برلماني عراقي يقود كتائب التعمير في النمسا

كاظم فنجان الحمامي

ربما يكون رئيس المهندسين (عمر محمد نور الراوي) في طليعة العراقيين المغتربين الذين تبوءوا أعلى المناصب البرلمانية الرفيعة في أوربا، لكن الثابت لدينا أنه، وعلى الرغم من اكتسابه عضوية المجلس البلدي في العاصمة النمساوية (ڤيينا)، واكتسابه لعضوية برلمان ولاية (ڤيينا)، وعلاقاته السياسية الواسعة مع الملوك والرؤساء العرب والأجانب، وعلاقاته المهنية مع كبريات الشركات العالمية. إلاّ أنه ظل متمسكاً بمروءته العربية وشهامته العراقية، وانفرد بتواضعه وبساطته، فالرجل يسكن مع عائلته المتعففة في شقة، في حي شعبي قديم. يتنقل بدراجته الهوائية بين البيت ومقر البرلمان، في حين تتقاسم أسرته سيارة الفيات القديمة موديل 1998، وهي السيارة الوحيدة التي يمتلكونها. أما راتبه الشهري كبرلماني وعضو مجلس بلدي فهو (5930) يورو شهرياً. يستقطعون منه (3500) عن إجمالي فواتير الضرائب والتأمين الصحي، وبدلات اشتراك الحزب، وحصة كتلته النيابية، فيتبقى منه (2430) يورو، هو الراتب الصافي الذي تعتمد عليه الأسرة في تدبير معيشتها.
(الراوي) هو أول سياسي من أصل عربي يتألق في لجان التخطيط العمراني والحضري، ويعمل في لجان الخدمات السكنية لأجمل مدينة في كوكب الأرض، وأول عراقي يترأس لجنة النزاهة البرلمانية في النمسا، ويشارك في وضع اللمسات التطويرية على برنامج الخطة العشرية لمدينة (ڤيينا) حتى عام 2025. وأول عراقي يسهم في صياغة القوانين العمالية الإنسانية، التي تضمن التوازن الوظيفي بين العمال الوافدين والمواطنين الأصليين، وتقضي على التنافس السلبي، وأول من فكر بتأسيس منبر الحوار المسيحي الإسلامي.
لا حدود لطموحات هذا الرجل، ولا قيود لتطلعاته المستقبلية نحو تجميل المدينة التي يسكنها (ڤيينا)، أو المدينة التي نشأ وترعرع فيها (البصرة). لم يتجاهل هويته العربية، ولم يتخلى عن هويته الإسلامية، فالعروبة والإسلام هما البوصلة التي اهتدى بها في ترصين روابط الألفة والمحبة مع الشعوب والقوميات والديانات الأخرى.
تصدى بحكمته لموجة العداء المناوئة للإسلام، تلك الموجة التي تفاقمت حدتها في أوربا بتصاعد كفة اليمين المتطرف، فحالفه الحظ في إقناع رئيس وزراء النمسا ورئيس جمهوريتها بتوجيه دعوة رمضانية لتناول طعام الإفطار على مائدة القصر الجمهوري، تضم وجهاء الجالية الإسلامية في عاصمة الأناقة والجمال. ثم أصبحت فكرة الدعوة قائمة كتقليد رسمي منذ 12 سنة لتعضيد أواصر الثقة بين السلطة الحاكمة وبين المسلمين المغتربين، ولتعزيز دورهم الايجابي في المجتمع النمساوي. ثم حذت بعض الحكومات الأوربية الأخرى حذو النمسا، حتى صارت دعوة الإفطار، التي فكر بها (الراوي) من الثوابت البروتوكولية في رمضان. وللراوي دور فاعل في افتتاح أول مقبرة إسلامية في (ڤيينا)، وفي إطلاق اسم المفكر النمساوي الشهير (محمد أسد) على إحدى الساحات، وهو عالم نمساوي من أصل يهودي. اسمه الحقيقي (ليوبولد ڤايس)، وهو صاحب كتاب (الإسلام على مفترق طرق).
كان من الطبيعي أن يشغل (الراوي) المنصب الفخري الذي خصصته النمسا لدمج الجالية المسلمة في المجتمع، فأصبح هو الرئيس الفخري، وجاء ترشيحه في خضم المظاهر العبثية المتطرفة المعادية للإسلام. فكان في طليعة المتصدين، وله مواقف إنسانية مشهودة في إدانة الممارسات الإسرائيلية في الحصار المفروض على (غزة).
(الراوي) من مواليد بغداد 1961. أمضى طفولته وسنوات شبابه في البصرة، وعلى وجه التحديد في أحياء مدينة (المعقل) قرب نادي الميناء الرياضي، ثم انتقلوا إلى شارع النهروان قرب ملعب التنس المحاذي لسينما الميناء الصيفي. والده هو الراحل (محمد نور بن محمد بن سعيد بن عبد الغني بن محمد الشافعي الراوي). من مواليد بغداد 1925. يرجع نسبه للأمام الحسين بن علي عليهما السلام، وهو نجل العلامة الجليل محمد سعيد. صاحب المؤلفات الرصينة في الفقه والقضاء، والذي نفته سلطات الاحتلال البريطانية إلى الهند لأربع سنوات بسبب دوره في المقاومة المسلحة ضد ثكناتها الحربية. أما الجد الأكبر فهو السيد عبد الغني، كليدار (سادن) الحضرة الكاظمية ببغداد.
عمل (أبو عمر) مديراً للنقليات في الموانئ العراقية، وأصبح فيما بعد مديراً لقسم التدقيق في الموانئ. أما (أم عمر) فهي الدكتورة الراحلة (هارتا موهلبرجر) نمساوية الأصل. درست الطب في جامعه ڤيينا. تزوجت (أبو عمر) عام 1955. كانت تعمل طبيبة في مستشفى الموانئ بالبصرة. سيدة فاضلة، لها من الأيادي البيضاء على المعقل وأهلها ما لا يمكن اختزاله ببضعة كلمات. لم تكن تتقاضى أي أجور على خدماتها الطبية. كان بيتها هو مكتبتها وعيادتها وملاذها الآمن. لكنها تعرضت للتعسف والاضطهاد على يد السلطات الجائرة، فنقلوها إلى العمارة، وأحالوا زوجها إلى التقاعد مع مجموعة من موظفي الموانئ، بسبب رفضهم الانتماء للحزب. ما اضطره إلى ممارسة مهنة المحاماة للدفاع عن الفلاحين في قاطع (القرنة)، وكان له الفضل في تثبيت ملكية أراضيهم الزراعية المُتنازع عليها. لكنه سرعان ما تعرض للاعتقال على يد عناصر أمن البصرة، فأودعوه في زنزانة انفرادية تابعة لمركز شرطة محطة قطار البصرة بسبب قرار الحكم الغيابي بالإعدام، الذي أصدرته السلطة ضد شقيقه (اللواء الركن عبد الغني الراوي). ثم أصدرت الحكومة قرارها التعسفي اللاحق بنقله إلى سجن (الناصرية)، ثم إلى سجن (بعقوبة) من دون أن توجه له أي تهمة صريحة. في الوقت الذي كانت فيه زوجته الدكتورة (هارتا) حائرة في تحديد مصيرها ومصير أطفالها. مشتتة الأفكار بين إقامتها المفروضة عليها مع أبنائها في العمارة، وبين زوجها الذي لا تعرف عنه شيئاً. ولم تخرج من هذه المحنة إلا في عام 1974 عندما سمحوا لها بالانتقال إلى بغداد، فعملت في دائرة (صحة الطلاب)، ثم أصبحت مديرة لمركز رعاية الأمومة والطفولة في الشالچيه.
غادرت بغداد بعد عام 1991، لتلتحق بابنها (عمر) في النمسا. فاستقرت هناك حتى وفاتها عام 2007 رحمها الله. أما أبنائها فهم (عمر) و(سوسن)، التي تزوجت من ابن عمها البصراوي (علاء كامل) وهي معه الآن في النمسا.
تعود ذكريات البرلماني (عمر الراوي) في البصرة إلى منتصف الستينيات عندما بدأ حياته الدراسية في مدرسة حداد الأهلية في العشّار، ثم التحق بمتوسطة المعقل للبنين، ومازالت دفاتره المدرسية تحتفظ ببعض الصور الجميلة عن أصدقاء طفولته. نذكر منهم: حسان علي الفخري، ومحمد ناصر خان، وماجد عبد الزهرة، وعبد الوهاب مزيد العبد الواحد، وعبد القادر العبد الواحد، ومزهر الربيعي، وموفق حميد، وسمير إبراهيم، وهاشم عبد المطلب، وجنان فؤاد زيتون، وأحمد فالح الأسدي، وكيلان حسين المناصير.
أكمل البرلماني (عمر الراوي) دراسته الثانوية في بغداد، ثم التحق بجامعة ڤيينا الهندسية التكنولوجية، ليحصل منها عام 1990 على درجة الماجستير في الهندسة المدنية، فعمل منذ تخرجه وحتى الآن في شركة (شتراباغ).
تزوج السيدة سارة الطباطبائي عام 1988. ربة بيت، لها منه ثلاث بنات وولد واحد: مريم (22 عاما)، طالبة تدرس التكنولوجيا الحيوية الجزيئية. ثم ياسين (20 عاما)، متطوع في قوات حفظ السلام، وفي طليعة طلاب الكلية العسكرية النمساوية. جاء ترتيبه الخامس على دفعته، وهو أول ضابط حربي من أصل عراقي، ويمتلك مهارات واعدة في لعبة التنس. ثم ابنته آمنة (18 عاما) التي برعت على آلة البيانو، وفاطمة آخر العنقود (13 عاما)، التي تشارك شقيقتها مريم في رياضة ركوب الخيل والفروسية.
حرص منذ بداية حياته الزوجية على تربية أولاده على الأسس الإنسانية، التي تؤمن بالعدالة الاجتماعية، وتؤمن بالمساواة بين الناس على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم. لا مكان للطائفية في منزلة، ولا وجود للعنصرية في منهجه العائلي. فالإسلام عنده دين الرحمة والمحبة، ودين التعايش السلمي مع الآخر.
ارتبطت عائلته في البصرة بصداقات وثيقة حتى يومنا هذا، وتشبعت ذاكرته الوطنية بأبهى صور المدينة الزاهرة دائما بكرم أهلها، والمزدانة بطيبتهم ومروءتهم. ذكر لي في إحدى رسائله المشبعة بالحنين إلى البصرة: أنه يتطلع إلى اليوم الذي تصبح فيه مدينته هي العاصمة التجارية والمينائية للعراق، ويمني نفسه باليوم الذي تأخذ فيه موانئ البصرة مكانتها الدولية، وأن يكون مطارها هو النقطة المحورية التي ترتبط بها خطوط الطيران عبر القارات، ويأمل أن تتحول البصرة إلى مركز ثقافي كبير ينهض بدورها التاريخي باعتبارها من أقدم المدن العربية، التي أضاءت قناديل العلوم والفنون والآداب.
يأمل أن تكون البصرة ملاذاً إنسانياً للتعددية الإثنية. تستقبل الناس من كل حدب وصوب، من دون فوارق، ومن دون عوائق. فالبصرة أم العراق، وأم المرافئ، وخزانة العرب، ومنارة العلم، وذات الوشامين، وعين الدنيا، وبندقية الشرق. وجسر العالم القديم.