مراكب الموت.. وبلاد الأحلام القصيَّة


إحسان الفقيه

"إني أكثر الأنصار مالا فأَقسِم لك نصف مالي، وانظُر أيّ زوجتيَّ هويتَ، نزلتُ لك عنها فإذا حلُت تزوّجتَها".

تلك مقالة سعد بن الربيع الأنصاري، أطلقها أمام عبد الرحمن بن عوف المُهاجريّ، لا لشيء إلا لأنهما أبناء أُمة واحدة..

المكان: مدينة النخيل، حيث شهدت ملحمة تُجسّد الشعور بأمة الجسد الواحد، هنالك استقبل أهلها أناسا قادمين من بعيد، لا يرتبطون معهم بنسب ولا دم ولا قرابة، فتقاسموا معهم الرغيف والعناء والتعب، وجعلوا من ديارهم مأوى لهم وسَكنا.

ومرت عصور وقرون، لم نعد نسمع للأنصار رِكزا، فقد ولى زمن الأنصار، في الوقت الذي صارت الهجرة من الموت إلى الموت، هي عنوان المشهد في بلاد أمتي المنكوبة...ولكن لا أنصار هناك.
*في بلادي يفرّون من القصف والبراميل المتفجرة والجوع والمرض، إلى أرض الأحلام البعيدة، يلتمسون الأمان في أوروبا، بعدما افتقدوه في أوطانهم، بل وبعدما تخلّى عنهم الشقيق وابن العم والجار وأغلق دونهم الأبواب.

*صرح متحدث باسم الهلال الأحمر الليبي بأنه تم انتشال 111 جثة لمهاجرين غير شرعيين بعد غرق مركبهم الخميس الماضي، قُبالة مدينة زوارة غرب طرابلس، وجرى إنقاذ 198 آخرين، بينما كان المركب الغارق يُقلّ 400 شخصا، بما يفيد أن هناك العشرات من المفقودين.

وفي نفس اليوم عثرت السلطات النمساوية على عشرات من الجُثث لمهاجرين معظمهم سوريون، في شاحنة برّاد (للدجاج أو المُجمّدات) على طريق سريع قرب الحدود مع المجر.

ويأتي ذلك في ظل تدفق آلاف اللاجئين يوميا على اليونان، لكي ينطلقوا منها إلى المجر، ثم عبر رحلة أخرى إلى غرب أوروبا.

ومن هنا برز التساؤل:
إلى متى ستظل الحكومات العربية بمعزل عن هجرات الموت؟!

*صحيح أنه من العار أن نناشد دول أوروبا أن تفتح أبوابها للاجئين في بلادنا المنكوبة، بينما أبواب العرب مغلقة..

ولكن.. دول الغرب لا يحكمها النجاشي (الملك الحبشي النصراني) العادل، الذي آوى إليه المسلمين الفارين من بطش المشركين في مكة....

*هذا الغرب إنما تُحرّكه المصلحة، ولا ينتفضُ إلا لأزمات المسيحيين والأقليّات في بلاد العرب.. العالم كلّه يعيش حالة فشل إنسانيّ عام..

وإحقاقا للحق وعدم التعميم، ظهرت السيدة الألمانية "ميركل" بمظهر أكثر شهامة من موقف بعض حكوماتنا العربية إزاء اللاجئين السوريين، بعد تعليقها العمل باتفاقية (دبلن) التي تنص على إعادة اللاجئين لأول دولة دخلوا عن طريقها إلى الاتحاد الأوروبي، لتنال تأييدا عربيا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي، ونعتها البعض بـ "ماما ميركل"، "المستشارة الحنونة" ونحو ذلك.

*نعم عار علينا أن نوصد أبوابنا في وجوه الفارّين من الموت، بينما نأمل من أوروبا أن تستضيف اللاجئين الذين هم أمانة في أعناقنا نحن.

وقبل أن ينطلق القراء بالاعتراض، أُنبّه إلى أنني عنيتُ بحديثي هذا (الفارين من شبح الموت والقصف والدمار)، في سوريا والعراق، فأنا أعلم علم اليقين، أن بعض المهاجرين في مراكب الموت، هم من المُغامرين الذين ينشدون حياة أفضل، وتوسعة في العيش.. وهذا من حقّهم.. ولكن أولئك ليسوا كهؤلاء ورحم الله من مات من الفريقين..

*الحقيقة تقول:
منهم من يهاجر مُخاطرا بحياته من أجل توفير مستقبل أفضل لأولاده، بالحصول على إقامة دائمة في دولة أوروبية تمهيدا للحصول على الجنسية ومنهم من يتحدِّث عن دول تمنح راتبا لسنتين (ولستَ مُضطرّا كلاجئ أثناء ذلك للعمل) على حدّ قول بعضهم..

فلستُ أتحدث عن هؤلاء.. إنّما أتحدث هنا عن الذين تجرّعوا ويلات الحروب ممن مات أحبابهم تحت قصف الطائرات وقذائف النابالم والبراميل المتفجرة، ممن يعلمون أن الحضن الدافئ الذي يأوون إليه، قد يفتح أحدهم عينيه من نومه –إذا ذاق النوم- فلا يجده أمامه.

عن الذين أكلوا لحوم القطط بعدما أتت أسلحة الدمار على الأخضر واليابس، وأفقدتهم مقومات الحياة..
نعم عن هؤلاء الذين خرِس العالم عن إسقاط جلّاديهم ـ أتحدث..

*وقبل أن أُكمل.. أودّ أن أُكرّر :

الأحداث اليومية التي نعيشها أثبتت أن الإساءة سهلة، أن النقد سهل، أن الحديث دون بيّنة سهل، أن إساءة الظن سهلة.. ولكن أن تعدل وتُنصف مع من تختلف معه -ربما في جوانب كثيرة- هي المهمة الشاقة.

ليست على المستوى الشخصي فقط، ليست حين تمسك قلمك لتكتب كلمتين هنا أو هناك؛ بل على مستوى الجمهور.

هناك جماهير تحب أن تظل في حالة حرب دائمة؛ تحب ألا ترى الحاكم يفعل خيرا، وإذا فعل، قالوا أراد به كذا، وإنما فعل لأجل كذا.

وإن أخطأ الأفراد أو تمادوا فآذوا أنفسهم أيضا، فعلينا أن نُحمّل كل كوارث الدنيا للحاكم، وللحاكم الخليجي تحديدا.. خاصّة أن البعض يعتبر أن النفط هو العدوّ، وأن رفاهية ابن الخليج هي سبب كل أزمات بلاد العرب.

*لن تعدم الحكومات العربية أن تضع ضوابط وقيودا لتمييز من يستحق دخول أراضيها ممن لا يستحق...ولست أطمح الآن أو أطالب بالانقلاب على مُخرجات سايكس بيكو وذاك الميراث الثقيل فلسنا مؤهّلين للحديث عن ذلك الآن، ولستُ هنا لأخدعكم عبر شعارات برّاقة لن تُقدّم ولن تؤخّر وهي تلك الشعارات التي يُرددها العاطفيون ممن لا يعرفون ما الذي تعنيه عبارة ( فقه الواقع) والموازنة بين الممكن والمأمول..

*يا قومنا، رعاية القضية السورية أو العراقية لا تقتصر على شأن الثورة والحرب في الداخل، ولا على موائد التفاوض السياسي، لهؤلاء المهاجرين حق في تأمين حياتهم..

*لماذا لا نفتح حدودنا لهؤلاء اللاجئين؟
هل نخشى أن يكونوا عبئا مُضافا على اقتصاديات الدول العربية؟
لن أتطرق إلى الحديث عن الرفاهية التي تعيش في ظلها بعض الدول، والتي تستطيع بفضلات أموالها رعاية اللاجئين، ولكن بالإمكان الاستفادة من هؤلاء الوافدين في المشروعات الصغيرة والأعمال والمهن والحِرف التي تحتاج إلى عمالة خارجية، مع توفير قدر من الحياة الكريمة البسيطة لهم.

افتحوا الحدود وأبرئوا الذمم والضمائر وأقيموا الحجة عليهم، فمن كان هواه يتجه به إلى الهجرة لأوروبا، وكان هذا ما يرمي إليه فهو شأنه.

يا قومنا نطالبكم بالحد الأدنى من الكرم والمروءة، أن تفتحوا لهم الأبواب وتوفروا لهم الأمان والخبز.

ولنكن واقعيين، بعض اللاجئين يهاجرون بأمراض مجتمعية، ويعيشون في تلك الدول مؤثِرين حياة الراحة والدِّعة، ويتحوّل بعضهم إلى عالة على أهلها، فاللاجئون حتما ليسوا ملائكة، ولا أناشد الدول العربية أن تتجاهل هذه المسائل، لكن بإمكانها أن تقدم لهم الحد الأدنى من مقومات الحياة، وفي الوقت ذاته وضع ضوابط تمنع عبث العابثين والمُستهترين والمُستغلين.

لا نريد أن تتحمل دولة ولا دولتان ولا ثلاث همّ استضافة اللاجئين أو الإنفاق على الدول التي تستقبل اللاجئين، نحتاج إلى قرار عربي مشترك، يُنسّق استضافة اللاجئين بين الدول العربية بحسب تعداد سكانها وقوة اقتصادها.

أوْلى ببلادنا التي ينهالُ بعض بَنيها (ليل نهار) بالنقد والتشويه على أردوغان وحكومة بلاده التي استضافت ما يزيد على مليون لاجئ سوري.. أن تحذو حذوه في إيواء اللاجئين، وألا تكتفي بضخّ المعونات المُقدّمة لدولة واحدة والتشكيك بأن تلك الدولة تسرق تلك المعونات..

على قادة الرأي والإعلاميين والنخب السياسية والثقافية، مسؤولية إثارة قضية استضافة اللاجئين والمهاجرين من البلاد المنكوبة وينبغي أن تكون قضية رأي عام، حتى يتبنّاها صُنّاع القرار.

وأكرر:

أحسنوا الخطاب يا قوم.. فالشتائم لم تُحقّق يوما أي نفع من أي نوع لأي قضية مهما كانت.. وبيننا وبينكم قصص السابقين ممن شتموا وأساؤوا وتطاولوا.. من شُعراء وكُتّاب وسياسيين.. ومرّ الزمان على رحيلهم والحال كما هو الحال..

عن موقع عربي21