعاد محمد ونجاح سلام وعبد الحليم حافظ وشادية ونجاة الصغيرة وغيرهم. ومن أغانى تلك الفترة أغنية "تلات سلامات" وكذلك أغنية "إن شالله ان شالله ما اعدمك * دى قلوبنا بحور وانت السمك"، التى كنت أضحك عند سماعها لتصويرها للحبيب على هذا النحو الفكاهى، وكأنه سمك "يتلعبط" فى قلب المحب، وإن كان محمد قنديل قد نسى أن يقول لنا هل ينوى أن يأكله مشويا أو مقليا بعد أن يصطاده من قلبه بالسنارة، التى نرجو من الله ألا يَعْلَق خطافها بشغافه فتكون طامّة كبرى. ومن أغانى تلك الفترة أيضا أغنية نجاح سلام: "بَرْهُوم حاكينى"، التى كنت أتصور أنها موجهة لى لأنهم كانوا ينادوننى فى طفولتى: "بُرْهُم"، إذ الفرق بين الاسمين مجرد "واو" لا راحت ولا جاءت، فلا تحبِّكوها من فضلكم وتفسدوا علىَّ فرحتى. وكنت أقرأ نصوص هذه الأغانى مع صور من يغنونها فى مجلة "الإذاعة" التى كان أبى يشتريها هى وكل الصحف والمجلات ويحضرها معه من طنطا ويعطينيها كى أقرأها أول واحد عند حضوره من طنطا، ويناقشنى أحيانا فى بعض ما تنشره. ومن المضحك أننى لم أكن أفهم كيف يحضر والدى مجلة "الإذاعة" يوم الجمعة معه من طنطا عند عودته آخر اليوم رغم أنها تصدر يوم السبت، أى بعد ذلك بيوم. ولا أظننى حاولت أن أسأله عن هذا "اللغز"، الذى كان يؤرقنى دون أن أجد فى عقلى جوابا شافيا له.
وكنت كثيرا ما أسمع قصيدة "مصر التى فى خاطرى وفى فمى"، التى ألفها أحمد رامى وغنتها أم كلثوم من تلحين رياض السنباطى بُعَيْد قيام ثورة يوليه 1952. وما زلت أذكر سماعى إياها ذات ضحى أمام الدكان فى الشارع الصغير الذى يقع فيه، وكان أبى جالسا على كرسى خارج المحل، ويبدو أن الدنيا كانت ربيعا أو صيفا. وكانت هذه الأغنية وما فتئتْ تستولى على عقلى وقلبى كلما سمعتها. وقد نزََّل أحدُ الطلاب الجامعيين من أقربائى نغمتها فى الأيام الأخيرة على هاتفه المحمول، فكلما طلبته هاتفيا سمعتُ أولا مقطعا من تلك القصيدة قبل أن يرد بنفسه علىَّ، فأقول مداعبا إياه: عجيبة يا جحش! كيف استطعتَ أن تلمح روعة هذه الأغنية فى جيلكم هذا المنكود المنكوب بفساد الذوق؟ فيضحك ويرد عَلَى "عَمُّو الدكتور" بأى كلام، والسلام! ومع ذلك فإننى أسارع فى كل مرة فأشكره على هذه النغمة الجميلة الجليلة التى تعيدنى فى الحال على ظهر بُرَاق إلى ذلك الضحى الذى لم أكن قد تجازت فيه السابعة من عمرى، إن لم أكن أقل من ذلك. شكرا يا حسين العزلة! وهذا هو اسم صديقنا الشاب، وهو حفيد خالى حسين رحمه الله.
ومن حبى للصوت الجميل أننى لا أستطيع مثلا أن أنسى تلك المرة التى كنت مارًّا فيها بعد العصر أمام قهوة شعبية مبنية من أعواد الغاب (بالطريقة البُغْدَادْلِى) على الناصية عند ملتقى شاعر سيجر وشارع الحكمة بطنطا أوائل ستينات القرن المنصرم أيام كانت أحوال طنطا بائسة تمام البؤس (وربما كنت آنئذ فى السنة الثالثة الإعدادية بالأزهر وقت أن كنت أسكن مع بعض الطلاب من قريتى فى آخر شارع الحكمة من جهة الجنوب قريبا من الكنيسة الجديدة التى كانت مبنية حديثا هناك وحضرتُ فيها عرس أحد النصارى، متفرجا طبعا دون أية دعوة، شأن أى طفل يرى لأول مرة فى حياته شيئا كهذا)، فشاهدت فى القهوة المذكورة شابا يلبس بدلة وكرافتة، وعليه علامات الشحوب، وشفته السفلى منتفخة بعض الشىء وفيها تشققات خفيفة أو توشك أن تتشقق، وقد تأبط، وهو جالس، عودا يضرب عليه لحن أغنية "شَغَلْنِى بضحكته"، وقد غاب عما حوله فلم يعد مشتغلا إلا بالعود واللحن، وأمامه على كرسى مثله شابة فى سنه تقريبا، وعليها نفس ما عليه من شحوب ومسكنة، وهى تغنى فى فَنَاءٍ كاملٍ أغنية شريفة فاضل، التى أسمعها الآن على كاتوبى فتساعدنى على أن أعيش مرة أخرى تلك الدقائق الرائعة التى وقفتها أمام الغرزة الفقيرة أستمع مبهورا حزينا للأغنية، قد اختلط حزنى الشخصى الناجم من شعورى بالغربة فى المدينة بعيدا عن جدتى وقريتى بحزنى لما أراه من معاناة وإرهاق على مظهر الملحن والمغنية التى يبدو أنها كانت زوجته، بحزنى على انصراف رواد الغُرْزَة البلديين عن الفنَّانَيْن إلى شايهم وقهوتهم وبوظتهم وثرثرتهم دون الالتفات إلى هذا الشجن البديع الذى خلقه الشابان، ولم يكن يستمتع به فيما يبدو سوى الصبى المسكين الذى لم يَمُتْ فيه قَطُّ اختلاجُ المشاعر على أَشُدّها كلما سمع صوتا غنائيا جميلا. ليت شِعْرِى أين ذهب ذانك الفنانان؟ ولكن هل تبالى الدنيا بأحد، فنانا كان أو غير فنان؟ كان غيرك أشطر يا "أنا"!
وكان أبى من جانبه يفاخر بى ويشجعنى ويستعرض دائما ما يظنه ذكاء وتفوقا منى أمام أصدقائه، مما أعطانى ثقة عجيبة فى نفسى وإمكاناتى جعلتنى حتى الآن أتصور أنى قادر على التصدى لأية مشكلة علمية رغم ما ألاحظه من أن ذكائى ليس بالذى هناك. وهو ما يدل على أن العبرة فى الأساس برصيد الشخص من الثقة بذاته، إذ إن هذا الشعور كفيل باستفزاز مواهبه واستخراج أفضل ما عنده وحَفْزه على إنجاز أشياء ما كان لينجزها بقدراته العادية لولا تلك الثقة بالنفس. وآية ذلك أننى قد انتهيت من حفظ القرآن قبل أخى، الذى كان يكبرنى بثلاث سنوات، وكان ذكيا جدا، وهو الذى علمنى القراءة والكتابة. رحمه الله رحمة واسعة. لقد كان موقف أبى منى عاملا عجيبا من عوامل الحفز والتشجيع والدفع بقوة إلى الأمام. كتب الله لأبى الجنة. لقد كان رجلا عجيبا يتمتع بالدماثة والنظافة فى كل شىء مع الأناقة والوسامة والانفتاح على الآخرين، ويحب الحياة والسفر ولعب الكرة، ويصلى ويخطب الجمعة دون مقابل فى المسجد المجاور لبيتنا أو فى عزبة عاشور، التى تبتعد عن قريتنا نحو ثلاثة كيلومترات، كما كان حَسَن الخط، وهى سمة ورثتها عنه، وإن لم أطورها وأتعلم الخطاطة حسبما كان ينبغى أن يحدث. وكنت أحبه حبا شديدا وأتعلق به. وكان إذا سافر، وكثيرا ما كان يفعل، وقد يغيب فى سفره يوما أو يومين، تجتاحنى الأحزان. وأظل أنتظر عودته بفارغ الصبر، حتى إذا رأيته، وأنا ألعب مع لِدَاتى فى السوق، راجعا من طنطا راكبا درجته البخارية شعرت بسعادة الدنيا كلها تجتاح أحزانى فى هجوم مضاد وتهزمها بالضربة القاضية. ولا تَسَلْ عن مشاعرى المهتاجة وأنا عائد إلى البيت لأجده هناك. ولسوء حظنا مات أبى فى بداية ثلاثيناته بعد وفاة أمى بسنواتٍ جِدِّ قليلةٍ، مما أورثنا حزنا وشعورا بالضياع منذ الطفولة.
لقد مات بعد أن أتممت حفظ القرآن بسنة ونصف تقريبا، وكان عمره لا يتجاوز الثلاثين إلا بسنتين أو نحو ذلك. وكانت الوالدة، رحمها الله وأنار قبرها وأسكنها فراديس الجنان، قد سبقته إلى لقاء ربها بنحو ثلاث سنوات بعد معاناة شديدة مع مرض لا أستطيع أن أحدده لأننى كنت فى ذلك الوقت صغيرا جدا، لكنى كنت واعيا بالاهتمام الذى أولاه إياها أبى رحمه الله، إذ كان يذهب بها إلى الأطباء فى طنطا، وما برح يرن فى ذاكرتى اسم د. عمر شاكر بالذات. وقد سمعتهم يتحدثون عن انتشار القيح تحت جلدها فى المراحل الأخيرة فى حياتها القصيرة الهادئة، التى انتهت بحزن شديد حين علمتْ بطريقة درامية بأن أبى تزوج عليها فى قرية بعيدة من قرى مركز قلين بمديرية كفر الشيخ. وهكذا صرنا يتامى تامِّى اليتم، ولولا أن الله استبقى لنا جدتنا (أم أمنا) لَضِعْتُ، فقد كانت تنفق علىَّ وأنا فى طنطا أتعلم.
وحين ماتت زوجة أبى بعد ذلك بعشرات السنين شعرت بالحزن الشديد ودعوت الله لها بالرحمة والغفران، ولم أقف عند كونها زوجة أبى وأننا لم نجد عندها ما كنا نجده عند أمى من العطف والحنان، أو أنها كانت السبب فى الحزن العنيف الذى ضرب أمى فى صميم قلبها، وإن كانت السبب الظاهرى فقط لأنها ليست مسؤولة فى الحقيقة عما جرى، إذ لم تسع إلى أن تؤلم أمى، بل وجدت رجلا يخطبها فقبلت الزواج به. كما أننى لا أجد فى قلبى أى ضيق بتصرف أبى. إنها الحياة، التى لا تسير على مزاج أى منا، والتى لا يمكن أن تخلو من المنغصات. إنها كالجلد والعظم والدهن بالنسبة للحم. هل هناك لحم يخلو من العظم والجلد والدهون؟ هاتوا لى لحما خاليا من ذلك، وأنا أورد لكم حياة خالية من الأحزان. لقد بنيت الحياة على مفارقة عجيبة، وهى أن ما يفرح إنسانا واحدا يؤذى فى الغالب مئات حوله ممن يعرف ومن لا يعرف. وتزوُّج أبى بسيدة أخرى على أمى وإدخاله الحزن القاتل على قلبها هو من هذا الوادى. ثم مَنْ خلق الحياة على هذا النحو؟ أليس هو الله، الذى لا يُسْأَل عما يفعل. هذه هى الحياة، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر أو فليبحث له عن رب آخر ويعش على أرض أخرى وتحت سماء غير السماء. فهل من مستطيع؟
ولم يخلِّف لنا أبى شيئا كثيرا، إذ كان لا يزال صغيرا حين فارقنا، فقد مات فى بداية ثلاثيناته كما قلت. ورغم أنه كان تاجرا نشيطا وبارعا ومحبوبا، ويتاجر فى أشياء كثيرة من بينها أجهزة المذياع والساعات فى وقت لم يكن أحد فى الريف يتاجر فى تلك الأشياء فى خمسينات القرن الفائت، فقد كان ينفق لا يبالى، ويحب السفر ويقوم فى الغالب بمصاريف أصحابه الذين كان يأخذهم معه لا على موتوسيكل واحد من الموتوسيكلين اللذين كان يمتلكهما، بل عليهما جميعا. ومن ثم فبعد أن كنا من المساتير بل من الميسورين نسبيا فى حياته رحمه الله صرنا بعد وفاته من المكشوفين. وكانت أغنية محمد عبد الوهاب: "والله ما انا سالى" حديثة عهد بالظهور، فكنت أستمع إليها وأغنيها وكأنها تبكى والدى، وأجد فيها تخفيفا عن اللوعة التى كنت أحس بها لوفاته رحمه الله.
وليس معنى ما كتبتُه عن أبى أنه كان بلا عيوب، فما من بشر إلا وفيه عيوب قَلَّتْ أو كَثُرَتْ. والرجل النبيل الحق من عُدَّتْ معايبه لا من خلا تماما من العيوب، فهذا أمر من الاستحالة بمكان مكين. كل ما هنالك أننى أنظر إلى الشخص لأَرُوزَه: فإن كانت حسناته تَرْجَح عيوبه تكلمتُ فى حقه بكلام طيب، أما إن كانت الأخرى فهذا الذى يمكن أن يعاب. وأبى، رحمه الله، كان من الصنف الأول بكل يقين. وحتى لو كان مَعِيبًا أيصح أن أفضحه وأنال منه على رؤوس الأشهاد؟ فأين البِرّ وواجب البنوّة نحو الآباء والأمهات؟ إننى ما زلت أستغرب ما كتبه د. إدوارد سعيد عن والده فى ترجمته الذاتية: "Out of Place"، التى تُرْجِم عنوانها بـ"خارج المكان"، ولا أدرى ما المقصود بهذا. ذلك أن الترجمة كان ينبغى أن تكون مثلا: "فى غير موضعه" أو "فى غير مكانه المناسب"، أو "فى وضع غير ملائم"... لقد نال د. إدوارد من أبيه نَيْلاً شديدًا، وحاكمه محاكمة غير إنسانية. ولقد نظرتُ فيما ساقه من مسوغات كى يقنعنا بأن أباه يستأهل ما كتبه ضده، ولكنى لم أقتنع. ألا يكفى أن أباه قد رباه أحسن تربية، وأنفق عليه وواصل تعليمه فى كل مكان حتى حصل على أعلى الشهادات، ولم يقصر يوما معه فى حاجة احتاجها؟ هل كان د. إدوارد ينتظر من أبيه أن يكون ملاكا؟ فهل هو نفسه ملاك أو يمكن، تحت أى ظرف من الظروف، أن يكون ملاكا؟
وبالمثل فإنى أستغرب مما كتبته أخت زوجة تونى بلير (الصحفية والمذيعة البريطانية التى أسلمتْ بآخرة) عن أمها فى بعض الصحف البريطانية، إذ صورتها فى صورة الأم القاسية التى لم تكن تعرف معنى الأمومة ولا تشعر بشعور الأمهات. ومن بين ما قالته عنها أنها كانت تنفر من رغبتها فى تقبيلها واحتضانها وتبعدها عنها فى ضيق كلما همت بتقبيلها أو الارتماء فى أحضانها. كما كانت ترفض أن تضىء الونَّاسة الكهربية لتتغلب بها على ما يحس به الأطفال من رعب حين ينامون فى غرفةٍ وحدهم، رغم أن جدة البنت الصغيرة هى التى اشترت لها الوناسة وأعطتها البنسات التى يحتاجها العداد الكهربائى المنزلى، مصرة على أن تطفئ الوناسة بيدها، واجدة لذة فى ذلك الإطفاء حسب كلام الابنة فى مقالها. وكانت تقدِّمها لضيفاتها قائلة: كل أطفال الجمعة يتميزون بالحب والرغبة فى العطاء ماعدا لورين، فهى خبيثة وشكاءة بكاءة. ومما ذكرته لورين بوث أيضا أن أمها كانت تؤثر عليها أختها الصغيرة إيثارا كبيرا واضحا. ترى ألو كانت أمى قد عاملتنى هذه المعاملة أكنت أكتم ذلك حين أكتب عنها؟ لكن ألم تعامل تلك الأم البريطانية ابنتها معاملة طيبة على الإطلاق؟ أنا متأكد أن أمى لا بد أن تكون قد ضربتنى ونهرتنى ولم تستجب لى فى كثير من مطالبى ورغباتى كما تفعل الأمهات كلهن تقريبا فى بعض الأحيان، فضلا عن أنها مثلا قد حملتنى ذات يوم إلى المدرسة على غير هواى ودخلت بى الفصل وأنزلتنى من فوق كتفها على الأرض وتركتنى هناك تحت أبصار التلاميذ الشامتين غير عابئة بخجلى وبكائى وتوسلاتى أن تعود بى معها إلى البيت مثلما جاءت بى. بيد أنها، من الجهة الأخرى، كان لها بكل تأكيد مآثر كثيرة كفيلة بأن تجعلنى أغفر لها قسوتها، إن جاز أن نسمى مثل تلك الأمور: قسوة وتعنتا. ويبدو أن تربيتنا، على الأقل: فى ذلك الزمن، لا تسمح لنا بأن نعيب آباءنا وأمهاتنا مهما كان منهم تجاهنا من شدة فى التربية والتوجيه. المهم أنا راضٍ عن أمى رحمها الله، وأدعو لها دائما بالجنة فى حنان وحب ورحمة وتعاطف، فضلا عن الأمل العظيم فى أن الله سوف يستجيب لى فيها هى وجدتى وأبى وكل من عاملنى برقة ولطف فى أوقات الحرج والضيق ولو بكلمة طيبة مشجعة.
وكنت أتكلم منذ يومين مع بعض الأصدقاء عن د. طه حسين وما كتبه فى "الأيام" عن أبيه وأساتذته فى الكتاب والأزهر كلهم تقريبا من كلام يمسهم ويشوه صورتهم. وقد أنكر من كانوا معى آنذاك على د. طه ما فعله، وأبدوا ضيقهم بهجومه على مشايخه. وبطبيعة الحال لا يوجد إنسان كامل معصوم، ولكن ليس معنى هذا أن ننطلق فنشوه آباءنا وأساتذتنا تمام التشويه ونجعل منهم مسوخا نضحك الناس عليها، إذ يكفى أنهم علمونا وأخذوا بأيدينا وصنعوا منا ما نحن عليه الآن. صحيح أن هناك من ظلمونا أو نحسب أنهم ظلمونا. إلا أنه من غير المعقول أن يكون الجميع قد ظلمونا وأجحفوا بحقوقنا. وقد أعدت مؤخرا قراءة السيرة الذاتية الممتعة التى كتبها أستاذى د. شوقى ضيف بعنوان "معى"، فألفيته يتحدث عن أبيه وأمه حديثا كله احترام وبر وإجلال حتى إنه ليقول بفخر عظيم إنه كان دائما ما يقبّل، فى حبٍّ ورضًا، يديهما كل صباح. كما وجدته يكتب مستغربا أن ينقلب ابنٌ على أبيه، الذى رباه ونَشَّأَه وقام بكل حاجاته حتى كبر واستوى على ساقه وصار رجلا، فيكرهه ويهينه ويعاديه، وإن أقر بأن ذلك، رغم غرابته وشذوذه البالغ، قد حدث مرارا فى التاريخ، وبخاصة فى بيوت الحكام حيث يثور الابن على أبيه فيخلعه من أريكة الحكم، وقد يقتله فى سبيل بلوغ هذه الغاية.
أما أنا فرَاضٍ عن أبى تمام الرضا رغم أنه لا يخلو من عيوب، ويكفينى أن حسناته غطت على عيوبه بقوة، وإلا فلن يرضى ابن عن أبيه أبدا ما دامت السماوات والأرض. بل إن هناك من أساء إلىَّ ممن لا تربطنى بهم صلة قرابة، إلا أننى لدى الحكم عليهم أتذكر ما جنيتُه عن طريقهم من منافع مهمة لى قيضهم الله لإيصالها إلىَّ، فأغلِّب هذه على تلك، وأشكر الله، الذى أتاحهم لى كى يؤازرونى حتى لو كانوا قد انقلبوا علىّ تاليا. اللهم ارحم أبى وأمى وجدتى وكل من أحسن إلىَّ قريبا كان أو غير قريب، واجعل أولادى يحبوننى رغم ما أعرفه من عيوبى وما آلمتهم به سواء أكان هذا الإيلام قد صدر منى على سبيل الخطإ أم نزولا على متطلبات التربية السليمة، التى لا تستطيع أن تستغنى عن العقاب والإيلام مهما كان المربى حنونا صبورا طيبا. إن الإيلام جزء من الحياة لا ينفصل عنها أبدا مهما فعلنا، فلِمَ ننتظر من التربية الأبوية أن تكون خالية منها تمام الخُلُوّ؟ إن هذا ضد طبيعة الحياة!
ثم إلى أين نهرب من أمر الله لنا ببر الوالدين حتى لو أرادانا على الكفر به سبحانه وتعالى مع عدم الانصياع لهما فى ذات الوقت فيما يدعواننا إليه من الشرك به عز وجل؟ فما بالنا لو كانوا هم الذين علمونا الإيمان به وحَبَّبُونا فيه وعوَّدونا الصلاة والصوم وشرَّبونا الأخلاق الحسنة؟ لقد كان لوالدى، رحمه الله، فضل عظيم علىَّ، إذ كان يأخذنى معه إلى المسجد المجاور لبيتنا حين يذهب للصلاة أو إلى مسجد عزبة عاشور حين يركب دراجته البخارية إلى هناك قبيل صلاة الجمعة كى يخطب ويؤم الناس فأصلى مع المصلين خلفه، ثم يستضيفنا كبار رجال العزبة ويتحفوننا بالبَتَّاوِى اللذيذ واللبن الرائب وما أشبه من طعام الفلاحين الجميل، ثم يتركنى ألعب مع أولاد العزبة هنا وهناك، وبالذات فى المسجد، الذى كان جديدا وبهيا، إلى أن يَؤُون أَوَانُ رجوعنا عند العصر.
وكنت أرى أبى وهو يتوضأ فأجد كل شىء فيه جميلا نظيفا. وكان هو من جانبه لطيف المعشر محبوبا من الناس محترما. وكان بشوشا ضحوكا. ومن ذلك أننى رأيته أكثر من مرة يلعب فى الدكان مع أحد طلاب الأزهر ممن كانوا قريبين من سنه لعبة "ملك ووزير" مستخدمَيْن قطعتين صغيرتين مدورتين من قشر البرتقال يلقى كل منهما قطعته على البنك، ومن يخسر يضربه الآخر بمسطرة من الخشب الأبلكاش صنعاها كيفما اتفق لذلك الغرض. وكان صوت الضرب يفرقع فى الدكان، فأسمعه وأشاهد انهماكَهما وجِدَّهما فى الضرب كأنهما يؤديان مهمة جليلة وأنا متعجب. ولا شك أن الضرب لم يكن مؤلما بأى حال نظرا إلى لدونة سَلْخَة الأبلكاش ونحافتها.
وفى رمضان كان، رحمه الله، يأخذ الكلوب أبا رَتِينَة إلى الجامع المجاور فى صلاة الفجر بعد أن يغلق الدكان فى ذلك الوقت المتأخر على خلاف ما كان يجرى فى الريف فى ذلك الزمن من الإخلاد إلى الفراش بعد العشاء، ثم بعد الصلاة يذهب هو وبعض من صَلَّوْا وراءه إلى المقابر فيقرأون الفاتحة ويطوفون بأقربائهم من الأموات، ثم يرسل أحدَهم بالكلوب إلى البيت، ويَبْقَوْن هم يتبارَوْن فى العَدْو على الزراعية. وذات مرة، حسبما سمعت من زوجة أبى أو من غيرها: لا أدرى، طلب من الشيخ على نوفل، وهو طالب أزهرى كفيف قريب من عمره، أن يتأبط ذراعه وهما يعدوان فى تلك المسابقة، ثم اتجه به نحو جدول ماء ضحل جدا، ثم قفز فوق الجدول فى الوقت الذى ترك الشيخ الشاب يسقط فيه، فيضحك الجميع بما فيهم بل على رأسهم الشيخ نفسه. كما كان يلعب كرة القدم فى السوق مع أمثاله من الشبان، ويبدو أنه كان ماهرا فيها، أو هكذا أظن. وقد ورثت عنه كثيرا من شمائله، فأنا أحب الأسفار والصحبة، وكنت بارعا فى كرة القدم على مستوى القرية والمركز.
على أننى أحب أن أقرر أنى لم أكن على طول الخط من ذوى الخلق الطيب، وبخاصة فى طفولتى وصباى الأول. وصدق الشاعر الذى يقول: "أَىُّ الرجالِ المهذَّبُ؟". وكانت فىَّ شقاوة الأطفال والصبيان. وأذكر مثلا أن صبيا من سِنِّى أهلُه جيرانٌ لنا بَيْتَ بَيْتَ كانت بينى أنا وزميل ثالث وبينه خصومة مما يقع كثيرا بين الأطفال، وكنت أنا ورفيقى جالسين على مصطبة المرسى خيرة، الحلاق الذى تطل عليه نافذة بيتنا البحرية، بينما يجلس خصمنا على مصطبة داخل بيته مواجهة لنا عبر عشرة أمتار أو نحو ذلك، وكان الوقت ليلا، إلا أن كلوب دكان الحلاقة ومصباح بيتهم يجعل كلا الطرفين يبصر الآخر بوضوح، فكنت أضع إصبعى على أنفى وأمررها ذهابا وجيئة فينتفض هو ويدمدم كالـمُوتُور الـفاسد غيظا ويوشك أن يبكى، بينما أمه بالداخل تسأله مستغربة عن سر المعاناة التى يقاسيها على هذا النحو الغريب بالنسبة لها، والمضحك بالنسبة لنا، فيرد عليها بأن الولد فلانا (الذى هو أنا) يغيظه بتحريك إصبعه على أرنبة أنفه (طبعا هو لم يقل: "أرنبة"، إذ لم يكن يعرف من الأرانب إلا الأرانب التى تؤكل وتبيعها أمه الفرارجية رحمة الله عليها، بل أنا الذى أقولها الآن)، فتأتى الأم رحمها الله (وكانت ممن يتردد على بيتنا وتجلس هى وبنتها وزوجة ابنها يتحدثن مع زوجة أبى ويتناولن ما هو متاح من طعام وفواكه)، وتلح فى الرجاء أن أكف عن مغايظة ابنها، فأسكت أنا وزميلى قليلا إلى أن تنصرف عائدة من حيث أتت، لنعود نحن إلى المغايظة، ويعود ابنها إلى التكتكة كالموتور الخرب، فأضحك أنا ورفيقى ملء أشداقنا ورئاتنا فى لذة آثمة... وهكذا دواليك. وقس على ذلك كثيرا من التصرفات والأفعال فى الصبا والشباب.
وكانت لنا ألعابنا الكثيرة الممتعة رغم سذاجتها: من ذلك مثلا "جحشة الجُرْن" و"السِّكِوّة" و"شَدِّيتُوا خيولكم؟" و"الاسْتُغُمَّاية" (بندائها المعهود قبل انطلاق الولد المغمَّى للبحث عن المختفين منه: "زِجْزِجَانْ زجزجانْ، كُلّ واحدْ فى مكانْ")، و"طالِقْنى" و"الطاقيّة فى العِبّ" و"سِكّ، امسك عصاتك" و"أبونا، ضربونا"، و"السِّيجة" و"جِمَال المَلْحَة"، وكل هذه الألعاب تتم فى الشارع ما عدا "جِمَال المَلْحَة" ففى البيوت، وكلها تمارَس فى العادة ليلا ما عدا "السِّكِوّة" و"السيجة". ومن ألعاب الصبا كذلك "الْبَوّ"، وهى كرة قدم كبيرة الحجم صلبة مصنوعة من بقايا الخِرَق وما إلى ذلك وملفوف عليها، بدلا من خيط الكمبريت الرقيق الذى تلف به كرة القدم التى كنا نلعب بها نحن الأولاد المتعلمين، خيوط غليظة من التيل أشبه بالحبال. وهذا البَوُّ يناسب أقدام أولاد الفلاحين الصلبة الخشنة، ولم يكونوا يراعون فى اللعب به أية قواعد، بل كانوا يركلونه كيفما اتفق لا يبالون أين تقع ركلاتهم من جسم خصومهم. وكنت أضطر إلى اللعب به معهم فى الليالى المقمرة حين لا يكون أمامى لعبة أخرى أمارسها وأتخلص فيها من فائض الحيوية فى جسدى ومن الملل الثقيل. وسبب ممارستهم تلك اللعبة ليلا أنهم يكونون مشغولين فى العمل بالحقول طول النهار، فلم يكن عندهم وقت بالنهار يقضونه فى اللعب، بل يؤجلونه إلى الليل. وكنت، رغم مهارتى فى كرة القدم، أبدو عاجزا تماما معهم خوفا من أن يكسرنى أحدهم. كما كانت هناك أيضا كرة المضرب، وهى تشبه فى بعض ملامحها لعبة الكريكت، التى يمارسها الإنجليز والهنود والباكستانيون. وعادة ما كانت تُلْعَب فى الأيام التالية لسقوط المطر حين تبدأ طرقات القرية تجف قليلا. وقد زاولتها فى بعض الأحيان، ولكن ليس كثيرا. ولا أدرى لماذا لم يحاول المصريون تطوير هذه اللعبة والارتقاء بها إلى أن تصبح لعبة عالمية تسجل باسم مصر كما هو الحال فى الكرة الصاروخية مثلا. وما زلت أذكر من مصطلحاتها: المضرب والمِيس والخاموج والرِّدّ والتلقيمة وتحت وفوق.
وما برحتُ حتى الآن، كلما ارتد إلى خيالى اليوم الذى كنت أشاهد فيه عمى وبعض شبان المنطقة يلعبونها عند الكيمان من ناحية آخر حارة العطفى قريبا من بيتنا ودكان والدى عند بدء جفاف طرقات القرية غِبَّ المطر، ترن فى أذنى أغنية شادية التى لحنها لها محمد عبد الوهاب من كلمات صالح جودت: "أَحِبَّكْ أحبك، واضَحِّى لحبَّكْ أعزّ الحبايبْ"، تلك الأغنية المفعمة بالشجن والدلال فى ذات الوقت، أيام كانت شادية لا تزال تنقل خطواتها الأولى فى عالم الفن والغناء. الله على تلك الأيام الجميلة! لقد كان والدى لا يزال حيا، وعمى يلعب مع الشبان الأقل منه قليلا فى السن غير ناعٍ للدنيا همًّا كعادته دائما، وأنا أشاهد بقلب صاف من الهموم وأستمتع بما أشاهده فى أصيل يوم لا يخلو من برودة، وهى الأيام التى كانت أسرنا تصنع لنا فيها محشوّ الكرنب، الذى لم أعد آكله إلا نادرا، وأمسينا نأكل بدلا منه محشو الباذنجان والكُوسَة والفلفل والطماطم وورق العنب، مما لا يكيّف مزاجى كما كان يكيِّفه محشوّ الكرنب، وبخاصة إذا أكلناه فى اليوم التالى بعد قليه فى الزبدة واحمرار ورقه وسطوع رائحته فى أرجاء البيت وفى مناخيرنا التى كانت تلتقط الروائح من بلاد الواق واق. يا عقلى الذى سيطير منى عند ذكر هذه الأكلة!
وكانت هناك سهرات مَصّ القصب وقزقزة الفول السودانى وشَىّ أبى فروة وشرب السحلب والزنجبيل فى بيتنا، وكذلك قلى البيض بالزبدة على السبرتاية ثم هَرْسه فى الجبن القريش وتغميسه بالعيش الخاص، أو أكل العجة ليلة السوق بالعيش الخاص أيضا، وكان السوق ولا يزال يُعْقَد يوم الأحد من كل أسبوع. وكنا، ونحن عائدون مغرب ذلك اليوم من اللعب بالسوق، نشم بوضوح رائحة الأرز المعمَّر ذى الوجه الخمرى المصنوع باللبن والزبد، واللحم المسلوق، من بعيد بمناخيرنا العجيبة، وهى الأكلة التى يأكلها الناس عادة يوم الأحد: أقصد القادرين منهم، إذ كان الكثيرون يكتفون فى ذلك اليوم بسلق بعض البيض وإعطاء كل فرد بيضة أو بيضتين عوضا عن اللحم، وأحيانا لا يتوافر البيض أيضا. يا ولد! إن ريقى ليتحلب الآن شوقا إلى هذه الأكلات رغم ما عرفته بعد ذلك من أطعمة راقية لا تعد هذه الأكلات إلى جانبها شيئا مذكورا، اللهم إلا الأرزالمعمر، فهذا شىء ولا فى الخيال رغم الحذر من الكولسترول، الله يخرب بيت الكولسترول وسنينه! أما المشاريب فما زالت هى هى لم يتغير ذوقى بشأنها، وما زلت حتى الآن لا أشرب أنا ولا أحد من أفراد أسرتى الشاى أو القهوة فى بيتنا ولا أطلبهما خصيصا إذا كنت بالخارج، اللهم إلا إذا قُدِّما لى ولم يكن هناك غيرهما، فعندئذ أطلب عادةً إضافة اللبن إليهما. ومع ذلك فإننى أحيانا ما أستعيد ذلك الماضى حين أذهب لبيت ابن خالى محمد العزلة (والد حسين صاحب نغمة "مصر التى فى خاطرى وفى فمى" على المحمول)، فتقدم لنا فتحية زوجته (أم حسين) المرقة الحمراء والرز المعمر الذى يذكرنى بالماضى الجميل رغم ما فيه من سمن كثير يسد الشرايين ويعجل بوفاتى حتما، فآكل وأنا أضحك قائلا لها: منك لله يا فتحية! سوف تقضين علىَّ بهذا الرز المعمَّر. تريدين أن تخربيها وتقعدى على تَلِّها. فتضحك.
وقد توصلنا إلى حل جميل لهذه المعضلة، إذ اقترحتُ عليها، وكذلك على زوجة أخى الأصغر مختار بمرسى مطروح، أن تجهز لى، كلما زرتهم، بُرْمَة صغيرة من الرز المعمَّر: "معمَّر" فقط دون "قذافى"، وباللبن فحسب بغير زبدة، فيكون للبرمة وجه خمرى جميل، ولكن بلا دسم مخيف. ونصف العمى ولا العمى كله. والمهم أنه كله عَمًى. أما السحلب فنشربه الآن من يد ميادة الأخت الصغرى لحسين، فهى المتخصصة فى صنع المشاريب. وهى تعرف جيدا أننى أشرب أى شىء تصنعه بيديها الحلوتين البارعتين ما دام مضافا إليه لبن. ويا حبذا لو كان لبنا بقريا لأنه قليل الدسم كما يقولون لى. أما إيمان الخجولة التى تكتب بيدها الشمال، وهى أول حالة من نوعها فى أسرتينا: أسرة أبى وأسرة أمى، فلها مهامّ أخرى، فضلا عن غرامها الجنونى بالأفلام الهندية المملوءة بالأغانى والرقص والضرب والخبط والمبالغات التى لا تدخل العقل حتى إنها لتستذكر دروسها وتحل واجباتها المنزلية التى يعطونها إياها فى الأزهر، والتلفاز مفتوح على فلم هندى. وهى أكثر أبناء محمد العزلة ترحيبا بنا. وقد فوجئت أنها تفهم الفرنسية والإنجليزية فهما معقولا ولا تحفظ دروسهما عميانيا، ففرحت لذلك فرحا كبيرا.
ومن ذكريات الماضى الجميلة ذكرى الاحتفال السنوى بالمولد النبوى، حيث يشترى لنا الأهل الأحصنة الحلاوة للأولاد، والعرائس الحلاوة للبنات. وكلما كان الحصان أو العروس كبير الحجم كان ذلك مدعاة لكثير من البهجة والافتخار. وبعد الانتهاء من الاحتفالات يحطم كل منا الحصان أو العروس ويبله فى الماء ويشربه. وكان الناس أيضا يصنعون الشربات الأحمر فى طسوت كبيرة ويوزعونه على المارة، والكل هائص وسعيد. وكان هناك الدُّوسَة، وتتلخص فى أن يركب أحد المشايخ حصانا ويمر به حول القرية قاطعا ما يمكن تسميته حسب مصطلحات هذه الأيام بـ"الطريق الدائرى"، وقد رفرفت فوقه الأعلام، وأحاطت به الجماهير، وانطلقت زغاريد النساء، ورقد بعض الشبان والرجال على الأرض ليمشى عليهم الشيخ بحصانه، أى يدوسهم، ومن هنا سميت: "الدوسة".
كما كان هناك احتفال عربات الكارو عصرا حيث يركب عدد من مزاولى الحرف المختلفة عربةً، وكل واحد منهم يتظاهر بأنه يمارس حرفته، ولكن على شكل كاريكاتورى: فمثلا الحلاق يقف أمام زبون جالس على كرسى ممسك بقرص جلة ينظر فيها كأنه مرآة ليرى أأحسن الحلاق عمله أم لا، على حين يشهر الحلاق فرشةَ نِقَاشَة ٍضخمةً كأنه سيُصَبِّن بها الذقن، ومعه جردل كبير فيه طلاء أبيض من طلاء الجدران يرمز إلى طاسة الصابونة، فيغمس الفرشاة العملاقة فى الجردل ويمسح بها على وجه الزبون تهيئة لحلاقة ذقنه... وهكذا. وقد قرأت فى كتاب "معى" للدكتور شوقى ضيف أن ذلك كان يحدث فى دمياط فى صباه، ولكن عند رؤية هلال رمضان لا فى المولد النبوى، كما أن الأمر كان حقيقيا لا كاريكاتوريا مثلما هو الحال فى كرنفال قريتى. وآخر شىء فى ذلك اليوم هو الموكب، وفيه يتجمع طلاب القرية الأزهريون الكبار فى شكل قوس وقد تماسكوا بأيدهم كتلة واحدة، وهم ينشدون، بصوتٍ عالٍ وتنغيمٍ موسيقىٍّ جميلٍ، مديحا للمصطفى، وفى وسط قوسهم الكلوبات الساطعة، ويظلون هكذا إلى أن ينتهوا من الدوران حول القرية.
هذا، وكنت مغرما فى طفولتى وصباى بصيد الطيور، فكنا نخرج بالنبلة إلى الحقول حيث نحاول اصطياد العصافير واليمام وأبى فصادة والهدهد والغراب وما أشبه من الطيور التى تعرفها القرية. ولم أكن من البارعين كغيرى من لِدَاتى فى التنشين، وإن كنت قد استطعت صيد بعضها. ومرة خرجت بعد الظهر أنا وصديقى الذى كنت أغيظه بتحريك إصبعى فوق أنفى نصطاد عند الهِرْى الذى بعد السوق بقليل، وأخذنا نصوّب الزلط على العصافير فوق شجرة هناك، وكانت سيارة نقل مارة على الطريق من تحت الشجرة بالمصادفة، ففوجئنا بالسائق يقف، وأخذ يشير نحونا بما فهمنا منه أن الزلطة قد سقطت فوق زجاج السيارة وشرخته، فأخذنا ذيلنا فى أسنانا وقلنا: يا فكيك. وأرجو ألا يسألنى أحد من أعزائى القراء: مَنْ فَكِيكٌ هذا؟ فأنا والله لا أعرف، بل هى كلمة أقولها كما يقول الناس. وكنا نخترق حقول القمح، وكان القمح وقتذاك فى سنبله، بينما السائق يجرى على الطريق الزراعى، فوصلنا قبله إلى القرية حيث أسرعتُ إلى خالى، الذى لاحظ ما أنا فيه من خوف واضطراب، فأخبرته الخبر، فطلب منى أن آخذ الكلوب وأذهب إلى عم محمود عرفة لإصلاحه وأستكنّ هناك بنجوة من الأنظار، فامتثلت.
إلا أننى سرعان ما ركبتنى الوساوس وأنا جالس هناك، فما الذى يمنع أن يذهب السائق إلى النقطة ويحضر خفيرا أو شرطيا للبحث عنى فيجدنى عند السمكرى، وبيته غير بعيد من بيت خالى؟ إنْ هى إلا بضع عشرات قليلة من الأمتار. عندئذ نهضت كالملدوغ من مكانى، وأخذت طريقى إلى قرية شِفَاقْرُون، التى تبعد عن قريتنا نحو كيلومتر، ومنها زوجة خالى الثانية، وكانت هناك فى ذلك الوقت غَضْبَى عند أمها، وسلكتُ سكة المعصرة الخلفية الصاعدة على هيئة سلم طينى بدائى بعيدا عن العيون، ثم اخترقت حارة الربايعة منطلقا إلى الطريق الذى يصل بين قريتنا وقرية شفا، وهناك أطلعت زوجة خالى، وكانت تعاملنى كأمى، على تفاصيل الأمر بعدما ظنت فى البداية أننى مرسل من خالى لإعادتها إلى البيت، فهَدَّأَتْ من رُوعِى ومن رَوْعِى معا، وأحضرت لى أرزا معمرا، ونمت هناك حتى الصباح يحوطنى حنانها، ثم عدت وشرحت لخالى ما صنعت.
وقد علمتُ، بعد عودتى الميمونة المظفرة، بما حدث مع صديقى، إذ أتى خفير أخذه من بيتهم حيث كان مختبئا فى مقعدهم الخرب فوق السطح إلى النقطة، وهناك مَدُّوه فى الفلقة وضربوه بالقبقاب على قدميه، بينما أنا فى الأمان آكل أرزا لا مع الملائكة ولا مع البشر، بل وحدى. وقد ضحكتُ يومها ملء ثيابى ورئتى وفمى حين علمت بما جرى لزميلى، الذى حكى لى ما وقع وهو يضحك أيضا. لقد كانت أياما جميلة. ما رأيكم أنتم؟ أم تراكم غاضبين لأنى نجوت بجلدى من العقاب؟ لكن والله الذى لا إله إلا هو ما لنا ذنب فيما حدث، فقد كنا نصوب النبلة إلى أعلى الشجرة ثم نطلق الزلطة فتنطلق إلى أعلى لتسقط بعد ذلك على الأرض حسب قانون الجاذبية، فكانت السيارة تمر فى ذلك الوقت تحت الشجرة لتقع الزلطة فوق زجاجها دون أن يكون لنا أى ذنب فى هذا. إنها المصادفة وحدها التى تسببت فى إصابة زجاج السيارة. أم كنتم تريدون أن يتعطل قانون الجاذبية إكراما للسائق؟ وهل قال أحد لذلك الغبى أن يمر فى تلك الساعة من هناك؟ يستأهل!
كذلك مارستُ هواية صيد السمك، وكنت أذهب مع أمثالى إلى المصارف والترع حول القرية أو القرى القريبة فنصطاده، ومعنا خيط ينتهى بسلختى حطب، فنشبك ما نصطاده من السمك فى الخيط بعد تمرير إحدى سلختى الحطب من خلال خياشيمه وتثبيت الخيط بالسلخة الأخرى فى شط المصرف أو الترعة مع تدليته فى الماء حتى يظل السمك المشبوك حيا طوال وجودنا هناك، أو نضعه فى علبة صفيح من علب السمن الصناعى الصدئة بعد أن نملأها بالماء حتى لا يموت منا قبل العودة إلى البيوت. وكنت أوفق أحيانا، وأفشل أحيانا، ولكنى بوجه عام لم أكن بارعا فى صيد السمك ولا كنت أنجح عادة فى صيد الأحجام الكبيرة، ولا كان عندى الصبر للانتظار الطويل الذى يحتاجه هذا اللون من الصيد. ومع هذا كنت أهتز نشوة إذا ما غمزت السنارة ثم سحبتُها فوجدتُ فيها سمكة تتلوى كأنها أجمل راقصة فى الوجود وأنا أنتشها بقوة فى خط دائرى إلى خلف ظهرى ناحية الشط. ولا ينبغى أن ننسى الإثارة الناشئة من تجمع عدد منا على شط الترعة أو المصرف، وبخاصة إذا كان المكان الذى نصطاد منه بعيدا عن القرية، فقد كان ذلك بمثابة حجر يلقى فى بركة آسنة فيحدث فيها اضطرابا وحركة ودوائر جميلة بدلا من الخمول الذى كان يسيطر بوجه عام على إيقاع الحياة آنذاك.
وكنت أرى أولاد الفلاحين يصيدون السمك القراميط من ماء الساقية فى الممر الموصل ما بين بثر الكَبَّاس والنهر نفسه، إذ كانوا يسدون الفتحة من ناحية النهر فينحصر السمك فى مكان صغير ضيق يتحركون خلاله منبطحين ويمدون أيديهم فيمسكون به فى منتهى اليسر، عائدين بـ"عَشْوَة سمك" كما كنا نقول، وأى عشوة! وأحيانا أخرى كان الأولاد الصيادون يبنون فى المصرف أو الترعة حاجزين طينيين غير متباعدين، ثم يقسمون أنفسهم إلى جماعتين تنشل كل جماعة منهم الماء إلى ما وراء أحد الحاجزين، إلى أن يظهر القاع تحت الماء القليل المتبقى الذى يضطرب فيه السمك بوفرة يريد الخلاص من المأزق الذى وجد نفسه فيه، ولكن أَنَّى له ذلك؟ لقد وقع فى الشَّرَك وانتهى الأمر. وكان من هذا النوع من الصيادين المغاورى زيد، الذى كان يصطاد القراميط من ساقية الساحل. وهو ابن الشيخ عدس زيد جار خالى التاجر الذى كان يبيع التموين من زيت وسكر للفلاحين، فكان يوم توزيع التموين ليلا فى أول الشهر بزحامه وتكأكؤ الناس حول الدكان وشخطه فيهم على عادة كثير من تجار الريف وكأنهم يشحتون منه عيدا لنا، إذ كانت شوارع القرية هادئة لا تكاد تشاهد زحاما من هذا النوع إلا فى هذه المناسبة، فكنا نبتهج بالزحمة ونتمنى ألا تنتهى. كما كان بيتهم يمتاز بأننا كنا نسهر فيه مع أمه وإخوته وأختيه سهرا فيه كثير من الحبور والفرفشة والحواديت واللَّمَّة.
ولقد كنت ولدا عفريتا، لكن ليس إلى حد كبير. وكنت مغرما بلعب كرة الشراب فى الشارع، وفى عز القيلولة، غير عابئ بما يقوله لنا الرجال الذين يريدون أن يناموا ساعة الظهيرة، إذ كانت لهم عبارة لا تتغير أبدا يريدون أن يصرفونا بها عن اللعب تحت شبابيكهم، وهى: يا ابنى أنت وهو، ألا تقيِّلون؟ إن العفاريت مُقَيِّلة! وكان لسان حالنا يقول، فيما بيننا وبين أنفسنا طبعا: فلتقيِّل العفاريت كما يحلو لها. أما نحن فنريد أن نلعب. وأحيانا إذا لم تنفع حجة العفاريت المقيّلة كانوا يطاردوننا، فنجرى بعيدا لنلعب فى مكان آخر وتتكرر المسرحية ذاتها. ومن عفرتاتى الأخرى أذكر أنى كنت قد تعلمت وضع عود الثقاب أفقيا من الناحية المكبرتة فوق حكاكة علبة الكبريت ضاغطا بإبهامى فوق طرفه الآخر، ثم أدفعه بقوة بسبابة يدى الأخرى فيطير فى الهواء بعد أن يحتك بالحكاكة ويشتعل. وكنت ذات ليلة أمارس هذه اللعبة المثيرة على بعد أمتار من بيت خالى فى الظلام أيام لم تكن القرية قد دخلها النور بعد، وطار عود الثقاب مشتعلا فى الظلام، وإذا بى أسمع ولدا يصرخ: "آه يا عينى!"، وكان راقدا على المصطبة أمام بيتهم، فأخذت ذيلى فى أسنانى وهربت بعيدا عن بيتنا فى الاتجاد المضاد إلى الناحية الأخرى من القرية خوفا من أن يقبض علىَّ أهل الولد المصاب، إذ لا بد أن تكون قد طارت عينه أو غارت بسبب العود المشتعل. ثم بعد فترة تحسست طريقى فلم أجد ضجة ولا اضطرابا، ثم فهمت أنه لم يحدث شىء يذكر، فتسللت إلى بيت خالى، ولم أعد إلى تلك اللعبة الخطرة بعد ذلك قط، فليس كلَّ مَرَّة تَسْلَمُ الجَرَّة.
ومع ذلك كله فإنى بحمد الله، رغم هذه العفرتات والشيطنات، حين كبرت لم أرتكب كبيرة قط، فلا زنيت ولا شربت الخمر ولا دخنت إلا عددا لا يبلغ عَشْر سجائر طول حياتى، وليس الكذب أو النفاق أو النميمة أو التخطيط لإيذاء الآخرين بدون وجه حق بوجه عام من خلائقى. وأحيانا ما أتصور أننى، حتى لو لم أولد مسلما، ما كنت لأشرب الخمر أو أدخن السجائر. وإحساسى بالواجب حاد لا أستطيع أن أتجاهل إلحاحه علىَّ ولا إهمال تأديته حتى لو أجلته بعض التأجيل. وربما كانت ظروفى الاجتماعية التى شرحتها مسؤولة إلى حد كبير عن ذلك. لقد كنت وما زلت أخشى الناس أن يذمونى، فأنا من الذين يعملون للمجتمع حسابا لأنى لا أجد حولى أحدا يمكننى أن أعتصم به عند اللزوم ساعة الخطإ، اللهم إلا إذا كنت مقتنعا بما أفعله أو أقوله، فعندئذ لا أبالى ما يقول الآخرون، وإن كنت بعدما كبرت وتقدمت فى العمر قد صرت أجنح إلى المهادنة والمجاملة أكثر مما كنت أفعل وأنا شاب متحمس متصلب الدماغ لا أهتم بما يقول الناس عما آتيه من تصرفات وأفعال أو أصرح به من آراء.
ومن الناحية الأخرى لم أترك يوما أية صلاة مفروضة منذ الثانية عشرة، وإن لم ألتزم دائما فى صباى بأدائها فى وقتها، على عكس الأمر منذ بلغت السابعة عشرة، مع التنبيه إلى أننى لا أراعى أداء النوافل فى كل الأوقات بالفترة الأخيرة. كذلك أرانى أسارع إلى العطف على المساكين والمحاويج، وأجد ذلك من أهم مبادئ الدين، وبخاصة أنه من الصعب علىَّ نسيان معاناتى الكثيرة فى الطفولة والصبا بعد وفاة والدى. ومع هذا فمن الصعب علىَّ أن أستجيب لمحترفى الشحاتة، ولا تهش نفسى لإعطائهم شيئا مهما كانت ضآلته لما أعرفه من أن كل همهم جمع الفلوس جمعا مَرَضِيًّا، علاوة على كراهيتهم للعمل واستمرائهم مد اليد للسؤال، وهو ما يكرهه ديننا أشد الكراهية. وبعضهم يشترى بما يشحته سجائر وخمورا أو يكنز ما يجمعه من أموال. وأعرف حالات عُرِض فيها على بعض الشحّاتات أن يزودهن أهل الخير برأس مال يتاجرن به فى الفاكهة والخضراوات، إلا أنهن رفضن وفضلن أن يمددن أيديهن وتأتى المسألة يوم القيامة نكتة سوداء فى وجوههن على التعفف والتنزه عن مذلة السؤال ورذالته.
وقد كنت أتعاطف قبلا مع من يمدون أيديهم بالسؤال، وأتصور أنهم محتاجون فعلا إلى أن نساعدهم ونعطيهم ما يطلبون وأنهم لم يلجأوا إلى الشحاتة إلا بعدما ضاقت فى وجوهم وبهم السبل إلى الرزق. ولهذا كنت أستغرب من أستاذى سيد أحمد أبو رية، رحمه الله وأكرمه أعظم الإكرام، أنه لا يمد يده بشىء لهؤلاء الشحاتين حين يأتون إلى المقهى الذى نجلس فيه. وسر استغرابى أننى أراه كريما ورحيما وحنونا معى إلى الغاية، فكيف لا يرقّ لهؤلاء المساكين؟ هكذا كنت أفكر، إلى أن نضجتُ وفهمتُ الحياة وخباياها، فأدركت أن هؤلاء الشحاتين المحترفين لا يحق لهم مد أيديهم بالسؤال لأنهم قادرون على العمل، ومن ثم لا يصح أن نشجعهم على الشحاتة، وأن القرآن قد أدان هذا السلوك، وأن رسول الله لا يحب للمسلم أن يقف هذا الموقف البليد الذليل، وأن الأمم المتحضرة تجرّمه، وأن عالم الشحاتة يتكون فى كثير من الأحيان من عصابات إجرامية تقوم على التخطيط والمؤامرات واستغلال الأطفال وتأجيرهم هم والأماكن التى يقف فيها الشحات، وأن كل شىء فى هذا العالم السفلى إنما يتم بنظام صارم خال من المشاعر والإنسانية... وهكذا.
وإنى لأضحك بل أقهقه كثيرا من أعماق قلبى جَرَّاءَ الحيل التى ينتهجها بعض الشحاتين فى بلادنا الحبيبة، إذ يعلق أحدهم مثلا كيس دم فى حامل وينام الصبى الشحات تحته فى الشارع، وكأننا فى مستشفى. وسر ضحكى هو ما يوهمنا به مَنْ وراء هذا النوع من الشحاتين من أنهم يعالجون مريضهم فى الشارع دون طبيب متخصص ولا أدوات جراحة ولا تمريض ولا تعقيم. إنهم عباقرة لم تلد الواحد منهم ولادة، لا بنت المستكفى ولا بنت غير المستكفى. ومن تلك الحيل ما تصنعه شحاتة فوق جسر المشاة القريب من الجامعة فوق خط مترو الأنفاق هناك، إذ كلما مررت بها وهى جالسة على الأرض وجدتها غافية، لكن ما إن تحس دبيب قدم تقترب من مجلسها حتى تسارع إلى مداعبة حبات المسبحة التى فى يدها مناشدة ذوى القلوب الرحيمة (الذين أنا لست واحدا منهم) بمساعدتها. فأمرّ بها وأنا أشعر بالخجل لعدم استجابتى لمناشداتها التى تقطع نياط القلوب. يا لقلبى المتحجر! ثم مرت الأعوام، وإذا بى أراها، بدلا من الجلوس وفى يدها مسبحتها، نائمة فوق فراش على الجسر المذكور، وكلما شعرتْ بدبيب قدم تقترب قالت فى صوت واهن مشحون بالمعاناة: "من فضلك ساعدنى". لكن قلبى الصوانى القاسى لا يلين، مع استمرار شعورى بالخجل، ولا أدرى لم. ثم شاهدتهافى الفترة الأخيرة وقد طورت أسلوبها، فتراها تجلس على كرسى فوتيه قديم وتردد نفس الجملة، مع إضافة جديدة تتمثل فى وضع بعض المصاصات على الأرض بجوارها كأنها تبيعها لمن يريد.
والعجيب أن استعمالها الفصحى فى الشحاتة لم يؤثر فِىََّ رغم حبى لمن يستعملون من طبقات الشعب غير المتعلمة ذلك المستوى الراقى من اللغة، على الأقل: بحكم تخصصى. لكن ماذا تقولون فى قساوة القلب التى ابتلانى الله بها؟ المهم أننى كنت دائما ما أتساءل مستغربا: من يا ترى يحملها كل صباح إلى هناك فوق جسر المترو ويضعها بعد أن يفرش لها فراشها ويرجع، ثم يعود آخر النهار فيحملها إلى البيت؟ ذلك أنى كنت أتصور أنها مريضة فعلا. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك مع هذا الصوت الواهن وذلك الشحوب فى وجهها؟ لأفاجأ ذات أصيل، وأنا فى طريق عودتى من محاضرة آخر النهار، بها هى ذاتها واقفة فى نشاط وعافية تجمع عدة شغلها وفراشها استعدادا للعودة المظفرة. وأعود فأقول: ابتسم، أنت فى مصر أم الدنيا، التى صَرَّ أهلوها الفيل فى المنديل، وعبأوا الشمس فى زجاجات، وخرموا التعريفة، وفوق ذلك دهنوا الهواء دوكو. فمَنْ مِنَ الأمم بالله عليك استطاع أن يُنْجِز عُشْرَ مِعْشَار هذه الإنجازات؟ وأتخيل الجاحظ، الذى ألف كتابا فى الشحاتة والشحاتين عَدَّد فيه حيلهم وألاعيبهم التى يعملون على كسب عطف المارة من خلالها، وقد عاد إلى الدنيا ورأى الشحاتين المصريين وأساليبهم التى لا تخطر على بال إبليس ذاته، فشرع يشد شعره من عجزه عن ملاحقة هذه العبقرية وتخلُّفه عنها وعن أصحابها أشواطا طوالا.
ولقد حاولت زمانا طويلا أن أعثر على رسالة الجاحظ الضائعة التى ألفها عن الشحاتة والشحاتين (بعنوان "رسالة الكُدْيَة والـمُكَدِّين")، فلم أجدها بتاتا، إلا أننى وجدت فى كتاب "المحاسن والمساوئ" للبيهقى تحت عنوان "محاسن السؤال" ما يلى: "قال الجاحظ: سمعت شيخا من الـمُكَدِّين وقد التقى مع شاب منهم قريب العهد بالصناعة، فسأله الشيخ عن حاله فقال: لعن الله الكُدْيَة، ولعن أصحابها من صناعة ما أَخَسَّها وأَقَلَّها! إنها، ما علمتُ، تُخْلِق الوجه وتضع من الرجال. وهل رأيت مُكَدِّيًا أفلح؟ قال: فرأيت الشيخ قد غضب والتفت إليه، فقال: يا هذا، أَقْلِلِ الكلام، فقد أكثرت. مثلك لا يفلح لأنك محروم، ولم تستحكم بعد. وإن للكُدْيَة رجالاً. فما لك ولهذا الكلام؟ ثم التفت فقال: اسمعوا بالله. يجيئنا كل نبطيّ قرنانٍ وكل حائك صفعان وكل ضرّاط كشحان يتكلم سبعًا في ثمان، إذا لم يصب أحدهم يومًا شيئًا ثلب الصناعة ووقع فيها. أَوَمَا علمتَ أن الكدية صناعة شريفة، وهي محببة لذيذة، صاحبها في نعيم لا ينفد، فهو على بريد الدنيا ومساحة الأرض، وخليفة ذي القرنين الذي بلغ المشرق والمغرب، حيثما حلّ لا يخاف البؤس، يسير حيث شاء، يأخذ أطايب كل بلدة؟ فهو أيام النرسيان والهيرون بالكوفة، ووقت الشبّوط وقصب السكر بالبصرة، ووقت البرنيّ والأزاذ والرّازقيّ والرمان المرمر ببغداد، وأيام التين والجوز الرطب بحلوان، ووقت اللوز الرطب والسختيان والطبرزد بالجبل. يأكل طيبات الأرض، فهو رخيّ البال حسن الحال لا يغتمّ لأهل ولا مال ولا دار ولا عقار. حيثما حلّ فعلفه طبليّ.
أما والله لقد رأيتني وقد دخلت بعض بلدان الجبل، ووقفت في مسجدها الأعظم، وعليّ فوطة قد ائتزرت بها، وتعممت بحبل من ليف، وبيدي عكازة من خشب الدفلى، وقد اجتمع إليَّ عالَمٌ من الناس كأني الحجاج بن يوسف على منبره، وأنا أقول: يا قوم، رجل من أهل الشام ثم من بلد يقال له: المصيصة، من أبناء الغزاة والمرابطين في سبيل الله من أبناء الركّاضة وحَرَسة الإسلام. غزوت مع والدي أربع عشرة غزوة: سبعًا في البحر وسبعًا في البر، وغزوت مع الأرمنيّ، قولوا: رحم الله أبا الحسن، ومع عمر بن عبيد الله، قولوا: رحم الله أبا حفص، وغزوت مع البطال بن الحسين والرنرداق بن مدرك وحمدان بن أبي قطيفة. وآخِر مَنْ غزوت معه يازمان الخادم، ودخلت قسطنطينية وصليت في مسجد مسلمة بن عبد الملك. مَنْ سمع باسمي فقد سمع، ومن لم يسمع فأنا أعرفه نفسي: أنا ابن الغزيّل بن الركان المصيصي المعروف المشهور في جميع الثغور والضارب بالسيف والطاعن بالرمح، سدٌّ من أسداد الإسلام، نازَلَ الملك على باب طرسوس فقتل الذراري وسبى النساء، وأُخِذ لنا ابنان وحُمِلا إلى بلاد الروم، فخرجت هاربًا على وجهي ومعي كتب من التجار، فقُطِع عليّ. وقد استجرت بالله ثم بكم. فإن رأيتم أن تردّوا ركنًا من أركان الإسلام إلى وطنه وبلده! فوالله ما أتممت الكلام حتى انهالت عليّ الدراهم من كل جانب وانصرفت ومعي أكثر من مائة درهم. فوثب إليه الشاب وقبَّل رأسه وقال: أنت والله معلم الخير فجزاك الله عن إخوانك خيرًا.
أصناف المكدين وأفعالهم: منهم المكي، وهو الذي يأتيك وعليه سراويلُ واسعٌ دبيقيّ أو نرسي، وفيه تكة أرمنية قد شدّها إلى عنقه، فيأتي المسجد فيقول: أنا من مدينة مصر، ابن فلان التاجر. وجهّني أبي إلى مَرْو في تجارة، ومعي متاع بعشرة آلاف درهم، فقُطِع عليّ الطريق، وتُرِكْتُ على هذه الحال، ولست أحسن صناعة ولا معي بضاعة، وأنا ابن نعمة، وقد بقيتُ ابن حاجة. ومنهم السَّحَرِيّ الذي يبكر إلى المساجد من قبل أن يؤذن المؤذن. والشجوي الذي كان يؤثّر في يده اليمنى ورجليه حتى يُرِيَ الناس أنه كان مقيّدًا مغلولاً، ويأخذ بيده تكة فينسجها يوهمك أنه من الخلديّة، وقد حبس في المطبَّق خمسين سنة. ومنهم الذرارحي الذي يأخذ الذراريح فيشدها في موضع من جسده من أول الليل ويبيت عليه ليلته حتى يتيقظ فيخرج بالغداة عريانًا، وقد تنفّط ذلك الموضع وصار فيه القيح الأصفر، ويصبّ على ظهره قليل رماد فيوهم الناس أنه محترق. ومنهم الحاجور، وهو الذي يأخذ الحلقوم مع الرئة، فيدخل الحلقوم في دبره ويشرّح الرئة على فخذه تشريحًا رقيقًا ويذرّ عليه دم الأخوين. ومنهم الخاقاني الذي يحتال في وجهه حتى يجعله مثل وجه خاقان ملك الترك، ويسوده بالصبر والمداد، ويوهمك أنه ورم. ومنهم السّكوت الذي يوهمك أنه لا يحسن أن يتكلم. ومنهم الكان، وهو الذي يواضع القاص من أول الليل على أنه يعطيه النصف أو الثلث فيتركه حتى إذا فرغ من الأخذ لنفسه اندفع هو فتكلم. ومنهم المفلفل، الرفيقان يترافقان فإذا دخلا مدينة قصدا أنبل مسجد فيها، فيقوم أحدهما في أول الصف، فإذا سلم الإمام صاح الذي في آخر الصف بالذي في أول الصف: يا فلان، قل لهم. فيقول الآخر: قل لهم أنت: أنا أيش. فيقول: قل، ويحك، ولا تستح. فلا يزالان كذلك وقد علّقا قلوب الناس ينتظرون ما يكون منهما، فإذا علما أنهما قد علقا القلوب تكلما بحوائجهما وقالا: نحن شريكان، وكان معنا أحمال بَزٍّ كنا حملناها من فسطاط مصر نريد العراق فقُطِع علينا، وقد بقينا على هذه الحال لا نحسن أن نسأل، وليست هذه صناعتنا. فيوهمان الناس أنهما قد ماتا من الحياء. ومنهم زكيم الحبشة الذي يأتيك وعليه درّاعة صوف مضرّبة مشقوقة من خلف وقدّام، وعليه خفّ ثغري بلا سراويل يتشبه بالغزاة. ومنهم زكيم المرحومة المكافيف يجتمعون خمسة وستة وأقل وأكثر، وقائدهم يبصر أدنى شيء، عينه مثل الخفاش يقال له: الإسطيل، فهو يدعو وهم يؤمنون. ومنهم الكاغانيّ الذي يتجنن أو يتصارع ويزبد حتى لا يشك أحد في جنونه وأنه لا دواء له لشدة ما ينزل به. ومنهم القرسيّ، وهو الذي يعصب ساقيه أو ذراعيه عصبًا شديدًا ويبيت على ذلك ليلة، فإذا تورم واحتقن فيه الدم مسحه بشيء من صابون ودم الأخوين وقطر عليه من سمن البقر وأطبق عليه خرقة ثم كشف بعضه، فلا يشك من رآه أنه آكلة نعوذ بالله منها. ومنهم المشعب الذي يحتال للصبي حين يولد بأن يزمنه أو يعميه ليسأل به الناس، وربما جاءت أمه أو يجيء أبوه فيتولى ذلك: فإما أن يكسبا به أو يكرباه. فإن كان عندهما ثقة، وإلا أقام بالأولاد والأجرة كفيلاً. ومنهم الفيلور، وهو الذي يحتال لخصيتيه حتى يريك أنه آدَر، وربما أراك أن بهما شرطًا أو جرحًا، وربما أراك ذلك في دبره. وتفعل المرأة ذلك بفرجها. ومنهم الكاخان الغلام المكدي إذا واجر وعليه مسحةٌ من جمال وعمل العملين جميعًا. والعوّاء الذي يسأل بين المغرب والعشاء ويطرّب في صوته. ومنهم الإسطيل، وهو المتعامي الذي إن شاء أراك أنه أعمى، وإن شاء أراك أنه ممن نزل في عينه الماء، وإن شاء أراك أنه لا يبصر. ومنهم المزيديّ، وهو الذي يدور ومعه دُرَيْهِمَات، يقول: هذه دريهمات قد جُمِعَتْ لي في ثَمَن قطيفة، فزيدوني فيها، ورحمكم الله. ومنهم المستعرض الذي يعارضك وهو ذو هيئة في ثياب صالحة، يريك أنه يستحيي من المسألة ويخاف أن يراه معرفة فيعرض لك اعتراضًا ويكلمك خَفتًًا. ومنهم المطيّن، وهو الذي يطيّن نفسه من قرنه إلى قدمه ويأخذ البلاذر يريك أنه يأكل البلاذر".
منك لله يا جاحظ على خفة ظلك وموسوعيتك حتى فى عالم الشحاتة والشحاتين. ولكن يا عمنا الكبير لا يسعنى، رغم ذلك كله ورغم عبقريتك التى شهد لك بها العالم كله من عرب ومستشرقين، إلا أن أقول لك: قديمة! فشحاتونا فى مصر فاقوا شحاتيك. اسمع يا سيدى ما قاله لنا، ونحن جالسون ليلا عند كُشْكِه بجوار مسجد الشيخ غراب بحدائق القبة، الحاج منصور العدلى جارنا وصديقنا وممولنا بالحكايات الطريفة الآتية من قاع المجتمع والتى تقطر ظرفا، إذ ذكر لنا ذات جلسة أنا ود. محمود عباس، الأستاذ الجامعى الأزهرى الذى لا يدانيه أحد فى خفة الظل وحلاوة الروح والذى يعشقه مستمعو إذاعة القرآن الكريم، أن من حيل الشحاتين الآن أن يأتى قوم بعد صلاة العصر بنعش أبيهم الميت إلى المسجد يريدون أن يصلى الإمام والناس عليه قبل أخذ الجثة إلى القرافة، ولكن ما إن يستعد الإمام والناس للصلاة على النعش حتى يندفع من مكان ما بالمسجد رجلان تنشق الأرض عنهما بغتة، فيصيحان بالناس ألا يصلوا على الرجل قبل أن يدفع لهما أهله ما كان مدينا به لهما، إذ الصلاة على الميت لا تجوز إلا بعد قضاء الديون التى عليه. وهنا تقوم مشادة بين الرجلين وأهل الميت، يحاول فيها أبناء الرجل وأقاربه أن يقنعوا الدائنين بئأجيل المطالبة بالفلوس حتى يدفنوا الجثة ويصير لكل حادث حديث، إلا أن الرجلين صاحبى الدَّيْن لا يقتنعان ولا يلينان، ويريدان حقهما ثالثًا ومثلَّثًا الآن فورا، وإلا حالا دون الصلاة على ميتهم. ويحاول مرة أخرى أهل الرجل الاعتذار بأنهم لم يحسبوا لهذا الأمر المباغت حسابا، ومن ثم فهم غير مستعدين للدفع حاليا ولا معهم فلوس أصلا. وبعد شد وجذب يتطوع أولاد الحلال من بين المصلين، وهم كثر بحمد الله لأن البَلَه بين البشر كثير، فيعرضون على الحاضرين أن يجمعوا المبلغ المطلوب إنقاذا للموقف الحرج حتى يمكن الصلاة على الميت والذهاب به إلى الجبّان لدفنه. وهكذا يتم جمع المبلغ والصلاة على الرجل، وينصرف أهله بنعشه، وينصرف الدائنان لحال سبيلهما، وينفض السامر من الجامع، وتنتهى المسرحية الكوميدية التى رأينا فصولها، والتى ألفها وأخرجها وأداها أصحاب النعش والدائنان وأول رجل كريم أخرج من جيبه بعض المال فصنع الموجودون صنعه، واستطاعوا بها أن يقرطسوا الحاضرين ويأخذوا منهم مالهم، مع أنه لا يوجد ميت ولا ديَّانة ولا يحزنون. والآن أليس الشحاتون المصريون على أيامنا هذه الغبراء أذكى وأدهى وأظرف من شحاتى العراق على أيام الجاحظ؟
ولكنْ كله كوم، وشحات الغرام كوم آخر، ذلك الشحات الذى لم يعرفه ولم يسمع به لا الجاحظ ولا ابن المقفع ولا البيهقى ولا بديع الزمان الهمدانى ولا الحريرى ولا الجن الأزرق من قبل. اسمع ما يقوله شحات الغرام محمد فوزى وما ترد به عليه معشوقته رهيفة القلب العطوفة الحنونة ليلى مراد، التى تطل عليه من شرفة قصر أبيها، وقد وقفت وراءها، بغرفة النوم الفسيحة الفخمة ذات الستائر المترفة الهفهافة ثم فى الشرفة الجميلة الفينانة التى يمرح فيها الخيل على راحتها، الشغالة خالدة الذكر وكاتمة الأسرار الغرامية لستاتها الشابات فى الأفلام المصرية، الممثلة خيرية أحمد، وفى يديها وردة تقطف ورقاتها ورقة ورقة فى هيام وغرام، ثم تضم ما بقى منها إلى صدرها فى وَلَهٍ ودَلَهٍ، بينما الحوار الغنائى الحنون شغّال على أذنه بين العاشقين: الفتاة الجميلة المطلة على حديقة قصرها تحاول أن تصرف العاشق الشحات اللجوج، وإن كانت فى الواقع تريد استمرار بقائه تحت الشرفة يعرض حبه وقلبه كى يشبع غرورها بجمالها ورقتها وأناقتها وثروتها، والشحات الأنيق ببدلته الجديدة الغالية، وحذائه اللامع الذى ليس عندى مثله، ورباط رقبته الذى سيأكل منها حتّة، وعكازه المضحك الذى أمسك به فى يده وحَنَى جذعه عليه تظاهرا بالضعف والانكسار والمسكنة، وقد وضع يده على أذنه كأى شحات مُعْدِم جار عليه الزمان، وهو يغنى فى لجاجة وارتعاش، ويتقدم نحو القصر متعارجا حتى يكون تحت الشرفة مباشرة، طالبا أية حسنة من عاشقته الظريفة: نظرة أو بسمة أو كلمة رضا أو ساعة صفا أو ما أشبه، لينتهى المشهد بوردة ندية تلقى بها إليه من عليائها فيتقبلها شاكرا مبتهلا إلى الله أن يزيدها من نعيمه الذى أفاضه عليها جمالا ودلالا. ودعنا من روعة الأداء والتمثيل وخفة الظل وتمطيط الكلمات وتكريرها وترقيصها وتظاهر روميو الشحاتين بالحزن الشديد حتى لنظن أنه يوشك أن ينهار باكيا. مسكين يا روميو الشحاتين:
- شحّاتْ ومَدّ إيديه وكسْر خاطْرُه حرامْ
- حَدَفُه الْهَوا هنا ليه؟
- طالبْ تحنُّوا عليه يا محسنين الغرامْ
- وَنحِنّ، قول لى، بإيه؟
- ارموا له له نظرهْ ولاَّ ابتسامهْ
حَسَنَهْ، وتنفعْ يُوم القيامهْ
- يعطيكْ، لله
- والنَّبِى إحسانْ لله!
- قلت: على الله!
- وأنا قلت: كمان لله!
- اِسْرَحْ!
- للهْ!
- رَوَّحْ!
- لله!
يامحسنين الغرام، لله
يا أرقّّ خلق اللهْ،
ضِيف الجمالْ مكروم
- هُوَّ احْنا ضَيِّفْناه؟
- ما تْرُدِّنِيشْ محرومْ
- إيهْ كل ده؟ باينْ عليكْ طماعْ!
- هُوَّ كدهْ. الشحاتينْ أنواعْ!
كلمةْ رضا لله!
- عايز الرضا صدقاتْ؟
- ساعةْ صفا لله!
- زوِّدْتها يا شحاتْ!
اسرحْ!
- لله!
- رَوَّحْ!
- لله!
- يا شحاتين الغرام، على الله!
يظهر: صحيح اللى بتشكيه. غلبانْ يا روميو الشحاتين
غَلِّبْنى إيه الاّ عْنِيكى
- أنا قلبى رَقّ وأثر فيه. صوتك، ياكبدى على المسكينْ!
- لو تسعديه: شِىءْ فى إيديكى
- ما بقِتْش اقول: "الله يحننْ"، لا الناسْ تسمّينى بخيلهْ
- والبخل فى الـحُبّ يجنِّنْ. صَدَقَهْ، وتِرْضِينى، قليلهْ
- على ما قُسُمْ، وخلاصْ، خُدْها
- ياخُدْ عَدُوِّينِكْ
- نادْيهْ ولِسَّهْ بعنقودْها
- يا رُوحْ مُحِبِّينِكْ
اللهْ يزيدْ حسنِكْ قِيمَهْ. زينْةِ الجناينْ والبساتينْ
ولا يِخْلِيهُمْ لك ياكريمهْ. من ورد أبدا ولا ياسمينْ
ولا فُلّ. تعيشْ إلهام
إدينى معادْ لله
- فُوتْ بكرهْ خمسهْ تمامْ
مِنْ قَدِّمْ شىءْ بيداه
يِلْقَاه، وْكُلُّهْ على الله
كله وكله على الله
- يجعلْها عمَارْ. بيوت الأحبابْ
وانا باستمرارْ. حَوَالِينِ البابْ
ولأنى شيخ مطمطم، ولا يمكن أن يمر شىء من تحت أنفى إلا وحللته لغويا وأدبيا، فإنى دائما ما أسأل طلبتى وطالباتى: هل إذا قلنا بالفصحى على طريقة الشحاتين فى الشوارع أو فى البساتين تحت شرفات القصور تحنينا للقلوب، قلوب أهل الخير وقلوب أهل الحب على السواء: "من قدم شيئا بيداه التقاه"، أنكون على صواب؟ وحتى الآن لم يستطع طالب أن يتذكر ما درّسه له أساتذته فى مادة النحو من أن المثنى كان يُعْرَب بالألف فى كل الأحوال: رفعا ونصبا وجرا عند بعض القبائل العربية. ولو كانوا أذكياء لأجابونى: نحن لسنا شحاتين. فكيف نستطيع الرد على هذا السؤال النحوى الفقايرى؟ لكنهم، للأسف، ليسوا أذكياء. ومرة أخرى أسأل الجاحظ: بالله هل كان عندكم، يا جاحظ، شحات كهذا الشحات الظريف الذى قد يحق لى أن اباهى به لأنه من قرية شبه مجاورة لقريتى، وكم لعبنا الكرة ونحن صغار ضد لداتنا من نفس أسرته؟
ورغم كل ما قلته عن عدم استجابتى للشحاتين المحترفين فإننى أنسى هذا المبدأ فى بعض الأحيان تحت ضغط عاطفى: فعلى سبيل المثال كنت ليلة العيد الكبير الماضى أتريض قبيل الفجر، وإذا بى، وأنا مار بكنتاكى الكائن بشارع مصر والسودان بحدائق القبة، أرى طفلا فى نحو التاسعة من عمره متوسط الحجم يلبس معطفا باليا خشنا، وليس فى قدميه حذاء، ومتسخا كأنه لم ير الماء منذ قرون، ويجلس بباب المطعم مكتفيا بالتطلع فى وجوه الداخلين والخارجين دون أن يمد يده لأحد أو يتعرض لأحد، فتحركت مشاعرى نحوه، وعزمت حين أنتهى من جولة الذهاب أن أشترى له طعاما ومشروبا. وفعلا فى طريق عودتى توقفت عند مخبز أفرنجى قريب من جامع الشيخ كشك، واشتريت له فطائر وبسكويتا وبعض القرص المحشوة، وعلبة بيبسى (كانز)، ودعوت الله أن أجده فى الموضع الذى شاهدته فيه. وكم كانت سعادتى كبيرة حين وجدته هناك لم يبارح المكان. اقتربت منه، وكان متحفظا بعض الشىء، فربَّتُّ على كتفه وطمأنته قائلا: هذا الطعام لك. لكن قل لى: ماذا تفعل هنا فى هذا الوقت المتأخر من الليل؟ قال بعد شىءمن التردد والتوجس: أمرنى أبى أن أخرج من البيت لأشحت وألا أعود إليه إلا بعد أن أجمع له ستين جنيها. رَبَّتُّ على كتفه مرة أخرى، وأنا متألم قائلا فى نفسى: لقد كان من الممكن جدا أن أكون مكان هذا الصبى المسكين أنا أو أحد من أولادى. هل هناك ما يمنع من ذلك؟ كلا وألف كلا. وحمدت الله أن أقدرنى على إدخال السرور على قلب الولد، الذى يشترك معى فى الإنسانية، وإن كانت ظروفه سيئة، وظروفى أنا حسنة. ثم مضيت وأنا أعلم أن ما صنعته لا يحل المشكلة. لكن ماذا كان باستطاعتى أن أفعل؟
وبالمثل تعرضت الليلة لموقف آخر استثارَ عطفى وشفقتى، إذ كنت عائدا بالسيارة من مشوار فى مدينة نصر عن طريق شارع مصطفى النحاس، ثم انعطفت فى الشارع الذى يقوم على ناصيته من الناحية الأخرى مسجد رابعة العدوية. وكانت الإشارة عند المسجد مغلقة، وكانت هناك بنت صغيرة فى نحو السابعة من عمرها صغيرة الحجم تبيع فى حقيبة قماشية (مخلاة) معلقة فى كتفها مناديل ورقية. بطبيعة الحال الفتاة تتبع معلما أو معلمة توجهها هى وأمثالها، أو ربما تعمل مع أمها أو أبيها. إلى هنا، وليس فى الأمر شىء غير اعتيادى، إلا أننى لاحظت أن البنت، حين عرضت المناديل علىَّ، كان صوتها خفيضا وحييا ومنكسرا لكن دون ذلة. كما كانت حلوة التقاطيع وعلى قدر من النظافة. حرك المنظر عواطفى، ولكن البنت غادرتنى وانطلقت فى خفة حركة إلى الأمام، فمددت يدى أبحث فى جيوبى عن الجنيهات المعدنية التى معى، فاستخرجت اثنين، ثم عدت فزدتها واحدا آخر فصارت ثلاثة جنيهات، ثم عدت فأرجعتها مكانها، وأخرجت بدلا منها ورقة بخمسة جنيهات كى أسكت ضميرى. ثم فُتِحَتِ الإشارة الضوئية، فاقتربت السيارة من البنت التى كانت قد وصلت إلى مكان شرطى المرور عند الإشارات الضوئية، وأردت الوقوف ومناداتها لأعطيها الورقة المالية وأُسِرّ إليها أنها من أجل عشائها هى وليست من أجل المعلم أو الأب الذى يسرّحها. لكن البوق المستعجل الغاضب الذى ضربه لى قائد السيارة التالية لى منعنى من التريث عند البنت، ومضيت وأنا متألم لعدم إعطائى البنت الجنيهات الخمسة، واستغفرت الله. قد يرى البعض فى هذا لونا ساذجا من التفكير، فالبنت فى الغالب لن تستطيع أن تحجز الجنيهات الخمسة لنفسها، لكنى إنما أردت أن أشعرها بأننى أنظر إليها كإنسانة مثلنا جميعا، ولذا أفكر فى أمر خاص بها شخصيا لا فى مجرد مبلغ من المال أعطيها إياه على سبيل الصدقة. ترى أأنا على حق أم على خطإ؟ لا أدرى، ولكن العواطف لا تفكر بهذه الطريقة.
وما دمنا فى الحديث عن الأطفال المحرومين فلأنتهز هذه الفرصة لأنقل هذا التقرير الصحفى الذى قرأته الآن فى موقع جريدة "المصريون" بتاريخ 12 إبريل 2013هـ بعنوان "الملاجئ هبة أطفال الشوارع فى مصر"، وهو تقرير يبعث على الألم الشديد. وغايتى من نقله أن يعرف من لهم بيت وأب وأم أنهم فى نعمة، وأن يستشعر القادرون منا العطف والرحمة على الأطفال المسحوقين والمحرومين، وما أكثرهم فى مصر المحروسة. يقول التقرير، وقد أَجَلْتُ فيه القلم ببعض التصحيحات اللغوية، ولكن تركت مضمونه دون أى تدخل من جانبى ولا بالتعليق أيا كان رأيى فيما يحتوى عليه: "تزداد أعداد أطفال الشوارع فى مصر كل يوم، وبالتحديد فى الآونة الأخيرة، فقد وجدنا الكثير من المخربين والمندسين فى المظاهرات السلمية والاعتصامات الفئوية. وعندما نركز فى الخراب وإلقاء زجاجات المولوتوف نجدها تصدر من قِبَل أطفال لا يتعدى عمرهم الخمسة عشر عاما، ونشعر بأنهم يريدون الخراب حتى وإن كانوا غير مؤيدين لأشخاص أو أحزاب، ولكنهم يريدون أن تستمر الفوضى فى مصر. فمن هؤلاء الأطفال؟ وما الذى يجعلهم يفعلون هذا؟
معظم هؤلاء الأطفال من أطفال الملاجئ الذين عاشوا طفولة يائسة تخلو من كل معانى الحياة الجميلة، ويشعرون دائما أن المجتمع هو السبب فى كل ما يحدث لهم من تدمير لطفولتهم وضياع لمستقبلهم. ففى أحدث الإحصائيات الصادرة من الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بشأن أعداد الملاجئ فى مصر جاءت كالتالى: محافظة القاهرة توجد بها 38 جمعية, الإسكندرية 17 جمعية, بورسعيد 10 جمعيات, حلوان 6 جمعيات, مدينة 6 أكتوبر جمعيتان, دمياط 10 جمعيات, الدقهلية 19 جمعية, الشرقية 7 جمعيات, القليوبية 9 جمعيات, كفر الشيخ 14 جمعية, الغربية 23 جمعية, المنوفية 8 جمعيات, البحيرة 15 جمعية, الإسماعيلية 9 جمعيات, الجيزة 14 جمعية, بنى سويف 7 جمعيات, الفيوم 5 جمعيات، المنيا 23 جمعية, أسيوط 10 جمعيات, سوهاج 38 جمعية, قنا 12 جمعية, أسوان 9 جمعيات, الأقصر 7 جمعيات, البحر الأحمر جمعيتان, الوادى الجديد 9 جمعيات, مطروح 4 جمعيات, شمال سيناء جمعيتان, جنوب سيناء جمعية واحدة. وفى إطار ذلك رصدت "المصريون" آراء إخصائيى جمعيات الملاجئ والخبراء الاجتماعيين للوقوف على أسباب رفض أطفال الملاجئ للمجتمع والرغبة فى الانتقام منهم، ومن المسئول عن تدمير طفولتهم ومستقبلهم:
فى البداية تقول عبير محمد أنور، إخصائية اجتماعية بجمعية المواساة، إن أطفال الملاجئ دائما رافضون للمجتمع حتى وهم داخل الجمعية، فهم دائما خائفون ورافضون الاختلاط بأى شخص خارجها. ودائما ما أقول لهم إنهم أحسن حالا من أطفال الشوارع، لأن المؤسسة لدينا تقوم برعاية الأطفال الذين ينتمون إلى أسر، ولكن أهاليهم مواطنون غير قادرين على تربيتهم بسبب ظروف مالية ومعيشية. ودائما ما يكون السبب وراء إيداع هؤلاء الأطفال داخل الملاجئ هى الأم: فهناك من تكون والدته متوفاة، وهناك من تكون والدته أرملة أو مطلقة ولا تستطيع تربيته ورعايته لأنها سوف تتزوج، فتأتى به إلى هنا وتتركه، ومن وقت إلى آخر تأتى لتطمئن عليه... وهكذا.
وهناك من يأتى به أهله ويَعِدُونه بأنهم سوف يأتون لزيارته، ولا يسألون عنه. وهناك أطفال يذهبون لزيارة أهاليهم ويشاهدون بأعينهم كيف يعانى باقى إخوتهم من الجوع والمرض وعدم التعليم، فيحمدون الله ويشكرون أهاليهم بأنهم أودعوهم تلك المؤسسة. ولدينا أطفال يستمرون معنا من فترة الروضة إلى المرحلة الإعدادية. وهناك من يريد أن يكمل الثانوية العامة. وأغلبهم لا يريد أن يكمل دراسته، ويكتفى بالمرحلة الإعدادية. وهناك من يكمل دراسته إلى المرحله الثانوية ويحصل على دبلوم. ومنهم من يتركنا ويقرر الاعتماد على نفسه. ومنهم من يعمل معنا، ونقوم بتوفير فرص عمل له. وهناك من يعمل خارج المؤسسة، ولكنه يعود كل يوم للمبيت هنا. وبالنسبة للبنات عندما ينتهين من دراستهن يخترن أن يذهبن لأهلهن، ولكنهن يتزوجن على الفور، فنقوم نحن بتجهيزهن وتوفير كل متطلباتهن من الجمعية حتى نطمئن على الفتاة فى منزلها مع زوجها أو مع أسرتها.
فى السياق ذاته تقول نيفين عادل، إخصائية الجمعيات والملاجئ التابعة لوزارة الشئون الاجتماعية: إن ملاجئ الأطفال غير آدمية بالمرة، وليس لديها القدرة على تربية أجيال جديدة. وذلك لأن المدرسين الذين يعملون بها، وحتى المشرفين والمشرفات، لا يتقاضون رواتب ترضيهم، ولا تلبى احتياجاتهم. فبالتالى لا يشعرون بالرضا، ويكون لديهم اكتئاب من وظيفتهم. أما المؤسسات والملاجئ الخاصة فهى تتلقى تبرعات كبيرة من رجال أعمال، وذلك لترويج الملاجئ والمؤسسات عن طريق الإعلانات المدفوعة الأجر وغيرها، وبالتالى يعطون رواتب كبيرة للعاملين والموظفين بها. ويكون رد فعل المدرسين والمشرفين من هذا الرضا هو المعاملة الحسنة للأطفال. وحتى التبرعات التى كانت تأتى لنا من فاعلى الخير قلت، بل انعدمت تمامًا، وذلك نظرا للظروف الاقتصادية بمصر. وكل هذا بالطبع يؤثر بالسلب على سلوكيات هؤلاء الأطفال. ولكن المؤسسات الخاصة من الممكن أن تخرج أجيالا من الممكن أن يكونوا صالحين ونافعين للمجتمع ولأنفسهم، ففاقد الشىء لا يعطيه.
ويقول أشرف سعيد، وهو مشرف اجتماعى بإحدى الجمعيات: إن الأطفال الموجودين داخل المؤسسات لا يشعرون بالرضا من أى شىء يقدم لهم، فهم كارهون لكل شىء، وكل شىء يقدم لهم، سلبيا أو إيجابيا، هو بالنسبة لهم لا يعنى أى تقدير، ولا يمثل لهم أية فرحة لأن الشىء المقدم لهم ليس من ذويهم. فكل هدف هؤلاء الأطفال هو الخروج من الملاجئ والمؤسسات والذهاب للعيش مع أهاليهم. فهناك طفل فى الصف الثالث الإبتدائى جاءت والدته لتُودِعه عندنا لعدم قدرتها على الإنفاق عليه، ومن وقت لآخر تأتى هذه الأم لترى ابنها وتطمئن عليه. ففى الفترة التى لا تكون الأم معه لا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم. فقط يبكى. وعندما يأتى أهل الخير ليعطوه بعض الحلوى يرفض ويأخذ فى الصراخ والبكاء، ولكن عندما تأتى أمه ومعها شىء بسيط له مثل كيس شيبسى يكون فى قمة سعادته ويأكل ويضحك ويلعب. وعندما تمشى الأم يستمر فى البكاء... وهكذا. فهذا الطفل مهما قدمنا له من رعاية وغيرها فلن يكون راضيا عنها على الإطلاق.
من زاوية أخرى قالت الدكتورة عزة كريم، أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية: إن نوعية المؤسسات تختلف فى تبنيها للأطفال حسب ظروفهم الاجتماعية: فهناك مؤسسات لرعاية الأطفال اليتامى، وهناك مؤسسات لرعاية اللقطاء أو مفقودى النسب، وهناك مؤسسات لرعاية الأطفال الضالين أو التائهين عن أهاليهم. وهؤلاء الأطفال يتم توزيعهم على حسب المؤسسة. ولكن القضية هى أنه، إلى وقتنا هذا، لا تستطيع المؤسسات الموجودة فى مصر، وللأسف الشديد، تأهيل أجيال جيدة وإبرازها للمجتمع بسبب عدم توافر الرعاية الطبية والتعليمية والنفسية والتربوية نظرا لأن من يقوم بالعمل، سواء كانوا مدرسين أو مشرفين أو إخصائيين اجتماعيين، هم غير مؤهلين ولا متدربين عليه بشكل لائق. والدليل على هذا أن هؤلاء الأطفال لا يطيقون العيش داخل المؤسسة أو الملجأ فترة طويلة، فنجد أن الطفل عندما يصل إلى عمر معين يهرب على الفور من المؤسسة، ولا يطيق العيش هناك. وحتى لو وجدنا بعض الأطفال يكملون المدة داخل المؤسسة ويخرجون منها بعد انتهاء الفترة المسموح لهم للعيش داخلها، ويخرجون للتعامل مع المجتمع، فإنهم لا يستطيعون أن يكوّنوا أسرة ولا يستمرون فى العمل أو فى وظيفة، وإن أكملوا لا يستطيعون أن يكونوا أولياء أمور: لا آباء صالحين ولا أمهات. وذلك كله يرجع إلى المعاملة القاسية والتربية غير الصحيحة التى تلقَّوْها داخل المؤسسة أو الملجإ.
غير أننا قمنا بعمل بحث منذ فترة مع هؤلاء الأطفال، وكان ردهم واحدا: نحن نشعر أننا داخل سجن، أو مجندون فى الجيش من كثرة النظام: فالأكل بمواعيد، والنوم بمواعيد، والاستيقاظ بمواعيد، والضحك بمواعيد، والبكاء بمواعيد. وهم يمثلون شريحة كبيرة فى المجتمع. وأى أسرة طبيعية لا يوجد بها هذا النظام القاتل، فحياتهم أسهل بكثير من هذا الروتين الذى تضعه المؤسسات والملاجئ لهؤلاء الأطفال. وللأسف هذا النظام تخضع له جميع الجمعيات والمؤسسات والملاجئ الحكومية والأهلية. فنحن لا نجد وزيرا أو شخصية عامة فى مصر كان موجودا داخل مؤسسة أو ملجأ. وكل هذا لأن القائمين على عملية التربية والتأهيل لهؤلاء الأطفال غير مؤهلين لها. ولو نظرنا إلى الدول الغربية نجد أن الأطفال اللقطاء يخرج منهم الوزير والشخصيات العامة. فأبرز الشخصيات العامة فى الغرب كان أصلهم لقطاء، وتربَّوْا فى ملاجئ، وذلك لأن الجمعيات أو المؤسسات والملاجئ الموجودة فى البلدان الغربية تعامل الطفل معاملة آدمية وتحترم هؤلاء الأطفال، إذ ليس لهم أى ذنب فيما ولدوا عليه، ولأن الشخص لديهم مهما كانت ظروفه يعنى لهم الكثير".
ونفس ما قلتُه، قبل الدخول فى موال الشحاتين والأطفال المحرومين والملاجئ، عن عدم تركى الصلاة منذ أن بلغت الثانية عشرة وذهبت إلى طنطا أتعلم فى الأزهر يمكنك أن تقوله أنت عن الصيام، الذى لم أكسره منذ انتظمت فى أدائه بدءا من تلك السن أيضا رغم ما تعرضت له مرارا وأنا صبى لم أبلغ الحُلُمَ بَعْدُ من عطش محرق كان الشيطان يوسوس لى خلاله أن أطفئ ظمئى بشربة ماء حتى أتخلص من تلك البُرَحَاء. وكنت، وأنا صغير لم أبدإ الصيام بعد، أضيق أشد الضيق حين آكل بعد صلاة الجمعة، وهو اليوم الذى لا أذهب فيه إلى الكتاب وأكون قريبا من أبى، فأجده لا يشاركنى الطعام.
أما فى أكسفورد فى أواخر عشريناتى بعد أن كبرت وسافرت إلى بريطانيا مبعوثا للدراسة من أجل الحصول على الدكتورية فقد دخلت المستشفى مرة لمدة يوم لإجراء عملية منظار على المثانة للتأكد من خلوها من الالتهاب، وأتتنى الممرضة الصغيرة الظريفة بعدها تطلب منى أن أشرب بعض الماء ليَرَوْا نتيجة العملية أو لشىء من هذا القبيل، فاعتذرتُ، ولكنها أصرت، فقلت ضاحكا تخلصا من الموقف: إن الله سوف يغضب منى إذا أفطرت. فقالت: إنه لا يمكن أن يغضب لمجرد تناولك شربة ماء لا راحت ولا جاءت. إلا أنى رددت وأنا ماضٍ فى الدعابة: أنا متأكد أنه سوف يغضب، بينما هى تجيبنى بقولها: لا أظن ذلك. وانتهى الأمر بأن مر الوقت الباقى من اليوم، وكان مدة صغيرة، ومن ثم خرجت من الموقف المضحك على الوضع الذى آثرتُه. ولا أدرى هل كنت على صواب فى قرارى هذا أو لا، إلا أنى، بينى وبينكم، قد استثقلت أن أفطر وأعيد صيام اليوم وحدى فى الوقت الذى لم يكن قد بقى من النهار سوى جزءٍ جِدِّ قليل.
وقد اعتمرتُ، والحمد لله، مرارا أنا وزوجتى وابننا وبنتنا، ثم سلوى أيضا بعد أن هلت على الوجود، عندما كنت أعمل فى جامعة أم القرى (فرع الطائف)، وإن كان هناك من يفوقوننى فى عمل العمرة كثيرا جدا من زملائى المصريين فى مدينة الطائف، التى لا تبعد عن مكة سوى تسعين كِيلاً أو نحو ذلك، إذ كان بعضهم يؤديها كل أسبوع تقريبا، فى الوقت الذى أديتها أنا وأسرتى بمعدل عمرة كل ثلاثة شهور. كما حججت ثلاث مرات أنا وزوجتى والأولاد. ومن المؤكد أن قلة تكاليف الحج بالنسبة لنا حين كنا نسكن "الطائف المأنوس" حسب تسمية بلدية تلك المدينة لها فى اللافتات المنشورة على الطريق قرب مداخلها لها دخل فى ذلك. وقد وهبْنا ثواب الحج الزائد أنا وزوجتى وابناى الكبيران لأبى وأمى وجدتى ووالدَىْ زوجتى. رحم الله الجميع، وألحقَنا بهم على خير. وأحب ألا تفوتنى الفرصة لأبين للقراء أن استقامتى الجنسية هى، فى جانب منها، راجعة إلى لطف الله بى إذ لم يضعنى فى موقف حرج كان يمكن أن تزل فيه القدم، وإن كان ما أعرفه من شخصيتى "يخيِّل لى" أن خشيتى من المجتمع وكراهيتى أن يلوك الناس سمعتى ورفضى فعل شىء يسىء إلى عِِرْض الآخرين مما أبغضه لنفسى كان كفيلا بتقوية عزيمتى فى مواجهة الإثم لو ضَعُفَ الوازع الدينى. فالحمد لله على بره بى ولطفه معى، وأبتهل إليه سبحانه أن يدخلنى الجنة بكرمه ورحمته دون حساب أو عقاب أو عتاب كما أدعوه فى كثير من الأحيان.
ومن عجائب الأقدار أن جدتى ظلت على قيد الحياة إلى أن انتهيتُ من دراستى فى طنطا ثم انتقلتُ إلى التعليم الجامعى فى القاهرة ثم تخرجتُ ومعى ليسانس اللغة العربية وآدابها. وهنا، وبعد تخرجى واستقلالى بنفسى، توفاها الله تعالى، فكأنه قد تركها لى كى تؤدى هذه المهمة ثم تغادر الحياة بعد أن تنتهى من مهمتها الربانية. ولم أتمكن للأسف أن أرد لها شيئا من جميلها، اللهم إلا أننى اشتريت لها طرحة وحذاء بسيطا عُقَيْبَ تخرجى، فدعت لى كثيرا بفرحة عجيبة وكأنى اشتريت لها الدنيا جميعا ناسية أنها صاحبة فضل عظيم علىَّ لا يمكننى، مهما صنعت لها، أن أوفيه أبدا. وكلما تذكرت تهلُّل وجهها وهى تدعو لى أحسست باطمئنان، وعزوت ما أنا فيه من ستر ويسر إلى دعوتها الكريمة لى، أكرمها الله تعالى برحمته وبره ولطفه.
والغريب أننى لم أشعر بتلك المنة التى أولانيها المولى الكريم فى شخصها إلا بعد رحيلها، وبعد أن نضجت شخصيتى وفهمى للحياة، فعندئذ، وعندئذ فقط، تنبهت إلى الدور العظيم الذى أدته تجاهى والذى لولاه لما تعلمت ولما وصلت إلى ما وصلت إليه. ودائما ما أدعو الله فى صلواتى بكل ما فى كيانى من حرارة وحب وإخلاص وشعور بالجميل وأمل فى رحمته سبحانه أن يتغمدها بكرمه وفضله وأن يبوئها أعلى منزل فى الجنة. رحمها الله رحمة عميمة. لقد كان ظُفْرها برقاب رجال كثيرين رغم أنها، ككل أمهاتنا وجداتنا فى القرية آنذاك، كانت امرأة أمية. بل إنى لأدعو لها عادة أكثر وأقوى مما أدعو لوالدىَّ رغم حبى الشديد لهما. وكانت، رحمها الله، كثيرا ما تقضى الليالى فى طفولتنا لَدُنْ إخلادنا إلى النوم فى البكاء والتعديد على أمى وأبى (وكان ابن أختها. وقد مات ميتة مأساوية، إذ دخل بالموتوسيكل ذات ليلة شتوية وهو عائد من طنطا فى النصف المظلم من مقدمة عربة تضىء فانوسا أماميا واحدا، فتحطمت جمجمته ومات فى مستشفى محلة مرحوم ليلة الأحد السابع عشر من يناير 1957م)، وخال لى مات فى شبابه مقتولا، بعد أن بجست بطنه سيارة نقل كان يقف وراءها قريبا من حائط، فرجع السائق إلى الخلف دون أن يحسب حسابه فدعسه فى الجدار، فكان وقت نومنا فى كثير من الليالى حزينا. وظلت الجدة تبكى وتعدِّد بصوتها الواله الضعيف إلى أن التهب جفناها.
إنى أكتب هذا وأنا أغالب دموعى حنانا إليها وتذكرا للعطف الذى كانت تفيضه علىَّ حين أعود أحيانا أصيل يوم الخميس من طنطا متشوقا إلى دفء قلبها فتأخذنى عند النوم فى حضنها وتغطينى بمَلَسِها الأسود ذى الكرانيش تقينى من البرد، حتى إذا انقضى باقى الخميس ونصف يوم الجمعة الأول ووجب أن أعود إلى طنطا هجمت جيوش الحزن على قلبى وأنا أغادر القرية فى إحدى سيارات الأجرة عائدا إلى الغربة والضياع فى شوارع المدينة وحواريها حيث لا جَدَّة ولا أحد يسأل عنى. وذلك كله على العكس مما كنت أشعر به وأنا أترجل من الحافلة المتهالكة لدن وصولها إلى مشارف القرية قبل نحو أربع وعشرين ساعة، إذ كنت أحس بروحى ترفرف عند رؤيتها للمنازل والحقول، وكأنها أسير طال اعتقاله وتعذيبه ثم أفرجوا عنه بغتة، فعاد إلى أهله ودياره، ديار المحبة. ولقد كتبت فيما بعد قصة موت خالى ووصفت مشهده وهم يحملونه إلى المقعد البحرى على سطح بيت خالى الكبير (والمقعد بلغة قريتنا هو الغرفة العلوية)، ولطخات باللون الأحمر تغطى بطنه ظننتها وقتذاك عصير طماطم أكلها قبيل موته وسال من بطنه المنفجرة، ولكن عندما كبرتُ رجحتُ أن تكون هى الدماء التى نزفت من بطنه بعد انبجاسها. كما وصفتُ الناسَ الكثيرين الذين صعدوا وراء جثمانه وأنا طفل صغير تائه بينهم.
كذلك كتبتُ قصة قصيرة عن طفلٍ مات أبوه، لكنه كان يظن أنه سافر إلى مكان بعيد وسوف يعود يوما، فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر القرية ينتظر عودته، إلى أن رأى من بعيد فى يوم من الأيام فرسا يعدو برجل ظنه أباه، ليفاجأ عندما اقترب منه بأنه ليس هو بل شخصا آخر، فعاد إلى البيت كاسف البال ثقيل القلب، إلا أنه رغم ذلك لم يفقد الأمل ورجع يخرج كل يوم فى انتظار الوالد الغائب. وقد أردت، من خلال هذه القصة، أن أقول إن بعض حقائق الحياة ثقيلة على النفس، وإن كثيرا من البشر يعيشون فى الأوهام على أمل لن يتحقق، إلا أن له رغم ذلك دورا فى حياتهم بالغ الأهمية إلى أن يكبروا ويفهموا أوضاع الدنيا على حقيقتها وبشاعتها. ثم ضاعت القصتان: الأولى الساذجة، والثانية المقبولة، فيما ضاع من أشيائى الكثيرة فى مضطرَب الحياة.
لقد كان تعليمى فى المرحلة الإعدادية (وكانت تسمى: "الابتدائية" فى السنتين الأُولَيَيْن لى فى الأزهر) تعليما أزهريا. وكنا نجلس فى نصف السنة الأولى على الحصير بمسجد السيد البدوى حيث كنا نتلقى دروسنا على يد المشايخ الذين يجلس كل منهم على دكة خشبية، وقد لبس فى قدميه خفا نظيفا خاصا بالمسجد يقيه برد الشتاء، ونتحلق حوله على الأرض، والبرد يخترق عظامنا الطرية لا يبالى بشىء. وكنت لا تكاد تسمع صوتا آخر فى المسجد غير أصوات المدرسين، الذين كان يجلس كل منهم لصق عامود من عواميده. ورغم أن المسجد فى نصف النهار الأول يستحيل معهدا فقد كان هناك مكان داخل المسجد حول المقام مفتوح لجمهور الناس نساء ورجالا، ولكن يفصل بينه وبين مكان تلقى الدروس سور خشبى غير مرتفع. فكانت النساء الريفيات اللاتى يردن زيارة أولادهن يأتين ويقفن بجوار السور حاملات القفف التى عبأنها من خيرات المنزل بالقرية يتحفن بها أبناءهن. وفى الفسحة التى كنا نصلى فيها الظهر، ويمكن الجمهور أن يدخل إلى مكان الدروس ويصلى معنا، كانت الأمهات يلتقين بأبنائهن وينتظرنهم إلى ما بعد انتهاء اليوم الدراسى ليصحبنهم إلى حيث يسكنون. وكان فتانا الصغير لا يعرف مثل تلك الزيارات، لأنه لم تكن له أم، ولا حتى أب. وكان من بين أولئك الأمهات من تريد أن تفرح بابنها فى تلك السن فتزوجه، ليأتى إلينا أحد زملائنا قائلا لنا إنه قد تزوج فى الإجازة، وتظهر عليه علائم السعادة لدخوله دنيا. وأذكر بهذه المناسبة ما كتبه الدكتور عبد الحليم محمود عن زواجه مبكرا بهذه الطريقة وكيف أركبوه الحصان ليلة الدخلة ولفوا به العزبة. وهذا مسجل فى كتابه الممتع: "الحمد لله! هذه حياتى". أما فى النصف الأخير من أول عام دراسى لنا بطنطا فقد انتقلنا إلى معهد طنطا الأحمدى الإعدادى الذى بَنَوْه خصيصا لذلك فى سيجر، فكان علينا أن نمشى أكثر من ضعفى المسافة التى كنا نمشيها من غرفتنا إلى مسجد السيد البدوى. لكنْ عَوَّضَنا عن ذلك أننا كنا نجلس على كراسىّ، ولكل منا درجه، ولم يعد البرد يخترق عظامنا الضعيفة كما كان يفعل فى مسجد السيد البدوى. رحمها الله من أيام!
وكنت أشعر فى بداية ذهابى إلى طنطا بالهم يملأ قلبى، وكنت أتمنى أن أعود إلى القرية وأترك كل هذه الأحزان التى لم يكن لى بها قِبَل، إلا أن القدر كانت له كلمة أخرى. وأذكر أمسية قضيتها أنا وزميل لى من القرية كان يشعر مثلى بالحزن، وكان أبوه وأمه على قيد الحياة، ومشينا فى شارع البحر فى آخر خمسينات القرن الماضى بدءا من الحارة التى كنت أسكنها قبالة مدرسة القديس لويس فى اتجاه شارع الخان وسط الشارع نتشاكى، وكنا فى السنة الأولى بالمعهد الدينى، فتمنينا لو استطعنا ترك الجمل بما حمل والعودة إلى القرية، ولكن ضاعت شكاوانا وتمنياتنا سُدًى لحسن الحظ.
وفى يوم الجمعة، يوم سفرنا إلى طنطا فى صيف 1959م للتقدم إلى امتحان الأزهر فى اليوم التالى، ارتفعت حرارتى بعد الصلاة ارتفاعا شديدا وشعرت بضعف وتضعضع كبيرين، فتمددت، بعد أن استحممت وغيرت ملابسى، على شلتة موجوة عندنا منذ كان جدى لا يزال حيا، إذ كنت أراه راقدا عليها ينظر إلىَّ وأنا أدور وأتقافز فى أرجاء البيت مارا به داخلا وخارجا لا أستقر فى مكان كما يفعل الأطفال. وأخذت أشكو لجدتى ما أنا فيه من تعب وإرهاق، فاقترحت علىَّ عطفا منها وحنانا أن أبقى فى البيت هذا العام لظروف مرضى وأتقدم العام المقبل، إلا أننى رفضت قائلا فى سذاجة ملهمة إن زملائى سوف يسبقوننى بعام. وأغلب الظن أننى لو بقيت إلى العام القادم ما كنت ذهبت إلى طنطا أبدا بعد ذلك. وكان السبب فى اتخاذ خالى وجدتى قرار ذهابى إلى طنطا الشيخ عيد عطا، وهو أحد طلاب القرية الكبار، وكان يومها منتقلا إلى السنة الرابعة الثانوية فى معهد طنطا الأحمدى، إذ هوّن عليهما الأمر قائلا إننى لن أكلفهما شيئا. رحمه الله رحمة عظيمة، فلولا هذا الاقتراح وذلك التشجيع من جانبه لما كان من نصيبى الذهاب إلى المعهد الدينى ولا غير الدينى. والحمد لله، الذى رعانى ولم يسمح لظروفى المعاكسة قط أن تعوقنى عن التعلم وبلوغ أعلى الدرجات الرسمية فيه بغض النظر عن استحقاقى ذلك أو لا.