بلال فضل يكتب: الملائكة لم تحارب معنا في أكتوبر + رؤية أخرى لإبراهيم عوض
إبراهيم عوض

بلال فضل يكتب: الملائكة لم تحارب معنا في أكتوبر

جريدة "المصريون" المصرية الضوئية
الأربعاء, 07 أكتوير 2015 16:45


على عكس ما يعتقد كثيرون، لم يكن الداعية الفلسطيني، الدكتور عبدالله عزام، من أطلق، في العالم العربي، موجة وموضة الحديث عن (كرامات المجاهدين الذين تقاتل معهم الملائكة ضد أعدائهم)، خلال حرب الفصائل الإسلامية الأفغانية ضد القوات الروسية وحلفائها الأفغان، في ثمانينات القرن الماضي، فقد سبقه شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود إلى ذلك، وتحديداً عقب حرب أكتوبر مباشرة. وقتها، وعقب تأكد النصر، بدأت تنتشر بين عموم المصريين حكايات متواترة ومتنوعة الصياغة، تتحدث عن أصحاب الملابس البيضاء الذين كان الجنود يرونهم في لحظات الاشتباكات الحامية، وعن الرسول، عليه الصلاة والسلام، الذي شاهده الجنود يحارب معهم في اشتباكاتهم مع الدبابات الإسرائيلية، وعن كرامات عديدة حصلت خلال الحرب، مثل تفجر الماء من كل اتجاه في قلب الصحراء، ليرتوي منه المحاربون العطشى، وعدم نفاد الطعام الذي كان يكفي أعداداً كبيرة من المحاربين على الرغم من قلته، واشتهرت في ذلك حكاية بالتحديد، رواها فيما بعد الشيخ حافظ سلامة، بطل المقاومة الشعبية في السويس، عن "علب الكحك" التي لم تكن تنفد في يوم العيد، على الرغم من أنها كانت قليلة العدد أصلاً، لكن كل تلك الحكايات تحولت من مجرد حكايات شعبية يتناقلها الناس الفرحون بنصر ظنه الجميع مستحيلاً، إلى رواية رسمية معتمدة من أرفع سلطة دينية في البلد. حدث ذلك، بعد أن ألقى شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود خطبة جمعة مذاعة على الهواء، يوم السادس عشر من رمضان، 12 أكتوبر 1973، تحدث فيها عن رؤيا رآها أحد الصالحين، مفادها أن الرسول، ، ذاهب إلى المعركة مع بعض علماء الإسلام، وأنه أبلغ تلك الرؤيا الرئيس، أنور السادات، بناءً على طلب صاحبها قبل العبور بأيام، ليكون لها أبلغ الأثر على قراره، ثم قال شيخ الأزهر مخاطباً الجنود الذين يقاتلون على الجبهة "إن الملائكة، كما قاتلت مع صفوف المؤمنين يوم بدر، تقاتل معكم اليوم وتضرب أعداء الله معكم"، لتصبح رواية اشتراك الملائكة في حرب أكتوبر معتمدة لدى كل خطباء المساجد، في طول البلاد وعرضها، ويستمر عبد الحليم محمود في تكرارها مع الاستشهاد بقصص يرددها بعضهم في جبهات القتال، ويستمر ذلك عبر السنين، لتصبح حكاية اشتراك الملائكة في حرب أكتوبر جزءاً من الثقافة الشعبية التي تتوارثها الأجيال. بالمناسبة، شاهدت قبل يومين فيديو لأحد الجنود المشاركين في الحرب يتحدث عن رؤيته الملائكة وهي تقاتل في الحرب، وكان ملفتاً الحماس البالغ لحكايته الذي بدا على المعلقين و"المشيّرين" من أبناء أجيال أصغر لم تشهد الحرب بنفسها. ما قاله عبد الحليم محمود عقب الحرب عن مسألة الملائكة، أثار وقتها ردود فعل قليلة تنتقده، وتنبه إلى خطورة ما يقوله، كان أقواها وأهمها مقال الدكتور فؤاد زكريا في (الأهرام) في 18 نوفمبر/تشرين ثاني 1973، وتحدث فيه بأسف وأسى عن "عودة التعليلات اللا عقلية لتطل برأسها من جديد، مشيدة بقوى غير منظورة، قيل إنها حاربت معنا، ولم يدرك مرددو هذه الأقاويل أن تصديقها معناه، أن الذى انتزع النصر ليس هو الجندي المصري الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطيط والحساب الدقيق لم يكن له إلا دور ثانوي فى كل ما حدث. بل إن تصديق هذه الأقاويل يعني ما هو أشد من ذلك وأخطر، إذ إن قائلها يفترض أن ما حدث كان "معجزة"، وأن الأمور لو تركت لكي تسير فى مجراها الطبيعي، لما أمكن أن يحدث ما حدث. ولست أستطيع أن أتصور في ظروف التضحية الهائلة التى مر بها جيشنا جحوداً أشد من ذلك الذي ينطوي عليه هذا الافتراض الضمني"، وبالطبع، لم يسلم فؤاد زكريا من التكفير والهجوم بسبب ما قاله. (2) تستطيع أن تدرك كيف كان موضوع (دور الملائكة في النصر) حاضراً في تلك الفترة، حين تقرأ مذكرات البطل العميد عادل يسري، قائد لواء النصر، صاحب الدور المدهش في حرب أكتوبر، الذي كان من بين أفراده عبدالعاطي صائد الدبابات، ولم يكن العميد يسري قائداً تقليدياً، فقد كان الكل يحكي ويتحاكى ببطولاته التي جعلته يفقد ساقه في أيام الحرب، كما كان صاحب السبق إلى نشر أول مذكرات، يسجل فيها بطل ميداني شهادته عن الحرب، عقب وقوعها مباشرة، حيث نشرت مذكراته في 1974، وللأسف ظلت، منذ ذلك الوقت، عرضة للتجاهل والتهميش. في مذكراته، يروي العميد عادل يسري: "سؤال تردد كثيراً أمامنا: هل رأيتم الملائكة؟ هل كانت تقاتل معكم بلباس أبيض؟ أقول بصدق إنني لم أر الملائكة، وكيف نراها والله يقول "وأمدكم بجنودٍ لم تروها"، وقد سألت جميع القادة والجنود الذين قاتلوا معي: هل رأوا الملائكة؟ وكانت إجاباتهم جميعاً واحدة: لم نر". ثم يقدم العميد عادل يسري إجابة قاطعة على "سؤال الملائكة" الذي واجهه كثيراً: "لكن الملائكة كانوا معنا في صورة أخرى، كان الملائكة يحاربون معنا في صورة عبدالعاطي وبيومي الذين دمروا للعدو أرقاماً خرافية من دباباته ومدرعاته، في صورة الرجال الذين قاموا بأعمال خارقة، في صورة العريف عمر من كتيبة حسن الذي دمر، في دقائق، دبابة وعربة مدرعة للعدو بسلاح صغير مضاد للدبابات، آر بي جي، ونال نوط الشجاعة العسكرية. رأيت الملائكة في صورة البطل الملازم أول السعودي الذي يقفز فوق الدبابة الإسرائيلية، ويفتح فتحة البرج فيقاومه قائد الدبابة، فيجذب غطاء فتحة برج الدبابة بيده اليمنى، ويجذب تيلة القنبلة بأسنانه معرضاً نفسه للتدمير، ويدمر طاقم الدبابة بالكامل، وينال نوط الجمهورية. رأيت الملائكة في الشهيد بطل نجمة سيناء، سعيد خطاب، الذي استشهد مع 4 ألغام، وهو يدمر دبابات للعدو. رأيت الملائكة في شياطين عبدالجابر الذين دمروا الكثير من دبابات العدو، وجعلوا قادتهم يصرخون "لا تقتربوا من القناة". رأيت من هؤلاء الملائكة كثيرين، استشهد منهم من استشهد، وجرح منهم من جرح، وعاد منهم من عاد، هؤلاء هم الملائكة الذين كانوا يحاربون معنا، رجال نفخ الله في قلوبهم الشجاعة، وزرع فيهم الإيمان، فكانوا للمعركة، وارتفعوا ببطولاتهم لمستوى الملائكة، لمستوى الصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا". (3) لم أكن قد قرأت شهادة العميد عادل يسري، حين ناقشت عام 1996 "دور الملائكة في حرب أكتوبر"، في مقال لي بالإصدار الأول من صحيفة الدستور المغدورة، ما جلب لي وقتها سيلاً من رسائل التكفير واللعنات، على الرغم من أنني وضعت "مسألة الملائكة" في سياق مناقشة مأساة التوظيف السياسي الدائم لحرب أكتوبر، بحيث تتم نسبة النصر إلى شخص حسني مبارك من منافقيه، ويجعل الساداتيون الحرب محض عبقرية خالصة من شخصه، مهيلين التراب على كل من كان حوله من القادة، وينسب الناصريون الفضل فيها أصلاً إلى عبدالناصر الذي وضع خطتها، ولولا موته لكان بطلها الأكيد، ويتورط بعضهم بسبب كراهيتهم السادات في المبالغة في تصوير الحرب كأنها كانت هزيمة مقنعة، ثم يوظّف أنصار تيارات الشعارات الإسلامية بعد ذلك نصر أكتوبر، للهجوم على الفترة الناصرية التي وقعت فيها هزيمة يونيو، من وجهة نظرهم بسبب الابتعاد عن الدين وقمع الاتجاه الإسلامي، بينما كان من أهم أسباب وقوع نصر أكتوبر العودة إلى الدين، ورفع شعار (الله أكبر)، ما كان سبباً في نزول الملائكة من السماء للاشتراك في الحرب، وهو ما اشترك فيه من دون استثناء مشايخ السلطة، مثل الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي اشتهر عنه قوله، إنه سجد لله شكراً عقب هزيمة يونيو، لأن ذلك سيعجل بسقوط النظام الذي يحارب الإسلام، أو الوعاظ الشعبيون الذين وظفتهم تيارات الشعارات الإسلامية لاكتساب المزيد من الشعبية، مثل الشيخ عبدالحميد كشك والشيخ أحمد المحلاوي وغيرهما. لفت انتباهي أن رسائل كثيرة اتهمتني بالكفر، لأني أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وهو إمكانية نزول الملائكة للاشتراك في القتال، كما حدث في غزوة بدر، على الرغم من أنني أشرت، في مقالي، إلى أننا حتى لو قررنا ألا نكتفي بمناقشة عقلية للآثار السلبية على تكرار حكايات اشتراك الملائكة في الحرب، فإن قراءتنا ما تقوله كتب التراث عن اشتراك الملائكة في غزوة بدر، والذي تشير إليه إحدى آيات سورة الأنفال، في قول الله تعالى: "إذ تستغيثون ربكم، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين، وما جعله الله إلا بشرى، ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلا من عندالله، إن الله عزيز حكيم"، توصلنا إلى استنتاج أن تلك المرّة كانت الأولى والأخيرة التي تشترك فيها الملائكة في القتال، إلى جوار الرسول، ، الذي بدا له أن التفوق العددي سيرجّح كفة الكفار، فأخذ يبتهل إلى ربه أن ينصره، حتى سقط رداؤه عن كتفه، فلم يخذله ربه، لكن ذلك لم يتكرر بعد ذلك. ففي غزوة أحد، انهزم المسلمون هزيمة ساحقة، واستشهد منهم كثيرون، بسبب خطأ الرماة الكارثي. ومع ذلك، لم تنزل الملائكة لمساعدتهم، على الرغم من أن من قتل من المسلمين كان خيرة المسلمين، وكان سبب ذلك واضحاً وجلياً، فالله لم يشأ للمسلمين أن يتخذوا من التواكل عليه، وعلى جنوده، المنزلة من السماء، أمراً يعتمدون عليه، وإنما أراد لهم أن يعدّوا عدتهم ويصبروا ويتقوا، وأن يتعلموا من أسباب الهزيمة المريرة، وعلى الرغم من أن هناك حديثاً مروياً عن الصحابي سعد بن أبى وقاص، قال فيه إنه رأى، في يوم أحد، ملكين يقاتلان عن يمين الرسول، ، وشماله فإن المفسر الجليل مجاهد بن جبر عارض هذا الحديث قائلاً: "لم تقاتل الملائكة معهم، يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر"، بينما حاول بعضهم تأويل الحديث، قائلين، إن ذلك كان أمراً خاصاً بالرسول فقط، ولنا أن نستغرب تأويلهم هذا، بعد أن نعرف أن النبي، ، جُرِح فى أحد، وكُسِرت رباعيته (أسنانه) وشُجّ رأسه، وهو ما لم يكن ممكناً أن يحدث، لولا أن الله أراد أن يقول لعباده إن للنصر في الحروب أسباباً لا بد لهم من الأخذ بها، وإن للهزيمة عوامل لا بد لهم من تفاديها، والتعلم من دروسها. في غزوات الرسول التالية، لا يأتي ذكر الملائكة أو التدخل الإلهي، سوى بنشر الرعب في قلوب الكافرين، وبالتحديد في غزوة الخندق التي انتصر المسلمون فيها، بفضل حيلة نعيم بن مسعود الغطفاني الشهيرة. وفي غزوة حنين التي حارب فيها جيش المسلمين قبيلة هوازن، فتعرضوا لبوادر هزيمةٍ كان من شأنها أن تصيب الدولة الإسلامية في مقتل، لتضيع نتائج فتح مكة الذي دخل بعده كثيرون من "المؤلفة قلوبهم" في جيشٍ، حاربوا معه بدون اقتناع، فأصبح لجيش المسلمين كثرة عددية، كان لها أثر سلبي، يتحدث عنه الله تعالى في قوله: "ويوم حنين، إذ أعجبتكم كثرتكم، فلم تُغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته، على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها.." إلى آخر الآية. يقول القرطبي، في تفسيره هذه الآية، إن دور الملائكة في غزوة حنين لم يكن القتال المباشر، لكنهم "كانوا يُقوّون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم، من حيث لا يرونهم ومن غير قتال، لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر"، حتى أن أحد المشركين سأل، يومها، بعد وقوع الهزيمة، طبقاً لإحدى الروايات "أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليها بيض، وما كان قتلنا إلا بأيديهم فى غزوة بدر". وحتى ذلك الدور المعنوي لم يتكرر في غزوة مؤتة التي أصابت المسلمين فيها هزيمة مؤلمة، وقتل فيها عدد من أبرز الصحابة، لم تنزل الملائكة لنصرتهم، لتكون غزوة بدر أول وآخر الغزوات التي شاركت فيها الملائكة بالقتال". (4) كان هذا ما عرضته، في مقالي، لمسألة دور الملائكة القتالي في حروب المسلمين، وهو لم يعجب، بالطبع، هواة التكفير الذين اعتبر بعضهم ما كتبته تشكيكاً في وجود الملائكة أصلاً، ولا زلت أذكر (وكيف يمكن أن أنسى؟) رسالة وجه لي فيها أحدهم، بعد وصلة من الشتائم القبيحة، سؤالاً اعتبره مفحماً لي بشدة: "وهو يعني هيخس على أهلك إيه لما يتقال إن الملايكة شاركت في الحرب؟"، مع أنني كنت أتصور أنني قدمت إجابة عن سؤاله، من خلال ما ذكرته في أكثر من موضع في المقال، عن خطورة الاستمرار في إعلاء البعد الغيبي في كل ذكرى للنصر، ما يساهم في سلب عقول الناس وقتل إرادتهم، ويزرع فيهم التواكل على قوى الغيب، بدلاً من ربط النصر والهزيمة بأسبابهما المادية الملموسة، ليبقى إيمان المقاتل أمراً يقرّبه إلى الله أكثر، من دون أن يقرّبه بالضرورة إلى النصر أكثر، بدليل أن الصحابة، وهم من هم في الالتزام الديني، لم يتحقق لهم النصر في معاركهم كافة، بل ظل ذلك مرتبطاً بما أعدّوه من قوة، وبالطريقة التي أداروا بها معاركهم، حتى يتحقق لهم النصر، أو تنزل بهم الهزيمة. للأسف، لا زلنا، وعلى الرغم من مرور كل هذه السنين على حرب أكتوبر، نرى كيف يتم المبالغة في الحديث عن دور الالتزام الديني في تحقيق النصر، من دون أن يفسر القائلون بذلك: لماذا، إذن، وقعت الثغرة التي كان لها دور خطير في تحجيم النصر، ولماذا لم تتدخل الملائكة لوقف تقدم القوات الإسرائيلية، بل واصلت قيادة المقاتلين من أجل تحرير كامل تراب سيناء، إن لم يكن من أجل تحرير القدس الشريف، ولماذا فشل الرئيس المؤمن الذي يرى الرؤى الصالحة في تحقيق انتصار سياسي يتناسب مع ما حققته دماء المقاتلين وتضحياتهم على الأرض، مسلمين كانوا أو مسيحيين، مؤمنين أو غير ذلك؟. نعم، لا يمكن إنكار أهمية دور الشحن الديني والوطني في إعداد المقاتل المصري معنوياً في حرب أكتوبر، لكن ذلك لا يعني أن الجيش المصري انهزم في يونيو 1967 لأن جنوده كانوا كفاراً، أو لأن قادته كانوا عصاة، فقد حدث النصر، لأن إدارته تمت بطريقة علمية عقلانية، في حين تمت إدارة مصر ما قبل يونيو بطريقةٍ غوغائيةٍ فاشلة، والدليل أنه حين تغيرت تلك الطريقة في الإدارة العسكرية، حتى مع بقاء صانع الهزيمة، جمال عبدالناصر، على رأس الحكم، حقق المقاتل المصري بطولات مدهشة في حرب الاستنزاف، كان لها أبلغ الأثر في استعادة المقاتل المصري ثقته بنفسه، والتي بني عليها مادياً ومعنوياً انتصار أكتوبر الذي ظل يتعرّض للسرقة تلو الأخرى عبر سنوات طويلة، نسيت فيه تضحيات الذين عبروا، وانتصرت مصالح الذين هبروا، على رأي عمنا محمود السعدني. قبل كل شيء وبعده، يظل معنى النصر الذي تحقق في حرب أكتوبر أكبر من محاولات اختطافه لمصلحة رؤساء بعينهم، أو لمصلحة مؤسسة عسكرية تهيمن على مقدرات البلاد، أو لدعم تفكير غيبي، يقوم بتغييب عقل الإنسان المصري، حتى وإن حسنت النيات. يظل معنى النصر مرتبطاً برغبة الإنسان في تغيير واقعه المرير، مهما كانت التضحيات مريرة وجسيمة، يظل مرتبطاً بتوصيف رائع لأحد أبطاله، العميد عادل يسري، حين قال في إجابته عن أسئلة اشتراك الملائكة في الحرب: "في الواقع إن العمل الجدي العلمي، والإيمان بالله وبالوطن وبحقنا الكامل، والإعداد الجيد للمعركة، والتصميم على القتال، كل هذا كان سبيلنا إلى النصر، وبهذا نجحنا في تحطيم العدو، ودمر لهم لوائي وحده "لواء النصر" 120 دبابة".

===================


رؤية أخرى للمعركة الفكرية بين فؤاد زكريا وعبد الحليم محمود حول اشتراك الملائكة فى حرب رمضان المجيد:
==========
هجوم فؤاد زكريا على عبد الحليم محمود بسبب رؤيا النصر
د. إبراهيم عوض

يذكر د. أحمد عمر هاشم أن فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود كان مهتما بإسهام الأزهريين في معركة العاشر من رمضان، وأنه استعان في هذا الصدد بأساتذة جامعة الأزهر ورجال الدعوة لتعبئة الروح المعنوية لأبناء قواتنا المسلحة، وأنه عند لقاء العلماء بأبناء الجيش في شهر رمضان أثناء الحرب أفتى بعض الدعاة للجنود بأنه، نظرا لحرارة الجو وحاجة الحرب إلى كامل طاقتهم، من المستحب الأخذ برخصة الفطر لتكون عونا لهم فى الانتصار على العدو الصهيوني، بيد أن بعض الجنود أجابوا قائلين: لا نريد أن نفطر إلا في الجنة!
ويذكر د. هاشم أيضا أن الشيخ عبد الحليم محمود، قبيل حرب رمضان المجيدة، قد رأى رسول الله في المنام يعبر قناة السويس ومعه علماء المسلمين وقواتنا المسلحة، فاستبشر خيرا وأيقن بالنصر، وأخبر الرئيس السادات بتلك البشارة[1]، واقترح عليه أن يأخذ قرار الحرب مطمئنا إياه بالنصر. ثم لم يكتف بهذا، بل انطلق عقب اشتعال الحرب إلى منبر الأزهر الشريف، وألقى خطبة عصماء توجه فيها إلى الجماهير والحكام مبينا أن حربنا مع إسرائيل هى حرب في سبيل الله، وأن الذي يموت فيها شهيدٌ وله الجنة، أما من تخلف عنها ثم مات فإنه يموت على شعبة من شعب النفاق. وكانت نتيجة الإعداد الجيد الذى قام به الجيش المصرى، مضافا إليه طمأنة د. عبد الحليم محمود لرئيس البلاد وحَفْزه إياه على شن الحرب ضد قوات الصهاينة، التى تحتل جزءا غاليا من تراب مصر، هى ما أسفرت عنه الحرب الرمضانية المجيدة من نصر كبير[2]. وقد تطرق إلى تلك الواقعة د. محمود جامع أيضا فى كتابه: "كيف عرفتُ السادات؟"، إذ كتب قائلا: "لا ننسى أنه بشرنا بالنصر في أكتوبر 73 عندما رأى حبيبه رسول الله عليه الصلاة والسلام في المنام، وهو يرفع راية "الله أكبر" للجنود ولقوات أكتوبر".
ولا شك أن ما طرأ بعد ذلك من تهاون عسكرى أدى إلى اختراق بعض قوات العدو لخطوط جيشنا فيما سمى بـ"الثغرة"، وكذلك رضا القيادة السياسية بشروط معاهدة كامب ديفيد المجحفة، يمثل خصما واضحا من التألق البطولى الذى أحرزه أبطال حرب رمضان، بَيْدَ أن هذه حكاية أخرى[3]. لقد بذلت القوات المسلحة كل جهودها، وكان د. عبد الحليم محمود خير مؤازر لتلك الجهود. ولا ريب أن ما صرح به الرجل كان عاملا من عوامل الإقدام والنصر. ومن هنا كان ما كتبه د. فؤاد زكريا فى جريدة "الأهرام" فى 18 نوفمبر 1973م من مقال مفعم بالهجوم على الأستاذ الدكتور، الذى لم يأل جهدا فى سبيل رفع الروح المعنوية للضباط والجنود وتحميسهم لبذل أقصى ما عندهم من عزم وشجاعة وطمأنتهم إلى أن الله ناصرهم وآخذ بيدهم إلى النصر والكرامة، هو من الأمور المخزية التى من شأنها تفتيت الروح المعنوية بشبهة محاربة الخرافة ومؤازرة التفكير العلمى، وبخاصة أن العمليات العسكرية بيننا وبين الصهاينة فى تلك الحرب لم تكن قد انتهت بعد.
وكان أجدر بالدكتور فؤاد زكريا أن يوجه سنان قلمه مثلا لمحمد حسنين هيكل يوم كتب، قبل الحرب بسنة ونصف، مقالا فى "الأهرام" بعنوان "تحية للرجال" يبدو فى ظاهره وكأنه تقدير لجهود رجال القوات المسلحة وبطولاتهم، لكنه فى الحقيقة تعداد للعقبات الفظيعة التى تنتظرهم حين يحاولون عبور قناة السويس، والتى أبرزها إبرازا يوحى بأن مسألة العبور ضرب من الانتحار[4]. وكان من ثمرته فى ذلك الحين انتشار الإحباط فى نفوس كثير من أفراد القوات المسلحة على ما قرأنا فى تلك الأيام، ذلك الإحباط الذى أتت بشرى د. عبد الحليم محمود معاكسة له تماما. لكن د. فؤاد زكريا لم ينبس ببنت شفة فى الرد على مقال هيكل المحبط، وحشد كل قوته فى تشويه صورة د. عبد الحليم وإظهاره بمظهر الرجل المتخلف الذى يطمس جهود القوات المسلحة والقيادة السياسية للبلاد، وكأن عبد الحليم محمود نادى بترك الاستعدادات السياسية والحربية والاستناد إلى ضرب الوَدْع وقراءة الفنجان، والتهور الانتحارى فى عبور القناة دون دراسة أو تدريب أو تخطيط.
لقد لفت انتباهى بقوةٍ ما قرأته فى المادة المخصصة للشيخ فى النسخة الإنجليزية من موسوعة "الويكبيديا"، إذ جاء فيها أنه معروف باجتهاده فى تحديث التعليم فى الأزهر وإلحاحه على أنّ تعلُّم العلوم الحديثة فرض دينى[5]. فكيف يمكن أن يدور بالذهن أن الرجل، حين قال ما قال عن رؤياه، أيا كان منطلقه فيها، إنما كان يروج للخرافة؟ وفى الفصل الخاص بمناقشة آرائه وأفكاره من هذا الكتاب سوف يتضح لكل ذى عينين أن الرجل كان فعلا يرى أن دراسة العلوم الطبيعية وإحراز التقدم الثقافى والحضارى واجب دينى مقدس لا يمكن المسلم أن يتفلت منه ويبقى مسلما جيدا.
قال د. فؤاد زكريا ما نصه: "أستطيع أن أفهم، وإن لم أكن أستطيع أن أغتفر، انتشار ألوان من التفكير اللاعقلى بيننا بعد يونيه 1967. أستطيع أن أفهم ذلك لأن قسوة الهزيمة غير المتوقعة، والإحساس بالهوان والمذلة والعجز، والشعور بأن كل شئ يسير فى طريق مسدود، كل هذه كانت عوامل ساعدت على انتشار موجات من التفكير اللاعقلى، وجعلت الأذهان أكثر استعدادا لقبول تفسيرات غيبية للظواهر، وهيأت العقول لنوع من الاستسلام جعلها تفقد ملكاتها القديمة، وتركن إلى التصديق الساذج لكل بدعة وكل خرافة تجد فيها أى نوع من التعويض.
ومع ذلك فإنى لا أستطيع أن أغتفر انتشار هذا اللون من التفكير حتى فى ظروف الهزيمة، لا سيما وأن الكثيرين ممن عملوا على نشره كانوا يستطيعون، بقليل من الروية، أن يدركوا مدى الأضرار التى يعود بها مثل هذا التفكير على شعبنا أثناء تلك المحنة القاسية، فقد كنا فى حاجة إلى أن نستجمع كل قوانا المادية والذهنية لكى نهتدى إلى مخرج من المأزق الذى وجدنا أنفسنا فيه، وكنا فى حاجة إلى كل ذرة من عقلنا وعلمنا وفكرنا السليم حتى نحارب بها عدوا ماكرا يجيد استخدام كل أسلحة العصر فى المجال العسكرى والنفسى والعلمى من أجل تحقيق أهدافه فى وقف تقدمنا وإبقائنا فى حالة من التخلف الدائم. ومع ذلك فقد كان من أكثر التعليلات التى شاعت بصدد الهزيمة أنها قد حلت بنا لأننا ابتعدنا عن طريق التقوى مفهومةً بمعنى ساذج. ولم يكن ذلك بالتعليل الذى يمكن اغتفاره لأسباب عديدة أهمها أنه يعمى عيون الناس عن العوامل الأساسية التى كان لا بد أن يفهموا أنها شاركت كلها فى صنع هذه الهزيمة: كمؤامرات الصهيونية المتعاونة مع الإمبريالية، وكالأخطاء التى ارتكبناها نحن أنفسنا قبل حرب عام 1967 وأثناءها، والتى كان ينبغى أن نعيها جيدا إذا شئنا أن نمحو أثر الهزيمة.
وفضلا عن ذلك فإن نفس المنطق الذى كان ينطلق منه دعاة هذا التعليل يمكن أن يكون حجة عليهم لا لهم، لأننا إذا كنا قد ابتعدنا عن طريق التقوى فإن عدونا كان، طوال تاريخه، أشد منا ابتعادا عنه. فهذا العدو ذاته هو الذى شرد شعبا كاملا، وارتكب فى حقه أشد الفظائع والمظالم. فلماذا إذن يكتب النصر لعدو كهذا إذا كان مقياس النصر أو الهزيمة هو التقوى مفهومةً بهذا المعنى الساذج؟
على أنه إذا كان انتشار التفكير اللاعقلى أمرا مفهوما، بالرغم من أنه لا يغتفر، فى ظروف الهزيمة فإن الأمر الذى لا يمكن فهمه ولا اغتفاره هو أن تظهر ألوان جديدة من هذا التفكير بعد السادس من أكتوبر. فذلك لأننا كنا قد أعددنا العدة لكل شئ منذ زمن طويل، وحسبنا لكل عامل من العوامل حسابا، وأجرينا مئات التجارب علي العبور. وكان واضحا أن التدريب الشاق والحساب العلمى الدقيق والتوقيت الذكى والتضليل المخطط والمرسوم للعدو، وفوق ذلك كله حماسة الجندى المصرى وشجاعته، كل هذه كانت العوامل الرئيسية فى النجاح الباهر الذى أحرزناه فى العبور وفى معارك الضفة الشرقية. ومع ذلك فقد عادت التعليلات اللاعقلية تطل برأسها من جديد، وكان ما يثير الإشفاق فى هذه التعليلات هو أنها تهيب بقوى غير منظورة قيل إنها حاربت معنا. ولم يدرك مرددو هذه الأقاويل أن تصديقها معناه أن الذى انتزع النصر ليس هو الجندى المصرى الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطيط والحساب الدقيق لم يكن له إلا دور ثانوى فى كل ما حدث. بل إن تصديق هذه الأقاويل يعنى ما هو أشد من ذلك وأخطر، إذ إن قائلها يفترض أن ما حدث كان "معجزة"، وأن الأمور لو تركت لكى تسير فى مجراها الطبيعى لما أمكن أن يحدث ما حدث. ولست أستطيع أن أتصور فى ظروف التضحية الهائلة التى مر بها جيشنا جحودا أشد من ذلك الذى ينطوى عليه هذا الافتراض الضمنى.
إن الوقفة الصامدة التى وقفها الإنسان المصرى فى سيناء فى أول مواجهة حقيقية له مع العدو كانت بالفعل ثمرة العلم والإيمان. أما العلم فنحن نعرفه جيدا: فهو يتمثل فى ذلك الإعداد الصامت الدءوب ليوم المعركة، وتلك التدريبات الشاقة العميقة، وتلك القدرة الفائقة على استخدام أحدث الأسلحة، وذلك التخطيط الذى أصبح من ذلك الحين موضوعا للدراسة فى المعاهد العسكرية والإستراتيجية. وأما الإيمان فكان يتمثل فى تلك الرغبة الجارفة التى ازدادت فى كل يوم إلحاحا طوال ست سنوات فى تحرير قطعة عزيزة من أرض الوطن، وفى تبديد خرافة "الجيش الإسرائيلي الذى لا يقهر" و"الجيوش العربية التى تفر من أول طلقة"، وفى مسح عار 1967. والأهم من ذلك كله الإيمان بأن هناك قضية عادلة تستحق أن يضحى المرء بحياته من أجلها. هؤلاء جميعا كانوا "جنود الخفاء" الذين وقفوا يحاربون معنا، والذين رفرفوا بأجنحتهم البيضاء الناصعة محلقين فى سماء المعركة، والذين تمكنا بفضلهم من تقديم أروع الأمثلة فى الشجاعة، وتحقيق نتائج عسكرية لم يكن يتوقعها أشد أنصارنا تفاؤلا.
على أننى لا أعتقد أن أضرار التفكير اللاعقلى تقتصر على ما يؤدى إليه من إقلال من شأن الجهود التى بُذِلَتْ فى مرحلة الإعداد للمعركة، والبطولات التى ظهرت أثناءها، بل إن هذا اللون من التفكير يؤدى، فى رأيى، إلى إضعاف موقفنا العام تجاه إسرائيل ويفوت علينا سلاحا من أشد الأسلحة فعالية فى معركتنا الحالية، والمقبلة بوجه خاص، مع هذا العدو الجديد.
ذلك لأن إسرائيل، بالرغم من كل ما أحرزته من تقدم علمى وتكنولوجى مساير لأحدث تطورات العصر، هى فى الأساس مجتمع يقوم على وهم خرافى. ومعظم الحجج المعنوية التى يستند إليها كتاب إسرائيل ومفكروها تتضمن خلطا بشعا بين وقائع التاريخ اليهودى القديم منذ ألفى عام بعد تشويه هذا التاريخ لكى يلائم أهدافهم وبين حقائق العصر الحاضر. وفكرة إقامة دولة إسرائيل نفسها فكرة مضادة لكل المسار الحضارى الذى سلكه العالم المتمدين منذ نهاية العصور الوسطى حتى اليوم لأن هذه دولة تقوم علي أساس دينى عنصرى، وتتجاهل الاتجاه إلى الفصل بين الدين والدولة، الذى كافحت من أجله المجتمعات الغربية وأصبح دعامة أساسية من دعامات الفكر السياسى والاجتماعى فيها.
إسرائيل إذن فكرة تقوم أصلا على خرافة. وفى وسعنا أن نستغل الميول العلمانية القوية التى تسود المجتمعات الغربية فى محاربة إسرائيل بسلاح لن يكلفنا شيئا. ولكنه، فى نظر العقول المستنيرة، سلاح فعال إلى أقصى الحدود. أما إذا التجأنا نحن بدورنا إلى اللامعقول فإننا نضيع بذلك على أنفسنا فرصة رائعة للتفوق المعنوى على العدو فى نظر العالم المتحضر.
إن الأهداف الحقيقية التى نحارب من أجلها أهداف يستطيع أن يفهمها ويقدرها أشد الناس تمسكا بالعقلانية. فليس هناك ما هو أقرب إلى العقل من الكفاح من أجل استعادة جزء مغتصب من أرض الوطن، واسترداد حقوق شعب شرده غزاة دخلاء. وفى مقابل ذلك لا يقدم عدونا إلا مجموعة من الأساطير الخرافية لكى يبرر بها احتلاله للأرض واغتصابه للحقوق الشرعية لأهلها.
لذلك أعتقد أن تمسكنا بالارتكاز على أرض العقل الراسخة يعطينا سلاحا هائلا فى معركتنا، على حين أن عودتنا إلى ضباب اللامعقول وإلى التعليلات الخرافية والأسطورية يجعلنا نقف معنويا على نفس الأرض الهشة التى يقف عليها أعداؤنا. وما دام هدفنا العام الطويل الأجل متمشيا مع العقل فمن الواجب أن تكون تصرفاتنا الجزئية القصيرة الأجل منسجمة مع هذا الهدف العام. ولو حدث غير ذلك لكانت الصورة النهائية منطوية على مفارقة غريبة، إذ يكون أحد طرفى النزاع مسايرا فى أهدافه العامة لاتجاه التاريخ والتطور والتقدم، ومع ذلك يسلك فى تصرفاته اليومية مسلكا مضادا للعقل، على حين أن الطرف الآخر يتخذ لنفسه أهدافا مضادة للعقل ولمسار التاريخ ولكل ما شيدته حضارة الإنسان الحديث من قيم، ولكنه يخدم هذه الأهداف عن طريق مسلك يومى عقلانى علمى يرد كل حادث إلى أسبابه الحقيقة، ويعلل الظواهر بقوانينها الفعلية.
ولو ألقينا نظرة على المستقبل لوجدنا أن الوقت، خاصة على المدى البعيد، سيكون حتما فى صالحنا لو عرفنا كيف نتخذ من العقل مرشدا لنا فى صراعنا العسكرى والحضارى مع إسرائيل. فاحترام العالم للعقل يتزايد يوما بعد يوم، والمسافة التى تفصله عن التفسيرات اللاعقلية تتسع باطراد. ولا بد أن يأتى اليوم الذى تصبح فيه الأسطورة التى ترتكز عليها أمانى الصهيونيين وآمالهم مكشوفة ومفضوحة حتى فى نظر أصحابها. وعندما يأتى ذلك اليوم سيكون أعظم انتصار نحققه هو أن يدرك العالم أننا كنا على الدوام منحازين إلي صف التقدم والاستنارة، وأننا أعطينا العقل حقه ولم نتجاهل الروح من حيث هى طاقة مؤيدة للعقل وحافزة له لا من حيث هى قوة مضادة للعقل ومعوقة للتقدم"[6].
وبعد أن أوردنا مقال د. فؤاد زكريا كاملا نشرع فى مناقشة ما جاء فيه. يقول الدكتور: "أستطيع أن أفهم، وإن لم أكن أستطيع أن أغتفر، انتشار ألوان من التفكير اللاعقلى بيننا بعد يونيه 1967. أستطيع أن أفهم ذلك لأن قسوة الهزيمة غير المتوقعة، والإحساس بالهوان والمذلة والعجز، والشعور بأن كل شئ يسير فى طريق مسدود، كل هذه كانت عوامل ساعدت علي انتشار موجات من التفكير اللاعقلى، وجعلت الأذهان أكثر استعدادا لقبول تفسيرات غيبية للظواهر، وهيأت العقول لنوع من الاستسلام جعلها تفقد ملكاتها القديمة، وتركن إلى التصديق الساذج لكل بدعة وكل خرافة تجد فيها أى نوع من التعويض". نعم هو يستطيع مثلا أن يفهم شيوع القول بظهور العذراء على قباب بعض الكنائس بالقاهرة واحتشاد الآلاف المؤلفة من أفراد الشعب حولها ومواصلتهم الليل بالنهار هناك فى مشهد يبعث على الشعور بالأسف البالغ وترك مصالحهم وانتشار الخرافات التى ليس لها أساس على الإطلاق فى مصر بُعَيْد هزيمة يونيه 1967م، وبالتالى إغلاق فمه تماما وعدم التطرق بكلمة واحدة إلى هذا الموضوع الذى يتنافى تمام التنافى مع أى تفكير علمى، إلا أنه لا يستطيع الصمت ولو للحظة واحدة على ما قاله د. عبد الحليم محمود فى طمأنة القيادة السياسية وأفراد القوات المسلحة وتبشيرهم بأن الله ناصرهم ومؤيدهم وغير خاذلهم أبدا ما داموا قد بذلوا كل ما يملكون من جهد، ومستعدين للتضحية بالغالى والرخيص فى سبيل الفوز، وجاهزين للاستشهاد فى سبيل الله دفاعا عن الوطن والدين والكرامة والعزة والحرية بعدما نجح النظام اليسارى الناصرى الاستبدادى الخانق للأنفاس والناشر للرعب، الذى لم يُضْبَط زكريا يوما وهو يكتب أو يقول كلمة فى نقده ولا حتى بعد الهزيمة اليونيوية القاصمة للظهر، فى تحقيق واحدة من أبشع الهزائم العسكرية والسياسية فى مصر طوال عصورها. وغريب أن يحاول فؤاد زكريا إيهامنا بأن هجومه على بشارة النصر هو محاربة للخرافة ودعم للفكر العلمى، مع أن ما عمله هو، بالعكس من هذا، تكريس للفكر غير العلمى على أشنع صورة يمكن تخيلها.
فمن المعروف أن الدول تحرص على رفع روح جيوشها المعنوية، وتلجأ فى هذا السبيل إلى كل الوسائل الممكنة والمتاحة بما فيها بث الشائعات وترديد الأكاذيب وشراء ذمم من يمكن شراء ذمته من أفراد الأعداء المؤثرين فى مسيرة المعارك. وفى الإسلام أن الحرب خدعة، وأن الكذب مباح فى عدة مواطن منها الحرب، إذ لا يعقل أن تذهب إلى الأعداء وتدلى بحقائق الأمور كما هى فى جيش وطنك بحجة أنك رجل صادق ولا يمكنك أن تقول غير الحقيقة، مثلما لا يعقل أن يصارح أى أسير مسلم آسريه بكل ما يسألونه عنه استنادا إلى أن المسلم رجل صادق وأن الكذب يؤدى فى النهاية إلى النار[7]. وكان الرسول يُوَرِّى عن الموضع الذى ينوى الاتجاه إليه للحرب: فإذا كان ناويا الذهاب إلى الشرق أعلن أمام الناس أنه ذاهب إلى الغرب... وهكذا. وهذا كله معروف ومعتمد فى كل الدول والجيوش.
والآن فلنفترض أن د. عبد الحليم محمود، بالاتفاق مع قيادة الدولة والجيش، قد صرح بذلك دون أن تكون له حقيقة أصلا. فما وجه الخطر فى هذا؟ إن الجيوش جميعا تعلن أنها سوف تسحق عدوها سحقا وأنها قد أعدت له كذا وكذا دون أن تكون قد فعلت هذا حرفيا، كى تفت فى عضد جنود الأعداء وتدعم ثقة جنودها فى أنفسهم وتُحَمِّسهم وترفع طاقتهم على البذل والتضحية إلى أقصى درجة. أما إن جرت الأمور على غير ما يشتهى المبالغون فبالله عليك من يقف ساعتئذ عند هذه الأشياء؟ وذلك كله لو كان ما صرح به د. عبد الحليم محمود غير حقيقى، ومن باب رفع المعنويات القتالية عند الجندى المصرى ليس إلا. ذلك أننى لا أظن الرجل كاذبا أبدا، بل الذى أوقن به هو أنه رأى الرؤيا التى قصها علينا. ونحن بالخيار: إن شئنا عددنا ذلك بشارة، وإن شئنا قلنا إنها مجرد أحلام مما نحلمه جميعا فى مثل تلك الظروف التى تبعث على القلق وتذهب النفوس فيها تفتش عن بصيص من الأمل. وما ضرنا لو تمسكنا بهذا البصيص، وقد كان لا مناص لمصر فى تلك الأيام من خوض الحرب لا مخرج لها من ذلك، وبخاصة بعدما أكدت أمريكا أنه ليس من حق المهزوم أن يفتح فمه بكلمة مطالبا بالتفاوض؟[8]
ومن هنا وجدنا محمد حسنين هيكل يكتب: "إننا لن نصل إلى حل لأزمة الشرق الأوسط حتى على أساس قرار مجلس الأمن إلا إذا خلعنا إسرائيل وبالقوة من المواقع التى تحتلها على أراضينا منذ سنة 1967، وبالتالى نكون قد غيرنا الأمر الواقع الذى فرضته إسرائيل علينا نتيجة لمعارك الأيام الستة، وفرضنا بدلاً منه وضعًا آخر أكثر ملاءمةً لحقوقنا"[9]. لقد عملت القوات المسلحة كل ما فى وسعها، وكان لا يزال هناك قلق وخوف، وكان الشعب لا يكف عن مطالبة السادات بخوض المعركة. فهل يلام د. عبد الحليم محمود فى حكاية ما رآه فى منامه واتخاذه إياه دافعا إلى حسم قرار الحرب وطمأنة النفوس ورفع معنويات الجيش؟
أما الجعجعة بأن ذلك نشر للفكر الخرافى فإنى أحيل صاحبه إلى ما صنعه الاتحاد السوفييتى، ولا أظنه ينقد الاتحاد السوفييتى، فالرجل يسارى، والاتحاد السوفييتى هو قبلة اليساريين ومثلهم الأعلى. فماذا صنع الاتحاد السوفييتى فيما يتعلق بموضوعنا؟ لقد كان الاتحاد السوفييتى غارقا فى الحرب على أرضه مع ألمانيا، التى اكتسحت جيوشها دياره أثناء الحرب العالمية الثانية، فما كان منه، وهو الدولة القائمة على الكفر بالله واليوم الآخر والأديان، والتى تدرّس مادة الإلحاد كما ندرِّس نحن فى مدارسنا مادة الدين، والتى تعد الدين أفيونا للشعوب وتطارد الدين والمتدينين مطاردة لا هوادة فيها، والتى كانت قد أغلقت الكنائس منذ وقت طويل أو حولتها إلى مستودعات، ما كان منه إلا أن فتح الكنائس لجموع المؤمنين بالنصرانية من رعاياه لا لشىء إلا لكى يرفع معنويات الشعب السوفييتى، الذى يعرف أنه لا يزال يحن إلى الدين رغم كل ما فعله لقلع التدين من نفوس أفراده. ولما كان يريد من الناس أن يستبسلوا فى محاربتهم للنازيين، الذين يحتلون جزءا ضخما من أراضيه، ويعرف فى ذات الوقت أن طاقتهم على الكفاح والتضحية سوف ترتفع إلى مستويات عالية إذا ما أُطْلِقَتْ لهم حرية ممارسة الشعائر الدينية، فإنه قد اتخذ هذا القرار "المتخلف" (من وجهة نظر فؤاد زكريا وأمثاله) كى يكسب الحرب ويكسح القوات النازية من أراضيه. وهو ما كان، وهو أيضا ما تجاهله د. زكريا فلم ينبس بشأنه ببنت شفة، ولكنه رغم هذا نَبَسَ بكل بنات الشفاه إنكارا على شيخ الأزهر، الذى لم يفعل شيئا غير أن قال إنه شاهد فى المنام أن رسول الله قد عبر قناة السويس. فلا الشيخ قال: اتركوا التسليح والاستعدادات الحربية، ولا قال: انْدَفِعوا إلى محاربة الصهاينة اندفاعا أحمق لا يعرف التبصر ولا التخطيط، ولا يَأَّس المقاتلين وقنَّطهم من إحراز النصر كما فعل مقال هيكل الذى سلفت الإشارة إليه قبل قليل، والذى أخذ كاتبه يعدد فيه الموانع التى من شأنها أن تعرقل عبور الجيش المصرى لقناة السويس وخط بارليف، فضلا عن التوغل فى سيناء، وكذلك الخسائر الهائلة التى سوف نتكبدها كلما حاولنا التغلب على أى مانع من تلك الموانع المتتابعة مانعا وراء الآخر بحيث ساد الإحباط والسخط بين أفراد القوات المسلحة على خطوط النار عقب قراءتهم لذلك المقال.
ولعله من المناسب فى هذا السياق أن ننقل السطور التالية من كتاب "المتروبوليت إيليا كرم والروسيا"[10]: "في أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلى أثر حصار هتلر للمدن الروسية، وجه بطريرك روسيا ألكسـي الأول نداءً إلى العالم بضرورة إنقاذ روسيا من براثن النازية. بلغ النداء لبنان، فتأثر به المتروبوليت، خصوصا وأن علاقة مميزة كانت تربطه بروسيا من خلال اهتمامه بعائلات روسية من سلالة القيصر كانت تقطن في بيروت، وكان يشملها بعاطفته ويقدم لها المأوى والعمل. وقد ساعد على بناء عدة منازل لهذه العائلات على أرض في الحدث تابعة لأبرشيته. بلغه النداء أوائل عام 1942، فبكى واعتُصِر قلبُه غَمًّا، فلجأ إلى أمه السيدة العذراء في مغارة دير سيدة النورية في شمال لبنان حيث اعتكف ثلاثة أيام أمضاها في الصلاة والصوم والتضرع أمام السيدة العذراء لتُجَنِّب روسيا كأس الموت. وفي اليوم الثالث استجابت السيدة العذراء لتضرعاته، فظهرت أمامه وأودعته رسالة من شأنها تجنيب روسيا المخاطر المحدقة في حال الأخذ بها.
مُفَاد الرسالة أن على النظام الروسي الشيوعي، وكان يحكمه ستالين آنذاك، أن يعيد جزءا من الكنائس إلى البطريركية الروسية، ويفتح أبوابها أمام المصلين، وأن يحرر الإكليروس السجناء، وأن يسمح للإكليروس الذين يحاربون مع الجنود بممارسة الشعائر الدينية. على الفور استعان المتروبوليت بإحدى السيدات الروسيات، طالبا إليها ترجمة الرسالة إلى الروسية، ثم أرسلها إلى سـتالين وإلى القائمين على البطريركية الروسية آنذاك بواسطة الصليب الأحمر. وقد شاع أن ستالين تأثر كثيرا بالرسالة لدى استلامها، فأبلغها إلى السلطات العسكرية والكنسية، طالبا من الجنرال شباشنكوف، وكان رجلاً مؤمنًا، تطبيقها بحذافيرها، ولا سيما ضرورة الطواف بأيقونة "سيدة قازان" على كل الجبهات من أجل تبريكها. وبفضل هذه الرسالة السماوية اندحر الألمان على أبواب المدن الروسية، ولم يستطيعوا اختراق جبهاتها. وعندها ذاع صِيتُ المطران إيليا كرم في أرجاء البلاد، وسُمِّيَ على إثر ذلك: "منقذ روسيا". وفي عام 1947 زار المتروبوليت كرم روسيا بدعوة من ستالين ومن البطريرك أليكسي الأول حيث استقبل استقبال الملوك. وفي عام 1958 مُنِح أعلى وسام من الكنيسة الروسية مع البطريرك أليكسي الأول ومع الإمبراطور هيلاسيلاسى الأول، وهو وسام القديس فلاديمير من الدرجة الأولى".
وفى هذا الموضوع يكتب العقاد قائلا: "وجاء الامتحان الأول للعقيدة الراسخة الخالدة[11] أيام الحرب العالمية الثانية، فنادى الكفار بالوطنية وبالدين[12] أنها حرب الغيرة الوطنية، وأن المجاهدين أحرار فى العقيدة الدينية التى يُسِرّونها أو يعلنونها. ولم يكن جيل القيصرية هو الذى ألجأهم إلى التمسح بالوطنية أو بالحميّة الدينية فيقال إنه قديم شَبُّوا عليه وشَابُوا فلا مندوحة عنه فى إِبّان المحنة الداهمة، بل كان الجنود المقاتلون فى الصدمة الأولى من جيل بين العشرين والأربعين، أكبرهم لم يزد على الثالثة عشرة عند قيام الدولة الشيوعية، وتسعة أعشارهم على الأقل لم يتعلموا شيئا فى غير مدارسها، ولم يستمعوا كلمة من غير دعاتها. ولا تفسير لاستفزازهم إلا أنه إفلاس للمذهب المادى فى تكوين المجتمع وغرس الأخلاق فى نفوس لم يزاحمه عليها مزاحِمٌ من المهد إلى مُقْتَبَل الشباب"[13].
لقد لجأ د. فؤاد زكريا إلى الاتهامات الباطلة حين كتب يقول: "كان ما يثير الإشفاق فى هذه التعليلات هو أنها تهيب بقوى غير منظورة قيل إنها حاربت معنا. ولم يدرك مرددو هذه الأقاويل أن تصديقها معناه أن الذى انتزع النصر ليس هو الجندى المصري الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطيط والحساب الدقيق لم يكن له إلا دور ثانوى فى كل ما حدث". ذلك أن الشيخ عبد الحليم محمود لم يَدْعُ يوما إلى إهمال الاستعدادات العسكرية أو غير العسكرية، بل المعروف أنه كان يحض الضباط والجنود على بذل أقصى طاقاتهم من أجل الفوز فى تلك المعركة، مبشرا الشهداء بأن مصيرهم الجنة، ومحذرا من يتقاعس بأنه من المنافقين. ومعروف أن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار. وقد بذل الرجل جهودا كبيرة فى الطواف بمواقع القوات المسلحة المصرية المختلفة من طيران وبحرية وغيرها يحثهم على القتال ويرفع روحهم المعنوية ويحمسهم ويشحنهم بطاقة الإيمان والفداء، ويضع نصب أبصارهم الجنة التى وعد الله بها عباده المناضلين[14]. ليس ذلك فحسب، بل إن د. فؤاد زكريا يحاسب الناس على نياتهم، التى يتهمها بما تشير كل الدلائل إلى أنها تمضى عكسه. ذلك أنه ينطلق كائلا التهم للدكتور عبد الحليم محمود كَيْلاً دون أن يتوقف لحظة ليفكر فى ضرر الخطة التى يتبعها فى اتهامه للرجل، فيقول إن "تصديق هذه الأقاويل يعنى ما هو أشد من ذلك وأخطر، إذ إن قائلها يفترض أن ما حدث كان "معجزة"، وأن الأمور لو تركت لكى تسير فى مجراها الطبيعى لما أمكن أن يحدث ما حدث".
أرأيت، أيها القارئ العزيز، كيف "يفترض" فؤاد زكريا أن د. عبد الحليم محمود "يفترض" كذا وكذا، ثم ينطلق كالإعصار يحطم فى طريقه كل شىء فى سمعة الرجل وتفكيره وعقيدته وشخصيته بناء على افتراضاتٍ مؤسَّسةٍ بدورها على افتراضات لا وجود لها إلا على سن قلمه الجامح، وإن كانت ثمرة كل ما قال لم تزد فى نهاية المطاف على الصفر. وفى فتاوى د. عبد الحليم محمود نقرأ ما يلى: "والنتيجة التى أريد أن أنتهى إليها... إنما هى العودة إلى الإسلام: 1- ملاحظةً وتجربةً ومنهجًا وقوةً مادية: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة". العودة إلى الإسلام من تسخير الأرض وتسخير السماء وتسخير ما بين الأرض والسماء وتسخير الكواكب وتسخير الشمس والقمر وتسخير البحار والأنهار. العودة إلى الإسلام أقوى ما تكون فى الجانب المادى 2- والعودة إلى الإسلام والاعتزاز بالإسلام أقوى ما تكون فى الجانب الثقافى، سواء اتصل ذلك بالعقيدة أو اتصل ذلك بالتشريع أو اتصل ذلك بالأخلاق"[15]. وهو يلح بكل قواه على أن المسلمين آثمون أشد الإثم إن لم يتداركوا ما هم من تخلف علمى وصناعى بحيث يصبحون أقوى الشعوب والأمم[16]. ويفيض، ، فى الإلحاح على واجب الجهاد فى سبيل الدين والوطن والاستعداد التام لملاقاة أى عدوان فى أى وقت، ويحض الشباب على أن ينخرطوا فى الدفاع عن الوطن ويفدوه ويضحوا من أجله بكل ما لديهم من عزيز وغال، مؤكدا أن الجزاء هو الجنة، وأن مقام الشهيد عند الله سامق لا يلحقه مقام آخر، وأن للمرأة دورا فى الحرب يناسب طبيعتها، ولها عليه أجر كريم[17].
ثم هأنذا أستمع الآن إلى تسجيل حديث متلفز للدكتور عبد الحليم محمود فى أحد المساجد يتعرض فيه لما يسميه: "قانون النصر"، الذى ضرب المثل عليه بانتصارنا فى حرب رمضان المجيدة، فيلخصه فى الإيمان بالله والعمل الصالح، محددا العمل الصالح بأنه كل عمل نافع للمجتمع لا الصلاة فحسب، ومنه الإنفاق فى سبيل الله وعلى المحتاجين والفقراء، ومنه الاستعداد التام للمعركة قبل التفكير فى اقتحامها. ليس ذلك فقط، بل هناك دعوته الملتهبة إلى استغلال أرض مصر كلها بحيث نتمكن من زراعة عشرات الملايين من الأفدنة، ونحوّل صفرة الصحراء إلى خضرة، على الأقل بزراعة أشجار الزيتون، التى لا تحتاج، كما يقول، إلى رى إلا كل ثلاث سنوات، وهو ما نستطيعه بكل سهولة، إذ ليست هناك فى مصر بقعة لا ينزل فيها المطر لمدة تزيد عن ثلاث سنوات. على أن دعوته إلى التصنيع لا تقل التهابا عن دعوته إلى التوسع الزراعى، عازيا الرضا بالملايين الخمسة التى تقتصر الزراعة عليها فى بلادنا إلى التبعية للفكر الاستعمارى، الذى يريد بقاءنا ضعفاء اقتصاديا حتى نظل مضعضعين محتاجين، ومن ثم يسهل على الدول الغربية السيطرة علينا[18]. وهو ما ينسف ما قاله د. فؤاد زكريا عن الشيخ نسفا.
وحين يتكلم الشيخ عن حروب الردة وتفاؤل أبى بكر ويقينه بالنصر فى تلك الحروب رغم كل الظروف الصعبة آنئذ، وانشراح صدر عمر لقرار أبى بكر بخوض الحرب وثقته فى أنه هو الحق وأن النصر آت بمشيئة الله رغم اعتراضه على الأمر فى البداية، نراه يقول: "مما لا مِرْيَة فيه أن هذا التفاؤل وهذه الثقة كان يصحبهما الاستقرار الكامل والتدبير المحكم والملاحظة الدقيقة لكل صغيرة وكبيرة. حتى إذا ما انتهت التدابير إلى غايتها، وأُعِدَّت العدة على أكملها، فوَّض المؤمن من بعد ذلك الأمرَ إلى الله سبحانه واعتمد عليه"[19]. وهو يلح دائما على الأهمية البالغة للاستعدادات المادية والمعنوية للحرب ووجوبها التام، تستوى فى ذلك الدولة المواجهة للعدو مباشرة والدول العربية والإسلامية الأخرى مهما بعدت الديار، مع التركيز الشديد على دور الإيمان الحاسم فى المعارك وثماره المذهلة. وله فى ذلك لمحة ذكية، إذ يؤكد أن الطائرات لا تبعد عليها أية مسافة، وأن من ينكل عن الجهاد فقد نكل عن الدين، وأن الجهاد ألوان لا لون واحد: فقد يكون جهادا بالنفس، وقد يكون جهادا بالمال، وقد يكون جهادا بالوقت، وقد يكون جهادا باللسان، وقد يكون جهادا بالعمل والإنتاج[20].
وهو يقول فى هذا الصدد كلاما كبيرا لا يقوله إلا من يعرف قيمة الاستعداد للحرب، إذ بعد أن يستشهد بقوله فى سورة "التوبة": "لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ" يعقب قائلا فى شجاعة عاتية: "وأخرج الله سبحانه بهذه الآية الكريمة كل من تنكر للجهاد فردا كان أو دولة (يقصد أن الله أخرجهم من الإيمان). وتنكُّر الدول للجهاد إنما هو فى حقيقة الأمر تنكر من رؤسائها له. وإذا كانوا يبوؤون بالإثم قبل أن يبوء به شخص آخر فإن على شعوبهم أن تثور فى وجوههم ثورة تضطرهم إلى الدخول فى الجهاد بكل ما تملك الدولة من إمكانيات. فإذا لم يفعلوا فهم شركاء فى الإثم والخسران"[21]. فكيف، بعد ذلك كله، يتهم د. فؤاد زكريا شيخَ الأزهر بأنه يعتمد على الخرافات؟
والآن هذه بعض كلمات من خطبة جمعة السادس عشر من رمضان 1393هـ الموافق الثانى عشر من أكتوبر 1973م[22]، وكانت خطبة ملتهبة الحماسة والإيمان تحرك الجماد ذاته وتدفعه دفعا إلى الحرب والتضحية والفداء. قال : "أيها الإخوة المؤمنون، لقد رأى أحد الصالحين رسول الله ذاهبا إلى المعركة مع بعض علماء الإسلام، وكان مع هذا الرجل الصالح أحد الأصدقاء حين الرؤية، فقال له: أعلنها للملإ، بلغها للسيد الرئيس، وأعلنها لكل المسلمين... يا جنودنا البواسل، يا أمل الأمة ورجاءها، يا حماة كرامتها وشرفها، أنتم لا تواجهون العدو وحدكم، ولا تقاتلونه وحدكم. إنما يقاتل معكم ملائكة الله لأنكم تقاتلون فى سبيله وتنصرون دينه، وتردون المقدسات إلى أهلها. وكما قاتلت الملائكة مع صفوف المؤمنين يوم بدر فإنها اليوم تقاتل معكم، وتضرب أعداء الله معكم. وما يعلم جنودَ ربك إلا هو وحده . فإلى الأمام دائما، والله معكم موفقا ونصيرا"[23]. فما الذى يمكن أن ينتقده أى منصف عاقل على الشيخ فى هذا الكلام حتى لو كان قد اخترعه اختراعا؟ أم تراه كان ينبغى أن يصنع صنيع القذافى المخبول حين خاطب، عبر الإذاعة المصرية، الجنود على خط النار فى بداية المعركة فأخذ يثبط من العزائم بحجج سخيفة سُخْفَ عقله، واصفا الحرب بأنها من أكبر خطايا السادات، ومشككا فى القيادة المصرية؟ ولا أدرى كيف أذن له المسؤولون المصريون آنئذ بمخاطبة الجيش على هذا النحو المتخلف الخبيث. وقد كتب د. يوسف إدريس مقالا عن القذافى بعنوان "ذلك الرجل المحيِّر للبَرِيَّة" جاء فيه أن "الخلاف بين السادات والقذافى ما لبث أن انفجر، وجاءت حرب 73 ليشكك القذافى فى أمرها ويعتبر أنها كارثة وأن مصر قد هُزِمَتْ"[24]. ولعل السبب فى هذا الموقف الغريب والمريب من القذافى هو أن السادات لم يخطره بموعد بدء الحرب، فأرسل بعد بداية العمليات العسكرية بأيامٍ جِدِّ قليلةٍ يطلب سحب الطائرات الليبية التى كان قد سلمها بطياريها إلى مصر قبيل ذلك، وكأن الحرب لعب عيال فى الشارع! ولكن لماذا كان القذافى حريصا على معرفة ذلك الميعاد، وهو بعيد عنها، وليس متورطا فيها، ولا أرضه تحتلها إسرائيل؟[25]
ولعل د. عبد الحليم محمود يشير إلى رأى هيكل وأمثاله من المثبطين حين قال فى مقال له بعد ذلك إننا "قد بدأنا معركتنا "باسم الله، والله أكبر"، وكان شعارنا فيها: "الله أكبر". وكان نداء "الله أكبر"، وما زال، يدوى فى سيناء أينما اتجه الإنسان فيها. ولقد أرانا الله سبحانه من آياته الكثير فى هذه المعركة: لقد وفقنا فى التوقيت، وكان التوقيت آية من لدنه. ولقد وفقنا فى العبور، وكان العبور آية ضخمة تفضل الله تعالى بها علينا. لقد كانت آية العبور آية عجيبة فاق توفيق الله فيها كل تقدير. لقد كان تقدير العقلاء الحاسبين فيما يتعلق بالاستشهاد فى العبور أن الاستشهاد يبلغ حوالَىْ ستين الفا، وأننا لو عبرنا مع هذه الآلاف من الشهداء نكون قد نجحنا نجاحا عظيما. وكان تقدير المتفائلين أن الاستشهاد حَوَالَىْ أربعين ألفا، وأننا لو عبرنا بهذا العدد من الشهداء كان ذلك نجاحا لا شك فيه. وكان تقدير الواهمين يقدر له خمسة عشر ألف شهيد، وكان هذا التقدير فى رأى الآخرين وهما من الأوهام. وهؤلاء وأولئك يَرَوْن بمنطقهم الحسابى أن العبور ضرورة ولو اسْتُشْهِد نصف الجيش. إنها معركة مصيرية، ولا بد أن نضحى فيها بكل ما تتطلبه من أجل العبور، والعبور نجاح على أى وضع من أوضاع الاستشهاد.
إن خط بارليف أحكمه مهندسو الأمريكان. لقد أحكم صنعه عباقرة اليهود الأمريكان الذين تربَّوْا فى أرقى الأوضاع العالمية، وفى أرقى البيئات حضارة ومدنية، ولم يبخل اليهود عليه بمال، ولم يَدَعُوا صغيرة ولا كبيرة إلا وتدبروها. إنهم لم يتركوا شيئا للمصادفة، وسلحوا الخط: سلحوه بالعتاد، وسلحوه بالنابالم، وسلحوه بالرجال، وظنوا كعادتهم "أنهم مانِعَتُهم حصونُهم من الله"، وأعلنوا ذلك. لقد أعلنوا أن حصنهم خالد، وأنهم من ورائه لا يُقْهَرون، وأن كل تفكير لمهاجمته، مجرد التفكير، ضرب من الجنون. وأعلن الغرب معهم ذلك، وظن ذلك معهم الشرقيون والعرب، بل أيقنوا بذلك! ثم "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا"، وكان توفيق الله سبحانه مكذبا لتقدير العقلاء الحاسبين! وكان توفيق الله تعالى مكذبا لتقدير أصحاب الخيال المتفائلين! وكان توفيق الله مكذبا لوهم الواهمين. وعبرنا بتوفيق الله، وكان العبور آية من آيات الله، وكان عدد الشهداء أقل من مائتين!"[26].
ومن الطريف، بل من المضحك، أن يقول د. زكريا إن "فكرة إقامة دولة إسرائيل نفسها فكرة مضادة لكل المسار الحضاري الذى سلكه العالم المتمدين منذ نهاية العصور الوسطى حتى اليوم لأن هذه دولة تقوم علي أساس ديني عنصري، وتتجاهل الاتجاه إلى الفصل بين الدين والدولة، الذى كافحت من أجله المجتمعات الغربية وأصبح دعامة أساسية من دعامات الفكر السياسى والاجتماعى فيها"، وإن "إسرائيل فكرة تقوم أصلا على خرافة. وفى وسعنا أن نستغل الميول العلمانية القوية التى تسود المجتمعات الغربية فى محاربة إسرائيل بسلاح لن يكلفنا شيئا. ولكنه، فى نظر العقول المستنيرة، سلاح فعال إلى أقصى الحدود. أما إذا التجأنا نحن بدورنا إلى اللامعقول فإننا نضيع بذلك على أنفسنا فرصة رائعة للتفوق المعنوى على العدو فى نظر العالم المتحضر".
ووجه الطرافة، بل الإضحاك، فيه أن ذلك العالم المتقدم الذى يوهمنا د. فؤاد زكريا بأنه سوف يقف معنا (فى المشمش طبعا!) ضد إسرائيل متى ما بيَّنّا له أنها دولة تقوم على الأساطير والخرافات، هو نفسه العالم الذى خلق إسرائيل من العدم خلقا وساعدها على خلق أساطيرها وخرافاتها التى تدعم وجودها. فكيف بالله عليكم، أيها القراء، يحاول د. زكريا إقناعنا بأن هؤلاء القتلة الذين مَكَّنوا وما زالوا وسيظلون يمكِّنون إسرائيل من جَزْر رقابنا وبَقْر بطون نسائنا وهدم بيوتنا ومدارسنا ومستشفياتنا ومساجدنا وحقولنا وقتل شبابنا ورجالنا وأطفالنا هم أنفسهم الذين سيسارعون إلى نجدتنا والوقوف معنا ضد إسرائيل؟ هل يمكن أن يقف القاتل اللص ضد نفسه؟ الحق أن هذا كلام لا يمكن أن يصدقه إلا السُّذَّج الأغرار. والحمد لله ما نحن بسذج ولا أغرار. أما الفصل بين الدين والدولة فإنه كلام للتصدير لنا ولأمثالنا، وإلا فمن الذى يجيش جيوش التنصير فى بلاد المسلمين؟ أليست هى نفسها تلك الدول الغربية؟ ومن الذى يفرق فى التعامل بين دول العالم الثالث النصرانية ونظيرتها الإسلامية فيقف مع تلك ويقف ضد هذه؟ أليست هى نفسها تلك الدول الغربية؟ إن كلام د. زكريا ليذكرنى بالمثل الشعبى القائل: مُتْ يا حمار حتى يأتيك العَلِيق!
وأما محاولته اتهام الشيخ عبد الحليم محمود بأنه، بِقَصِّه رؤياه تلك، إنما يتجاهل جهود القوات المسلحة واستعداداتها للحرب ويعمل على نشر الفكر الخرافى اللامعقول فهى محاولة مقضى عليها بالفشل، إذ لم يقل أحد من القادة أو الضباط عن الشيخ ذلك ولا نظر إلى ما قاله هذه النظرة الزكرياوية. بل بالعكس رأينا بعض كبار القادة العسكريين المصريين يتحدثون عن الحرب فيذهبون إلى أبعد مما قاله. وهم، حين يؤكدون هذا، يستندون إلى أشياء يذكرون أنها حدثت لهم أثناء المعارك. ومن هؤلاء اللواء أركان حرب محمد الفاتح كريم، مساعد وزير الدفاع الأسبق وأحد قادة حرب أكتوبر، إذ سئل عن واقعة حدثت خلال إحدى المعارك التى دارت بين كتيبته وبين قوات العدو الصهيونى: ما قصة الرهط (الإسرائيلى) الذي هرب مذعورًا؟ فكان جوابه: هذا الرهط كان بالفعل متوجِّهًا إلينا، ولكنه وهو في طريقه لنا أحسَّ بأن هناك دعمًا مصريًّا، ففَرَّت الدبابات الصهيونية هاربةً! فعاد السائل يسأله: إذن هذا الدعم كان سببًا في نجاتكم واقتحام الجبل؟ فقال: لم يكن هناك دعم. هم ظنوا ذلك، وما حدث أن ما شاهدتْه دبابات العدو كانت بقايا الكتيبة اليمنى التي حاصرها العدو أثناء ذهابنا لاقتحام الجبل، وقد فَضَّل قائدها الاشتباك مع العدو عن الوقوع في الأسْر، فحدثت معركة حامية بينهم. وعندما جاء رهط دبابات العدو لم يشاهد إلا الدبابات المصرية التي كانت تحاول الاشتباك مع القوات التي كانت تحاصرها، فظنوا أنهم في طريقهم لدعمنا، ففروا هاربين. وهي آية من آيات هذه الحرب. فكان السؤال التالى: هل لهذا السبب أطلقت عليها: "حرب الملائكة"؟ فَرَدَّ قائلا: يحاسبني الله على ما أقوله لك، فقد شاهدتُ بعيني قوات تحارب في صفنا، وأعدادًا غفيرةً ليست قليلةً، وكانت ترتدي ثيابًا بيضاء. ولست وحدي الذي شاهدهم، بل كان معي جنودي. وعندي الدليل على ذلك، فبعد أن قمنا بتعطيل رهط دبابات العدو حدثت اشتباكاتٌ مع قوات صهيونية أخرى. وكما أشرت فإن تسليحنا كان خفيفًا جدًّا: عبارة عن مسدسات ورشاشات متوسطة. ولأنه ليس باليد حيلة إلا الدفاع عن أنفسنا فكنا نضرب رصاصنا، ونحن نعلم أنه لن يصيب أحدًا، ولكنها المعجزة حيث كنا نشاهد جنود العدو يتساقطون قتلى وجرحى، ولا نعرف من الذي يضربهم. إنها الملائكة التي حاربت معنا كما حاربت مع نبينا في غزوة بدر، وهو الموقف الذي تكرر بعد ذلك أثناء وجودنا في الجبل وقت الثغرة[27].
ومنهم اللواء يسرى عمارة، آسر عساف ياجورى، القائد الصهيونى الذى أحدث أسره ضجة فى العالم كله، إذ أبرز عمارة، فى لقائه بطلاب مدرسة ابن سينا الإعدادية ببور سعيد يوم الاثنين الموافق 25 أكتوبر 2010م، التدريبات القاسية التي كان الجنود يتدربون عليها وسط ظروف مناخية ونفسية صعبة، وخاصة بعد عودة الجنود من حرب اليمن وبعد حرب 1967م، والتدريبات على العبور ليل نهار، والروح المعنوية العالية للجنود بمجرد علمهم بالعبور، وكذلك القوة البشرية الخارقة التي يتمتع بها الجندي المصري، الذي كان يحمل مدفعا يفوق 120 كج بخلاف مهماته، التي تزن 50 كج ويصعد بها الساتر الترابي، الذي يفوق سبعة أدوار دون مساعدة من أحد. إلا أنه قد أضاف إلى ذلك كله البعد الإيمانى، إذ حين سئل: هل شاهد الملائكة تحارب مع الجنود وتعبر القناة؟ أجاب بأنه، عند بداية الحرب وأثناء عبورالجيش المصرى للقناة، شاهد جنودا يقفون وسط المعركة وقد أداروا ظهورهم للعدو ووجوههم إلى المقاتلين المصريين يهيبون بهم أن يتقدموا، كما كانوا يقرأون القرآن فوق التباب العالية والسواتر الترابية شرق القناة وسط زخات المدافع والطلقات، وكأنهم يصدون عن جنودنا هذه الطلقات بظهورهم دون أن يصابوا أو يقتلوا.
وكان اللواء عمارة واضحا فى تأكيده بأنه، إلى جانب الأبعاد العسكرية من تخطيط وإعداد وشحن معنوي وعسكري لجميع طوائف الشعب المصري، كان هناك أيضا بُعْد إيماني تجلى فيما ذكره الدكتور أحمد عمر هاشم فى خطبته يوم الجمعة الثامن من أكتوبر 2010م من مسجد السيد البدوي حين أشار إلى أن فضيلة الشيخ عبد الحليم محمود كان قد طلب قبل المعركة مقابلة الرئيس السادات، وأنه عند المقابلة دار الحوار كالتالي:
الرئيس السادات: فضيلتك طلبت مقابلتي لأمر هام. خير إن شاء الله؟
شيخ الازهر: يا سيادة الرئيس، الأمر خير إن شاء الله. وأنا أقول لك: اعبر قناة السويس علي بركة الله.
فدهش الرئيس السادات مما قاله شيخ الأزهر وسأله: ما الذي دفعك إلى أن تطلب مني عبور القناة، وبهذه الثقة؟
فرد عليه الشيخ قائلا : يا سيادة الرئيس، لقد رأيت في منامي هذه الليلة الرسول محمد يعبر القناة، ومن خلفه الجيش المصري"[28].
فها هما ذان قائدان عسكريان كبيران من المحاربين الذين يؤكد د. فؤاد زكريا أن كلام د. عبد الحليم محمود من شأنه تحقير الجهود التى قاموا بها تدريبا واستعدادا وتضحية، يقولان بملء الفم شيئا قريبا جدا مما قاله الشيخ الجليل. والآن نحن أمام طريقين: إما أن نصدق أن ما قاله ذانك القائدان العسكريان الكبيران قد حدث فعلا فى الواقع الخارجى وأنه ليس هلاوس بصرية مثلا، وعندئذ فلا مشكلة، وإما أن نتهمهما بأنهما شخصان يهلوسان أو يؤمنان بالخرافات مثل عبد الحليم محمود، وفى هذه الحالة سيكون الرد بأن جيشنا إنما كان يتكون فى قمته من أمثال هذين القائدين، وهو الجيش الذى أنزل بإسرائيل هزيمة ساحقة، وكانت أولى هزائمها فى تاريخها، الذى نرجو أن يكون قصيرا بمشيئة الله. أى أن النصر المصرى قد تم على أيدى المهلوسين أو المؤمنين بالخرافات، ولم يتم فى عهد عبد الناصر على أيدى اليساريين المنكرين لتلك الخرافات، اليساريين الذين تتلمذوا على يد هنرى كورييل اليهودى وأشباهه. وفى ميدان الألعاب الرياضية مثل يقول: الذى تَغْلِب به العب به. وأتوقف هنا فلا أزيد.
وقد أشار د. فؤاد زكريا إلى القيمة العظيمة لحماسة الجندى المصرى فى إحراز النصر فى حرب رمضان المجيدة، وجاءت إشارته فى سياق اتهام الشيخ عبد الحليم محمود بأنه يعمل على طمس الجهود العسكرية التى بذلها ضباطنا وجنودنا استعدادا للحرب مع الصهاينة، وفاته أن مقدارا كبيرا من تلك الحماسة مبعثه إيمان الجندى المصرى بالله واليوم الآخر، واعتقاده فى الجنة والنار، واقتداؤه برسول الله ورغبته فى أن يحشر معه يوم القيامة، وسعادته بوقوف الملائكة إلى جواره فى هذه الحرب، واستبشاره أن يكون الرسول قد عبر قناة السويس فى الرؤيا التى رآها الشيخ الجليل، حتى وجدناه يهتف وهو يعبر القناة ويحطم خط بارليف: "الله أكبر"، وهو ما انعكس بدوره فى كلمات أغانى تلك الفترة المجيدة. أما فى العهد السابق فقد قرأنا أنهم كانوا يقولون للمعتقلين المتدينين، حينما يصرخون مبتهلين إلى الله أن ينقذهم مما يتعرضون له من تعذيب وحشى: إن الله محبوس فى الزنزانة التى بجواركم، فكيف يغيثكم، وهو لا يستطيع أن ينقذ نفسه؟
فذلك هو الإيمان الذى يعرفه ويقتنع به ذلك الجندى المظلوم على يد د. فؤاد زكريا، وهو أوسع وأعمق وأنجع كثيرا من الإيمان الذى لا يفهم سواه الأستاذ الدكتور، والذى "يتمثل فى تلك الرغبة الجارفة التى ازدادت فى كل يوم إلحاحا طوال ست سنوات فى تحرير قطعة عزيزة من أرض الوطن، وفى تبديد خرافة "الجيش الإسرائيلي الذى لا يقهر" و"الجيوش العربية التى تفر من أول طلقة"، وفى مسح عار 1967. والأهم من ذلك كله الإيمان بأن هناك قضية عادلة تستحق أن يضحى المرء بحياته من أجلها. هؤلاء جميعا كانوا "جنود الخفاء" الذين وقفوا يحاربون معنا، والذين رفرفوا بأجنحتهم البيضاء الناصعة محلقين فى سماء المعركة، والذين تمكنّا بفضلهم من تقديم أروع الأمثلة فى الشجاعة، وتحقيق نتائج عسكرية لم يكن يتوقعها أشد أنصارنا تفاؤلا" بنص عبارة الأستاذ الدكتور. وواضح تمام الوضح طبيعة ذلك الإيمان، فهو إيمان لا صلة له بالله والملائكة واليوم الآخر، ولا ريب فى أنه أضيق أفقا من الإيمان بالله واليوم الآخر. وكان هذا بالمناسبة هو نوع الإيمان الذى كان يروجه كهنة اليسار فى عهد عبد الناصر. وقد حقت الهزيمة على جيشنا آنذاك، وكانت فضيحة مخزية لم يخجل لها أولئك الكهنة.
وقد لخـَّصَتِ الأمرَ كلَّه السطورُ التالية التى نقلتُُها عن أحد المواقع المشباكية: "لعل من أسباب النصر أنه أعيد تشكيل القوات المسلحة على أسس علمية، وتم شحن الجنود بالثقة فى أنفسهم وثقتهم فى النصر لأنهم يحاربون من أجل قضية عادلة. وكان للفريق محمد فوزى الفضل بعد الله فى ترميم ما انكسر من القوات المسلحة، وصار الجندى أقوى عزيمة لأنه يطلب إحدى الحسنيين: إما النصر أو الشهادة، وكانت فترة البناء مقدمة لحرب الاستنزاف الموجهة للعدو، وكأن الجنود يمتثلون قول المولى تعالى: "إن تكونوا تَأْلَمُون فإنهم يَأْلَمُون كما تألمون"، ولكن الفارق بيننا وبينهم كما يحكى القرآن: "وتَرْجُون من الله ما لا يرجون". ولا نستطيع أن نغفل أن أهم وأعظم سبب فى النصر أن الله كان معنا بعونه وتأييده، فكان الله أقدر من كل معوق للنصر. وكان من المبشرات أيضا أن العالم الجليل الشيخ عبدالحليم محمود قد رأى فى رؤيا أن سيدنا محمدا يتقدم صفوف الجند. وهذه البشرى تشبه تماما قتال الملائكة مع المؤمنين فى غزوة بدر".
وفى موقع "الحوار المتمدن"، الذى يكتب فيه من يجرون على سنة الإلحاد وإنكار الغيبيات ويرونها مظهرا من مظاهر التخلف والإيمان بالخرافات، قرأت لمن يسمى: أحمد القاضى أن "القرآن أكبر مخزن للخرافات، ولا يضاهيه في ذلك إلا التوراة. بعد غزوة بدر، التي حقق فيها محمد نصرا غير متوقع، كان يعلم بحكم الأعراف السائدة أن القرشيين سيأتون للثأر وأن معارك أخرى لا بد قادمة، فأراد أن يطمئن تابعيه ومصدِّقيه من المهاجرين والأنصار ويثبت قلوبهم بزعم أن ملائكة من السماء نزلت وحاربت معهم في بدر. وصاغ تلك الأكذوبة في آية من آياته بقوله: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ". ولعل من تمام الغيبوبة والانقياد الأعمى أن أحدا لم يسأله بعد ذلك: لماذا لم تنزل تلك الملائكة يوم غزوة أحد، التي هُزِم فيها محمد؟ هل منعها ربها أم راحت في غفوة ظهيرة؟ وإلى يومنا هذا تستخدم هذه الاكذوبة المحمدية لرفع الروح المعنوية للمقاتلين المسلمين حتى إن شيخ الازهر إبان حرب 1973 بين مصر وإسرائيل قال في تصريح مشهور نشر في الصحف الرسمية المصرية آنذاك بأن الملائكة حاربت مع الجنود الذين اقتحموا خط بارليف"[29].
والواقع أن هذه لو كانت، أستغفر الله، أكذوبة، فما أعظمها من أكذوبة! فكثيرا ما اعتمدت انتصارات الجيوش على الأكاذيب والشائعات والجواسيس والخداعات والبيانات التى تهدف إلى رفع الروح المعنوية لجنود الوطن وتحطيمها لدى جنود العدو دون أن يكون ما تتضمنه من أرقام ووقائع صحيحا البتة. ولكن ألا يلاحظ الكاتب المتمرد أن الإسلام ظل يشق طريقه صُعُدًا منذ سطعت أنواره إلى أن فتح البلاد شرقا وغربا وأنشأ حضارة عظيمة تحققت فى أقل وقت وبأبسط الوسائل، ودامت أطول زمن ممكن رغم هذا كله؟ وليقارن بين ذلك وبين الاتحاد السوفييتى، الذى يؤمن هو وأشباهه بأنه مثال على الدولة التى تعتمد على العلم، والعلم وحده، وتنبذ الخرافات والغيبيات، وتتخذ من الإلحاد أساسا لثقافتها، وليقل: أين الاتحاد السوفييتى الآن؟ وكيف يا ترى اختفى من الوجود فى بضع عشرات من السنين رغم علميته ونبذه للخرافات والأوهام؟ وكيف ثارت عليه الشعوب التى تخضع له حتى انهار تماما وصار فى خبر "كان"؟ أما غزوة "أحد"، التى يتظرف بأن الملائكة أثناءها كانت فى غفوة ظهيرة فلم تساند المسلمين، فقد فات ذهنَه المتعجِّلَ المتخبِّلَ أن النبى، فى بداية المعركة، كان قد نبه الجنود الذين كلفهم بحماية ظهر الجيش ألا يبارحوا موضعهم مهما كانت الأسباب والظروف، إلا أنهم للأسف اغتروا بالنصر الأولى الذى أحرزه المسلمون فى بداية الأمر، فلم يُصِيخُوا لأوامره واندفعوا مع سائر جنود الجيش المسلم لجمع الغنائم عند انكسار المشركين وفرار قواتهم، ظنا منهم أن المعركة قد انتهت بانتصار المسلمين انتصارا حاسما ساحقا، فما كان من خالد بن الوليد، الذى كان منسحبا بجنوده آنذاك وأبصر مؤخرة الجيش المسلم مكشوفة، إلا أن انقض على المسلمين من ورائهم، محولا بهذه الطريقة نتيجة الحرب بالنسبة للمشركين من هزيمة إلى نصر. فكان هذا درسا للمسلمين أن الله لا يقف معهم على طول الخط دون قيد أوشرط، بل لا بد لهم من الأخذ بالأسباب والالتزام الصارم بأوامر القيادة وعدم الاغترار بكونهم مسلمين، ونبذ الاعتقاد الساذج بأن النصر يسير دائما فى ركابهم مهما فعلوا. وأخيرا فلا بد من القول بأن من انهزم فى أحد ليس هو الرسول كما يقول الكاتب المتمرد، بل المسلمون بسبب إهمالهم لأوامره المشددة بعدم مبارحة أماكنهم خلف الجيش مهما كان الأمر.
لكنْ من الواضح أن المسمى: أحمد القاضى، فى تهوره واندفاعه وعدم تبصره فيما يكتب، لا يستطيع أن يدرك هذه الأبعاد، التى ألح عليها القرآن الكريم والحديث الشريف أيما إلحاح والتى أهملها المسلمون للأسف مع تطاول الزمن فحقت عليهم سنن الله فى الدنيا، فانحدرت أحوالهم ثمرةً لهذا الإهمال والتواكل وفقدان الطموح، والخنوع للقهر والاستبداد، والرضا بالمذلة والهوان، والتسرع الأحمق عند بعضهم إلى اتهام الإسلام بأنه هو سبب تخلفهم رغم ما هو معروف من أنه هو السبب الوحيد فى تقدمهم، وأن تخليهم عن مبادئه وقيمه وتمسكهم بدلا من ذلك بالقشور التافهة تفاهة عقولهم هو السبب فيما يقاسونه منذ قرون من التقهقر والانهيار. ولكن على من تغنى مزاميرك يا داود؟
وبعد، فإن موقف د. عبد الحليم محمود فى معركة رمضان المجيد يذكرنا بموقف مشابه لأبى الحسن الشاذلى حكاه الأستاذ الدكتور نفسه، إذ كتب أن ذلك الصوفى القديم كان حريصا، رغم كف بصره وشيخوخته، على أن يشترك فى معركة المنصورة التى خاضتها القوات المصرية ضد حملة لويس التاسع الصليبية، فكان يمر بين الجنود يشجعهم ويحثهم ويبشرهم بالنصر والجنة، ويقضى ليله مبتهلا إلى الله فى خشوع أن يُنْعِم على جيوش المسلمين بالفوز، إلى أن رأى رسولَ الله ذات ليلة من الليالى فى رؤيا طويلة، فلما أصبح الصباح هب يبشر الجنود بالنصر، وهو ما تحقق بفضل الله، وبفضل الصمود والكفاح والثبات والتضحيات الجسام والرغبة فى الاستشهاد لدى الجنود والقادة[30].
[1] هناك رواية أخرى لتلك البشارة مؤداها أنه شاهد فى رؤياه ملائكة يساندون جنودنا في الحرب. ومن الممكن جدا أن تكون الرؤيا قد ضمت هذا وذاك، ثم قَصَّ كل راوٍ جانبا منها فقط.

[2] انظر د‏.‏ أحمد عمر هاشم/ مع الإمام عبدالحليم محمود/ جريدة "الأهرام"/ الخميس 11 رمضان 1432هـ- 11 أغسطس 2011م/ الصفحة الأولى من "أنوار رمضان".


[3] قرأت أن الشيخ، حين عزم السادات على الصلح مع إسرائيل، قد وضع أمامه المحاذير التى ينبغى أخذها فى الاعتبار عند توقيع الصلح، وذلك أثناء خطبة صلاة الجمعة التى أداها الرئيس ورجال الدولة خلفه بمسجد الحسين وقتذاك، ثم أعادها فى لقاء خاص مرة أخرى، وأنه رأى فى زيارة السادات للقدس محاولة لحقن الدماء من منطلق القوة بعد تحقيق النصر (انظر أشرف أبو عريف/ شيخ الأزهر الحالى وغزالى العصر الإمام الأكبر عبدالحليم محمود/ مجلة "إنقاذ مصر" الناطقة باسم جبهة إنقاذ مصر/ 12 أبريل 2010م. وهذا رابط المقال: http://saveegyptfront.org/news/?c=154&a=29063).

[4] وهذا هو نص المقال، وللأستاذ عماد عبد الراضى الصحفى بجريدة "الأهرام" الفضل فى حصولى عليه وعلى سائر مقالات هيكل جميعا: "لقد كان لا بد اليوم من وقفة بالتحية أمام الرجال الذين قد يضع التاريخ فى أيديهم، ومع أى لحظة، مسؤولية وواجب القتال من أجل التحرير. وبعد هذه الوقفة نعود فى الأسبوع القادم بإذن الله إلى بقية حديث متصل عن "تأملات حول الصراع الكبير". لا بد لى اليوم من وقفة بالتحية أمام هؤلاء الذين يحملون الآن أغلى أمانة فى تاريخ مصر، هؤلاء الذين صدرت إليهم الأوامر ليكونوا على استعداد دائم يصل الليل بالنهار، والنهار بالليل، تحسبا للحظة قد تجىء فى أى وقت، هؤلاء الذين سوف ينطلقون مع عواصف النار والدخان والرعود الداوية والبراكين الهادرة على الأرض، والصواعق الطائرة فى السماء، هؤلاء العاملون فى صمت، المقتحمون فى جسارة، المضحون فى جلال، الزاحفون برغم كل شىء إلى هدف يتحتم بلوغه لأن أمن مصر وقدر مصر ومستقبل مصر معلقة به. وأمن مصر وقدرها ومستقبلها هى نفسها أمن وقدر ومستقبل أمة بأسرها تعيش نقطة فاصلة فى تاريخها. هؤلاء الرجال على جبهة القتال المصرية لا تكفى لتحيتهم اليوم عيون القصائد من دواوين الحماسة، ولا تنصفهم منابر الخطابة مهما اهتزت وارتجت عاطفةً وانفعالاً. شىء واحد قد يكفى فى ظنى، وقد يفى، وهو أن يكون شعبهم وأن تكون أمتهم على علم وبينة بالصورة العامة التى سوف يمارسون فيها دورهم الوطنى والقومى. ذلك أنه، بالقياس إلى حجم المهمة وظروفها، تبدو قيمة الجهد وتكاليفه. وهذا ما أحاوله فى هذا الحديث، وبالقدر الذى تسمح به متطلبات الأمان. وهذه لها أولوية لا يسبقها اعتبار آخر.
أولا: إن القوات المسلحة المصرية تواجه معركة من أصعب معارك التاريخ، وليست هذه صيغة مبالغة، وإنما هى وصف حقيقة. وعلينا أن نتمثل أمامنا طبيعة الأرض التى قد يجد الجيش المصرى نفسه أمامها، ثم ما أقامه العدو من مواقع على هذه الأرض استغلالا لطبيعتها. إذا فعلنا ذلك فسوف نجد معالم الصورة تطالعنا على النحو التالى: 1– مانع مائى خطير هو قناة السويس. 2– كثبان رملية على شاطئها الشرقى مباشرة تجمعت وتراكمت بالظروف الطبيعية، ثم أضافت إليها عمليات التطهير المستمرة فى قناة السويس، وكانت دائما تلقى بقاياها فوق الناحية الأخرى. وعلى هذه الكثبان أقام العدو خطه الدفاعى الأمامى على حافة الماء مباشرةً. 3– منطقة رمال مفتوحة بعد ذلك، ولكنها محاصرة بين شاطئ القناة وبين بداية المرتفعات نحو منطقة المضايق الحاكمة فى سيناء والتى لا تبعد عن القناة نفسها بأكثر من ثلاثين كيلو مترا. 4– منطقة المضايق نفسها، وهى طبيعة صخرية شديدة الوعورة، وعليها أقام العدو خط دفاعه الثانى. 5– الصحراء المكشوفة حول منطقة المضايق وما وراءها بما تقدمه من فرص لعدو يعتمد كثيرا على الطيران. هذه هى طبيعة الصورة التى يجب أن نتمثلها تماما ونتفهم تفاصيلها لأن ذلك سوف يتحدث عن الجهد البطولى لرجالنا بأكثر مما تتحدث عنه الكلمات. حتى إذا كنا ننحت هذه الكلمات من صميم القلوب تبقى الطبيعة أبلغ دائما من كل الأوصاف.
نلقى نظرات أكثر تأنيا على أهم هذه المعالم التى صنعتها الطبيعة أو أقامها العدو استغلالا لهذه الطبيعة، وبالذات قناة السويس والشاطئ الآخر. 1– قناة السويس: مجرى مائى بعرض مائتى متر وبعمق أحد عشر مترا يمتد على خط مستقيم بين بحر وبحر لا يتعرج مجراه ولا يدور، لا يرتفع منسوب الماء فى مكان منه أو ينخفض فى مكان آخر، وإنما مستوى واحد على طول الخط الذى رُسِم وشُقَّ وسط الصحراء. وليس هناك فوق هذا المجرى جسر أو معبر واحد. ومن هنا فإن ثقات العسكريين فى الغرب وفى الشرق يعتبرون مجرى قناة السويس واحدا من أهم الخطوط الدفاعية الطبيعية فى العالم من حيث كونه مانعا ضخما أمام المدافع، عائقا ضخما بنفس المقدار أمام المهاجم. 2– الشاطئ الآخر: على حافة الماء مباشرةً وعلى الكثبان الرملية، أو تحتها بمعنى أصح، أقام العدو خط دفاعه الأول تعزيزا لدور المانع الطبيعى، وهو قناة السويس. وكان العدو قد بنى على هذا الشاطئ ما عُرِف فى مرحلة سابقة باسم "خط بارليف"، وشلت المدفعية المصرية هذا الخط وفكت تماسكه، ولكن العدو أعاد بناء هذا الخط فى الشهور الأخيرة، وعلى صورة مغايرة تماما للخط القديم. وتقول تقديرات مراكز الدراسات العسكرية فى عواصم الغرب إن إسرائيل صرفت على إعادة بناء هذا الخط خلال الشهور الستة الماضية مبلغا يزيد على مائتى مليون جنيه إسرائيلى، أى ثلاثين مليون جنيه إسترلينى. وكان السبب فيما يقدر خبراء هذه المراكز هو أن إسرائيل، بعد إتمام بناء شبكة الصواريخ المصرية، غيرت تخطيطها للمعركة القادمة. قبل عدة شهور كان تخطيطها أن تحارب معركتها ضد أى عملية عبور مصرية فى منطقة الرمال المحصورة بين كثبان شاطئ القناة الشرقى وبين صخور الممرات. كانت مهمة خط بارليف فى تلك المرحلة هى تعويق أى عبور مصرى، أما الطيران الإسرائيلى فكانت عليه مهمة التصدى لقوات العبور المصرية أثناء تقدمها بعد ذلك لمحاولة ضربها. وبعد إتمام بناء شبكة الصواريخ المصرية غيرت إسرائيل تخطيطها وأصبح قرارها، فيما يقدر خبراء المراكز العسكرية فى الغرب، أن تكون المعركة الكبرى ضد قوات العبور المصرية على حافة الماء مباشرة بواسطة التحصينات وبواسطة المدرعات وراء هذه التحصينات. ومن هنا أعيد بناء خط بارليف وفق التصور الجديد للمعركة. معنى ذلك أن الجيش المصرى فى تقدمه سوف يواجه ما لم يواجهه جيش من قبل. وأظنها سوف تكون، فيما أذكر، أول مرة فى تاريخ الحروب يواجه أى جيش أمامه مانعا أو عائقا طبيعيا صعبا (قناة السويس) ثم خطا دفاعيا أقيم على حافتها مباشرةً (خط بارليف فى وضعه الجديد). من قبل واجهت الجيوش المتحاربة فى أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية عوائق مائية: نهر الفولجا فى الشرق أو الراين فى الغرب مثلا. ولكن هذه الأنهار الطبيعية لا تشبه ولا تقارب قناة السويس عمقا أو عرضا أو مجرى. ومن قبل واجهت نفس الجيوش المتحاربة فى أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية خطوطا دفاعية حصينة: خط ماجينو، الذى أقامته فرنسا، أو خط سيجفريد، الذى أقامته ألمانيا مثلا. ولكن هذه الخطوط الحصينة لم تكن قابعة على حافة مانع مائى، خصوصا إذا كان هذا المانع هو قناة السويس. 3– إذا ألقينا بعد ذلك نظرة على منطقة الرمال المفتوحة فيما يلى الكثبان الرملية المطلة على حافة قناة السويس فإن هذه الأرض المحصورة بين كثبان الرمال وبين مرتفعات منطقة المضايق هى الأرض التى كان العدو فى مرحلة سابقة من تخطيطه يريدها مسرحا أساسيا لعربدة طيرانه ضد قوات أى عبور مصرى. وبعد إتمام تركيب شبكة الصواريخ المصرية غير العدو تخطيطه لأن مدى هذه الصواريخ يمكن أن يغطى هذه المنطقة ويجعل عمل الطيران فوقها محفوفا بالمخاطر. وهكذا فى التخطيط الجديد، فيما تقول مراكز الأبحاث فى الغرب، نقل العدو مسؤولية العمل فى هذه المنطقة من الطيران إلى المدرعات. أصبح قراره أن يواجه الصدمة الأولى ضد قوات العبور المصرية من خط التحصينات على حافة القناة لكى تكون هذه التحصينات طبقا للتصور الإسرائيلى بمثابة مصفاة. وما ينفذ من المصفاة تتلقاه قوات المدرعات فى المنقطة المفتوحة المحصورة بين كثبان الرمال وبين بداية المرتفعات نحو المضايق. 4– والمضايق بعد ذلك هى خط الدفاع الثابت الثانى بعد الخط الأول المرتكز على حافة القناة. ومنطقة المضايق سلاسل جبال تتشابك وتدور حول بعضها. وهى، فى تقدير كل المهتمين بدراسة سيناء، المفتاح الرئيسى للسيطرة على هذه الصحراء المقدسة. وكانت منطقة المضايق هى هدف عملية الإنزال المشهورة فى ممر ميتلا سنة 1956. وكان الإنزال فيها ثنائى الهدف: احتلالها ومنع الكتائب المصرية القليلة فى سيناء وقتئذ من التمركز فيها لوقفة دفاعية تصد الجيش الإسرائيلى عن الوصول إلى قناة السويس. ثم إن احتلالها، إذا تم بعملية إنزال سريعة، يعطى الإسرائيليين فرصة ليعلنوا أن قواتهم وصلت إلى بعد خمسة وثلاثين كيلو مترا من قناة السويس. وكانت هذه هى الإشارة المتفق عليها لتتم المؤامرة الثلاثية. ويعلن إيدن رئيس وزراء بريطانيا، وموليه رئيس وزراء فرنسا أن بلادهما سوف تضطر إلى التدخل لفصل المتحاربين حول القناة ولحماية هذا الممر الهام للملاحة العالمية. 5– وأما الصحراء المكشوفة من حول منطقة المضايق وما وراءها فليست عليها موانع طبيعية حتى بلوغها خط الحدود المصرية الدولى تقريبا. وفى هذا الاتساع الصحراوى الشاسع والمفتوح فإن إسرائيل تعتمد على المناورة بالمدرعات وعلى تركيز الطيران. هكذا فإن خطة الدفاع الإسرائيلى أصبحت تعتمد على خطين ثابتين: الأول القناة وخط بارليف، والآخر جبال المضايق. كذلك فإنها تعتمد على منطقتين مكشوفتين لعمل المدرعات والطيران: أولاهما المنطقة المحصورة ما بين كثبان الشاطئ الشرقى إلى المضايق، والأخرى الصحراء المفتوحة من حول المضايق وما يليها. هذه لمحات سريعة كأنها جوانب مشهد يلتقطه البصر فى طرفة عين، ويمضى بعده بسرعة إلى بقية مشاهد الصورة العامة التى سوف يمارس فيها الجيش المصرى دوره الوطنى والقومى.
ثانيا: إن الجيش المصرى سوف يواجه المعركة وحده. سوف تصدر بيانات تعلن عن رفع درجة الاستعداد فى جيوش عربية أخرى، وسوف تنطلق إعلانات تذيع أن قوات هذا البلد أو ذاك على استعداد للتوجه إلى ميدان القتال، ولكن من سوء الحظ أن المعارك لا تُخاض بالبيانات والإعلانات، ومن سوء الحظ أكثر أن هذه البيانات والإعلانات لا تساعد الجيش المصرى بقدر ما تساعد عدوه. وللعقيد معمر القذافى فى هذا التقليد العربى رأى نافذ، ولعله رأى جارح، يقول فيه: "لماذا ندعى بعكس الحقيقة؟ لماذا لا نقول برجولةٍ إن الجيش المصرى وحده فى الميدان؟ المشكلة أننا حين نغالط وندعى بوجود غيره فإن كل ما نفعله هو أننا نوحى للعالم أن إسرائيل محاصرة بعدة جيوش وأن دولا عديدة تكالبت عليها، وبالتالى فإننا نفتح لها الباب لكى تشد غيرها معها فى المعركة. يبقى الجيش المصرى أمامها وحده، وتستغل هى الأوهام التى نطلقها نحن فتجئ بغيرها يساعدونها بالطريق المباشر أو غير المباشر على أساس خرافة أن الأعداء أطبقوا عليها من كل جانب! لماذا لا نقول الحقيقة ولو مرة واحدة؟ ونقولها ولو حتى بالسكوت ما دمنا لا نملك غيره؟".
ثالثا: إن الجيش المصرى سوف يواجه الجيش الإسرائيلى بأكمله، وكل المعلومات، مرة أخرى لدى مراكز الدراسات العسكرية فى الغرب، وفيها الثقات والخبراء، تشير إلى أن ذلك هو المعنى الذى يمكن استخلاصه من توزيع القوات الإسرائيلية على الجبهات العربية: الجبهة الأردنية ليس عليها غير قوات الأمن الداخلى فى إسرائيل. الجبهة السورية ليس عليها حتى هذه اللحظات غير لواء واحد. والجبهة المصرية أمامها الآن فى سيناء، غير ما يمكن دفعه بسرعة فائقة من القوات الاحتياطية، ما يلى: فرقتان من المشاة الميكانيكية (35 ألف جندي). فرقة مدرعة (أربعمائة دبابة بأطقمها). لواء قوات كوماندوز محمول جوا بالهليكوبتر (70 طائرة هليكوبتر وثلاثة آلاف من قوات المظليين). مائة قاذفة ومقاتلة فى مطارات سيناء القريبة. ما بين ثمانمائة إلى ألف مدفع ثقيل. هذا غير قوات خط التحصينات القابع على حافة الماء مباشرةً وحقول ألغامه، ونطاقات أسلاكه الشائكة، وأسلحته، وما زود هذا الخط نفسه به من المخترعات وحيل الخداع والتمويه. وهذا أيضا غير ما تستطيع إسرائيل دفعه بسرعة إلى مسرح العمليات المصرى فى حالة اتساع مدى القتال واضطرارها إلى التعبئة الجزئية أو العامة. وفى هذه الحالة فإن الجبهة المصرية سوف يكون عليها أن تتحمل طاقة ثلاث فرق مدرعة (1300 دبابة). وخمس فرق من المشاة الميكانيكية، وقوة السلاح الجوى الإسرائيلى كلها، أى حوالى 600 طائرة بينها الفانتوم وسكاى هوك والميراج وغيرها.
رابعا: إن الجيش المصرى سوف يقوم بما يتحتم عليه أن يقوم به، ويواجه ما يتحتم عليه أن يواجهه بعد قرابة أربع سنوات حافلة. 1– كان عليه فى بدايتها أن يتحمل خطايا هزيمة لم يكن الذنب فيها على المقاتلين (وتلك مسألة سوف يدور فيها بعد المعركة بحث طويل يضع الحق فى مكانه، ويكتب التاريخ كما ينبغى أن يكتب التاريخ إنصافا وانتصافا). 2– كان عليه أن يتحمل بعد ذلك استفزازات لا قبل لمقاتل شريف بتحملها، ولكنه تقبلها بمنطق الكاظمين الغيظ انتظارا للحظة يستطيع فيها أن يرد على النار بالنار، ولكى يصحح تصورا شاع جعل عدوه أسطورة وجعل منه هو عبرة. والتصور بشقيه على غير أساس: فلا عدوه يستحق أن يكون أسطورة، ولا هو يستحق أن يكون عبرة! 3– وكان عليه فيما تلا ذلك أن ينصرف لعملية إعادة بناء نفسه واستيعاب سلاحه واستعادة الثقة فى المثل الأعلى. وكانت عملية إعادة البناء واستيعاب السلاح واستعادة الثقة فى أصعب الظروف الطبيعية والإنسانية: من تحمل قسوة الصحراء إلى تحمل سيطرة العدو الجوية على السماء. 4– وفى هذه الفترة واجه تجربة بالغة القسوة نفسها عليه، تلك هى أن العدو راح يتجنبه وينفذ من فجوات بعيدة إلى عمق مصر يحاول منها أن يطول المرافق الحيوية أو يتجاوز ذلك إلى الإغارة على أهداف مدنية يقتل فيها الرجال والنساء والأطفال فى المصانع وفى المزارع وفى المدارس. 5– وتوقفت قسوة التجربة النفسية تفسح الطريق لتجربة أخرى. تحول العدو من غارات العمق وراء الجبهة، وصب جنونه كله على شريط رفيع من الأرض بمحاذاة الشاطئ الغربى لقناة السويس وبعرض ثلاثين كيلو مترا بعد ذلك عمقا. على هذا الشريط المحدد، وهو ركيزة الخط الأمامى من الجبهة المصرية، كان متوسط غارات العدو اليومية 150 غارة، وكان معدل القصف متوسطه 1200 طن متفجرات كل يوم، ولأكثر من مائة يوم متواصلة. وكانت طاقة التحمل المصرى مجيدة حتى استطاعت طلائع شبكة الصواريخ أن تأتى بأسبوع "تساقط الطائرات" المشهور، وهو الأسبوع الأول من يوليو1970. 6– ثم وجد نفسه مدعوا بالتطورات أن ينتقل من عصر إلى عصر فى الحروب: من عصر الحروب التقليدية إلى عصر الحرب بالإلكترونيات، ومن عصر الرؤية النهارية بالنظارات المكبرة إلى عصر الرؤية الليلية بالأشعة تحت الحمراء. 7– وفجأة، والدنيا هائجة مائجة، رحل قائده الأعلى. إن الدنيا اهتزت كلها لرحيل جمال عبد الناصر، ولكن ما من مكان كان وقع الصدمة فيه مروعا كما كان فى الجبهة. كانت الصلة بين عبد الناصر والمقاتلين صلة من نوع خاص. كان المقاتلون يعرفون أن الرجل الذى يمسك فى يده بزمام المعركة قادر على تحريك عوالم بأكملها، وذلك عن طريق مكانته وشخصيته التاريخية التى تملأ منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وتؤثر منها على العالم. كانت هناك هالة ثقة صنعتها التجارب تحيط به فى كل وقت. كان بشكلٍ ما رجل الأوقات العصبية، وكان رجل المعجزة فى زمان بعد عهده بالمعجزات. لكن فترة الانتقال من المعركة بوجود عبد الناصر إلى المعركة على طريق عبد الناصر مرت بأمان. 8– وكان مطالبا فى النهاية بأن ينتظر السياسة تحل الأزمة بالسلم إذا لاح للسلم طريق، أو تصدر إليه الأمر بالقتال إذا استحال طريق السلم، وتكون على الأقل قد مهدت له الأجواء كى يؤدى مسؤوليته فى أكثر الظروف السياسية ملاءمةً لإنجاح مهمته، ومع المراعاة الكاملة لإطار التوازن الدولى الراهن، وهو إطار لا يستطيع أحد أن يتجاوزه بسهولةٍ أو بيسر.
خامسا: وطول الطريق، ومنذ البداية وإلى النهاية، فإن الجيش المصرى كان يراوده إحساس أصيل بالانتماء إلى شعبه. وكان شعوره عميقا بمدى التضحيات التى قدمها هذا الشعب حتى من قوت يومه لكى يوفر للجيش كل ما هو ضرورى. وكانت القوات تتشوق مرات كثيرة إلى خوض المعركة ولو قبل تمام الاستعداد لها لكى تختصر بعض العبء على الشعب، وكانت فى ذلك على استعداد لأن تدفع الفارق من تضحيات بالدم إذا دعا الأمر. وذلك شعور لا يستطيع أن يحس به غير الذين يستطيعون أحيانا أن يلمسوا نبض المقاتلين ويتسمعوا بشفافية العاطفة على دقاته وخفقاته. وتلك ميزة من ميزات جيش الشعب يختلف بها عن غيره. فهو ليس جيش حزب ولا حزب جيش، كما أنه ليس أداة قمع لسلطان أو طبقة فوق الطبقات. وخلال الأيام الأخيرة، ومنذ أعلن أنور السادات فى خطابه إلى الأمة يوم الأحد 7 مارس، أنه "قد جاءت اللحظة التى يتحتم فيها على كل مصرى أن يقف ليؤدى واجبه" فإن أمة بأسرها كانت تحاول من بعيد أن تصغى لأحاديث الجنود. وكانت الأصداء من هناك حماسة صافية، حماسة الشجاعة المبرأة من كل أثر للمزايدة التى شوهت مع الأسف وجه النضال العربى المعاصر. هناك لم تكن حماستهم مزايدة. إنهم هناك على خط النار. لا يزايدون لأنهم هناك على خط النار.

1 وهذا نص عبارة "الويكبيديا" حرفيا:
"He was known for his modernizing approach to teaching at Al Azhar, preaching moderation and embracing modern science as a religious duty".

[6] د. فؤاد زكريا/ معركتنا والتفكير اللاعقلى/ جريدة "الأهرام" المصرية/ 18 نوفمبر 1973م/ 7. وقد أمدنى بهذا المقال أ. عماد الدين عبد الراضى الصحفى بجريدة "الأهرام"، فله أطيب الشكر.


[7] بل لقد أفتى د. عبد الحليم محمود بأن الجندى الذى يقع فى يد الأعداء ويعلم تماما أنه لن يستطيع الصمود أمام تعذيبهم له لإجباره على إفشاء أسرار جيش بلاده فينتحر لهذا السبب كيلا يضعف ويكشف عورات جيشه لا حرج عليه فى ذلك الانتحار. وهى فتوى جريئة بلا شك.

[8] وعلى الناحية الأخرى كان الصهاينة أيضا يقولون إن الملائكة قد وقفت معهم فى تلك الحرب. ولكل طرفٍ الحق فى أن يدير معركته بالطريقة التى يرى أنها توصله إلى النصر. أما الكلام فى هذا السياق عن الخرافات فهو ضيق أفق وتنطع. وأنقل الآن بعض ما قرأته فى موقع "مصريانو" (http://msriano.com/) بتاريخ 6/ 10/ 2012م تحت عنوان "تفاصيل قصة الملائكة التي قاتلت مع الجنود في حرب اكتوبر": "في المقابل اهتمت إسرائيل بهذه القضية وتناولتها في بعض من الأعمال الدرامية سواء الإذاعية أو التليفزيونية، زاعمة أن الملائكة بالفعل كانوا متواجدين في هذه الحرب، إلا أنهم حاربوا مع الإسرائيليين، وليس مع مصر، بعد الانتصار الكاسح الذي حققته القوات المصرية والسورية في أول أيام الحرب من أجل إنقاذ اليهود من العرب. واهتمت الدراما الإسرائيلية بهذه القضية، وعرضتها في أفلام أنتجتها خصيصًا لمناقشة هذه القضية، مثل أفلام "حرب الغفران" أو "الانتصار" أو "دموع في سيناء" إلى هذه الدعاوى، زاعمة أن الله يحب إسرائيل، وبالتالي لم يسمح بهزيمتها. ومن هنا كانت مشاركة ملائكة الله وجنود السماء مع اليهود من أجل الانتصار الإسرائيلي، خاصة مع الهجوم المضاد الذي نفذته ظهيرة يوم 12 أكتوبر/تشرين أول بعد 6 أيام من الانتصارات المصرية والسورية المتوالية.
الغريب أن صمت الشيوخ الإسلاميين عن مناقشة هذه الظاهرة سواء بالسلب أو الإيجاب قابله على الجانب الآخر تأكيد من الحاخامات اليهود بوجود عدد كبير من جنود السماء الملائكة في حرب أكتوبر، وأن الله كان رحيمًا باليهود، وساعدهم بعد الهزيمة، وأرسل لهم هؤلاء الملائكة. جدير بالذكر أن العديد من الفصائل اليهودية المتشددة تهتم بالملائكة وتضعها في مكانة أرفع من النبي موسى نبي اليهودية باعتبار أن هذه الملائكة تمثل القوة لليهودية، وهي الرسالة الأهم لليهود، وأهم حتى من رسالتهم الدينية". وهذا رابط المقال: http://msriano.com/News/Articles.aspx?ID=18488.

[9] محمد حسنين هيكل/ مقال "بصراحة: (6) حالة اللاسلم واللاحرب ما العمل؟"/ الأهرام/ 21 يوليه 1972م.

[10] صدر الكتاب عن دار الطباعة والنشر التابعة للكنيسة الأرثوذكسية الروسية في موسكو عام 2005 باللغتين العربية والروسية.

[11] يقصد الماركسية على سبيل السخرية.

[12] يقصد الماركسيين، إذ يقولون عن عقيدتهم الإلحادية إنها عقيدة عالمية لا وطنية.

[13] عباس محمود العقاد/ الشيوعية والإنسانية فى شريعة الإسلام (ضمن المجلد الثالث عشر من الأعمال الكاملة)/ ط2/ دار الكتاب اللبنانى ببيروت، ودار الكتاب المصرى بالقاهرة/ 1411هـ- 1991م/ 236.

[14] انظر ما كتبه عن هذا الموضوع د. رءوف شلبى فى كتابه: "شيخ الإسلام عبد الحليم محمود"/ دار القلم/ الكويت/ 1402هـ- 1982م/ 545 وما بعدها.

[15] فتاوى الإمام عبد الحليم محمود/ ط5/ دار المعارف/ 1/ 1998م/ 27- 28.

[16] انظر مثلا المرجع السابق/ 1/ 16.

[17] انظر "فتاوى الإمام عبد الحليم محمود"/ ط5/ دار المعارف/ 2002م/ 2/ 105 فصاعدا.

[18] المرجع السابق/ 2/ 483 وما بعدها.

[19] الجهاد فى الإسلام/ ط2/ دار المعارف/ 1988م/ 75.

[20] انظر المرجع السابق/ 15- 18، 137 وما بعدها.

[21] الجهاد فى الإسلام/ 137.

[22] بعد ستة أيام من بدء الحرب.

[23] الجهاد فى الإسلام/ 146، 151.

[24] د. يوسف إدريس/ إسلام بلا ضفاف/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1989م/ 207.

[25] فى 23 يوليه 2012م نطالع بموقع "مغاربكم: magharib.com" حوارا مع وزير الخارجية الليبى السابق عبد السلام التريكى قال فيه: "كان القذافي مستقبلاً وزير الدفاع في غينيا كوناكري حين أُبْلِغ باندلاع حرب 1973، فسارع إلى القول: "بدأت المسرحية". كان القذافي مطلعا على وجود استعدادات للحرب، وقدمت ليبيا بعض المساعدات بما فيها قوارب استخدمت في العبور، لكنه لم يكن مطلعا على موعد الحرب. وكان لديه شعور بأنها مدبرة. على رغم ذلك انتقل القذافي إلى القاهرة وزار غرفة العمليات. استنتج معمر أن الجيش المصري لم يهزم عسكريا، بل بسبب القرار السياسي المصري. بدأ التوتر في العلاقات وبلغ مرحلة الصدام على الحدود". وهذا رابط الحوار لمن يريد من القراء الاطلاع عليه كاملا: http://www.magharib.com/node/27024

[26] الجهاد فى الإسلام/ 161- 163.

[27] يستطيع من يريد من القراء الاطلاع على الحوار كاملا أن يجده فى منتدى "voot" على الرابط التالى: http://voot.eb2a.com/vb/archive/index.php/t-3.html، وكذلك فى موقع " دار العدالة والقانون العربية" بالمنتدى العام التابع للأقسام العامة تحت عنوان "مصر تتحدث عن نفسها- 10 رمضان 1393هـ".

[28] يمكن مطالعة التفاصيل كاملة فى موقع المدرسين المصريين المبعوثين للخارج على الرابط التالى: http://www.egyscholars.com/vb/showthread.php?t=10118. وفى مسلسل "العارف بالله الشيخ عبد الحليم محمود"، الذى قام ببطولته حسن يوسف، نسمع الرئيس أنور السادات، قبل أن يخبره الشيخ بموضوع الرؤيا، يقول للشيخ إنه قد أخذ قرار الحرب. كما يتكلم السادات عن الاستعدادات المادية والتعبئة العسكرية التى استعدها الجيش، وحاجة الجنود مع هذا إلى التعبئة الروحية، متمنيا أن تصدق الرؤيا كما رآها د. عبد الحليم، رحمهما الله.

[29] أحمد القاضى/ بائع الأفيون الفلسطينى/ الحوار المتمدن/ العدد 2937/ 7 مارس 2010. وقد صححتُ الأخطاء الإملائية الفادحة التى كان يعج بها النص.

[30] انظر د. عبد الحليم محمود/ سلطان العارفين أبو يزيد البسطامى/ ط2/ دار المعارف/ 79- 80. على أن هذا لا يجعلنى أقف مع كل ما قاله أو عمله الشاذلى على ما سوف يتضح لاحقا فى هذا الكتاب، إذ هذه نقرة، وتلك نقرة أخرى. وهو أيضا ما اتبعناه مع د. عبد الحليم محمود نفسه رغم إجلالى له.


(هذا البوست فصل من كتابى: "عبد الحليم محمود - صوفى من زماننا")