الفنانة التشكيلية كلود عبيد

بقلم: حسين أحمد سليم

كلود عبيد, كاتبة باحثة في تاريخ و تقنيّات الفنّ التّشكيلي، ناقدة بإبداع فنّي من أجل الإبداع في الفنّ، فنّانة تشكيليّة مُتجدّدة مع الإحتفاظ بأصالتها، و نقيبة الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين، جمعت ولها ثُلّة من الرّوّاد و المبدعين...
تتمتّع بشخصيّة نسائيّة مميّزة رُبّما قلّ نظيرها، تتمثّل بكينونة فكريّة و وجدانيّة ثريّة و غنية الثّقافة، تكتنز بخلاصة الأفكار المهمّة، همّها الأولويّ الذي تسعى له، حركة فعل الإبداع و الإتّقان في العطاءات و المساهمات...
نجحت في مسيرتها الإنسانيّة و الإجتماعيّة إلى حدّ بعيد، و تخطّت في وعي جرأتها و دراية عرفانها، الكثير من المفاهيم التّقليديّة و الموروثة في المجتمع المعاش، و أثبتت في حركة يوميّاتها و علاقاتها و ممارساتها و تواصلها، أنّ المرأة التي أبدع الخالق في تكوينها، هي أمّ الحياة و نصف المجتمع، قادرة بوعيها الثّقافيّ و عرفانها الإنسانيّ على تشكيل مستقبلها بإمتياز...
من يُجالس كلود عبيد الإنسانة، تطمئنّ نفسه لها كمحدّثة لبقة، و كأنّه في حضور روحيّ تتجلّى في الصّور الأخرى... تتعامل مع الجميع وفق الأصول الإنسانيّة و الإجتماعيّة، ترتسم الإبتسامة اليانعة على محيّاها كلوحة فنّيّة تتماهى بإشراقتها، و تعرف بحدسها الباطنيّ و قراءاتها التفرّسيّة للآخر و إدراكها الفلسفيّ الرّوحيّ، كيف تتماشى خلقا رفيعا و مناقب عظيمة مع جليسها، و كيف تستدرج محدّثها منطقيّا ليتقبّل أفكارها بلباقة لافتة، و ينحاز إلى عالم ريشتها الفنّيّة و أطياف ألوانها و ما تنطوي عليه لوحاتها الفنّيّة...
أتت كلود عبيد من قلب الرّيف القروي الشّمالي اللبناني، العابق بطيب النّفس الإنسانيّة، تحمل كلّ السّمات السّامية في مطاويها، أتت بعنفوانها و إبائها من بلدة جبرايل المتربّعة بسكينتها في نطاق محافظة عكّار... تكاملت بقرينها محمّد عبيد و تزوّجت كما مثيلاتها و كوّنت أسرة من ولدين، و أعطت بيتها الأولويّة في الإهتمام... و من رحم مسؤوليّتها الأسرويّة التّكليفيّة، إنطلقت لتحقيق طموحاتها و ما يُراود وجدانها في المدى اللامتناهي، بأن تجعل عوالم الإنسانية بكاملها أسرة لها عن طريق ريادتها عالم الفنّ التّشكيلي و الكتابة الإبداعيّة الفنّيّة الأدبيّة البحثيّة الهادفة...
و منذ وعت نشأتها في مجتمعها، إختارت رفيقين لأيّامها يواكبانها في مساراتها, فكان القلم صديقها الأوفى في دفق محارفه و كلماته، و كانت قرينتها الرّيشة في بوح تشاغفها الفنّي، و قد بادلتهما الوفاء مودّة و رحمة فاعلة، فأحبّت كليهما حتّى حبّ العشق قداسة و عشق الحبّ طهارة... و غدت ترسم العالم من حولها بالرّيشة الحانية و موسقات الألوان، و ترسم هذا العالم عفقات كتابة بالكلمة و تجويد المحارف بمنظومة الأبجديّة... و في قناعتها و إطمئنانها ترى أنّ مدى تجويد و تقنيّة اللوحة لا يقلّ إتّساعًا و إهتماما عن مدى إنتقاء الكلمة الجميلة لتوصيف الجمال... و هي التي حباها الخالق مودّة و رحمة من لدنه بأهمّ وسيلتين للتّعبير عن مكنوناتها و رؤاها, و هي الطّامحة لأنّ تكون كلمتها قِوام لوحتها و لوحتها قِوام كلمتها...
في البدايات كانت تعتمد الألوان الدّاكنة في تشكيل و رسم لوحاتها لغاية في نفسها ترتاح لها و تطمئنّ، ثمّ تحوّلت مع حركات التّجريب الفنّي تشكيليّا إلى العمل بالألوان الزّاهيةّ التي تتكامل بألوان قوس الله في السّماء في يوم مشمس ماطر في نفس الحال... و ترى في الفنّ التّشكيلي كشفًا للواقع و معاناته الضّاغطة لأسباب شتّى، و محاولة تحسينه عبر إصلاح أشياء و تنظيم أشياء و إلغاء أشياء أخرى... و هي في مساراتها الفنّيّة لا تنتمي إلى مدرسة فنّيّة معيّنة, و إن نحت بأعمالها صوب التّجريد، و تنهل معطيات فنّها من مشهديّات بلادها و من ينابيع وطنها لبنان... معتبرة أنّ المشاهدات الطّبيعيّة و اللوحات التّكوينيّة عبر الفصول، تثري ثقافة الفنّان الطّامح للخلق و الإبداع، و المبدع تتعولم لوحته من خلال مقاربتها تراثه و تقاليده و خصوصيّته...
هذا و إستطاعت الفنّانة التّشكيليّة كلود عبيد بجدّها و نشاطها و مثابرتها فعل الجمع بين فنّ صياغة الكلمة و فنّ تجويد الرّسم، وهو ما يتلمّسه المتابع من خلال مؤلّفاتها مقارنة مع فنونها التّشكيليّة... بحيث تميّزت مسيرتها الفنّيّة بعدد من المعارض الفرديّة النّاجحة و التي نظّمتها عبر مراحل و مناسبات معيّنة، و أخرى جماعية شاركت فيها داخل لبنان و خارجه... و لفتت لوحاتها المتلقّين بتألّقها و فرادة نسجها التّشكيلي، و لاقت تهافتًا وإستحسانًا و تقديرًا من المتابعين و المهتمّين و النّقّاد الأخصّائيين...
مشهديّات لوحاتها تعكس بصماتها الفنّيّة تشكيلا و لونا، في تقنيّات تحمل سمتها وحدها، بحيث يتلمّس المشاهد إمتزاج الألوان في لوحاتها مُشبّعة الإضاءة و الوضوح، عدا عن كونها متحابّة و متعاشقة في جواراتها لبعضها البعض... و في حركة لسبر أبعاد مكونّاتها و عناصرها، يرى الباحث أنّها متأنسنة بمسحات من الفرح، نابضة بنبل من الحبور و السّرور و الإطمئنان النّفسي، بحيث ترفل لها العين و هي تكتحل بهالات من أطياف ألوانها الإشراقيّة و هي شاخصة لها و بها... و الفنّانة كلود عبيد في نتاجاتها الفنّيّة التّشكيليّة، تسعى لتعيد نمنمت و تطريز نسائج مشهديّاتها في أنساق مبتكرة، تتماهى في المدى الفنّي برؤى الآمال المرتجاة، واعدة بآفاق ممتدّة في الوجدان الإنسانيّ، ترسم و تُشكّل مشاعر التّفاؤل بنبل و سموٍّ، لتتجلّى جماليّة الحياة في مراحل الإستمرار...
رفدت الفنّانة كلود عبيد الحضارة الثّقافيّة بباقة لافتة من نتاجاتها الفكريّ، تجسّدت بمجموعة من كتب أعطتها للمكتبة العربيّة و اللبنانيّة، إلى جانب عدد من البحوث و الدّراسات و المقالات و المقابلات والتّصريحات و المواقف، التي عالجت فيها مواضيع فنّيّة متعدّدة الجوانب، لها فاعليّتها في دعم ما تحتاجه الحركة النّهضويّة في تنميتها المستدامة على أكثر من صعيد فنّي تشكيلي و فكري... و منها: نقد الإبداع و إبداع النّقد, التّصوير و تجليّاته في التّراث الإسلامي، جماليّة الصّورة، جدليّة العلاقة بين الفنّ التّشكيلي و الشّعر... و قد إعتمدت في صياغة مؤلّفاتها على أسلوب أدبي له ميزته، يرفل بالجمال، و يضوع بمنطق فلسفيّ راقي، و يحمل القاريء على الغوص الإنسيابي في آفاق الفكر الحضاري الحيّ، و لها إصدارات أخرى في نفس السّياق...
مسيرتها عبر وجوديّتها و كينونتها النّاشطة، ترسم صيرورتها الزّاخرة بالعطاءات و المساهمات في رفد و دعم الفن التّشكيلي و الثّقافة العامّة و الفكر الحرّ المنعتق من القوالب التّقليديّة... بحيث كانت و ما زالت شخصيّة فاعلة في أكثر من تجمّع أهلي و فنّي و ثقافي و إجتماعي، فحملت مسؤوليّتها التّكليفيّة الوطنيّة أمانة مؤتمنة، كما أمانة تربية ولديها، و ساهمت عالميا في نشر الوجه الحضاري للبنان الوطن... بفعل إنتسابها إلى جمعيّة الحوار الوطني، و جمعية الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين للرّسم و النّحت، و إتّحاد الكتّاب اللبنانيين، و جمعية السكيزوفرينيا و الجمعيّة العالميّة للفنّ...
و بإنتخابها على رأس نقابة الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين، سعت ناشطة و جاهدة بإندفاع مميّز و حماسة مسؤولة و زخم مُبرمج و من موقعها التّكليفي، في بلورة و تظهير أفكارها بأبعاد وطنيّة و إنسانيّة تكامليّة، بين أهل الأدب و الفكر و الشّعر و الفنّ التّشكيلي... بحيث قامت بجهود حثيثة عزّزت من خلالها حضور نقابة الفنّانين التّشكيين اللبنانيين، و بذلت قصارى جهودها على إزدهارها و توسيع مساحة حضورها و شموليّتها لعناصر فنّيّة مهمّة... و إضافة لبرامج مهنيّة واعدة تسعى لتحقيقها، تسعى أيضا لتوسيع حجم المشاركة الفنّيّة إلى الدّرجة القصوى الممكنة بما يجعل النّقابة في مصافّ النّقابات الكبرى لذات الفعاليّة في لبنان و الخارج و تعنى بالتّعبير الفنّي التّشكيلي الحرّ و المنطقي الواقعي، الذي تتجلّى من خلاله حركة التّحوّلات السّياسيّة و الثّقافيّة و الإجتماعيّة و الإنسانيّة...
كلود عبيد الفنّانة التّشكيليّة اللبنانيّة و الكاتبة الباحثة في تقنيات الفنّ التّشكيلي، تركت لريشتها الحانية الشّعيرات، العازفة رؤوسها على أوتار الألوان، ترسم و تُشكّل نبل أحاسيسها و رهافة مشاعرها بمصداقيّة و حنان الأمومة... و ما فعل حركة الإبداع في كتاباتها و مؤلّفاتها، إلا حركة فعل تناغم لموسقات شعيرات ريشتها و ألوانها الزّاهية مع أبعاد رؤاها الفكريّة، بحيث غدا في وعيها الباطنيّ الآخر و في عرفان ذاتها المكنون، أن أرست بقناعاتها مباديء فلسفتها على قاعدة خصوصيّتها، و وسمتها بفرادتها، فتوّجت ريشتها قلم لوحتها، و توّجت قلمها ريشة لوحتها، و وسمت قلبها عقلنة متشاغفا مع حنين ريشتها، و قلبنت عقلها متفاعلا مع بوح قلمها...