وحدهم العظماء يصنعون المجد

كاظم فنجان الحمامي

العظماء وحدهم، هم الذين يقودون أقوامهم بخطى ثابتة نحو قمم المجد وفوق ربوع العلياء، وهم الذين يزرعون الثقة والطمأنينة في قلوب شعوبهم، فمواقفهم الوطنية الصادقة هي الدعامات الأساسية لتثبيت أركان نهضتهم، وترصين جدرانها الحصينة.
حكايتنا لهذا اليوم تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي وفيها عبرة للحاكم والمحكوم، أما بطلتها فهي الأميرة (قطيفة Godifa)، زوجة الأمير (ليوفريك Leofric) حاكم ولاية كوفنتري الانجليزية، الذي كان معروفاً بأحكامه الارتجالية الغبية، فلجأ الناس إلى زوجته الأميرة (قطيفة)، يستجيرون بها، ويسترحمونها، ويطلبون منها التدخل لتخفيف أعباء الضرائب والاتاوات الثقيلة المفروضة عليهم، لكنه كان متجبراً متزمتاً برأيه، فكانت تلح عليه من وقت لآخر، حتى ضاق ذرعاً بطلباتها، فوضع شرطاً تعجيزياً لم يسبقه إليه أحد. قال لها: لن أرفع الضرائب عن هؤلاء حتى تخلعين ثيابك كلها، وتتعرين تماماً، ثم تجوبين شوارع المدينة على صهوة جوادك (من غير هدوم).
لم تكن الأميرة (قطيفة) من النوع الذي يتراجع بسهولة، فقد كانت على استعداد تام للتضحية من أجل أبناء جلدتها، فوافقت على مضض، ولما علم الناس بشروط زوجها التعسفية، أخلوا لها شوارع مدينتهم، ودخلوا بيوتهم، وأوصدوا أبوابها، وأسدلوا ستائر نوافذهم، حتى يحجبوا عنها الأبصار، ويوفروا لها الخلوة والحشمة، فخرجت على استحياء وهي مطأطأة الرأس، مكسورة القلب. كانت تغطي مفاتن جسدها بشعرها الطويل. ولما سمع الأمير الحقير بخروج زوجته بهذه الصورة المحزنة، خجل من نفسه، وندم ندماً شديداً، ثم ألغى الضرائب، ورضخ لزوجته وتوجهاتها الإنسانية.
ربما يقول قائل منكم: أنها حكاية خرافية عن امرأة وهمية، وعن شعب من الملائكة، لكن الثابت لدينا أنها وشعبها قدموا لنا أروع الأمثلة الوطنية والإنسانية، فقام الفنانون بتجسيدها بعشرات اللوحات الخالدة، التي ليس فيها ما يثير الغرائز، أو يخدش الحياء.
لوحات ظهرت فيها ملامح المرأة الرزينة، برأسها المنكس إلى الأسفل، ونظراتها التي تنم عن شعورها بالحرج، وتوحي بأنها لم تختر هذا الموقف من تلقاء نفسها، وإنما اضطرت إليه دفاعاً عن حقوق شعبها، ومطالبهم الإنسانية العادلة.
لقد أعتاد الناس على إطلاق عبارات الرفض والاستنكار ضد صور الخلاعة والتعري باعتبارها أداة من أدوات التهتك، لكن الأميرة (قطيفة) جسدت لنا صور البطولة والتضحية، والشعور بالمسؤولية، وعبرت عن تأثرها بآلام الناس ومعاناتهم على الرغم من ظهورها عارية. بينما ظهرت علينا هذه الأيام فئات من اللصوص المقنعين والمبرقعين، ومن خلفهم جوقة من الحرامية المتسترين بجلابيب الورع والتقوى، لكنهم تجردوا تماماً من أبسط القيم الإنسانية، وتنكروا للشعب، وانتهكوا محرماته، حتى وصلت بهم الدناءة إلى سرقة ثياب اليتامى والأرامل. وما أكثر الذين يفكرون الآن بفرض الرسوم والضرائب الثقيلة على الشعب الذي دمروا مستقبله، وخطفوا أمله، وجلبوا له الأمراض الطائفية المستفحلة.
ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين