جورج نسيب مطر
ترك الهندسة المعماريّة و إلتحق بالفنّ التّشكيلي...
من موسوعة الفنّ التّشكيلي اللبناني
بقلم: حسين أحمد سليم
المهندس المعماري جورج نسيب مطر، فنّان تشكيلي لبناني مغامر، لم يتمكّن من تحقيق حلمه و السّير قدما في مهنة الهندسة المعماريّة، لأسباب رهافته و مبادئه الخاصّة، و طبعه غير المرن، و ممانعته الولوج في خضمّ متاهات الرّسميات...
إستهواه الفنّ التّشكيلي، بعد زيارته أحد المعارض، فإلتحق بمحترف الفنّان حيدر الحموي في بيروت، متابعا دورة تعليميّة فنّيّة، كانت كافية له، لولوج عالم الفنّ التّشكيلي، و سحر الألوان، و روعة الإبداع...
دخل مطر عالما جديدا، أحبّ فيه كلّ تعقيداته و مشاكله و ناسه... ليمضي سنوات عديدة، و ما زال غير عابيء بالمصاعب و التّضحيات... فللحرّيّة ضريبتها، و هو يمارس حركة فعل الخلق و الإبداع، و هذا هو فرحه الحقيقي و إطمئنانه النّفسي...
أمضى ردحا زمنيّا، يمارس إبحاره في عالمه الفنّي، إلى أن توّج مسيرته الفنّيّة، بإكتشافه العالم الرّوحي، حيث الأبعاد اللامتناهية، و حيث الصّفاء و الحبّ و الصّمت... و راح يتابع تأهيله في التّأمّل، لتوسيع آفاق الوعي عنده، و إستنهاض ما فيه من إيجابيات و حبّ. حيث تفتّقت معرفته و وعيه عن رؤى أخرى للحياة و الموت...
المهندس مطر، لم يحلم يوما، أنّه سيصبح فنّانا متصوّفا، بعدما أثبت هويّته الفنّيّة على ساحة الفنّ التّشكيلي اللبناني. و ما ظنّ يوما أنّ لوحاته و منحوتاته ستكون عماراته الهندسيّة، التي لم يُنفّذها، بل بقيت سرابا في خيالاته و إفتراضيّاته...
بعد سنوات من رفضه فكرة أنّه فنّان تشكيلي، إستسلم و رضخ لقدره، و قبل التّحدّي و الكفاح و إنخرط في العمل الفنّي التّشكيلي، من دون سابق تصميم و دراسة... بحيث حمله الفنّ التّشكيلي إلى مدارات لم يكن يعرفها من قبل، و لكنّها كانت مدفونة في كينونته، و ولج به الفنّ التّشكيلي أماكن سحريّة، سكنت دواخله منذ وعيه لذاته... و راح يبتكر الأشياء و التّصاميم إيحاء من تلك المكتنزة في بواطنه، فأتت جديدة الشّكل، غير مألوفة الطّابع...
كانت مادّة الخشب عجينته الأساسيّة خلال سنوات منصرمة، خلق منه الكمّ من اللوحات و المنحوتات. كان الخشب بين يديه طيّعا حينا و متمرّدا أحيانا، يناقضه مرّة و يساومه طاعة لمرّات... و مطر لا يقبل أنصاف الحلول، و هو الكائن الحيّ المائت في الألواح و العوارض، منتظرا قيامته من جديد على يد فنّان أحبّه و آمن بجمال إبداعاته، فكان جورج مطر المهندس الفنّان التّشكيلي الصّوفي...
رسوماته تولّدت بين يديه محفورة الخطوط و منمنمة التّركيب و الأشكال، كأخاديد حقول تشرينيّة، و كمسطّحات خرائط معماريّة... و منحوتاته كانت مهذّبة الأحجام و مستقيمة الأضلع كواجهات بنايات معماريّة سحريّة، تقلّص فيها البعد الثّالث حياء لحدّ الإنعدام، فإستقامت و إستفاقت على بعديها محتوية في طيّاتها كلّ الأبعاد و الأكوان...
لوحات المهندس المعماري الفنّان التّشكيلي جورج نسيب مطر، تتماهى بإطلالات جميلة، تتجسّد في تركيبات خشبيّة و تقطيعات مؤسلبة الموادّ التّزينيّة، يُبدعها مطر في دراية و خبرة و ذكاء عبر لوحاته المتساوية الأحجام و الألوان و الزخارف المبسّطة...
أعمال الفنّان مطر، أشكال تجريديّة، آتية من عوالم خيالاته، التي تتناهى لوجدانه من عوالم الإمتدادات، عابقة بأجواء من الفرح و البهجة، و المرتكزة على النّزعات التّزينيّة... و هدفه الأسمى هو إرضاء العين الرّافلة للجمال، لتستريح النّفس و تطمئنّ إلى الوجود، بحيث تسمو و تقترب من خالقها، بتأمّل و خشوع... لتهدأ الخواطر و تتباطأ الأفكار، و يتّحد تكاملا الماضي بالحاضر و المستقبل، حيث ينعدم الزّمان، و تتفتّح براعم الفراديس، و تصبح كلّ الطّرقات سالكة إلى الحقّ و الحبّ و الجمال، و هو الطّريق الأوحد نحو المطلق الجمالي...
جورج نسيب مطر، الفنّان التّشكيلي، ترجم بالرّسم و النّحت تطوّره الرّوحي، حيث تفتّحت مداركه على التّأمّل و المعرفة و الوعي، و على ديانات و فلسفات شرقيّة، ليجسّد هذا التّأمّل و الإنفتاح بمنحوتات راقصة رقصة الدّراويش الصّوفيين، و يعكس ما سكن قرارته بلوحات خشبيّة أشبه بالطّواطم الكشفيّة...
المهندس المعماري مطر، الذي إمتطى صهوات الفنّ التّشكيلي، يكبر بأعماله و إبداعاته الفنّيّة التّشكيليّة، سيّما فلسفته في تشكيلاته الحروفيّة لحرف النّون... و هو الفنّان الذي ليس بيده أن لا يبدع... فكلّ ما بيده و هو يكبر، هو أن يعي كيف ينحته هذا الكبر...
يطرح الفنّان التّشكيلي جورج نسيب مطر، وقفته التّأمّليّة التّصوّفيّة، راسما فلسفته الوجوديّة حول الفنّ التّشكيلي، و بتجربة روحيّة... برؤيا يحملها باطنيّا، تصل به إلى اليقظة الباطنيّة و العرفانيّة، و إنصهارها الفنيّ كحركة فعل إبداع و أسلوب حياة... بحيث يجمع مطر في مسيرته الفنّيّة، بين ثورة الفنّ التّشكيلي الحديث، و بين حركة فعل القيم الصّوفيّة... و التي من خلالها، يقف مطر كمستشرفطليعيّ، يرى في فلسفته الفنّيّة التّشكيليّة الصّوفيّة، أنّ الإنسان هو مركز الكون، و هو كفنّان صوفي، يُطلّ على كينونة الإنسان في إشراقة جوهره... بحيث تتطابق وحدة الإنسان بوحدة الوجود... لتتجلّى القيم الصّوفيّة في أحاديّة الحقيقة، مهما تعدّدت التّجلّيات، مساهمة في صفاء النّفس و القلب و الفكر و العقل... بحيث يرسم و يُلوّن و يُصوّر و يزرع بزوره الفنّيّة تشكيليّا، جامعا بين الفنون التّشكيليّة و الإلتزام و الرّسالة النّبيلة في مسارات حياته...
هذا هو المهندس المعماري و الفنّان التّشكيلي جورج نسيب مطر، الذي راح يوسّع الوعي و العرفان في كينونته، و ينظر إلى الحياة بتأمّل و قبول... قبول الدّور الفنّي التّشكيلي، الذي شاء أن يلعبه على مسرحها... و هو المهندس المعماري القابع في جسده، و حال الفنّان التّشكيلي، المشاهد المحتلّ لذاته... ها هو اليوم يقوم بدور الممثّل على خشبة العمر، خشبة الحياة، مجسّدا دوره بدراية و تقنيّة و حبّ، صادقا وفيّا لنفسه، يخرج من ذاته ليدخلها، منقّبا عن الحقيقة، يبتكر لوحاتها، و يُجسّدها بأشكال و ألوان و تجريديّات و سورياليّات و فلسفيّات، تتّسم بطابع فنّيّ تراثيّ موروث من حقب الماضي، يبلوره في أسلبة و مذهبيّة الفنّ التّشكيلي المعاصر...