منذ أنْ تركت القرية العامرة، وأنا أحاولُ أن أنسى تربة المزارعِ والصباحات البليلة والرعاة والحصاد الأخير وحبّات الشعير المترامية على مد البصر، على جنبات الطاحونة القديمة. عبثاً كلما حاولت جاهداً أن أنسى إلاّ وتكبر الصورة في عيني وتزداد وضوحاً، ويزداد معها إصراري على مصادرة ريفِيتي لأجل عالم آخر تختزله الكراريس وصخب المدائن العتيقة ومداراتها التي لا تنام إلا على جثث السكارى وغنج الشواذ. حقاً، لم أعُد أتذكرُ كيف تشبعتُ بفكرة الرحيل الأولى. إنه التاريخ الوحيد الذي يصعب علي الآن، تذكره. فلا يزال العمرُ الغض من حياتي ورقة ضائعة من كناش الماضي. هذا الكناش المترب بفعل السنين الطويلة والتناسي الاطول. ولأنّ الآتي يبدو أكثر غموضاً وأقل بهجة وأشد سواداً، فلستُ بالمهتم اللحظة، لهذا الذي مضى وتوابعه. حين كنا أطفالاً علّمتنا الأناشِيد المدرسية أننا جميعاً، أبناءُ هذه الأرضِ الاكثر ثراء: عليها نلعبُ وعليها نقيمُ أعراسنا ونحاكي الأحلام العظيمة. وعليها تتسع مرابع أمنياتنا، ومنها ينطلق الشغب المتواطئ مع حكايا الفلاحين وأسرار نبوغهم. لكن ما أن تحسّسنا ظلال رجولتنا تتمدّد تحت الشمسِ الحارقة والمواعيدِ الأكثر حرقةِ، أدرَك أغلبُنا أننا نملأ بعض فراغات الشطرنج: هذا المدى الممتدّ فينا ظل دائماً، يهمس في أسماعنا بقـناعة المُحاربين الكبار، بأن الذي سيأتي لاحقاً، لن يكون بالضرورة، أجمل مما كان. لقد أساء هذا الإحساس كثيراً، لصورةِ الحلم الذي رسمناه لحدود الوطن وأغراسه قبل أن تحترق آلافُ المسافاتِ الخضراء ويتحول شجرها العالي إلى حطب تستدفئ به ارتعاشة القادمين من وراء البحرين، وتتحوّل فجأة، إلى أطلال مهجورة كلُّ الممرات المتربة والأزقة العتيقة وأطراف المزابل الصّغِيرة التي كونت وإلى أقرب السنوات، حدود وطننا المترف. من داخِل هَذا المدى يتعَرّى الآنَ، وجهُنا الحَزينُ وأمّهَاتنا مُنتظرات على شفا زَمنٍ مُرٍّ، أطفالا قد يحملون يوماً ما، خصائص دمنا وبعض من ملامحنا. في كل زاوية من هذا الوطن تقـبع الأمهات في حزن صامت، وقد طال انتظارهن كعادة زوجات المقاتلين، لسماع خبر سعيد يُبدّد سأم الفجيعة التي تـعلنها إرساليات المعركة بين الحين والآخر. أمّا الأطفال المُعوّل عليهم لسدّ فراغات الحرمان بكل أطيافه، فقد يأتونَ يَوماً وقد لاَ يأتونَ. وما بينَ الخِيّاراتِ الأولَى لِلتمرد ووهم انتظَاراتهِنّ لاَ شَيء تغيّر في كل ما يحيط بي!
ــ عفواً لقد تغيّرت اللغة التي بها نتفاهم والتي تصدر بها أوامر الإعتقالات أحيانا.
ــ ومع ذلك، فهذه اللغة ما تزال لحُسن حظنا، تحمل في عمقها سحر المحكيّات، وغرابة النوادر وبلاغات النظم العربي. إنها في أحيان كثيرة، تبقى الجزء الرّائع فيما تبقّى من حياتنا؟!
أتدري يا أنت: لماذا؟! لأن إشراقة هذه اللغة هي التي تستر وحشة عوراتنا أمام كلّ الإشراقات الواهنة التي التحمت وخيوط الفجر. هي التي استَطاعت أن تتوحّد مع لون الوردِ تارة، وتارة أخرى مع الحمم المتشظية في دمنا، والجروح النازفة ما بين الطلقة والطلقة. إنها الإنعكاسُ البهي الذي لا تراجع فيه، لكلِّ الأصواتِ التي تغيّرت، حينما عجزتِ القيّمُ الرائعة على استعادة عطر الورد وظلِّ الشجر، وبريق العيون الذي كان.
الغرباء/ صلاح انياكي أيوب