فاطمة محمّد تامر غدّار خليفة
قصائدها ترانيم حياة و لوحاتها موسقات ألوان
أنسنت قلمها و ريشتها بأنسنتها

بقلم: حسين أحمد سليم

تأنسن القلم بين دفء أناملها الحانية الأنسنة دفئا، فراح يرتشف من قلبِ دُواتها مداد حبّ و عشق، و يترنّم جذلا بمحارف متعاشقة، وحيا و إستلهاما من منظومة أبجديّة الضّاد. لتتوالد من رحم وجدانها، كلمات متحاببة فيما بينها و متكاملة في نسيجها، تتماهى في تكوين حركة من نوع آخر في المدى، ترسم الرّؤى الإفتراضيّة فعل خلق و إبداع. لتتشكّل منها خواطر شعر لطيفة الإيقاعات على سيّالات الأوزان الفراهيديّة، تصنع في تماذجها و تآنسها و تكاملها، طمأنة قصيدة تتأنسن بها معالم الحياة. فتغدو تتكوكب في ومضات إشراقيّة، تنبض بالحبّ الأقدس و العشق الأطهر، تُلوّن المسارات إستنارة في معاناة متاهات الإستمرار ...
سيّالات شاكرتها الأثيريّة، حملتها على صهواتها عبر الإمتدادات الإنسانيّة، ترود بها عالم الخلق و الإبداع و الإبتكار تشكيلا آخر. تُحاكي الجمال و مشهديّات السّحر في طبيعة الوطن، تعيش رؤاها عند كتف الغروب في غازيّتها الجنوبيّة. و الشّمس ترتحل خلف خطّ الأفق و تماس مياه البحر، راسمة لوحة الشّفق، التّجريديّة الألوان، السّورياليّة الأشكال. فتستلّ الفاطم ريشتها الولهى الشّعيرات، تعزف على رؤوسها موسقات الألوان، و هي ترسم على صفحة ناصعة البياض، حزم نقاط و خطوط و أشكال و ألوان، تُشرق من سيّالاتها الرّوح الإنسانيّة، تتجسّد في إنطباعيّات الفنّانة التّشكيليّة، فاطمة محمّد تامر غدّار خليفة تتماهى في رحاب بلدتها، توزّع حنينها و أنسنتها إلى كلّ أنحاء لبنان...
وُلِدت فيالسّادس من شهر تمّوز للعام 1949 للميلاد، في كنف حنان أسرتها، بمدينة بيروت عاصمة الوطن، و في رحابها ترتعرعت، و تلقّت دراستها و تعليمها منذ بدايات طفولتها و حتّى شبابها، حضانة و تمهيدا مرورا بالمراحل التي كانت معروفة في زمانها، الإبتدائيّة و المتوسّطة و الثّانويّة، و حتّى أبواب الجامعة في مدرسة العائلة المقدّسة المارونيّة في أشرفيّة بيروت.
في بداية السّبعينات من القرن السّالف، و تحديدا في العام 1970 للميلاد، تفرّغت للرّسم، تجاوبا مع موهبتها الفنّيّة، التي وُلِدت معها و سكنت كلّ خفاياها و طواياها و حواسّها، فأحبّت موهبتها و عايشتها منذ كانت طفلة بعمر السّنوات الخمس.
ولجت عالم الرّسم و التّشكيل بالألوان، و خاضت تجربتها الفنّيّة بإندفاع و ثقة، فأبدعت بما تراءى لخيالها و رسمت. ثمّ أقامت لها عِدّة معارض في مدينة بيروت، بعد أن عمّقت تجربتها الفنّيّة بالثّقافة و الخبرة. ممّا جعلها تسبر أغوار و أبعاد الأعمال الفنّيّة، و تنظر إلى الأشياء من مكوّناتها بعين النّاقد الفنّي العارف بالأسرار. إكتنزت على ذاتها ثقافة فنّيّة واسعة، و تعلّمت على نفسها التّقنيّات الفنّيّة و أساليبها. و راحت تُعبّر عن مُلكتها الفنّيّة، راسمة شخصيّتها، تارة على الأسلبة الكلاّسيكيّة، و أخرى معتمدة المذهب الفنّي الرّمزي الخيالي، مُترجمة نبل أحاسيسها و تجسيد حدسها في تجلّيات رؤيتها الفنّيّة. بحيث جذبت أعمالها الفنّيّة النّقّاد الذين تابعوا مسيرتها الفنّيّة، فأثنى من زار معارضها عبر مراحلها، و كتب أرباب النّقد و الإعلام الثّقافي عن أعمالها الفنّيّة بإيجابيّة، مُؤكّدين على أصالة الموهبةّ في كينونتها.
تزوّجت من عِزّت خليفة في العام 1973 للميلاد، و سكنت مدينة صيدا لسنوات أربع، تفرّغت فيها للعناية بأسرتها و الإهتمام بقرينها و تربية أولادها. إلاّ أنّها كانت تتحيّن كلّ الظّروف المؤاتية لها، لتوّظف الوقت من حين لآخر، كي تتزوّد بالثّقافة الفنّيّة عن طريق المطالعة، واضعة نصب عينيها تحقيق رغبتها الفنّيّة، دون أن يؤسّر ذلك على حياتها الأسريّة. تأقلمت مع مرحلتها تطبيقا فنّيّا و تشكيلا إبداعيّا، فرسمت في ذلك الحين عِدّة لوحات عن الطّفولة و الأمومة، تجسيدا لمرحلة حياتها الزّوجيّة و قداسة أمومتها و حضانة مواليدها.
درءا للمرحلة الصّعبة و القاسية، التي سادت غالبيّة المناطق اللبنانيّة في أواسط السّبعينات من القرن السّالف, سافرت و أسرتها إلى مصر العربيّة، و مكثت فيها أشهر ستّة، و من ثمّ غادرتها إلى الغابون في القارّة الأفريقيّة.
آلمها البعد كثيرا عن الأهل و الأقارب و الأصدقاء و الوطن، فإستبدلت الرّيشة بالقلم، لتجود بمجموعة من القصائد الشّيّقة، التي تنضح حنين أمومة، عبّرت في سبك كلماتها الحانية، عمّا يتفاعل في مكنوناتها و طواياها، و عمّا يجول في خاطرها و وجدانها، و عمّات تعاني من قهر و عذاب و حنين للعودة بحرارة إلى كنف و حضن الوطن الأمّ لبنان. و في تلك الحقبة الزّمنيّة، أبدعت في رسم عِدّة لوحات زيتيّة، عبّرت فيها عن واقع المرأة الجنوبيّة المرير، تحت وطأة الإجتياح الإسرائيلي و إحتلال مساحة و قرى جنوبيّة عِدّة من قرى جبل عامل في جنوب لبنان.
غالبتها حرارة الحنين الصّادق للوطن، فحملت كينونتها و أسرتها و ما شاءت حمله، و عادت بلهفة الإشتياق و الفرج إلى وطنها لبنان في العام 1978 للميلاد. و سكنت في بلدة الغازيّة السّاحليّة جنوب مدينة صيدا و جارتها، حيث مسقط رأس والديها و أخوتها و زوجها, لِتستقرّ في الأرض الطّيّبة، التّي أحبّت ترابها و أشجارها و أهلها و شاطئها و بحرها.
زمن رجوعها لوطنها من بلاد الإغتراب، لم يكن الوضع العام بحالة فنّيّة و ثقافيّة و فكريّة مُشجّعة، كما كان في بداية السّبعينات. ممّا دفع بعدد كبير من المُفكّرين و الفنّانين المُبدعين لركوب راحلات الهجرة إلى الخارج. إستغلّت ذلك الجمود الفنّي و الثّقافي في تلك المرحلة القاهرة، فأسّست في بلدتها بالغازيّة أهمّ دار للأزياء في العام 1986 للميلاد، و توجّهت لتصاميم فساتين الأعراس و السّهرات، و كانت أوّل سيّدة جنوبيّة، تُقيم معارض للأزياء في الجنوب، كما كانت أوّل سيّدة جنوبيّة تُقيم معارض فنّيّة في مدينة بيروت. و لم يمنعها عملها هذا في إبداع الأزياء، من زيارة أهمّ المتاحف الفنّيّة في لندن و إيطاليا و فرنسا و روسيا و القاهرة و أستراليا و تركيّا و الإتّحاد السّوفياتّي و غيرها من الدّول العربيةّ. سعيا وراء إثراء ثقافتها الفنّيّة، التي لم تخبو يوما في كينونتها، و تزويدا لها صقلا في إبداعاتها و معرفة بما خفي عنها و وعيا بما شاءت لنفسها في عالمها الفنّي، من خلال تلك الزّيارات السّياحيّة، المُحبّبة إلى روحها الهائمة في عالم الفنّ و إمتدادات التّشكيل.
نجحت فاطمة غدّار خليفة في مجال مهنتها عالم الأزياء، و حققت تقدّما في تصاميمها و معارضها لهذه الإبداعات من شتّى التّشكيلات. إلاّ أنّ عالم الفنّ بقي هاجسها الأوّل و الأهمّ، يُراودها أيّنما ذهبت و حلّت، و بقي المُحرّك الفعّال لأحاسيسها و مفاهيمها و قناعاتها و ميولها. فعادت لممارسة موهبتها التّوأمم لها منذ طفولتها، لِتُبدع مجموعة جديدة مميّزة من اللوحات الزّيّتيّة، و تُشارك بها في بعض المعارض. و في نفس المرحلة الفنّيّة تلك، أصدرت ديوانا من الشّعر يحمل إسم: " في ظلال الرّوح "، عبّرت من خلال نصوصه الشّعريّة عن مشاعرها في رحلة عمرها المديد.
أحيت الشّاعرة الفنّانة التّشكيليّة فاطمة غدّار خليفة، عِدّة أمسيات شعريّة ناجحة و لافتة في لبنان، و كانت دارتها في بلدتها الغازيّة، مُلتقى العديد من الفنّانين و المُبدعين في مجالات الشّعر و الأدب و الرّسم و الموسيقى و الطّرب الأصيل. كرّمت بعضهم من كبار المبدعين في مجالاتهم الأدبيّة و الفكريّة و الفنّيّة و غيرها، و منهم الشّاعر الكبير جورج شكّور و الفنّان العالمي وجيه نحلة و آخرون...
إلى هذا لها عِدّة مقالات فنّيّة و أدبيّة و شعريّة في عدد من الصّحف و المجلاّت و الدّوريات، كما أجريت معها عِدّة مقابلات و حوارات شعريّة و فنّيّة، عبر وسائل الإعلام المكتوبة و المقروءة و المسموعة و المرئيّة. و لها عِدة مواقع رقميّة عنكبوتيّة متداولة عبر الشّبكة العالميّة للمعلومات، تنشر فيها بعض النّماذج من إبداعاتها الشّعريّة و خواطرها الأدبيّة و لوحاتها الفنّيّة. إضافة لربط إبداعاتها ببرمجيات تواصليّة معروفة و سائدة.
في لقائنا بها بدارتها في بلدتها بالغازيّة، كشفت لنا بحنين أمومتها و أنسنتها، عن تحضيراتها المستكملة، لنشر ديوانين شعريين لها، أحدهما باللهجة المحكيّة اللبنانيّة و الآخر بالعربيّة الفصحى، إلى جانب إقامة معرض فنّي جديد، و الدّعوة لملتقى ثقافي شامل، و ملتقى فنّي تشكيلي، إحياء لنشاطاتها التي ضغطت عليها الظّروف فجمّدتها لحين.
أقامت الشّاعرة الفنّانة فاطمة غدّار خليفة، عِدّة معارض فرديّة في بيروت، كان أهمّها في فتدق السّان جورج في العام 1971 للميلاد و آخر في صالة الفنّان العالمي مانوك في العام 1973 للميلاد. تمّ تكريمها بشهادات شكر و تقدير عديدة، من قبل بعض المؤسّسات و الجمعيات الفنّيّة، و نالت جائزة " إنسان بلا حدود ".
و نحن نقرأ بعض إبداعتها الفنّيّة، التي تتماهى على جدران غرف دارتها، و التي ما زالت تعالجها عبر مراحل في مطبخ محترفها، نرى بعدا آخر ماورائيّا في تشكيلاتها، تنقلنا إليه على صهوات رؤى إيمانها و إطمئنانها النّفسي.، فتتراءى لنا بعض ومضات من أطياف و هالات و سيّالات نورانيّة بيضاء، تشعّ من حيث بؤرة إرتكاز اللوحة التّصميميّة، كنقطة إشراقيّة, تتجلّى من خلالها عظمة إبداع الخالق في الكينونة. توحي لنا في وعينا الباطنيّ و عرفاننا الذّاتيّ، و ترسم لنا في بصيرتنا قبل بصرنا، ذلك الخيط الفضّيّ النّورانيّ، المنتصب بين الأرض و السّماء، فيه تعرج الأرواح المطمئنة بذكر الله. و نسمع صدى مموسقا في ألوانها، و نتلمّس لغة أخرى تنضح قيما راقية في لوحتها. و نتحسّس و نحن نُكحّل أعيننا، بغباريات كحل متعة النّظر بصرا و بصيرة بمشهديّاتها، تجتاحنا القشعريرة أمام سلطان إبداعاتها الفنّيّة. التي تعكس في جزيآتها و كلّيّاتها، حركات إنفعالات تاريخيّة، و تجسيد قيم حضاريّة إنسانيّة، إضافة لمواقف ذات أحاسيس حزينة، إنّما قريبة من شغاف القلب، ترتاح لها النّفس بعد ثورتها. و يتناهى للعقل المقلبن بالحبّ و للقلب المُعقلن بالعشق، أنّ لوحات فاطمة غدّار خليفة الفنّيّة، قصائد لونيّة رمزيّة إفتراضيّة، منظومة على بحور و عروض شعريّة خليليّة، لِتُعانق الواقع المُعاش. تحمل النّاظر في تفاصيل مشهديّاتها، و رغم حرارة ألوانها الطّاغية، إلى عالم الفرح و الإطمئنان و السّرور، المنشود من كلّ نفس مضطّربة في إنفعالاتها.