علي عيسى
فنّان تراثي فريد... أبدع رغم فقدانه حاسّة السّمع... قراءات في مساراته التّشكيليّة...

بقلم: حسين أحمد سليم

يتوقّف الباحث الفنّي، مُتمهّلا في جرأة الإقدام على سبر غور من وهبه الله، نعمة الإبداع و الخلق، فنّاَ روحيّا حضاريّا إنسانيّا راقيا، و هو المخلوق بأمر الله عدالة و حكمة و رحمة و مودّة. و يحمل ذاته الفكريّ على أن يتعمّق في التّفكّر مُعقلنا قلبه على ضبط إيقاعاته و ترانيمه، لتأتي في سياقها الموضوعيّ، و مُقلبنا عقله على اللطافة في جرأة إصدار أحكامه، لتأتي عادلة دون نقصان أو مظلوميّة. هذا، و لتأتي كلّ النّتائج تصبُّ في مجرى سلسبيلها القدريّ، المتموسق ترنّما بالحقيقة المجلوّة، دون أن تتعثّر العروس المُطهّرة في إنسياباتها بين الرّؤى الإفتراضيّة، و التي قد تكون سببا في إثارة بعض الغباريات و التّساؤلات حولها...
صاحب الأنامل الحانية الدّفء، تمسيد حنين لمشق رسم الخطّ، و تغميسا له في مداد أسود أو أزرق أو أحمر أو أخضر، حبر في دواة الحبّ و العشق، الحبر ممزوج بالأصماغ و الأصباغ، ليلين لطافة بين خيوط ناعمة، خلاصة عظمة خلق الله من نسيج حرير دود القزّ، يخنق كينونته كيّ ننعم بخيوط حريره...
خطّاط أجاد في إستخدام المشق و الرّيشة، فجسّد بخطوطه هويّته الفنّيّة، بإمتلاكه ناصية فنون الخطّ و التّشكيل الخطوطي، لمحارف منظومة أبجديّة الضّاد. و رسّام مُجلٍّ في تشكيلاته، سبر تقنيّة فنون الرّسم و معاييره، فحاز الرّيادة في فنون النّقطة و جريانها وفق التّحابب و التّعاشق، و توالد الخطوط على أنواعها و الأشكال وفق مقاييسها، و المشهديّات من بؤرة قيم منظورها. و نحّات له ميزته و خصوصيّته، و له سمته الخاصّة في رحلته الإبداعيّة، و التي تشكّلت مع مشهديّات منمنماته و كتل منحوتاته، التي بها طبع هويّته، لتتماذج و تتكامل في تصميم أزياء عرائسه الرّافلة بحكمة المضمون و جمال المظهر...
علي عيسى...
الفنّان الوارف، الذي خطّ لنفسه مسارا خاصّا، مُتّصلا بمسار الخطّ المحمّدي، المستمرّ الوجود عبر تعاقب الأحقاب و الأدوار و الأكوار و الأزمان، بشيوعيّة مستنارة الأضواء من هالات نور السّماوات و الأرض، ترسم إنتشارها بحكمة العليّ، عليّ العليّ، العليُّ علي، لتبقى مسارا قويما و مستيقيما، مُوصلا إلى الحقيقة العظمى, حيث يُعرف الله و يُوحّد وعيا باطنيّا و عرفانا ذاتيّا، و تبقى تتقّد جذوة الإيمان بالمفهوم الرّوحيّ لثورة الإيمان على الظّلم، الحسينيّة البقاء...
فنّان ليس كما غيره من الفنّانين التّقليديين، إمتطى صهوة العصاميّة في ذاتيّته، و إعتلى أجنحة الإمتداد على وِسع المدى، فكان نموذجا آخر، تفرّد في منهجة فنونه رسمَا و خطّا و نحتا و تأليفا، و راح واثقا من نفسه بإيمانه الرّوحيّ بذكر الله تعال، يُترجم ما عجز عنه من هم أمثاله، هادفا تحقيق مرضاة العليّ في كلّ إبداعاته، لتصل إعلاما هادفا لجميع من شاء وعي الحقيقة، مُترجما علاقته و حبّه و فهمه لمسارات آل البيت النّبوي المُحمّديّ، مُبتكرا و مُبدعا في أعماله الفنّيّة التّشكيليّة، نقشًا و نمنمةً و نحتاً و رسمًا و خطّا، مُستخدما كلّ قدراته الفنّيّة، ساكبا كلّ خبراته العمليّة، ممّا تراكم لدى مخزونه الإنسانيّ، من تقنيّات و حرفيّات و إجراءات و خبرات و معارف، إضافة للمخزون الثّقافي الإسلامي الذي تكتنز به ذاكرته، ليصل لصناعة لوحة بجودة عالية و تقنيّة لافتة، و على مستوى حضاري عالمي، تتجلّى في مكنونها، الأنوار السّاطعة التي تتفتّق من شعشعانيّة قداسة آيات الذّكر الحكيم في القرآن الكريم، و التي تتهالل في أنوار جواهر لحكم و كلمات سيّد البشريّة محمّد، حيث جسّدها في جواهر مخطوطة لمحمّد، وصولا ليتبارك قلما و ريشة برسم و تشكيل حِكم لأمير الكلام عليّ، و ليس إنتهاء بتسابيح لفاطمة الزّهراء و نداءات الإمام الحسين و إحتجاجات العقيلة زينب بنت علي. و همّه الأوحد تقديم كلمات القداسة و الطّهارة في لوحات فنّيّة مُتكاملة التّشكيل لافتة البصائر قبل الأبصار...
بارقة ومضة فنّيّة ذهنيّة عابرة، لمعت في وجدان كينونة علي عيسى، و هو طفل على مقاعد الدّراسة، منذ ذلك الحين سعى جاهدا على تنمية ما تناهى وامضا لذهنيّته، فإلتحق بمعهد الفنون و التّجميل في بيروت في العام 1977 للميلاد. و درس أصول و فنون الخطّ في محترف الخطّاط البيروتي المعروف، محمود بعينو، و مارس الخطّ سنوات عديدة حتّى تمكّن من تجويده وفق ضوابطه، فدخل بعدها معترك العمل الصّحقي، ليمضي سنوات منها في بيروت في شركة تهامة للإعلان، ثمّ لينتقل إلى فرنسا حيث شغل فيها منصبا رفيع المستوى. و هناك، غدا على إحتكاك مباشر مع أنماط الفنون المختلفة و المتنوّعة، حيث الفنون التّشكيليّة تمارس من قبل الفنّانين على الطّرقات، كون النّاس هناك ميّالة للجمال، و العين الفرنسيّة ذوّاقة للفنون...
أتاح وجود علي عيسى في فرنسا له الفرصة المهمّة، للإنفتاح الواسع على أنماط الفنون المختلفة الألوان و الأشكال، و الإحتكاك المباشر بالنّاس المُحبّة للفنون. و في فرنسا درس تقنيّات الألوان و حرفيّات المخطوطات. و قام بإجراء دراسة ميدانيّة لمتحف اللوفر الفرنسي الشّهير. و له رؤى خاصّة حول مفهوم بعض المدارس الفنّيّة التّشكيليّة المنتشرة، و منها الفنّ التّشكيلي التّكعيبي، المنسوب للفنّان العالمي بيكاسّو. بحيث يعتبر أنّ التّكعيبيّة هي مسخ للفنّ و تشويه للحقيقة. فيما أصحاب الفنّ التّشكيلي التّجريدي، يُحاولون الهروب من الواقع بتجريدهم للأمور من الحقيقة الواقعيّة. و نظرته لمتحف اللوفر الفرنسي تتلخّص، بأنّه غنيّ و واقعيّ بمحتوياته و لكن واقعيّة محتويات اللوفر تنقصها الهدفيّة...
لدى إقامته في فرنسا، إعتمد النّهج العملي، و إفتتح علي عيسى، محترف آل البيت في العام 1993 للميلاد، لنقل الواقع بمواصفات عظمته و تنفيذ إستراتيجيّة هادفة، بنقل ثقافة أهل البيت إلى كلّ البشريّة، بوضع هذه الثّقافة النّقيّة الرّاقية على لائحة الثّقافات العالميّة الرّاقية، كفكر و فنّ...
بداياته في محترفه الفرنسيّ كانت تشكو من الصّعوبات، و لكن محترفه كان الخطوة الأولى نحو بلورة فنّ المخطوطات. بحيث شاء زرع واقع إسلامي أصيل في خضمّ التّجريد و الألوان. و إحياء الفنون الإسلاميّة الأصيلة إلى جانب إحياء الفكر الإسلامي الأصيل، المرتبط بالنّبي محمّد و أهل بيته. و هو ما حمله معه لدى عودته إلى لبنان، ليستكمل ما بدأ به، بإفتتاح محترف له في حارة حريك بالضّاحية الجنوبيّة...
هذا، و يعمل علي عيسى ليل نهار بكلّ ما أوتي من قوّة فكريّة و فنّيّة، لتقديم لوحة لائقة بحكم النّبيّ و الإمام عليّ، بحيث تُمثّل كلّ حكمة لوحة بحدّ ذاتها، رابطا الفكر بالفنّ، واضعا الحكمة في إطار جميل جذّاب للعين العالميّة و كذلك العقل العالمي. مُجسّدا أعماله في تقنيّات لافتة، مُترجما تفاصيل البيت المحمّدي في صور و مشهديّات، تكاد تنطق بما تحمل من معتركات السّنين و قهر الماضي، بجهل الجاهلين و عناد المعاندين...
أضاف علي عيسى على فنون محترفه عنصر التّرجمة، لإدراكه أهمّيّة اللغات في إجتذاب العقل الغربي للفنّ و القيم الإنسانيّة الرّاقية. مُعتمدا على اللغتين الفرنسيّة و الإنكليزيّة، و اللتان كانتا النّقطة الفاصلة في تطوير محترفه و نقله إلى العالميّة. ثمّ عمل على إضافة اللغة اليابانيّة، لما فيها من الرّسم الفنّي ما يجعلها قريبة من فنون الزّخرفة. ممّا يجعل محترف علي عيسى، من المحترفات العالميّة، بمزجه الفنّي بين كافّة الأنماط الفنّيّة الكلاسّكيّة و الحديثة. خدمة لعمل فنّي هادف و له قيمته في تحقيق إستراتجيّة هادفة لنشر ثقافة أهل بيت النّبوّة...
عمل علي عيسى على كتابة القرآن الكريم بالخطّ الكوفي، المنسوب للإمام عليّ، و ترجم عدّة إصدارات له، جواهر مخطوطة حكم محمّد، و أمير الكلام، حكم علي، إلى اللغات الأجنبيّة الثّلاث. و عمل على ترجمة كتاب، حكم المسيح إلى اليابانيّة بعدما سبق و قدمّه باللغة الفرنسيّة...
علي عيسى فنّان تشكيلي مُبدع و خلاّق بالرّغم من فقدانه لسمعه، بحيث ترافقه قرينته في ترجمة ذبذبات أصوات زائريه و محاوريه كتابة على الورق ليوافيهم بالأجوبة اللازمة...