الصورة الشعرية بين التناقض والاتساق عند شعراء العامية بمحافظة كفر الشيخ
بقلم\ سمير الأمير

من المستقر فى الأذهان أن لغة الشعر هى لغة مجازية تستخدم التصوير أو التخييل كوسيلة أساسية للتعبير عن المشاعر والأفكار، ولقد مللنا من ترديد بعض المقولات التى تصف عملية كتابة القصيدة من قبيل " القصيدة هى لوحة يرسمها الشاعر باستخدام الكلمات تماما كما يستخدم الفنان الفرشاة والألوان، ولكن هذا بالتأكيد صحيح تماما، وكما يمكن أن نلاحظ بلاغة التعبير فى لوحة الفنان وتناسق الألوان أو تضادها( المقصود) أو أن نلاحظ السطحية والتشوه وعدم القدرة على التعبير بسبب عدم وضوح الرؤية أو عدم امتلاك أدوات التعبير التى هى- فى حالة الرسام- عبارة عن معرفته بنوع الخامات وبطريقة خلط الألوان وأسرارها إضافة إلى امتلاك الرؤية والرغبة فى التعبير عنها وكذا معرفته بطرائق هذا التعبير وبتنوعها طبقا لتنوع مدارس الفن التشكيلى ،
أعنى هنا أن الشعر وكتابتها يستند على ذات الأسس ومن ثم تبرز أهمية ما يعرف بالصورة الشعرية التى يستخدمها الشعراء فى التخييل والإيهام وفى وضع المتلقى وقبله الشاعر نفسه فى سياق عالم آخر هو عالم القصيدة الذى يمكن أن ينأى بعيدا عن الواقع" بيت صغنن فوق جزيرة لوحدنا" أو يشكل نقيضا رافضا له " أبدا بلدنا للنهار .. بتحب موال النهار" أو يعيد انتاجه بطريقة تجعله مقبولا " محلاها عيشة الفلاح مطمن قلبه ومرتاح" فى كل ماسبق يستخدم الشاعر لغة مجازية وصور شعرية ويمارس تخييلا يهدف إلى امتلاك حواس المتلقى لجعله يرى أشياء غير مايراه بانتزاعه مؤقتا من عالم الواقع ووضعه فى سياق جديد وممارسة الإيهام عليه تماما كما يفعل السحرة والمشعوزون أو لنكن أكثر تأدبا ونقول كما يفعل "المنومون المغناطسيون
وفى محاولتى للحصول على تعريف للصورة الشعرية
وجدت أن معظم التعريفات لا تخرج عن المعنى المستقر من أنها " رسم باستخدام الكلمات" وبما أن هذا الرسم يهدف إلى التخييل فهو يستخدم مايعرف بعلم البلاغة لبناء المجاز ومن ثم تصبح تقنيات " التشبيه والاستعارة من أهم أدوات بناء الصورة الشعرية التى تهدف إلى التشخيص أو التجسيد أو التجريد ويستخدم الشعراء هنا ثلاث مكونات هى اللغة المستخدمة والعاطفة " التى تستفيد من الشفاهية وطريقة الإلقاء ، ثم الخيال الذى يعطى الإطار الذى يجعل حدود الصورة مستقلة عن الواقع الذى تعيد صياغته .
شعراء العامية بمحافظة كفر الشيخ
فى ضوء ما سبق يتحدد هدف هذه القراءة وهو معرفة مدى الاتساق والتناقض فى بناء الصورة عند بعض شعراء العامية بكفر الشيخ وهى مسألة ليس سهلة بالنسبة لى كقارىء وليست أيضا سهلة بالنسبة للشعراء موضوع القراءة ،إذ أن محافظة كفر الشيخ تذخر بشعراء عامية لهم قامات إبداعية عالية كعبد الدايم الشازلى و سعيد قنديل ومصطفى مقلد وسهير متولى وعادل أبو عبا وغيرهم ومن هنا فإن مرجعية شعراء كفر الشيخ الكبار تكفى لتحديد مدى الاقتراب والابتعاد عن المفهوم الحقيقى لشعر العامية فى مصر الذى أسهم فيه بالقطع كل من ذكرتهم من أسماء هامة وربما نستخدم بعض إنتاجهم فى ثنايا القراءة للتدليل على أهمية اتساق الصورة الشعرية فى الاستحواذ على وجدان المتلقى.
أمامى دواويين عامية للشعراء السعيد دياب وإبراهيم غراب ومنير رمضان ومحمد السيد سليمان وعمرو عامر وعبد الله موسى ،
"المجنون" ديوان الشاعر سعيد دياب
الشاعر السعيد دياب هو من الشعراء المتحققين باعتباره يكتب قصيدة تدل عليه و هى فى نفس الوقت تشى بتمثله لتراث أسلافه من كبار شعراء العامية بل وتحذو حذوهم ومن ثم فأننا لن نرهق انفسنا بحثا عن جماليات جديدة فى شعر السعيد دياب ولكننا سنركز على وضع الصورة الشعرية فى إطارها المرجعى الذى تعتمد عليه معظم قصائد الديوان ،
وفى قصيدة "المجنون" التى تحمل اسم الديوان يبدأها الشاعر برسم الملامح الخارجية للمجنون لكى نتأكد أن هذا المجنون هو أنا أو أنت أو الشاعر ومن ثم فإن إدانته أو احتقاره أو التقليل من قدره سيصبح عنفا موجها للذات يقول السعيد دياب :-
الوش : كات محفورة فيه عدد السنين اللي نسيها ونِسْيِتُهْ
الطول: مش طويل ، بس كان دايـمًا بيوصَل للنُّجوم\ ويشبكها في ضفاير كل بنت يحبها\واللون : زي لوني وزي لونك ،
سنلاحظ هنا طبعا الحس التشكيلى فى بناء الصورة عند الحديث عن الوش\ الوجه الذى أصبح قطعة حجر فى يد فنان ما ربما كان هذا الفنان هو الزمن،
\والقلب كان له ضلفتين\ما بيقفلوش صبح ومسا\ ،هنا صورة أخرى للقلب كباب ريفى مفتوح فى الصباح والمساء، ثم يقول الشاعر\كان تملِّي الشمس حاضنه ضحكته\ والمعنى هنا أنه كان قادرا على منح الشمس اشراقها وبهائها وإذا اعتمدنا هنا مقولة " أجمل الشعر.. أكذبه" تصبح هذه الصورة بالغة الجمال فالوجه هو مسطح حجرى لتسجيل فعل الزمن وهى صورة متسقة مع تاريخ المصرى القديم والقلب باب ريفى لا ينغلق أبدا وهى صورة متسقة مع عادة الفلاحين فى قرى مصر إذ يعتبرون أن قفل باب البيت عارا" ومن هنا جاءت تعبيرات " الأب اللى فاتح بيت" " واحنا دارنا الحمد لله مفتوح" والبعض يقول " أنا قلبى مفتوح" ومن ثم فصورة القلب المفتوح تكاد تكون دارجة ولكننا لو تأملنا سنجد أن الصورة انتقلت من التجسيد إلى التجريد ثم انطلقت محلقة فى الخيال حين جعلت الشمس تستمد إشراقها من ضحكة المجنون وهنا ندرك أن المجنون فى حد ذاته نوع من " التخييل " لا يدل على المجنون الذى نعرفه ويعرفه الأطباء النفسيون ولكنه هذا الإنسان الحالم وهذا طبعا لا يمنع من الاعتراف بالمفارقة فى أن الأطفال يقذفونه بالحجارة رغم أنه يحبهم فهم إذن يقذفون بهجتهم وحلمهم وهو ما يذكرنى بمقولة كزانتزاكيس على لسان " زوربا" " إن الإنسان يحتاج لقدر من الجنون وإلا فأنه لن يكون قادرا على الإفلات من القيود التى تمنعه من التحرر "وسوف ندرك بعد ذلك أن السعيد دياب يعيد رسم شخصية "دون كيشوت" البالغة النبل والخيال،\كان تملِّي السيف في إيده\والحصان دايـمًا\بيسرق خطوته لنفس الشوارع\كان في قلبه الحلم فارع\بس محتاج ينطلق ، وللدلالة على تمكن الشاعر من بناء صورة متسقة تهدف إلى ابراز أهمية الحلم والخيال دعونا نتأمل كيف ختم الشاعر قصيدته وكيف جعلنا نشعر بفجيعة موت الحلم،\وامّا مات\ما اعرفش ليه قلبي انفرط\تُبت على سيفه الخشب\لكن حصانه كان خلاص\هدُّه التعب\دق الجرس في المدرسة
والحوش ملاه كل التلامذة\بس ما حدش لعب .
فى قصيدة أخرى للسعيد دياب بعنوان " الأعمى" سنجد مثالا لعدم اتساق الصورة الشعرية ولعل قراءتنا تقنعه وتقنع الشعراء المتحققين الآخرين بأن السعيد دياب يمتلك الوعى والخبرة اللازمين لتشكيل صورة متسقة ولكن شريطة أن يعى خطورة الانزلاق خلف الصورة التى يخلقها الإيقاع الخارجى للموسيقى وللوزن ، يقول السعيد دياب:-مش مهم اني اتولدت كفيف وحمـّال الأسية\مش مهم ان السعادة في قلبي شايخة\والجراح دايـمًا صبيّة
مش مهم المدرسة والجامعة والكتب الغبـيّة\مش مهم اني انحنيت وانك أبـيّة|ثم يقول:-ومن اصطباحي بالسواد اللي انفرط في عيوني واتلَبِّد وتبت\إبتديت اسأل كتير، بينما النسق كان يقتضى بعد تكرار كل تلك " المش مهمات" أن يحذف عبارة \ومن اصطباحي بالسواد اللي انفرط في عيوني واتلَبِّد وتبت ويستبدلها بعبارة " المهم إنى" فتصبح ؛ ( المهم إنى إبتديت اسأل كتير) ولكن الصياغة المركبة ذات الجرس المغرى خدعته فلم يدرك أن الجملة تفتقر للبلاغة كونها لا تطابق مقتضى الحال إذ الأعمى يواجه السواد صباحا ومساءا،

كان نفسي يبقى حليبي للشمس اللي حرنانة لكُمْ\خـَطـَّاه إيديا الكدابين| لا حظ عدم اتساق " الإدانة " فى عبارة " إيديا الكدابين" مع سياق " الحلم فى " كان نفسى" ولاحظ عدم اتساق حالة " العماء " مع إحالته للون فكان نفسي تبقى ضحكتي\لون الغلابة والعيال ، ونلمح أيضا تناقضا بين\وكنت لـسَّاني أبي،و\ بعترته في تراب الشوارع والبيوت|، لأن الأبى لا يبعثر حلمه ولكنه يبدره ليطرح فى حقول الخيال وهى ذات الكلمه التى يستخدمها يا حلمي يا" مبدور" على تراب السكك، بينما هو مبعثر لأن "مبدور" لا تصلح
سياقا لضياع الحلم بل تصلح لوصف الخصب والنماء وتحقق الحلم،
لعلنا الآن ندرك أنه حتى مع شعراء متميزين كالشاعر السعيد دياب يمكن ملاحظة مناطق للنجاحات وللإخفاقات على حد سواء وهو أمر ليس مزعجا على الإطلاق إذ يمكن ملاحظته عند أكبر شعراء للعامية فى ربوع مصر المحروسة



"الخيول العربية لا ترقص الديسكو " للشاعر إبراهيم غراب

الشاعر إبراهيم غراب من رواد شعر العامية فى كفر الشيخ ومن كبار شعراء العامية المصريين ولعلى نادم على عدم اضطلاعى على كثير من انتاجه الذى شهد له الكثير بالتميز ولكن عملا بقاعدة ما لايدرك كله لا يترك كله فسوف نتناول الصورة الشعرية فى القصيدة الأم التى تحمل عنوان الديوان " وهى بعنوان ""الخيول العربية لا ترقص الديسكو "
وهى قصيدة تشى بنفسه الطويل فى شعر العامية تعتمد فى بنائها على استدعاء الصور الدرامية الواقعية وكذا الصور الرومانسية دون أن تشعرنا بالتناقض فى بناء القصيدة إذ هى منسوجة بروح الفخر والمبالغة التى تميز الشعرالعربى الفصيح وكذلك الموال الشعبى وهو ما يجعل المتلقى مشدوها ومشدودا للإيقاع المتسارع ومن ثم لاتسمح له بالتقاط النفس والتأمل الذى يجعله يدرك أن الصور الدرامية التى ينبغى أن ترتبط ببعضها بإيقاع الحدث الدرامى هى فى الحقيقة مربوطة بالإيقاع وبالروح الغنائية المسيطرة عى القصيدة، يشى عنوان القصيدة طبعا برفض التغريب وبالتمسك بالعروبة وهى قصيدة طويلة تبدأ من الحديث عن الشاعر نفسه \ مالك زمام حرفى\ فارش عليه شكلى وملامحى ونبضى\ وهنا الصورة الشعرية عبارة عن أن " الحرف" أى الكلام | الشعر هو عبارة عن زمام\ مساحة مملوكة للشاعر وينبغى أن تدل عليه دلالة أكيدة فالشاعر هو أول الخيول العربية التى لا ترقص الديسكو، وهنا ندرك أن الصورة التى تبدو درامية ليست سوى رمز لا علاقة له بالديسكو فى حد ذاته ولكنها تعنى أن الإنسان العربى الحقيقى يرفض أن تستلب هويته\ أن الصور التى يستخدمها ابراهيم غراب ترتبط فى طريقة تكوينها بالمبالغة التى يعتمدها الموال الشعبى الذى يجعل" رمش إمرأة يفرش على خمسمائة" فدان ويجعل والد الشاعر كما تقول القصيدة" عالم وعارف فى الجبل كام رمله" فهل يصح هنا أن نتحدث عن اتساق الصورة أو تناقضها باعتبار أنها صورة مستحيلة الحدوث ، أعتقد أن ذلك فيه ظلم كبير باعتبار أن الشاعر إبراهيم غراب ينتمى ربما لجيل الخمسينات أو الستينات وهو الجيل الذى شهد الانطلاقة الثانية لشعر العامية بقيادة حداد وجاهين بعد زجل بيرم وبديع وكان من نتائج تلك الانطلاقة الثانية هذا العدد الكبير من شعراء العامية المتمييزين والمتفردين مثل الأبنودى وحجاب وزين العابدين فؤاد وسمير عبد الباقى ثم كشيك ومحمود الشازلى وجمال بخيت، من هنا لا يمكن محاكمة المبالغة عند ابراهيم غراب باعتبارها خروجا على الاتساق لأن البدايات الرومانسية للشعر بصفة عامة ولشعر العامية بصفة خاصة كانت تقتضى تلك المبالغة باعتبار أن الزجل كان مغرقا فى الواقعية بطبيعة الحال بل أن الزجل -وإن استخدم قدرا كبيرا من التخييل البديع عند بيرم التونسى- كان معنيا برصد ورفض الظواهر الغير متسقة مع منطق الحياة والعقل.
كراكيب الشاعر طه هنداوى
فى القصيدة الأولى فى ديوان الشاعر طه الهنداوى بعنوان " دراماتيكا" سنلحظ تناقضا شكليا فى بناء الصورة تستدعيه حالة السخرية الشديدة من الذات " أعلنت موتى فاخلعى توب الحداد" فالواقع يقتضى أن تكون العبارة " أعلنت موتى فالبسى توب الحداد" لكن الشاعر أراد أن يؤسس للمصير العكسى الذى يكتنف طرفى علاقة الحبيب بالحبيبة أو على مستوى أعم الشاعر بالوطن ، ثم يستمر على نفس النهج \ سيبك من الماضى الغبى \ وانسى إن كنت ف يوم أبى" والشاعر هنا أيضا يعكس الدلالة التى تعودنا عليها ، لأن ا العبارة تبدو فى ظاهرها دعوة للخروج من أسر الماضى الغبى لكن الأمر ليس كذلك حين ندرك أن الأسلوب الساخر المتهكم لا يهدف إلا لتأكيد عكس المعنى الظاهرى فالشاعر يدعو الحبيبة التى ملت منه ومن إبائه وشجاعته أن تتركه وتستسلم لمنطق خيبتها التى كان هو المانع لتفاقمها كونه كان حارسا لقلاعها ، بل يصل الأمر بعملية جلد الذات وتأنيبها إلى درجة أنه يدعوها " لفك شعرها" ليس طلبا للحرية ولكن للتهتك ، ثم يصل لذروة التعبير باستدعاء قصة سيدنا يوسف \ وخدى قميصى وخضبيه بدم كذب \ وان جم ولادك يسألوكى رتلى ( إنا ذهبنا نستبق) لما سبقنى الديب كله، سنلاحظ ان بداية القصيدة محتشدة بالصور المبنية على قدر كبير من التخييل المبنى على عناصر درامية لها دلالتها عند المتلقى كالموت وثوب الحداد ، وهو الثوب الذى كانت الحبيبة ترتديه قبل موت الشاعر وخلعته بعد موته لتبحث عن حياة غير تلك التى لم تعجبها والتى كانت تعتبرها موتا والمقطع برمته ليس دعوة لرفض الضلال ولكنه ترك الضال طالما أنه سادرُ فى غيه ومعجب بضلاله وهى صورة تعبر عن إحباط شديد تتسق مع حالة اليأس لدى الشاعر لكنها تخالف بالتأكيد حالة الشعر التى هى فى جوهرها حالة بناء ، بعد ذلك سنلمح أثرا لقصيدة" يسرى العزب" (| إن الكتابة بقت ملك وابن الرئيس يصبح رئيس بالزمبلك|) حين يدعو الشاعر حبيبته\ بلاده أن لا ترجع عن غيها حتى لو نمى مناضل جديد يدعوها للتمرد على الواقع المنحط الذى تسعد هى به وهذا غرض للشعر لم نعهده فى القصائد التى تتناول الموقف السياسى أو الوطنى وقد يقول قائل إن الشاعر هنا يقصد العكس تماما وهو بالفعل ما سنكتشفه حين نقف على ينابيع رؤية " طه هنداوى " لتلك القتامة والكآبة التى صنع منها قصيدته ، ولكن من الإنصاف للشعر بصفة عامة علينا أن نقول أنه فى اللحظة التى يقرر فيها الشاعر تقديم مذكرة تفسيرية لقصيدته تنتهى عملية التخييل وينتهى الشعر فما بالك إن كانت تلك المذكرة التفسيرية البالغة الوضوح جزءا من القصيدة ومن هوامشها وسيكون علينا أن نقرأ فى المتن وفى الهامش عن وزراء كصفوت الشريف ويوسف والى وحسين بهاء الدين ورجال أعمال كأحمد عز ، ثم تأتى المفاجئة التى لا تتسق مع كل البناء الدرامى السابق بأن| اللى جاب فرعون وأهله \ قادر إنه يجود بموسى| وهى قدرية لو بدأنا بها القصيدة ثم سعينا للاتساق معها كانت كفيلة بحل إشكالية الصورة فى قصيدة" دراماتيكا" ،
وأيضا فى قصيدة " سبحة وشهود" سنجد صورة رائعة | أنا وانتى ترسين فى الهوا نعطل سوا وندور سوا| ( وهى دلالة على حالة توحد الشاعر بالحبيبة \ الوطن \ الأرض ) وأيضا عبارة \ وترجعى لعنيكى ننك| إذ يمكن أن نفهم أن ( النن) هنا يتجاوز مجرد البصر إلى البصيرة وأنه قد يعنى الشاعر نفسه إذ من غير الشعراء يشوفون حين تنعدم الرؤية، لكن طه هنداوى يصر على العبث بقصيدته حين يقول (\إلحقى منى اللى باقى | لسه ف الصره الرغيفنا\ رغم إنه مش من أرضنا .. لكننا راح نقسمه|) وفى ظنى أن اقتسام رغيف غريب لا يمكن أن يكون دليلا على المقاومة بأى حال من الأحوال ، بل ويعنى أن البناء التخييلى إى بناء الصورة غير متسق بالمرة.
وعلى الجانب الآخر يدهشنا " طه هنداوى" ببناء قصيدته التى عنوانها " معاندانى" إذ تقوم الصورة على تشبيه مصر بالحبيبة التى تهجر من يعشقها وتلقى بنفسها ونفيسها لمن لا يقدر قيمتها وهى الصورة التى تحدث على المستويين الإنسانى البسيط والوطنى ومن ثم فهى شديدة الاتساق ، يقول طه هنداوى " وفى صباعك بكون خاتم\ وقبل ما تغمزى بطرفك بكون خادم|" وحتى عندما استخدم اسم " يوسف والى" فى قوله " أو (والى) يكون ع الأرض حارسها ينجسها|) جاءت كلمة ( والى) متسقة مع معنى " الوالى" بمعنى الحاكم . وفى نفس الديوان سنجد قصائد بالغة الروعة مثل "3 ورقات" التى يقول فيها \ خلبوص بتغوص فى جيوبه فلوس \ خباص لبّاص شد الترباس وفتحها وخلى حدودنا مداس\) إلى آخر حالة المتعة التى تخلقها القصيدة وأيضا قصيدة " انكسار" التى يقول في مطلعها(\ ليه الواد الساكن قلب عنيها ينام زعلان\) ورغم أن عبارة " نن عنيها" تبدو أكثر اتساقا من" قلب "عنيها، إلا أننا عندما نصل إلى السطر الثالث (| يمكن عارف إن الفجر هينزل "شط" عنيها عشان يتوضى " سندرك أن الصورة ليست غريبة وليست متناقضة.

تنهيدة الجرح القديم للشاعر منير رمضان
من المعروف أن هناك قصائد تكتب بالإيقاع وأن هناك قصائد أخرى تفرض إيقاعها طبقا لطبيعة الموضوع الذى تتناوله أو طبقا للحالة الشعورية التى يفرضها البناء الصورى واللغوى إضافة للمزاج النفسى للشاعر الذى يتفق بالضرورة مع طبيعة ما يكتب عنه ولعل أخطر ما فى النوع الأول من القصائد _ هذا إن جاز أن نسميها قصائد_ ما يكتبه الإيقاع هو أنها تخفى فساد البناء الذى تتأسس عليه عملية التخييل ليصبح تخييلا بالإكراه والأمر هنا قد يرجع لسببين :- إ ما أن يكون الشاعر واعيا بعملية التزييف الإيقاعى التى يمارسها أو يكون الشاعر أحد ضحاياها فى الحالة الأولى يجب أن ننصرف عنه وعن شعره وفى الحالة الثانية ينبغى لفت انتباهه حفاظا على موهبته ،ليس الأمر هنا مقصور ا على الشاعر منير رمضان الذى هو بالتأكيد من المبدعين الحقيقيين الذين قد يجرفهم الإيقاع بعيدا عن المجرى بل هو هو أمر مفيد له كشاعر و لنا كقراء
فى قصيدة " مفتتح" حاول الشاعر أن يؤسس صورته على التناقض بين خروجه للحبيبة بجعل قلبه حبلا" للوصال" ثم تخييرها بين أمرين إما أن تمنيه بالوصل أو ترده مقتولا(\ يا تعشميه بمحبتك لحظة غنا يا ترجعيه مقتول بعشق محال \)وبتأمل الخيارين سنجد أنهما أمرا واحدا لأن " العشم" لايعنى التحقق المقابل للموت فكلاهما موت وربما كان عليه أن يكتبها ( يا تمتعيه بمحبتك \ أو تحييه) وهنا نكسر الإيقاع الشعرى الذى تأسس على تناقض ليس موجودا إلا فى ذهن الشاعر.
فى القصيدة الثانية بعنوان " تراتيل" سنجد اتساقا كاملا بين الصورة والإيقاع الرشيق فيما عدا كلمة " كأنه" فى قول الشاعر (\ فى بلدنا الليل مصلوب على جزع النخل كأنه قتيل\) فحذف " كأنه" أفضل كثيرا لبناء الصورة والقصيدة جميلة حتى قوله(\ لساه فى ميدان\) وإن كنت لا أعرف ماذا يعنى الشاعر حين يقول \ بشطوط الوتد المش مفروق سكنات\ وربما طارت الألف وللام من كلمة " الميدان " فى عبارة \ لساه فى ميدان لنفس السبب الإيقاعى الذى يقيم علاقة ذهنية بين الوتد والشطوط لا يمكن تخيلها ، ثم يقول الشاعر(\ وبيشهر سيفه ف وش المهره صهيل) وهو يتحدث عن " الفرس" والصورة طبعا لا تحمل إى دلائل على تلك الفروسية فكيف للفارس أن يشهر سيفه فى وجه مهرته ، هذا فضلا عن تناقضها مع الوجدان المرتبط بقصة الشاطر حسن وعشقه لمهرته ، ولأن الشاعر منجرف بلإيقاع سينهى قصيدته بعدة نداءات دون أن يقول لنا بالتحديد ماذا يريد من كل هؤلاء الذين يناديهم ( ص11)
أن علامة هذا الحب هو رغبته فى أن تموت لكى يجعل من قلبه تابوتا يحتويها " لأنه يحبها موت " ، الغريب أن الابداع الشعبى حين صك عبارة " بحبها موت " كان يعنى " أن العاشق يعشق حبيبته عشقا شديدا قد يودى بحياته، أما شاعرنا ودون أن يقصد ترجم عبارة " بحبها موت إلى" بحبها ميتة" وهى صورة تتناقض مع النهاية الجميلة للقصيدة التى تؤكد على معنى الحب كخصب ونماء (\انا حبى بدرته ف وسط اراضى الشرب\ والحب اتمدد فرع شجر الحب) سنترك قصيدة " الشهيد" جانبا فهى قصيدة رائعة البناء وقد أتجاوز حدود النقد إن كتبت أن نهايتها بالغة الكآبة فليس من حقى أن أحاكم الشاعر برؤيتى الخاصة ولكن لأننى أبحث عن الاتساق والتناقض فى صوره الشعرية فينبغى على أن أشهد بأن قصيدة "الشهيد" شديدة الاتساق، وفى قصيدة "ضله" سيدهشنا " منير رمضان " بمقدرته على " حسن التخلص" إذ بعد وصوله لأقصى درجات التعبير\ أنا العاشق تراتيلك وانا العابد فى محرابك \وانا المجنون\ انا المفتون وانا السائل فمترديش ف يوم بابك\ كفايا انى اصطفانى النيل وعمرى ما كنت كدابك\ وهذا طبعا إن تقبلنا فكرة \ حدود المدى المفتوح\ فكيف يكون مدى مفتوحا وله حدود وكيف ترفرف العصافير تحت سقف الروح بينما ينبغى أن تطير فى سماء الروح لأن " سقف الروح" هى صورة ذهنية تتناقض مع الرغبة فى التعبير عن " الحرية"

فى قصيدة "تتصور" سوف لا يمكننا أن نتصور أبدا هذا الخلط بين الحزن النبيل الذى ينطوى على معنى مفيد للحياة وبين " الندب " والحزن الذى يتحول " إلى عصاب" فمنير يبدأ قصيدته بقوله | أنا بلعن يوم ما كتبت الشعر ياشاذلى\ بينما لو كان الأمر متسقا لما كتب هذه القصيدة إذ أنها تحتوى على معان رائعة مثل (\ صدقنى مش زنبك ولا زنبى نتهج حروف الكلمة ف عز الليل) ونوشوش فينا الصمت الساكن\صدر الويل ونشم عبير الحلم الوردى )
فى قصيدة "وتريات" سيكتب الشاعر فى الجزء المهُدى " لإبراهيم منصور" سطورا رائعة( ص 35،36و37 لكنه سيصدمنا فى نهاية قصيدته بعبارات مجانية وربما مبتذلة مثل\ ايش ياخد الريح م البلاط\ حتى ينتهى إلى ( كل الدروب متعصبة\ و\ ولا عادش بيطل القمر من فوق شواشى نخلك المنكوش رحيل\ وهذا طبعا يتناقض مع البناء الرائع لصوره البديعة فى عبارات مثل\ اطعن بسيفك كل من خانوا الوطن \ واياك تهادن \ لسه التاريخ بيرددك رغم الزمن\ وهذا تناقض صارخ بين دعوته للانطلاق وللنضال ثم بعدها مباشرة يفجعنا بنهاية لا تليق بما أبدعه هو نفسه فبدى كالتى نقضت غزلها. لكن من الإنصاف أن نقول أن" منير رمضان" شاعرُُ يستحق الاهتمام من جانبنا كقراء ونقاد وهذا لا يعفيه من أن يهتم بالحفاظ على الصور الجميلة التى يشكلها حتى لا تدمرها الصور الذائفة التى يشكلها الإيقاع الخارجى الخادع
الهروب من الواقع " ديوان عبد الله موسى جنبه
سنلاحظ طبعا بمجرد التصفح السريع لعناوين القصائد أن عنوان الديوان قد يكون خادعا ، إذ القصائد غارقة فى الواقع وفى تفاصيل الحياة اليومية ، و رغم عدم إيمانى بمقولة " أن التفاصيل الصغيرة لا تصنع شعرا" إلا أننى متيقن من أن التفاصيل الصغيرة ينبغى أن تدخل القصيدة من باب أكبر منها بكثير لكى تشكل فى مجمل الرؤية ما هو أكبر من مجرد نظم الاعتراضات والعرائض والالتماسات والشكاوى والنقد الاجتماعى فى شكل شعرى، ليس هذا موجهُُ إلى ديوان الإستاذ عبدالله موسى على وجه التخصيص ولكنه قد يمسه فى بعض القصائد وقد يبتعد عنه فى قصائد أخرى ، ولنتأمل معا أول القصائد التى قد تبدو على صلة بالهروب من الواقع بشكل ما ، يقول الشاعر فى القصيدة الأولى " بحبك موت " التى يبدأها بقسم يبدو أنه واقعى\ ورحمة عمى والنعمة بحبك موت\ ثم يكمل\ برغم التوهةوالحيرة وكتم الصوت\ ولو حفضل بدون هدمه ومأوى وقوت \ إلى هنا والتعبير قد وصل مدى بعيدا وعميقا واستطاع الشاعر أن يضعنا فى الصورة لنرى العاشق التائه و الممنوع من الكلام \ الفقير الذى لا يجد قوتا ولا مأوى ، إلى هنا والدلالة تتسع لتتجاوز مجرد العاشق لحبيبته إلى افق عشق الوطن ، لكن الشاعر أو بالأحرى الإيقاع يفاجئنا بأن الشاعر سيتغلب على كل هذا الفقر بشجرة توت يقتات على ثمارها ثم يبنى له بيتا بل بيوتا فوق أغصانها ، لو أن الصورة حدثتنا عن عصفور فى بداية القصيدة لجاءت نهايتها متسقة مع البداية ، لكن ما حدث هو أن الشاعر أدخلنا فى قلب الواقع المأسوى ثم أخرجنا منه بأغنية رومانسية جميلة ، والحقيقة أن القصيدة كانت هروبا من الواقع بالفعل وهو ما يحيلنا إلى العنوان كما قلت ولكن ليس بالدخول فى خيال رومانسى له عناصره المتسقة ، فى قصيدة 6 اكتوبر سنجد تبنى لمقولات الواقع كما يطرحها جهاز الاعلام دون تخييل فى غالب الامر، لدرجة أننا نقرأ عن أشياء لم تحدث مثل \ مثل قالوا بحروف الانهزام \ ارضكم يا ناس خدوها بالشروط اللى تقولوها \ ، ربما يقصد الشاعر ما حدث أثناء المعركة ، أما إن كان يشير إلى معاهدة السلام فالأمر فالصورة الشعرية هنا تخالف ما تصوره من واقع سياسى ، لكن ومن باب الانصاف حظيت القصيدة بصور طريفة على سبيل المثال\ سور عليه صورة أسد والعرين من جوه... فار، وأيضا فى قصيدة "وصية أب" وهى قصيدة جيدة مكتوبة على لسان الأب الذى يريد لابنه أن يتوخى الحذر فلا يعترض على أى شىء ولا يمشى فى مظاهرة ولا يحضر درسا فى مسجد لأنننا كما يقول الشاعر\احنا يبنى خيل حكومه نتركب سرج ولجام\يركبونا ف المزانق وف طلوع المزلقان\ مش لرقص ومش لزينه زى خيل بشوات زمان\ احنا للتسبيخ علينا ويا ريت نلقى الطعام\

ابتسم أنت فى لوكانده " ديوان الشاعر محمد السيد سليمان"

فى القصيدة الأولى بعنوان " حاوى " يختلط على الأمر فالذى يعبر البحر دون بلل أيضا أو يفوت من ثقب إبره هو العفريت أو الجن أو حسب نكتة الفلاحين الظرفاء " العجل فى بطن أمه" ، ولكنه بالتأكيد ليس الحاوى الذى يمكنه أن يخفى الفيل فى الكوب أو يقنعنا بذلك إذا سحرنا ، المهم أن الشاعر يصنع كل هذه الألاعيب ليرينا علاقته بمحبوبته والدلالة هنا قد تتجاوز المرأة أيضا لأنننا سنقرأ فى موضع آخر \ ولا ساب الغنم تمشى ف سكه حاميها حراميها\ ولا يعيب القصيدة طبعا هذا الخلط بين الحاوى والعفريت ولكن لأن إيقاعها الخارجى صاخب يصبح الكسر فى عبارة \ وأعجن عجين الفلاحة \ يصبح واضحا لدرجة من الممكن أن تفلت القارىء أو السامع من سيطرة الساحر \ الشاعر، فى القصيدة الثانية " على باب الفرج سيدهشنا محمد سليمان بقدرته على التخييل عبر تشكيله لصور متناسقة فى علاقاتها العامة وعبر تخير مفردات وعلاقات داخل الصورة الواحدة تجعلنا لا نفلت منه ، على سبيل المثال\ يا أيها الإنسان لسان\ ما أتعسه بيك الزمان\ أو الوحل وحل للودان \ سد المسامع والحوارى والسكك\ وربما نسأل ما علاقة الودان بالحوارى والسكك ، العلاقة فى تقديرى تنبع من هذا الاتساق بين الإنسان والمكان وفى الشعر طبعا ليس ثمة فرق لأن الحوارى هنا مؤنسنة وتتأثر بالوحل على المستوى الواقعى وأيضا على مستوى التخييل. وهناك أيضا صورة بديعة ينبغى أن نذكرها هنا وهى صورة الشبح الذى ينزف دما وهى تتسم بالجدة والغرائبية ولكنها غرائبية محمودة لأنها لا تدخلنا فى علمها المتخيل بل تجسد لنا هذا العالم فتجعلنا نرى أشباحا تنزف دما، فى قصيدة " ابتسم أنت فى لوكانده سنجد خروجا عن اتساق وتجانس الصورة فى عبارة\ سرحوها ف يوم رديف\ بمعنى أنه لا علاقة بين التأميم أو الخصخصة وهى مفردات فى الاقتصاد وبين" الرديف" وهو لفظ عسكرى وكان يمكن أن تصبح الصورة متسقة لو قال مثلا\ با عوها فى المزاد\ حيث نظل فى الإطار الخاص بالصورة التى أرادها، لا علاقة أيضا بين قلب الشاعر الدى هو طفل حالم بأن المخاطبة تطلق كلابها على الغلابة ينهشوهم ، \ربما الغلابه بيعبدوكى وانتى طالقه ليه كلابك ينهشوهم \ لما تخلص الغلابة بكره يامه ينهشوكى \ وطبعا هذا ما اكتبه أنا وليس من حقى على الإطلاق أن أضيف حرفا لقصيدة الشاعر محمد سليمان ، وهو شاعر قادر على تشكيل صور رائعة ومدهشة بالفعل مثل تلك الصورة الرائعة من قصيدة " الفيس بوك"\ وأنا وسط نابالم الألغام \ طيرت الصبر حمام وبنيتلك فيّا مقام
خاتمة
لا أعتقد أن قراءة كهذه تزعم أنها تستطيع أن تحيط بإبداعات شعر العامية فى كفر الشيخ ولكنها كما يقال " جهد المقل " وأضيف من عندى أنها أيضا " عين المحب " لأن التناقض والاتساق فى الصورة الشعرية ليس مرتبطا فقط بالشعراء الذين يعيشون فى الأقاليم ولكنه موضوع لقراءات تناولت إبداعات أشهر الشعراء وربما فى موضع آخر أقدم نماذجا تؤيد وجهة نظرى من قصائد للأبنودى وحجاب ونجم و آخرين و يبقى أن أذكر أن من تناولتهم فى قراءتى هم من الشعراء الذين احمل لتجاربهم الإبداعية كل الاحترام والتقدير.