قطر وإيران... والسير على الحبال

احسان الفقيه

تحبس الجماهير أنفاسها وهي تطالع لاعب السيرك وهو يسير على الحبال ناشرًا يديه جانبًا، يحاول أن يمشي باتزان، وذلك لأنها لعبة محفوفة بالمخاطر، فدِقّة الحبل وارتفاع المسافة وترقّب الجماهير، كل ذلك يجعل المهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، فإذا ما وصل صفقت له الجماهير، وإذا ما سقط عاين خسائر السقوط الجسيمة.

* أقرب من ينطبق عليه ذلك المثل هو دولة قطر في تعامُلها مع إيران، علاقة دقيقة محفوفة بالمخاطر، تسير فيها قطر على الحبل، ونسأل الله لها السلامة.

لا تختلف دولة قطر عن سائر دول مجلس التعاون الخليجي في المخاوف إزاء التمدد الإيراني في المنطقة، على اختلاف وتبايُنٍ بينها في كيفية التعاطي مع هذا الملف.

فإيران لا تكُف عن التدخل في شؤون دول المنطقة، بهدف نشر التشيع بصفة خاصة، والذي ترتكز عليه في مشروعها القومي باعتباره فكرة مركزية له، وأطماعها في تلك البلاد معروفة للقاصي والداني، غير أن الدول العربية تتعامل مع ذلك المشروع على طريقة (أحيِني اليوم ولتقتُلني غدًا).

* دولة قطر رغم أنها دولة صغيرة، إلا أن موقعها الجغرافي المتميز، وثرواتها الضخمة من الغاز الطبيعي والبترول، قد جعلها دولة فاعلة وذات أهمية كبيرة في أي حسابات تجري في المنطقة.



نقاط الالتقاء

منذ قيام الثورة الخمينية، وتقيم دولة قطر مع إيران علاقة متوازنة، تراعي من خلالها ارتباطها بمصالح اقتصادية وأخرى فرضها الجوار الجغرافي مع إيران، في إطار الحفاظ على الكيان الخليجي، وكونها عضوًا أساسًا في مجلس دول التعاون الخليجي.

فهناك عدة عوامل أسهمت في أن تتسم العلاقات بين البلدين بالهدوء بخلاف سائر الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية، لعل أبرز هذه العوامل:

أولًا: العلاقات الاقتصادية

إيران هي ثاني أكبر احتياطي مؤكد للغاز الطبيعي على مستوى العالم، وتليها قطر ثالث أكبر احتياطي مؤكد في العالم، والاثنان يتشاركان في حقل الغاز الأكبر في العالم، وهو حقل "بارس".

وهو حقل يمتد بعرض الخليج عشرة آلاف كيلو متر مربع، يقدر الاحتياطي المؤكد له بنحو 1300 تريليون قدم مكعب، وهو ما يعادل 221 مليار برميل نفطي.

ويبلغ نصيب قطر من هذا الحقل مساحة ستة آلاف كيلو متر مربع، ويمثل خُمس الاحتياطي العالمي للغاز.. نتحدث (على مستوى العالم كُلّه).

هذه الشراكة في حقل الغاز فرضت نوعًا من التقارب الاقتصادي بين البلدين، وكان عنصر تنافس في الوقت ذاته، حيث إن قطر كانت تتفوق على إيران في تكنولوجيا الغاز المُسال، وتمكنت من الوصول إلى أسواق عالمية بعيدة عن نطاقها الجغرافي.

فالاقتصاد القطري القوي الذي هو محطّ أنظار وقلق طهران، قد أكسب العلاقة بين البلدين طابع الهدوء والدبلوماسية والحذر، رغم نقاط الاختلاف التي سنذكرها لاحقًا.

ثانيا: علاقة غير تنافسية

قطر دولة صغيرة تتجنب القيام باستفزاز إيران الدولة ذات النفوذ الأكبر، وتسعى لعلاقات أكثر هدوءًا مع طهران، فالجوار الجغرافي بين البلدين يجعل قطر على مرمى حجر من إيران.

وفي الوقت ذاته، لا تأخذ العلاقة بين البلدين طابعًا تنافسيًا كما هو الحال مع السعودية وإيران، نظرًا للتفاوت الكبير في القوة بين الدولتين، فما يهم قطر هو أمنها القومي وأن يكون لها دور في إدارة الأزمات بالمنطقة، وأما إيران فلها أطماعها في الخليج، وتسعى لأن يدور الخليج العربي في فلك سياساتها.

فكان هذا التفاوت في القوة، والعلاقة غير التنافسية، سببًا في احتفاظ العلاقة بين البلدين بقدر كبير من الهدوء.

ثالثًا: المكون الشيعي

نسبة الشيعة في قطر تصل إلى 10 % من مجموع السكان، وفقًا لتقرير الحرية الدينية في العالم الصادر عن الخارجية الأمريكية 2006م، وهي النسبة ذاتها التي أوردها تقرير على البوابة نيوز بعنوان "خريطة الشيعة من المحيط إلى الخليج" بتاريخ 21 أبريل 2015م، بما يعني أن عدد الشيعة في قطر قليل مقارنة بالبحرين مثلا والإمارات.

كما أن الشيعة لا يمثلون الأغلبية في أي مكان داخل دولة قطر، بخلاف دول الخليج الأخرى.

هذا العامل إذا أُضيف إليه تنفُّذ علماء السنة وعظم تأثيرهم وعلى رأسهم الدكتور يوسف القرضاوي، يُفسّر لنا الهدوء النسبي داخل قطر فيما يختص بالطائفة الشيعية، فهي أقل الطوائف الشيعية في دول الخليج إثارة للمشاكل والاضطرابات.

ترتب على ذلك تدنّي المخاوف القطرية من النفوذ الإيراني، والذي يستخدم الأقليات الشيعية كحصان طروادة، ويعتمد عليها في تصدير مبادئ الثورة الخمينية عن طريق القوة الناعمة، كالغزو الثقافي والدعوي.



نقاط الاختلاف والتوتر

هناك عدة ملفات أصابت العلاقات القطرية الإيرانية بالتوتر، أبرزها:

أولًا: ثورات الربيع العربي

عندما قامت ثورات الربيع العربي، دعمت قطر شعوب الثورة، وعلى وجه الخصوص ثورة 25 يناير في مصر، حيث ساندت النظام الجديد الذي يقوده الإخوان المسلمون والرئيس محمد مرسي.

وكان لها دورها البارز في رفض الانقلاب على الشرعية، وفتحت أبوابها لمُعارضي الانقلاب، وهو ما جعل العلاقات بينها وبين النظام الانقلابي وحتى اليوم، يشوبها التوتر.

وفي الوقت ذاته، رحّبت إيران بالنظام المصري الجديد على أمل أن تجد لها موطئ قدم في مصر، إلا أن الرئيس مرسي قد أغلق الباب أمامهم، وجعل العلاقات في مجال السياحة مُقنّنة منعًا لنشر التشيع.

* لكن أبرز ما ظهر فيه الاختلاف بين الجانبين، هو الثورة السورية، ففي الوقت الذي دعمت فيه قطر ثورة الشعب السوري في مطالبه المشروعة، كانت إيران تقف إلى جانب بشار الأسد، وتقدم له الدعم العسكري واللوجستي، وتدافع عنه في المحافل الدولية، وتُنسّق مع روسيا لبقائه.

ومما عمَّق من هذا الاختلاف، أن قطر نظرت إلى الحراك الشيعي في البحرين، ليس على أنه ثورة على غرار سوريا ومصر وبقية دول الربيع، لكنها تعاملت معه على أساس أنه اضطرابات وخروج عن الشرعية، وهو ما يخالف التوجه الإيراني الذي يدعم شيعة البحرين، ويبسط نفوذه من خلالهم عبر ولاية الفقيه.

ولا تزال هذه النقطة محل اختلاف بين الدولتين، حيث إن دولة قطر تنسجم توجهاتها مع المملكة العربية السعودية في ضرورة إقصاء الأسد كأساس لأي حل سياسي.

ثانيًا: العمليات العسكرية ضد الحوثيين

لم نعد بحاجة إلى برهان للقول بأن الحوثيين هم أذناب إيران في اليمن، وأنهم ينفذون أجندتها، وجزء حيوي من مشروع الهلال الشيعي.

وكانت عاصفة الحزم التي شاركت فيها قطر مع السعودية ودول خليجية أخرى ضد الحوثيين، أهم العقبات أمام التمدد الإيراني في المنطقة.

وإلى الآن، ترفض قطر– رغم علاقتها الاقتصادية والدبلوماسية الطبيعية مع إيران– أي حل لا يتضمن عودة الشرعية في اليمن، وهو نقطة افتراق واختلاف مع إيران، والتي تُندّد بالعمليات ضد الحوثيين، وتتهم السعودية بالتآمر على الشعب اليمني.

ثالثًا: التحالف القطري التركي السعودي

ففي الآونة الأخيرة، عادت العلاقات القطرية السعودية بصورة قوية، خاصة بعد تولي الملك سلمان شؤون البلاد، وفي الوقت ذاته، أقامت قطر علاقات جيدة مع تركيا أردوغان، بالإضافة للعلاقات الثنائية الجيدة بين السعودية وتركيا.

هذا التحالف كان من إحدى ثمراته، دعم كتائب الثوار في سوريا، حيث إن أطراف هذا التحالف لها رؤية موحدة تجاه الأزمة السورية، وهو ما يفسر الانتصارات المُتتالية لكتائب الثوار في الشمال السوري في الفترة السابقة.

وقد وصف المبعوث السوري لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري، مقابلة بثتها قناة الجزيرة لزعيم جبهة النصرة "أبو محمد الجولاني"، بأنها انتهاك لقرارات الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، ومحاولة قطرية لتبييض صفحة "جبهة النصرة، الأمر الذي يعكس الحنق الإيراني على قطر في دعم الثوار بسوريا.

هذا التحالف أشد ما يُقلق إيران، لأنه تحالف دول سُنّية (وقد اعتادت إيران على أن الدول ذات الأغلبية والحُكم السُنّي هي دول مُحالٌ أن تتّفق او تجتمع على مشروع)، إلا أن مخاوف البلاد المذكورة (المشتركة) من النفوذ الإيراني وعبث طهران وتلاعُبها، وهى إحدى نقاط الاختلاف والتوتّر بين قطر وإيران.



ضمانات منع السقوط

لسنا نطالب قطر بقطع علاقاتها مع إيران، فهو أمر لا يمكن أن يتم في دول الخليج بصورة فردية، وحتى اليوم لا توصف العلاقة بين الدول الخليجية سوى بوصف التعاون، ولم تصل بعد إلى مرحلة الاتحاد.

وليس مطلوبًا من قطر أن تقاطع إيران، في ظل وجود مصالح اقتصادية بين البلدين.

* لكن في الوقت ذاته، لا ينبغي لدولة قطر أن تضعف أمام نجاح مفاوضات النووي الإيراني، والذي يمكن أن يؤثر على الغاز القطري، بعد الانفتاح المتوقع لإيران على التكنولوجيا الأمريكية التي تزيد إنتاج الغاز، وفتح أسواق عالمية جديدة.

لا ينبغي لقطر في ظل هذا أن تتخلى عن حذرها من استغلال إيران للحدث في دعم الأقليات الشيعية بصورة أقوى، وهو ما قد يُسبّب صداعًا في رأس الأنظمة العربية السنية.

* وحتى تحتفظ قطر بمسارها المتوازن في علاقاتها بإيران دون السقوط بين فكيها، لابد من التعاطي بفاعلية مع هذه الأطروحات:

أولًا: التفاعل مع التحالف بينها والسعودية وتركيا، ومع الموقف الخليجي العام تجاه الأزمة السورية واليمنية بصفة خاصة.

ثانيًا: الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع السعودية التي تُعتبر الأم بالنسبة لدول المجلس الخليجي (عمليًا)، وبالنسبة للدول الاسلامية (روحيًا ومعنويًا)، خاصة وأن السعودية هي المنافس الحالي لإيران، وهو ما يُحدث التوازن في العلاقات القطرية السعودية.

ثالثًا: عزل الأقليات الشيعية عن الروافد الإيرانية، عن طريق تعميق روح الوطنية لديهم، وإعطاء مساحات كافية للتيار الإسلامي السُنّي، حتى لا تُترك الساحة خاوية للغزو الثقافي والديني الإيراني.

إذا تعاطت قطر مع هذه الثلاث، واعتبرتها خطًا أحمر لا تتجاوزه، حينئذ ستحتفظ بعلاقاتها المتوازنة مع إيران، والتي تُسيِّر مصالحها الاقتصادية دون الإضرار بأمنها القومي..

عن موقع شؤون خليجية