عِزّتْ عبّاسْ مِزْهِرْ

بقلم: حسين أحمد سليم

باقٍ فنّا وإبداعا وإن رحل, وتبقى أعماله التّشكيليّة خالدة, شاهدا له كعملاق الرّسم والنّحت في ربى لبنان الأشمّ...
هناك, قاب قوسين أو أدنى, جنوبي مدينة التّاريخ الشّرائعيّة, عند إمتدادات شاطيء الحبّ والعشق, المستدام التّنامي, حيث عناق الموج الحاني الإنسيابات لطافة, العاشق قدرا للرّمال والصخّور المعشوقة, العاشقة لرذاذات المياه الجامحة الإشتياق...
هناك, غربي نهايات سهول أشجار الليمون والموز, وبساتين النّعنع والخسّ والفجل والجزر, المتشاغفة صباحا لدفء سيّالات أشعّة الشّمس, الآتية من خلف التّلال الشّرقيّة, لبلدة الجمال وأرض الطّيب, حارة النّاعمة, المتوجّدة غروبا لوداع الخيوط الذّهبيّة, والشّمس مرتحلة خلف أفق المياه السّاكنة على إمتدادات البحر الخاشع لعظمة الله في بدائع صنعه...
هناك, إهتزّت أرض الله بثراها, وإنفلقت من جوف طينتها, بتلات الفنون والجمال, تتماهى فوق ترابها, بعبق الضّوع وشذي الطّيب, تتناجى مع أزهار الليمون والموز واللوز والورود وسندس الخضار, لتتعاشق وتتحابب على إيقاعات موسقات وزقزقات, الحمائم واليمائم والعصافير, وتتناشى بين خفقات أجنحة الفراشات والأطيار, وسرابات السّنونو وخفافيش الليل, ومجموعات النّحل والطّيور المهاجرة في رحاب الفضاءات...
هناك, بين مشهديّات الطّبيعة السّاحرة, وفي أحضان السّهول الخضراء, وتحت ظلال الأشجار الوارفة, وعند جنبات الورود والأزهار البرّيّة, وعرصات مساكب الأعشاب والخضار, وعلى مقربة من التّلال الشّرقيّة الشّمّاء العنفوان لحارة النّاعمة...
هناك, إقترن الحبّ بالعشق, وتكامل الحبّ بالجمال, وتماذج العشق بالإبداع, وتعافقت الألفة عزّة وعنفوانا بضوع طيب الأزهار, وتداخلت ببعضها البعض أسرار القوّة وتزاوجت عبّاسيّةً أسديّة تهابها الأسود, فتفتّق جرأة في حقيقة بوح, فتبارك رحم الكرم والعطاء, مودّة ورحمة من لدن الله, فأنجب قدرا للفنّ التّشكيليّ, رسما ونحتا, علما من أعلام الوطن, الخفّاقة في العلا, فوق القنن وقمم الإبداع والخلق والإبتكار, عِزّتْ عبّاسْ مِزْهِرْ...
بين المهد واللحد, عِزّتْ عبّاس مِزْهِرْ, تجاوز السّتّون بالعمر المديد, كان منذ البدء, مباركا بالتّمييز والتّوصيف والسّمات, مشحونا بقداسة الحبّ وطهارة العشق, مكتنزا بالعزّة النّفسيّة والألفة الإنسانيّة والعنفوان الوجدانيّ, مورقا بأفكار النّماء والإستدامة, مزهرا بتشكيلات الفنون الهادفة رسما ونحتا, كريما في البذل والعطاء من أجل الوجود والحياة والوطن والإستمرار, موهوبا نبيها مبدعا في عناصر التّشكيل ورؤى الفنّ وإلهامات الإبتكار, قادرا ذاتيّا على تطويع الأشياء لأجل الرّؤى الأبعد للغد الآتْ, متفوّقا في حركة فعل التّكوين, تحدوه الآمال المرتجاة, الّتي تتفاخر بعنفوان وكبرياء, قد أذن لها الله أن تتحقّق وتتجلّى على يد عِزّتْ عبّاسْ مِزْهِرْ...
منذ البدء, في جغرافيّة المكان وتاريخ الزّمان, في رحاب بلدته حارة النّاعمة, إستطاع العِزّتْ العبّاسْ المِزْهِرْ, المرهف الحِسِّ, المستبصر البعد الآخر في كينونة الأشياء, إستطاع إكتشاف أسرار وبواطن الجمال في معالم عناصر مشهديّات الطّبيعة, الّتي رفلت كثيرا لها عيناه, والّتي حرّضته طويلا لسبر أغوارها وخفاياها, فوظّف نباهته لوضع الأمور في صحيح نصابها, فحاكاه الأمل المأمول في البعد الزّمنيّ, وناجاه الهدف المرتجى في الأفق الوجدانيّ الممتد, فرسم سيّالا من الخيط الفضّيّ, يمتدّ بين الأمس والحاضر والغد, عليه راح يعزف ترانيم فنون الرّسم, بقلم الرّصاص حينا وشعيرات الرّيشة وأطياف الألوان أحيانا, في تهجّدات وصلوات ومناجاة, مشكّلا أبدع نصوص القصائد البصريّة اللونيّة, ليقيم صلواته الخمس على وقع زغردات وموسقات المطرقة والإزميل والحجر, ناظما قريضه الشّاعريّ والشّعريّ الأصيل في بنى كينونات النّحت وصقل الحجر, وفق أسلبة أكّاديميّات فلسفة الفنّ والجمال, وعلى أوزان بحور تموّجات النّور والظّلّ, ومراعات جوازات هندسيّات الكتلة والفراغ, وأسس مقاييس الخلق والإبداع والإبتكار, ورؤى تراثيّات موروثات ومآثر التّاريخ لإيجاد مكّونات معالم ثقافة الحضارة...
عِزّت عبّاسْ مِزْهِرْ, مهندس الدّيكور والرّسّام وّالنّحّات, الّذي تجاوز المكان الجغرافيّ حيث حليت له الإقامة, والّذي تخطّى محدوديّة الزّمان الّذي عاش في رحابه, إنعتق من كلّ القيود المكانيّة والزّمانيّة, وتحرّر في رؤى البعدين الفنّي والتّشكيلي, ليرسم آفاق الغد الّتي شاء يفتحها في حركة فعل الحداثة, والّتي جسّدها في تشكيلاته الفنّيّة رسما ونحتا... بحيث كان يدرك المدى التّشكيلي لصياغة العمل الإبداعي, وصولا به إلى حيث الإنسجام الهارموني بالتّماذج بين معالم الشكل وتعابير المضمون التّرميزيّة, لرفد القيم الجماليّة, بالتّرقّي العروجي صعدا للعلا, وتكاملا متوازنا بين حركة البصر وإستبصار البصيرة, وإستشعار الحدس وتفقّه العقل بالفكر, في حركة إجراءات تجسيد الحلم الورديّ بحركة الإحساس الفعليّ... فكانت إبداعات عِزّتْ عبّاسْ مِزْهِرْ, قفزة نوعيّة حضاريّة ثقافيّة فنّيّة تشكيليّة, أناشيد نصّيّة بصريّة ملموسة, تعكس حاجة وضرورة تعبيريّة لأنسنة الأنسنة, وقيامة معظمة صروح الحضارة المرتجاة...
صعوبة عناد أسرار عناصر الطّبيعة الصّمّاء, من صخور وحجارة ورخام, تحوّلت مطواعة أمام ثبات عناد, عِزّتْ عبّاسْ مِزْهِرْ, الفنّان التّشكيليّ رسما ونحتا, النّابض بالتّجارب الكثيرة والخبرات العديدة, فغدت شيئا إبداعيّا جماليّا آخر, يتشكّل بولادة قيصريّة, بين أنامل مكتظّة بالدّماء الحارّة الدّفء, وإمساك راحة القبضة القويّة, وتجاوب رعود ضربات المطرقة الجريئة, القارعة حذما وبأسا على رأس الإزميل المطواع, العنيد في حركة فعل النّقر المتواصل في بنى الحجر الأصمّ, لتتوامض البروق شررا من شظايا الصّخر, فتولد بين يديّ عِزّتْ عبّاسْ مِزْهِرْ, المشهديّات النّابضة بمسحات الفنّ وجماليات التّشكيل, تتماهى صمتا قدريّا بالحركة التّعبيريّة, كلاسّيكيّا وإنطباعيّا وتجريديّا وتكعيبيّا وسورياليّا وحداثة, تنقل المتلقّي على صهوات التّفكّر الأعمق, بعقل مقلبن الرّأي وقلب معقلن التّشاغف, ترميزا إصطلاحيّا آخر لأسرار تنغلق على أسرار, تحمل من ترفل عينه للفنّ والخلق والإبداع, ومضا على ومض, لترود به عوالم فنّيّة تشكيليّة رسما ونحتا, مستحدثة البنى والكيان من الأصل الّذي كان, متناسقة متآلفة أكّاديميّة الأسلبة, كانت وتبقى وستبقى, تتماهى رفعة وإبداعا في المكان والزّمان, بمسحات من السّحر والجمال, تروي للأيّام وتحكي للأجيال, ماضيا وحاضرا ومستقبلا, سيرة الفنّان الرّاحل الّذي تعملق عنفوانا وعنادا وكبرياء فنّيّا وتشكيليّا, فخضعت له صعاب الأشياء, ولانت عنده عناصر العناد, راسما له بين حنان الأمومة ورعاية الأبوّة وركون القرينة السّمر العطايا, شخصيّة عملاق الرّسم والنّحت في المكان والزّمان, عِزّتْ عبّاسْ مِزْهِرْ...
بعض البوح الّذي به ضقتُ كتمانا به, لأخي وصديقي العِزّتْ العبّاسْ المِزْهِرْ, كان جرأة في بعض الومض النّورانيّ من قبسات من أضواء إستناريّة, وكان بعض التّسابيح في الحبّ والتّهجّدات في العشق, لإبن حارة النّاعمة اللبنانيّة, والّتي تفخر بإبنها العملاق الفنّان التّشكيلي, مهندس الدّيكور والرّسّام والنّحّات, الّذي شكّل وخلق أعماله الإبداعيّة, سعيا إلى توظيف نتاجاته المميّزة, بهدف التّعبير عن وفائه وإخلاصه لبيئته ومجتمعه ووطنه وقضايا الإنسانيّة جمعاء, في مشارق الأرض ومغاربها, بإشعاعات خيوط فضّيّة متلألئة, وأنسام سيّالات ذهبيّة وضّاءة, إنبثقت وتنبثق وتبقى تنبثق وستبقى تنبثق من قلب حارة النّاعمة إلى لبنان والعالم...